معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

إنّا روينا أنّ الله عزوجل قسّم لموسى الكلام ولمحمد الرؤية. فقال أبو الحسن الرضا (ع) : فمن المبلّغ عن الله عزوجل إلى الثقلين الجنّ والإنس : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) و (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أليس محمدا (ص)؟ قال : بلى ، قال : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنّه جاء من عند الله وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ...) ـ الآيات ، ثمّ يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر!؟ أما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي عن الله بشيء ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر.

قال الراوى : فإنّه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقال أبو الحسن (ع) : إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يقول : ما كذّب فؤاد محمد (ص) ما رأت عيناه. ثمّ أخبر بما رأى فقال : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فآيات الله عزوجل غير الله ، وقد قال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإذا رأته الأبصار ، فقد أحاطت به العلم ، ووقعت المعرفة. فقال أبو قرّة : فتكذّب بالروايات؟ فقال أبو الحسن (ع) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبت بها ... (٢٧).

* * *

وهكذا بيّن أئمة أهل البيت (ع) تفسير الآيات الّتي فيها شبهة رؤية الله وتجسيمه ، وكشفوا عن المقصود من السّاق واليد والعرش ونظائرها في

__________________

(٢٧) توحيد الصدوق ، ط. طهران سنة ١٣٨٧ ه‍ ، ص ١١١ ـ ١١٢. وأحاطت به العلم ، أي : أحاطت به الأبصار علما ، وقد أوردنا الحديث موجزا. والبحار ، كتاب التوحيد ، باب نفي الرؤية وتأويل الآيات ، ح ١٤ ، ٤ / ٣١. والكافي ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ح ٢

٤١

الآيات الكريمة ، وأنّ الله خلق آدم على صورته في الحديث (٢٨) وتركنا إيرادها لأنّا لسنا بصدد إيراد أدلّة المدرستين واستقصاء أدلّتهما في ما ارتأيا ، بل أردنا أن نورد أمثلة ممّا ورد من الأحاديث المتعارضة في صفات الله لدى المدرستين ، وأنّ أحاديث كلّ مدرسة تؤوّل آيات القرآن باتّجاهها الخاصّ ، وأنّه هكذا نشأ الخلاف حول صفات الله.

ثمّ ندرس في ما يأتي منشأ الخلاف في بعض صفات الأنبياء بحوله تعالى.

__________________

(٢٨) يراجع بشأن صفات الله كتب : الكافي للشيخ الكليني ، كتاب التوحيد. والتوحيد للشيخ الصدوق. وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ، الباب رقم : ١١ ، ما جاء عن الرضا من الأخبار في التوحيد.

٤٢

ـ ٤ ـ

الخلاف في صفات الأنبياء

وما خصّهم الله بها ومنشؤها

يرى البعض حول صفات الأنبياء :

أنّ التبرّك بآثار الأنبياء واتّخاذ قبورهم محلّا للعبادة شرك.

وأنّ البناء على قبورهم في حدّ الشرك.

وأنّ الاحتفال بأيّام مواليدهم ومواليد الأولياء معصية وبدعة محرّمة.

وأنّ التوسّل إلى الله بغيره في حدّ الشرك ، والاستشفاع برسول الله (ص) بعد وفاته مخالف للشّرع الإسلامي.

ويستدلّ مخالفوهم بما يأتي :

أ ـ التبرّك بآثار الأنبياء

يستدلّون على مشروعيّة التبرك بآثار الأنبياء بما تواتر نقله في جميع كتب الحديث أنّ الصّحابة تبرّكوا برسول الله (ص) وآثاره في حياة الرسول (ص) بمباشرته ، ودعوته بذلك ، وتبرّكوا ـ أيضا ـ بآثاره بعد وفاته ، وفي ما يأتي بعض ما يستدلّون به :

٤٣

التبرّك ببصاق النّبيّ (ص)

في صحيح البخاري عن سهل بن سعد في باب ما قيل في لواء النبيّ (ص) من كتاب المغازي (١) : إنّ رسول الله (ص) قال يوم خيبر : لأعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله. قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيّهم يعطاها. فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول الله (ص) كلّهم يرجو أن يعطاها فقال : أين عليّ؟ فقيل : هو يا رسول الله يشتكي عينيه. فأرسل فأتي به ... ولفظه في كتاب الجهاد والسير (٢) : فأمر فدعي له ، فبصق في عينيه ، فبرأ مكانه حتّى كأنّه لم يكن به شيء ... ـ الحديث.

وفي لفظ سلمة بن الأكوع بصحيح مسلم :

قال : فأتيت عليّا فجئت به أقوده وهو أرمد حتّى أتيت به رسول الله (ص) فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية ـ الحديث (٣).

التبرّك بوضوء النّبيّ (ص)

في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال : رأيت رسول الله (ص) وحانت صلاة العصر ، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه. فأتي رسول

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ٣ / ٣٥. وكتاب الجهاد والسير ، الباب رقم : ١٠٢ ، ٢ / ١٠٨ ، وباب ما قيل في لواء النبي ، ٢ / ١١١ ، وباب فضل من أسلم على يديه رجل ، ٢ / ١١٥. وكتاب فضائل أصحاب النبيّ ، باب مناقب عليّ بن أبي طالب ، ٢ / ١٩٩. وصحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عليّ بن أبي طالب (رض) ، ح ٣٢ و ٣٤ ، وباب غزوة ذي قرد وغيرها ، ح ١٣٢. وسنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب مناقب عليّ بن أبي طالب ، ١٣ / ١٧٢.

(٢) صحيح البخاري ، باب دعاء النبي إلى الإسلام ، ٢ / ١٠٧.

(٣) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، ح ١٣٢.

٤٤

الله (ص) بوضوء فوضع رسول الله في ذلك الإناء يده ، وأمر الناس أن يتوضّئوا منه. فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضّئوا من عند آخرهم (٤).

وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله أنه قال :

قد رأيتني مع النبيّ (ص) وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة ، فجعل في إناء فأتي النبيّ (ص) به ، فأدخل يده فيه وفرّج أصابعه ثمّ قال : حيّ على أهل الوضوء ، البركة من الله. فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه ، فتوضّأ الناس وشربوا. فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه فعلمت أنّه بركة ـ فقيل لجابر : ـ كم كنتم يومئذ؟ قال : ألفا وأربعمائة. وفي رواية : خمس عشر مائة (٥).

التبرّك بنخامة النّبيّ (ص)

روى البخاري في صلح الحديبيّة عن عروة بن مسعود قال عن رسول الله (ص) وأصحابه :

والله ما تنخّم رسول الله (ص) نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وأنّه إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه (٦).

التبرّك بشعر النبيّ (ص)

روى مسلم في صحيحه : أنّ رسول الله (ص) أتى منى وحلق رأسه

__________________

(٤) صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة ، ١ / ٣١.

(٥) صحيح البخاري ، كتاب الأشربة ، باب شرب البركة والماء المبارك ، ٣ / ٢١٩. وسنن النسائي ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء من الإناء ١ / ٢٥. ومسند أحمد ١ / ٤٠٢. وسنن الدارمي عن عبد الله بن عمر ، المقدمة ، باب ما أكرم الله النبي (ص) من تفجير الماء من بين أصابعه ، ١ / ١٥.

(٦) صحيح البخاري كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، ٢ / ٨٢ ، وكتاب الوضوء منه ، باب البزاق والمخاط ونحوه ... ، ١ / ٣٨ ، وباب استعمال فضل وضوء الناس ... ، ١ / ٣٣. ومسند أحمد ٤ / ٣٢٩ ، ٣٣٠.

٤٥

بعد أن رمى ونحر (ثمّ جعل يعطيه الناس).

وفي رواية أخرى : أنّه دعا الحالق فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال : اقسمه بين الناس(٧).

وروى أيضا عن أنس قال :

لقد رأيت رسول الله (ص) والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه. فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل (٨).

وفي ترجمة خالد بأسد الغابة : أنّ خالد بن الوليد كان له الأثر المشهور في قتال الفرس والروم ، وافتتح دمشق ، وكان في قلنسوته الّتي يقاتل بها شعر من شعر رسول الله (ص) يستنصر به وببركته ، فلا يزال منصورا.

وفي ترجمته ـ أيضا ـ بأسد الغابة والإصابة ومستدرك الحاكم ـ واللفظ له ـ :

أنّ خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال : اطلبوها. فلم يجدوها. ثمّ طلبوها فوجدوها ، وإذا قلنسوة خلقة ، فقال خالد : اعتمر رسول الله (ص) فحلق رأسه وابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة ، فلم أشهد قتالا وهي معي إلّا رزقت النصر (٩).

__________________

(٧) صحيح مسلم ، كتاب الحجّ ، باب بيان أنّ السنة يوم النحر أن يرمي ثمّ ينحر ثمّ يحلق ، والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق ، ح ٣٢٣ و ٣٢٦.

وراجع ح ٣٢٤ و ٣٢٥ منه في سنن أبي داود بكتاب المناسك ، باب الحلق والتقصير ح ١٩٨١ ، ٢ / ٢٠٣. وطبقات ابن سعد ١ / ١٣٥. ومسند أحمد ٣ / ١١١ و ١٣٣ و ١٣٧ و ١٤٦ و ٢٠٨ و ٢١٤ و ٢٣٩ و ٢٥٦ و ٢٨٧ ، و ٤ / ٤٢. ومغازي الواقدي ص ٤٢٩.

(٨) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب قرب النبيّ (ص) من الناس وتبركهم به ، ح ٧٤ ص ١٨١٢.

(٩) المستدرك للحاكم ، كتاب معرفة الصحابة ، باب مناقب خالد بن الوليد ، ٣ / ٢٩٩. واللفظ له وبترجمة خالد في أسد الغابة والإصابة. وموجز الخبر بمنتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد ٥ / ١٧٨. وتاريخ ابن كثير ٧ / ١١٣.

٤٦

وروى البخاري : أنّه كان عند أمّ سلمة زوج النبي (ص) شيء من شعر النبيّ فإذا أصاب إنسانا عين أرسلوا إليها قدحا من الماء تغمس الشعر فيه ، فيداوى من أصيب (١٠).

وفي صحيح البخاري وغيره :

قال عبيدة : لأن تكون عندي شعرة منه ـ أي النبيّ (ص) ـ أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها (١١).

التبرّك بسهم النبيّ (ص)

روى البخاري في صلح الحديبيّة وقال :

نزل الرسول (ص) بجيشه في أقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء يتبرّضه الناس تبرضا ، فلم يلبثه الناس حتّى نزحوه وشكوا إلى رسول الله (ص) العطش ، فانتزع سهما من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله ما يزال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه (١٢).

التبرّك بموضع كفّ النبيّ (ص)

في ترجمة حنظلة من الإصابة ومسند أحمد ما موجزه :

قال حنظلة : دنا بي جدّي إلى النبي (ص) فقال :

إنّ لي بنين ذوي لحى ودون ذلك ، وإنّ ذا أصغرهم ، فادع الله له.

__________________

(١٠) أوردناه ملخّصا من صحيح البخاري ، كتاب اللباس ، باب ما يذكر في الشيب ، ٤ / ٢٧.

(١١) طبقات ابن سعد ٦ / ٦٣. وصحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب الماء الّذي يغسل به شعر الإنسان ، ١ / ٣١.

(١٢) صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ، ٢ / ٨١. وراجع كتاب المغازي منه ، باب غزوة الحديبية ، وراجع طبقات ابن سعد ٣ / ٢٩ ، وباب ذكر علامات بعد نزول الوحي ١ / ق ١ / ١١٨ ، ومغازي الواقدي ص ٢٤٧.

٤٧

فمسح رأسه وقال :

بارك الله فيك أو بورك فيه. قال الراوي :

فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم وجهه أو البهيمة الوارمة الضرع فيتفل على يديه ويقول : باسم الله ، ويضع يده على رأسه ويقول : على موضع كفّ رسول الله (ص). فيمسحه عليه.

وقال الراوي : فيذهب الورم (١٣).

وفي لفظ الإصابة :

ويقول : باسم الله ، ويضع يده على رأسه موضع كفّ رسول الله (ص) ، فيمسحه عليه. ثمّ يمسح موضع الورم ، فيذهب الورم.

* * *

كان انتشار البركة من رسول الله (ص) إلى من حوله كانتشار الضوء من الشّمس والشّذى من الزّهر ، لا ينفكّ عنه أينما حلّ ، في صغره وكبره ، سفره وحضره ، ليله ونهاره ، سواء أكان في خباء حليمة السعديّة رضيعا ، أم في سفره إلى الشّام تاجرا ، أم في خيمة أمّ معبد مهاجرا ، أم في المدينة قائدا وحاكما. وما أوردناه أمثلة من أنواعها وليس من باب الإحصاء ، فإنّ إحصاءها لا يتيسّر للباحث ، وفي ما أوردناه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد.

وندرس بعد هذا فيما يأتي مسألة الاستشفاع برسول الله (ص) ثمّ ندرس منشأ الخلاف في جملة ميّزات رسول الله (ص) على سائر الناس إن شاء الله تعالى.

__________________

(١٣) مسند أحمد ٥ / ٦٨ ، وتفصيله بترجمة حنظلة بن حذيم بن حنيفة التميمي في الإصابة وفي لفظه ، وأورد الخبر أيضا بأسناد أخرى.

٤٨

ب ـ الاستشفاع برسول الله (ص)

يستدلّ القائلون بمشروعيّة التوسّل برسول الله (ص) والاستشفاع به في كلّ زمان ، بأنّ ذلك وقع برضا من الله قبل أن يخلق النبيّ (ص) وفي حياته وبعد وفاته ، وكذلك يقع يوم القيامة. وفي ما يأتي الدليل على ذلك :

أوّلا ـ التوسّل بالنبيّ (ص) قبل أن يخلق

روى جماعة منهم الحاكم في المستدرك ، من حديث عمر بن الخطاب (رض) أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال :

يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي. فقال الله :

يا آدم وكيف عرفت محمّدا ولم أخلقه؟ قال :

يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ، ونفخت فيّ من روحك ، رفعت رأسي ، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : «لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك. فقال الله :

صدقت يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليّ ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك.

وذكره الطبراني وزاد فيه : «وهو آخر الأنبياء من ذرّيّتك» (١٤).

وأخرج المحدّثون والمفسّرون في تفسير الآية : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) البقرة / ٨٩ : أنّ اليهود من أهل المدينة وخيبر إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج

__________________

(١٤) مستدرك الحاكم ، كتاب التاريخ في آخر كتاب البعث ، ٢ / ٦١٥ ، ومجمع الزوائد ٨ / ٢٥٣ وتحقيق النصرة للمراغي (ت : ٨١٦ ه‍) ، ص ١١٣ ـ ١١٤. وهو الّذي نقله عن الطبراني.

٤٩

وغيرهما قبل أن يبعث النبيّ ، كانوا يستنصرون به عليهم ، ويستفتحون لما يجدون ذكره في التوراة ، فيدعون على الّذين كفروا ويقولون : (اللهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأميّ إلّا نصرتنا عليهم) أو يقولون : (اللهمّ ربّنا انصرنا عليهم باسم نبيّك ...) (١٥) فينصرون. فلمّا جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن مصدّق لما معهم ، وهو التوراة والإنجيل ، وجاءهم ما عرفوا ، وهو محمد (ص) ولم يشكّوا فيه ، كفروا به ، لأنّه لم يكن من بني إسرائيل (١٦).

ثانيا ـ التوسّل بالنبيّ (ص) في حياته

روى أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن حنيف : أنّ رجلا ضرير البصر أتى النبيّ (ص) فقال :

ادع الله أن يعافيني. قال :

إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال :

فادعه. قال :

فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء :

«اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد ، إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى لي. اللهمّ شفّعه فيّ» (١٧). صحّحه

__________________

(١٥) يظهر من الروايات أنهم كانوا يدعون بأمثال هذه الأدعية مما فيه التوسل بالنبيّ (ص) إلى الله جلّ اسمه.

(١٦) تواترت الروايات بالمضمون الّذي أوردناه في كلّ من :

دلائل النبوة للبيهقي ص ٣٤٣ ـ ٣٤٥. وتفسير الآية ٨٩ من سورة البقرة بتفسير محمد بن جرير الطبري ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٨. وتفسير النيسابوري بهامشه ١ / ٣٣٣. والحاكم بتفسير الآية ٨٩ من سورة البقرة من كتاب التفسير بمستدركه ٤ / ٢٦٣. وتفسير السيوطي عن دلائل النبوة لأبي نعيم. وتفسير محمد بن عبد حميد. وتفسير أبي محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم بن إدريس الرازي. وتفسير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (ت : ٣١٠ ه‍).

(١٧) مسند أحمد ٤ / ١٣٨. وسنن الترمذي ، كتاب الدعوات ١٣ / ٨٠ ـ ٨١. وسنن ابن ـ

٥٠

البيهقي والترمذي.

ثالثا ـ التوسّل بالنبيّ (ص) بعد وفاته

روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عثمان بن حنيف :

أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفّان (رض) في حاجة له ، فكان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك. فقال عثمان بن حنيف : ائت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ ركعتين ، ثمّ قل :

«اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد (ص) نبيّ الرحمة. يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي حاجتي». وتذكر حاجتك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له. ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان ، فجاءه البوّاب ، فأخذ بيده. فأدخله على عثمان ، فأجلسه معه على الطنفسة فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له. ثمّ قال له : ما ذكرت حاجتك حتّى كانت الساعة. وقال : ما كان لك من حاجة فاذكرها (١٨)

الاستشفاع بالعبّاس عمّ النبيّ (ص)

في صحيح البخاري : أنّ عمر بن الخطّاب (رض) كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب فقال :

__________________

ـ ماجة ، كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها ، باب ما جاء في صلاة الحاجة ح ١٣٨٥ ص ٤٤١. وابن الأثير بسنده بترجمة عثمان بن حنيف من أسد الغابة. والبيهقي برواية صاحب كتاب تحقيق النصرة عنه. تحقيق النصرة ص ١١٤.

وأوردنا لفظ إمام الحنابلة أحمد لأن المنكرين للشفاعة من أتباع الشيخين : ابن تيمية وابن عبد الوهاب هم من أتباع ابن حنبل.

(١٨) تحقيق النصرة ص ١١٤ ـ ١١٥ ، رواه عن الطبراني في معجمه الكبير.

٥١

اللهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال : فيسقون (١٩).

كان الاستشفاع بالعباس لأنّه عمّ رسول الله (ص) وليس لصفة أخرى فيه.

* * *

مع وجود هذه الأحاديث من سنّة الرسول (ص) لا ينبغي أن يكون ثمّت خلاف في مسألة صفات الأنبياء ، وخاصّة خاتم الرسل ، المذكورة وما فضّلهم الله بها وخصّهم على سائر الناس. وسنذكر في ما يأتي بعض ما نراه سببا للخلاف في صفات خاتم الرسل خاصّة.

منشأ الخلاف حول صفات رسول الله (ص)

مع صراحة النّصوص المتواترة المذكورة آنفا حول بعض صفات الأنبياء ، كيف نشأ الخلاف حولها؟

الجواب أنّا إذا أنعمنا النظر في روايات جمّة أخرى رويت في انتقاص شأن الأنبياء ، وانتشرت في كتب الحديث ، واللّاتي تنزّل منزلة الأنبياء عن مستوى سائر الناس ، وجدنا أنّها هي الّتي تكوّن للمعتقد بصحّتها رؤية خاصّة تناقض محتوى الأحاديث الآنفة. ولئلّا يطول بنا المقام ، نكتفي في ما يأتي بالإشارة إلى بعض ما روي بشأن خاتم الأنبياء وأفضل المرسلين (ص) ففيه كفاية لمن أراد أن يتدبّر ويتبصّر. منها :

١ ـ ما رواه البخاري في صحيحه وقال :

إنّ رسول الله (ص) قبل أن ينزل عليه الوحي قدّم إلى زيد بن عمرو بن

__________________

(١٩) صحيح البخاري ، كتاب الاستسقاء ، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. وكتاب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب العبّاس بن عبد المطلب ، ٢ / ٢٠٠ و ١ / ١٢٤. وسنن البيهقي ، كتاب صلاة الاستسقاء ، باب الاستسقاء بمن ترجى بركة دعائه ، ٣ / ٣٥٢.

٥٢

نفيل سفرة فيها لحم ، فأبى أن يأكل منها ، ثمّ قال : إنّي لا آكل إلّا مما ذكر اسم الله عليه(٢٠).

إذا فإنّ زيدا كان في الجاهليّة أفضل من رسول الله يتجنّب من أمر الجاهليّة ما لا يتجنّبه رسول الله (ص).

٢ ـ روى البخاري ومسلم :

أنّ رسول الله (ص) لمّا جاءه جبرائيل بآيات : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ـ إلى قوله ـ (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) رجع النبيّ (ص) إلى بيته ترجف بوادره ، وقال لخديجة : إنّي خشيت على نفسي. فقالت له خديجة : أبشر ، كلّا فو الله لا يخزيك الله أبدا. وانطلقت به إلى ورقة بن نوفل ، وكان امرأ تنصّر في الجاهلية ، فأخبره رسول الله (ص) خبر ما رآه. فقال ورقة : هذا الناموس الّذي أنزل على موسى ـ الحديث (٢١).

إذا فإنّ ورقة النصراني كان أدرى بالوحي وجبرائيل من رسول الله (ص) الّذي خوطب بالوحي ، ومن كلام ورقة اطمأنّ النبيّ (ص) بمصيره ، وإلّا فإنّه كان يريد أن يلقي بنفسه من حالق من جبل ، بحسب ما رواه ابن سعد في طبقاته ، وقال الطبري : إنّ رسول الله (ص) قال : إنّ الأبعد

__________________

(٢٠) البخاري ، كتاب الذبائح ، باب ما ذبح على النصب والأصنام ، ٣ / ٢٠٧. ومسند أحمد ٢ / ٦٩ و ٨٦. وزيد بن عمرو بن نفيل كان ابن عمّ الخليفة عمر ووالد زوجته ، ورد ذكره في ترجمة ابنه سعيد في الاستيعاب ٢ / ٤.

(٢١) صحيح البخاري : باب بدء الوحي ، ١ / ٣ وتفسير سورة اقرأ. وصحيح مسلم ؛ كتاب الإيمان باب بدء الوحي ، ح ٢٥٢. ومسند أحمد ٦ / ٢٢٣ و ٢٣٣.

والبوادر : اللحمة بين المنكب والعنق تضطرب عند الفزع.

وقد لخصنا الخبر.

وناقشنا روايات بعثة النبيّ الواردة في كتب الحديث والسيرة والتفسير وذكرنا عللها في الجزء الرابع من (أثر الائمة في إحياء السنّة) ، وهو سلسلة دراسات عن أثر أئمة أهل البيت (ع) في إحياء السنّة. وأوردنا الخبر الصحيح في ذلك ، والحمد لله.

٥٣

ـ يعني نفسه ـ لشاعر أو مجنون لا تحدّث بها عنّي قريش أبدا (٢٢).

٣ ـ روى البخاري ومسلم وقالا :

إنّ رسول الله (ص) كان يغضب فيلعن ويسبّ ويؤذي من لا يستحقّها ، ودعا الله أن يجعلها لمن بدرت منه إليه زكاة وطهورا (٢٣).

٤ ـ ورويا أيضا وقالا :

إنّ بعض اليهود سحر رسول الله (ص) حتّى يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما فعله(٢٤).

٥ ـ روى مسلم :

أن رسول الله (ص) مرّ بقوم يلقّحون النخل ، فقال : لو لم تلقّحوها لصلح. فتركوا تلقيحها فخرج شيصا ، فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم (٢٥).

٦ ـ ورويا أيضا :

أنّ رسول الله (ص) استمع إلى غناء جوار من الأنصار فنهرهنّ أبو بكر (٢٦).

٧ ـ روى مسلم :

__________________

(٢٢) تاريخ الطبري ط. اوربا ١ / ١١٥٠.

(٢٣) صحيح البخاري كتاب الدعوات ، باب قول النبيّ (ص) : من آذيته. وصحيح مسلم كتاب البرّ والصلة ، باب من لعنه النبيّ (ص) وليس له أهلا.

(٢٤) صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، وكتاب الطبّ باب هل يستخرج السحر ، وباب السحر ، وكتاب الأدب ، باب إن الله يأمر بالعدل ، وكتاب الدعوات ، باب تكرير الدعاء. وصحيح مسلم باب السحر.

(٢٥) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الناس .... وسنن ابن ماجة ، باب تلقيح النخل.

(٢٦) صحيح البخاري ، كتاب فضائل أصحاب النبيّ ، باب مقدم النبيّ (ص) وأصحابه المدينة. وكتاب العيدين ، باب سنّة العيدين لأهل الإسلام. وصحيح مسلم ، كتاب صلاة العيدين ، باب الرخصة في لعب يوم العيد.

٥٤

أنّ رسول الله (ص) رفع عائشة على منكبه لتنظر إلى الحبشة الّذين يلعبون في المسجد فنهرهم عمر (٢٧).

وفي رواية الترمذي :

إذ طلع فانفضّ الناس ، فقال رسول الله (ص) : إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا من عمر (٢٨).

وفي رواية :

أنّ جارية سوداء ضربت بالدفّ وغنّت بين يدي رسول الله (ص) بعد رجوعه من إحدى غزواته ، فدخل عمر فألقت الدفّ تحت استها ، ثمّ قعدت عليها ، فقال رسول الله (ص) : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر (٢٩).

٨ ـ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما :

عن عائشة أنّ النبيّ (ص) سمع رجلا يقرأ في المسجد ، فقال :

رحمه‌الله ، أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا (٣٠).

* * *

رأينا في ما مرّ أن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عمّ الخليفة عمر كان أتقى لله من رسوله (ص) ، يمتنع من أكل ما ذبح على الأنصاب والأصنام ، بينما يأكله رسول الله (ص).

__________________

(٢٧) صحيح مسلم ، كتاب صلاة العيدين ، باب الرخصة في اللعب الّذي لا معصية فيه في أيام العيد ، ح ١٨ و ١٩ و ٢٠ و ٢١ و ٢٢.

(٢٨) سنن الترمذي ، أبواب المناقب ، باب مناقب عمر.

(٢٩) سنن الترمذي ، أبواب المناقب ، باب مناقب عمر. ومسند أحمد ٥ / ٣٥٣.

وقد ناقشنا هذه الأحاديث وذكرنا عللها في الجزء ٢ و ٣ و ٤ و ٥ من كتاب أثر الأئمة في إحياء السنة.

(٣٠) صحيح البخاري ، كتاب الشهادات ، باب شهادة الأعمى ونكاحه. وصحيح مسلم ، كتاب فضائل القرآن ، باب الأمر بتعهد القرآن ، ح ٢٢٤. وسنن أبي داود ، كتاب التطوع ، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل ، ح ١٣٣١ ، وكتاب الحروف والقراءات ، الباب الأوّل ، ح ٣٩٧٠.

٥٥

وأنّ ورقة بن نوفل النصراني يدرك أنّ الّذي جاء إلى رسول الله (ص) هو جبرائيل ورسول الله لم يعرفه ، وخشي أن يكون أصابه مسّ من الجنّ وأنّ آيات سورة اقرأ هي من سجعهم.

وأنّ سحر اليهود أثّر في رسول الله (ص) فكان يرى أنّه يفعل الشيء وما فعله.

وأنّه أسقط من القرآن آيات نسيها حتّى قرأها بعض الصّحابة.

وأنّه أمر بعدم تلقيح النخل ليصلح ، فلمّا أصبح شيصا قال لهم : أنتم أعلم بأمور دنياكم منّي.

وأنه استمع إلى غناء جوار من الأنصار ، وكرهه أبو بكر ، وقال في شأن عمر : إنّ الشّيطان ليفرّ منك.

* * *

إنّ تلكم الأحاديث وأمثالها تثبت أنّ رسول الله (ص) كان دون زيد في الجاهلية ، وبعد الإسلام كان ورقة النصراني أدرى بالوحي وجبرئيل من رسول الله (ص) وأنّ أبا بكر وعمر كانا أكثر تجنبا للهو واللّغو من رسول الله (ص) ، وأن الصحابيّ الّذي قرأ من القرآن ما كان قد أسقطه الرسول (ص) منه كان أقوى ذاكرة من رسول الله (ص) ، وأنّ رسول الله (ص) كسائر الناس لا يعصمه الله من عبث اليهود وسحرهم وأنّه يغضب ويلعن ويسبّ من لا يستحقّ (٣١).

__________________

(٣١) لمّا كانت أحاديث مدرسة الخلفاء تكوّن رؤية تنزّل من مستوى الرّسول الأكرم (ص) عن مستوى الإنسان العادي وخاصّة في مثل الخبر المختلق في قصّة الغرانيق الّتي بيّنّا زيفها في الجزء الرابع من (أثر الأئمة في إحياء السنّة) ويمكن من خلالها إلقاء الشبهات في الوحي والقرآن ، استند المستشرقون من مبشري النصارى في دراساتهم للإسلام إلى أحاديث مدرسة الخلفاء ، وتركت أحاديث مدرسة أهل البيت ظهريّا.

٥٦

ومن آمن بصحّة الأحاديث المذكورة آنفا ، تتكوّن له رؤية تناقض محتوى الأحاديث الّتي أشرنا إليها فيما خصّ الله به خاتم أنبيائه (ص) وميّزه من سائر الناس بفضائل حمّة ، وحقّ للرجل (ذي المعرفة) من السعوديّين إذن أن يقول : «محمد رجالا مثلي ، مات».

أضف إلى هذه الأحاديث الّتي كوّنت رؤية تناقض تلك الفضائل ، ما فعله الخليفة الصحابيّ عمر بن الخطاب واجتهاده في قطعه الشجرة الّتي بويع تحتها رسول الله (ص) (٣٢). وتفصيل الخبر في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ٥٩.

وينقض جميع الأحاديث الّتي تنقص من منزلة رسول الله (ص) ما أخبر عنه الإمام عليّ (ع) عن رسول الله (ص) في خطبته القاصعة ، حيث قال :

ولقد قرن الله به ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من لدن أن كان فطيما ، أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره. ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع يومئذ في الإسلام غير رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وخديجة ، وأنا ثالثهما ؛ أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوة. ولقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحي عليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ قال : هذا الشيطان أيس من عبادته (٣٣).

ولست أدري كيف لم يكن الرسول (ص) يعرف نفسه كما ورد ذلك في

__________________

(٣٢) شفاء الصدور ص ٢٧ ، وهي شجرة بيعة الرضوان في صلح الحديبية.

(٣٣) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، الخطبة رقم : ١٩٢.

٥٧

خبره مع ورقة (٣٤) ، وكان على كتفه خاتم النّبوة الّذي يعرفه به كلّ من شاهده من أهل الكتاب.

وتنقضها أيضا الروايات الّتي ذكرت دلائل النبوة الّتي صدرت منه وله قبل أن يبعث ، مثل ما تمّ له في سفرته الأولى إلى الشام مع عمّه أبي طالب ، والثانية في تجارة خديجة ، وإخبار الرهبان بأمر بعثته ، وتظليل سحابة له ، ممّا علمه جميع من كان معه في السفرتين ، وانتشرت أخبارهما في كتب الحديث والسير (٣٥).

وإخبار أهل الكتاب بظهوره قبل أن يبعث ، وخبره في التوراة (٣٦).

وتسليم الشّجر والحجر عليه قبل بعثته (٣٧).

كيف كان لا يعرف نفسه وقد بشّر به عيسى بن مريم (ع) كما أخبر تعالى

__________________

(٣٤) راجع صحيح البخاري : كتاب المناقب والمرضى والأدب. وصحيح مسلم : كتاب الفضائل ، باب إثبات خاتم النّبوة. وسنن أبي داود ، كتاب اللباس. والترمذي : كتاب المناقب. ومسند أحمد ٢ / ٢٢٣ و ٣ / ٤٣٤ و ٤٤٢ و ٤ / ١٩٥ و ٥ / ٣٥ و ٧٧ و ٨٢ و ٨٣ و ٩٠ و ٩٥ و ٩٨ و ١٠٤ و ٣٤٠ و ٣٤١ و ٣٥٤ و ٤٣٨ و ٤٤٢ و ٤٤٣ و ٦ / ٣٢٩.

(٣٥) طبقات ابن سعد ، ط. أوربا ١ / ق ١ / ٧٦ و ٩٨ و ٩٩ و ١٠٩ و ٨٣ و ١٠١ و ٧٣ و ١٠٠ منه ، والجزء الثالث ق ١ / ١٥٣ ، وما رواه البخاري في آخر كتاب بدء الوحي من أخبار هرقل عن ظهوره. وسنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب ما جاء في بدء النبوة ، ١٣ / ١٠٦. وسيرة ابن هشام ١ / ١٩٤ و ٢٠٣ ، وراجع أيضا ص ٢٣١ و ٢٣٩ و ٢٥١ منه.

(٣٦) صحيح البخاري ، كتاب البيوع ، باب كراهية السخب في الأسواق ، ٢ / ١٠. وكتاب التفسير ، باب تفسير سورة الفتح ، وكتاب فضائل القرآن ، الباب الأول. وطبقات ابن سعد ، ط. أوربا ١ / ٢٣ و ١ / ق ٢ / ١٧ و ٨٧ و ٨٩. وسنن الترمذي ، كتاب المناقب ، الباب الأوّل. وسنن الدارمي ، المقدمة ، الباب الأول. ومسند أحمد ٢ / ١٧٤ و ٣ / ٤٦٧. وطبقات ابن سعد ١ / ق ١ / ٦٤ و ١٠٣ و ١٠٤ و ١٠٦ و ١٠٨ و ١١١.

(٣٧) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب نسب النبي ، ح ٢ ، ص ١٧٨٢. ومسند أحمد ٥ / ٨٩ و ٩٥ و ١٠٥. ومسند الطيالسي ، ح ٧٨١. وطبقات ابن سعد ٨ / ١٧٩.

وتسليم الشجر عليه في :

سنن الدارمي ، المقدمة ، الباب رقم ٣. وطبقات ابن سعد ٨ / ١٧٩.

٥٨

عنه بقوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) الصف / ٦.

كيف لا يعرف نفسه وأهل الكتاب كانوا (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) البقرة / ١٤٦ ، والأنعام / ٢٠.

يعرفون (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) الأعراف / ١٥٧.

* * *

سيأتي في بحوث مصادر الشريعة الإسلاميّة من هذا الكتاب محاولات السّلطات الإسلامية رفع مقام الخلافة في أنظار المسلمين على مقام النبوّة ، ونذكر هنا منها مثالا واحدا من سيرة الحجّاج بن يوسف الثقفي والي الخليفة عبد الملك على العراق ، إذ خطب في الكوفة فذكر الّذين يزورون قبر رسول الله (ص) بالمدينة ، فقال :

تبّا لهم! إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية! هلّا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله (٣٨). وسيأتي تفصيل ذلك في الجزء الثالث من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وإنّ الّذي نجده من اتّجاه بعض المسلمين في القرون المتأخرة من تهوين أمر الرسول (ص) إن هو إلّا نتيجة لتلك المحاولات مدى القرون ، سواء في ما رووا من روايات تحطّ من قدر رسول الله (ص) ، أم ما أوّلوا من آيات القرآن وغير ذلك ممّا فعلوا في توجيه المسلمين إلى ما أرادوا. ومنها ما رأوا في الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول (ص) ، كما سنذكره في ما يأتي.

__________________

(٣٨) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢٤٢. وراجع الكامل للمبرد ط. النهضة بمصر ، ص ٢٢٢.

٥٩

ـ ٥ ـ

الخلاف حول الاحتفال بذكرى الأنبياء

وذكرى عباد الله الصّالحين

نكتفي في إيراد أقوال المانعين لإقامة المولد النبوي بإيراد فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية حيث قال :

لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول (ص) ولا غيره لأنّ ذلك من البدع المحدثة في الدين .... (١)

أمّا من يرى استحباب الاحتفال بذكرهم فإنّه يستدل على صحّة ذلك بأنّ جلّ مناسك الحجّ احتفال بذكرى الأنبياء والأولياء ، كما سنذكر أمثلة منه فيما يأتي :

أ ـ مقام إبراهيم :

قال سبحانه وتعالى :

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...) البقرة / ١٢٥.

__________________

(١) صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ ٣ / ١٢ / ١٩٨٤ في مقال تحت عنوان (حكم الاحتفال بالمولد النبويّ وغيره من الموالد).

٦٠