معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

الاختلاق والتحريف في روايات سيف الآنفة الذكر

أوّلا ـ أمثلة من الاختلاق في الروايات السابقة :

أ ـ اختلق سيف رواة الحديث : عطية ومبشر وسهل بن يوسف ويزيد الفقعسي وهذا بيانه :

أمّا عطية ، فقد تخيّله سيف : ابن بلال بن أبي بلال ، هلال الضّبّي واختلق له ابنا سمّاه الصّعب ، وأسند إليهم رواية بعض مختلقاته من الروايات ؛ تارة يروي الابن منهم عن أبيه ، وتارة يروي عن غيره ، وهؤلاء درسناهم وأحصينا الروايات الّتي أسندها سيف إليهم في كتابنا (رواة مختلقون) ، وقارنّا بين بعض ما أسند إليهم سيف من روايات في ترجمة القعقاع الصحابي المختلق بكتابنا (خمسون ومائة صحابي مختلق) الجزء الأوّل ، وفي خبر العلاء الحضرمي بكتابنا (عبد الله بن سبأ) الجزء الأوّل.

وسهل بن يوسف تخيّل سيف نسبه هكذا : سهل بن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري ، وقد ترجمناهم وأحصينا روايات سيف عنهم في كتاب (رواة مختلقون) ودرسنا روايات سيف عنهم في ترجمة القعقاع بكتاب (خمسون ومائة صحابي مختلق).

ومبشر تخيّله : مبشر بن فضيل وقد درسناه ودرسنا رواية سيف عنه في خبر السقيفة بكتابنا (عبد الله بن سبأ) الجزء الأوّل.

ويزيد الفقعسي ، لم نجد له ذكرا في ما بحثنا من كتب الحديث والسير والتاريخ والأدب والأنساب والطبقات وتراجم الرجال عدا خمس روايات لسيف في تاريخ الطبري ورواية واحدة له في تاريخ الإسلام للذهبي ، وكأنّ الله لم يخلقه إلّا ليروي سيف عنه ، ولذلك اعتبرناه من مختلقات سيف من الرواة.

٤٦١

ب ـ اختلق سيف ، الغافقي وغيره ، في متون الأحاديث السابقة ونترك إحصاء ما اختلق فيها والبرهنة عليها ، لئلّا يطول بنا الكلام.

واختلق في متون الأحاديث السابقة أيضا الأخبار الآتية :

أ ـ قصة عبد الله بن سبأ في تلك الفتن ويكفي لمعرفة ما اختلقه مقارنتها بالأخبار الصحيحة الّتي أوردناها في فصلي (في عصر الصهرين) و (مع معاوية) من كتاب (أحاديث عائشة) الجزء الأوّل.

ب ـ من ضمن هذه الأخبار المختلقة متابعة الصحابيين عمّار وأبي ذرّ لعبد الله بن سبأ الذي تخيّله يهوديا من أهل اليمن ... وألحق بهما في متابعتهما عبد الله بن سبأ ، صحابة وتابعين آخرين وسمّى جميعهم بالسّبائيّة.

ج ـ اختلق خبر إرسال الخليفة عثمان رجالا إلى الأمصار لتحقيق ما تصل إليه من الشكاوي ، وتخيّلهم هكذا : محمد بن مسلمة إلى الكوفة ، وأسامة بن زيد إلى البصرة ، وعمّار بن ياسر إلى مصر ، وعبد الله بن عمر إلى الشّام ، وأنّ جميعهم رجعوا يخبرون عن رضا النّاس عن ولاتهم ما عدا عمّار بن ياسر الّذي تبع عبد الله بن سبأ اليهودي وبقي في أرض مصر يفسد فيها.

اختلق سيف جميع تلك الأخبار بتفاصيلها ، ولم يرد ذكر شيء منها عند أيّ واحد من المؤرخين غيره. والخبر الصحيح في ذلك ما ذكرناه في كتاب (أحاديث عائشة) عن أنساب الأشراف للبلاذري وغيره.

د ـ اختلق خبر أبي ذرّ مع معاوية وحرّفه والروايات الصحيحة في خبره ـ أيضا ـ ما أوردناه في كتاب (أحاديث عائشة).

ه ـ اختلق غيرها مثل المكاتبات الّتي تخيل أنّها جرت بين الخليفة عثمان وعماله وغير ذلك.

٤٦٢

ثانيا ـ أمثلة من التحريف في الروايات السابقة :

أ ـ تحريف في الأسماء :

حرّف اسم عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي وعبد الله بن وهب السبائي من رؤساء الخوارج في حرب النهروان وسمّاهما خالد بن ملجم وعبد الله بن سبأ كما برهنّا على ذلك في فصل (تصحيف) وتحريف من كتاب (عبد الله بن سبأ) الجزء الثاني.

ب ـ تحريف في الأخبار ، مثل :

تحريفه خبر عبادة بن الصامت ومعاوية. والصحيح منه ما أوردناه في فصل (مع معاوية) من كتاب (أحاديث عائشة).

وتحريفه خبر القول بالرجعة وقوله : إنّ ابن سبأ اخترعه ، ويطول بنا البحث عن أدلّته في الكتاب والسنّة ، ونقتصر على إيراد خبر واحد كالآتي :

لمّا توفي رسول الله (ص) كان الصحابي أبو بكر بمنزله في السنح ، وأخذ الصحابيّ عمر يقول : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله توفّي. وأنّ رسول الله ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثمّ رجع بعد أن قيل مات ، والله ليرجعنّ رسول الله (٤٩).

وتحريفه خبر القول بالوصيّة ونسبته إلى ابن سبأ اليهودي وقد مرّ بنا البحوث عنها في ما سبق.

وتحريفه رواية رسول الله (ص) في حقّ عمّار بقوله : (الحقّ مع عمّار ما لم تغلب عليه ولهة الكبر) وأنّ سعدا قال : إنّ عمّارا وله وخرف ، بينا قال

__________________

(٤٩) راجع تفصيل الخبر في فصل وفاة الرسول (ص) من كتاب (عبد الله بن سبأ) ، الجزء الأوّل.

٤٦٣

رسول الله (ص) في حقّه الحديث الآتي :

عن عبد الله بن مسعود ، قال قال رسول الله :

«إذا اختلف النّاس ، كان ابن سميّة مع الحقّ» (٥٠).

وفي طبقات ابن سعد (٥١) : قال الإمام علي في رثاء عمّار :

(إنّ عمارا مع الحقّ والحقّ معه ، يدور عمّار مع الحقّ أينما دار).

إنّ سيف بن عمر حرّف هذه الأحاديث في حقّ عمّار وزاد فيها : (ما لم تغلب عليه ولهة الكبر).

ومن حديث رسول الله في عمّار ما رواه ابن هشام في خبر بناء مسجد الرسول (ص) أنّ رجلا تعرّض لعمّار ، فقال رسول الله (ص) :

«ما لهم ولعمّار يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار ، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه». روى الحديث ابن هشام ولم يذكر اسم الرجل الّذي تعرض لعمّار. وذكر أبو ذرّ في شرح سيرة ابن هشام أنّ هذا الرجل هو عثمان بن عفان ، وتفصيل الخبر بكتاب (أحاديث عائشة) ، فصل (في عصر الصهرين).

أمّا أبو ذرّ فقد قال رسول الله (ص) فيه :

«ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذرّ» (٥٢).

مقارنة خبر سيف في الفتن بأخبار غيره

قال الذهبي في تاريخه (٥٣) في خبر الفتن على عهد عثمان :

__________________

(٥٠) راجع تاريخ الذهبي ٢ / ١٧٩. وتاريخ ابن كثير ٧ / ٢٧٠.

(٥١) ط. بيروت ٣ / ٢٦٢.

(٥٢) سنن ابن ماجة ، المقدمة ، باب ١١ ح ١٥٦. وسنن الترمذي ، كتاب المناقب ، باب مناقب أبي ذر (رض). ومسند أحمد ٢ / ١٦٣ و ١٧٥ و ٢٢٣ و ٥ / ٣٥١ و ٣٥٦ و ٦ / ٤٤٢. وطبقات ابن سعد ، ط. أوربا ٤ / ق ١ / ١٦٨.

(٥٣) ٢ / ١٢٢.

٤٦٤

(عن الزهري قال : ولي عثمان فعمل ستّ سنين لا ينقم عليه النّاس شيئا. وإنّه لأحبّ إليهم من عمر ، لأنّ عمر كان شديدا عليهم. فلمّا وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ، ثمّ إنّه توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الستّ الأواخر ، وكتب لمروان بخمس مصر أو بخمس إفريقية ، وآثر أقرباءه بالمال وتأوّل في ذلك الصلة الّتي أمر الله بها ، واتّخذ الأموال واستسلف من بيت المال ، وقال : إنّ أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما ، وإنّي أخذته فقسمته في أقربائي. فأنكر النّاس عليه ذلك.

قلت : وممّا نقموا عليه أنّه عزل عمير بن سعد عن حمص وكان صالحا زاهدا ، وجمع الشّام لمعاوية ، ونزع عمرو بن العاص عن مصر ، وأمر ابن أبي سرح عليها ، ونزع أبا موسى الأشعري عن البصرة وأمر عليها عبد الله بن عامر ، ونزع المغيرة بن شعبة (٥٤) عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص.

وقال : دعا عثمان ناسا من الصحابة فيهم عمّار فقال : إنّي سائلكم وأحبّ أن تصدقوني. نشدتكم الله أتعلمون أنّ رسول الله (ص) كان يؤثر قريشا على سائر النّاس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكتوا ، فقال : لو أنّ بيدي مفاتيح الجنّة لأعطيتها بني أميّة حتّى يدخلوها) (٥٥).

* * *

لا يتّسع المجال لذكر ما فعله الولاة والأمراء من بني أميّة في السنوات السّتّ الّتي ذكرها المؤرخون في مصر والشام والكوفة والبصرة والمدينة ، وما جرى بينهم وبين أبرار الصحابة والتابعين ، وإنّما نقتصر على ذكر بعض ما كان من أمر أبي ذرّ خاصّة معهم.

__________________

(٥٤) في النسخة : المغيرة بن شعبة خطأ ، وإنّما نزع سعد بن أبي وقاص.

(٥٥) قال المؤلف : ولكن مفاتيح بيوت أموال المسلمين كانت بيده.

٤٦٥

أبو ذرّ في موسم الحجّ بمنى

عن أبي كثير عن أبيه ، (قال : أتيت أبا ذرّ وهو جالس عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع النّاس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثمّ قال : أو لم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال : أر قيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله (ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) (٥٦).

اختزل هذا الخبر البخاري في صحيحه وقال :

(قال أبو ذرّ : لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من النّبيّ (ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها) (٥٧).

وفي شرحه من فتح الباري قال ابن حجر :

(إنّ الّذي خاطبه رجل من قريش والّذي نهاه عثمان (رض)) (٥٨).

وقال : (ونكّر (كلمة) ليشمل القليل والكثير ، والمراد به يبلغ ما تحمله في كلّ حال ، ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل). انتهى كلام شارح البخاري وفسّر في ما قال كلام أبي ذرّ بأنّه أراد أنّه سيبلّغ ما سمعه عن رسول الله (ص) وإن كان كلمة واحدة ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل.

وفي تذكرة الحفاظ للذهبي :

(وعلى رأسه فتى من قريش ، فقال : أما نهاك أمير المؤمنين عن

__________________

(٥٦) سنن الدارمي ١ / ١٣٧. وطبقات ابن سعد ٢ / ٣٥٤.

(٥٧) كتاب العلم ، باب العلم قبل القول والعمل ١ / ١٦.

(٥٨) ١ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٤٦٦

الفتيا ...) الحديث (٥٩).

أبو ذرّ في بيت الله الحرام

في مستدرك الحاكم (٦٠) بسنده عن حنش الكناني (٦١) ، قال : سمعت أبا ذرّ يقول وهو آخذ بباب الكعبة :

أيّها النّاس من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ ، سمعت رسول الله يقول :

«مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم.

أبو ذرّ في مسجد الرسول (ص) وغيره

أورد اليعقوبي تفصيل خبر أبي ذرّ مع السلطة في تاريخه (٦٢) وقال :

(وبلغ عثمان أنّ أبا ذرّ يقعد في مسجد رسول الله ، ويجتمع إليه النّاس (٦٣) ، فيحدّث بما فيه الطعن عليه. وأنّه وقف بباب المسجد فقال :

أيّها النّاس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرّ الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الرّبذي (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) محمّد الصفوة من نوح ، فالآل (٦٤) من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية

__________________

(٥٩) ١ / ١٨.

(٦٠) ٢ / ٣٤٣.

(٦١) حنش في الإصابة ، رجل من غفار.

(٦٢) ٢ / ١٧١.

(٦٣) يظهر من سياق الخبر أنّ أبا ذرّ كان يفعل ذلك في مسجد الرسول في موسم الحجّ كفعله في منى وبباب الكعبة ، فإنّه لو كان في غير موسم الحجّ لم يكن بحاجة إلى أن يعرّف نفسه لإخوته الّذين كانوا يعاشرونه في المدينة.

(٦٤) في النسخة المطبوعة : (فالأوّل) ، خطأ مطبعيّ.

٤٦٧

من محمّد إنّه شرف شريفهم ، واستحقّوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ، أو كالشجر الزيتونيّة أضاء زيتها ، وبورك زبدها ، ومحمّد وارث علم آدم وما فضّل به النبيّون ، وعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد ، ووارث علمه. أيّتها الأمّة المتحيرة بعد نبيّها! أما لو قدّمتم من قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رءوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولما عال وليّ الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، إلّا وجدتم على ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه ، فأمّا إذ فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون).

وقال اليعقوبي بعده :

(وبلغ عثمان أيضا أنّ أبا ذرّ يقع فيه ، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر ، فسيّره إلى الشّام إلى معاوية ، وكان يجلس في المسجد ، فيقول كما كان يقول ويجتمع إليه النّاس حتّى كثر من يجتمع إليه ويسمع منه ...) الحديث.

وقال اليعقوبي بعد ذلك ما موجزه :

(إنّ معاوية كتب إلى عثمان أنّك قد أفسدت الشّام على نفسك بأبي ذرّ ، فكتب إليه أن احمله على قتب بغير وطاء. فقدم به المدينة وقد ذهب لحم فخذيه وجرى له مع عثمان ما أدّى بعثمان أن ينفيه إلى الرّبذة ، وجرى للوليد والي الكوفة مع ابن مسعود نظير ذلك ، فجلبه الخليفة إلى المدينة وأمر به ، فضرب به الأرض وتوفّي على أثر ذلك ، وفعل نظير ذلك بعمّار) (٦٥).

__________________

(٦٥) راجع تفصيل أخبارهما بكتاب أحاديث عائشة.

٤٦٨

خلاصة خبر الفتن في أخريات عهد عثمان

أطلق الخليفة عثمان يد الولاة من بني أميّة على المسلمين وفي بيوت أموالهم ، وكلّما اشتكى المسلمون إلى الخليفة من ظلم ولاته لم يبال بهم ، فثاروا عليه وأصبحت بنو تيم عندئذ تعارض عثمان وتطمح بالخلافة لطلحة وآل الزبير للزبير ، وكان ما عداهم وما عدا بني أميّة جلّ الأنصار وسائر أصحاب رسول الله (ص) يدعون للإمام عليّ. وأخيرا قتل الثّائرون عثمان ولم ينصره الأنصار وغيرهم ، ثمّ تجمهر المهاجرون والأنصار على الإمام عليّ فبايعوه وخضع طلحة والزبير للرأي العام وبايعا عليّا في مقدمة من بايعه من صحابة رسول الله (ص). ولمّا قسّم الإمام عليّ بيوت الأموال بالسّوية ثارت ثائرة الطبقة المتميزة وعلى رأسهم طلحة والزبير ، فاجتمعوا مع أمّ المؤمنين عائشة بمكّة ، وجمعوا حولهم بني أميّة ، وأظهروا الطلب بدم عثمان ، وساروا إلى البصرة وتغلبوا عليها ، وجهّزوا جيشا لقتال الإمام عليّ ، فخرج الإمام من المدينة والتقى بهم خارج البصرة ، وركبت أمّ المؤمنين عائشة جملا ، وقادت العسكر ، وقاتلوا جيش الإمام عليّ ، فقتل في المعركة منهم من قتل واستسلم الباقون ، فعفا عنهم الإمام عليّ.

هذه خلاصة خبر الفتن في عصر عثمان وبيعة الإمام عليّ وحرب الجمل بالبصرة ، ذكرنا أخبارها ومصادر الأخبار في كتاب (أحاديث عائشة).

نتيجة البحث المقارن بين روايات سيف المختلقة

في الفتن والروايات الصحيحة

روى سيف أنّ يهوديّا من صنعاء اليمن اسمه عبد الله بن سبأ ابن الأمة

٤٦٩

السوداء تظاهر على عهد عثمان بالإسلام وسار في عواصم البلاد الإسلامية ومدنها : المدينة والشّام والكوفة ومصر يدعو إلى القول برجعة الرسول بعد وفاته وأنّ عليّا وصيّه وأنّ عثمان غاصب حقّ هذا الوصيّ ، فيجب الوثوب عليه لإرجاع الحقّ إلى أهله ، فآمن به أبرار صحابة رسول الله (ص) نظراء أبي ذرّ وعمّار وحجر بن عدي إلى عشرات أمثالهم ممّن سمّاهم بالسبائيّة وأنّ ابن سبأ اليهودي علّم هؤلاء أن يدعوا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وأن يكتبوا في عيب ولاتهم ويثيروا الناس عليهم ، ففعلوا ، وأنّ عمّارا كان قد خرف كما أخبر عنه الرسول ، وكذلك أبو ذرّ ، فامتثل السبائيّون الصّحابة والتابعون تعليمات ابن سبأ ، وجلبوا النّاس إلى المدينة ، وقتلوا عثمان في داره وبايعوا عليّا ، وسار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة للطلب بدم عثمان ، وسار خلفهم الإمام عليّ والتقوا خارج البصرة وتذاكروا في الصلح وقرّ رأيهم على الصلح ، فتخوّف السبائيّون (٦٦) من سوء عاقبتهم واندسوا في الجيشين ليلا وتراموا بالسهام من الجانبين وأثاروا الحرب بين الجيشين ، فقامت الحرب بين الطرفين دون أن يتنبّه إلى مكيدتهم من الجيشين أحد ، لم يتنبّهوا هم وقادتهم إلى من يرمي السهام مع أنّ رماة السهام كانوا مندسين بين صفوفهم.

قال سيف : هكذا وقعت الحرب وانتهت بنصرة جيش الإمام عليّ.

روى سيف هذه الأخبار في مئات من رواياته المختلقة ورواها عمّن اختلقهم من الرواة من ضمنهم من ذكر أسماءهم في الروايات السابقة ، وقد أشرنا إلى الصحيح من أخبارها في ما مضى ، ولم يخف على فطاحل العلم أمثال

__________________

(٦٦) السبائيون في روايات سيف هم عمّار وحجر بن عدي وصعصعة بن صوحان ومحمّد بن أبي بكر ومالك الأشتر ونظراؤهم. راجع عبد الله بن سبأ الجزء الثاني ، فصل (حقيقة ابن سبأ والسبئية).

٤٧٠

الطبري وابن الأثير وابن عساكر وابن كثير وابن خلدون وغيرهم أنّ سيف بن عمر متّهم بالزندقة وأنّ علماء الرجال أجمعوا على نعته بالكذب ولم يوثّقه أحد منهم ، بل رأينا هؤلاء بأنفسهم يضعّفون حديثه كما نقلنا عنهم في كتابنا (عبد الله بن سبأ) ، وكذلك لم تخف عليهم الروايات الصحيحة في تلك الأخبار وإنّما كرهوا ذكرها كما نصّوا على ذلك ، فكتموا الأخبار الصحيحة لما قالوا إنّ العامة لا تحتمل سماعها ، وليتهم اكتفوا بكتمان الأخبار الصحيحة في هذا الشّأن كما فعلوا بكثير من الأخبار الأخرى ولم ينقلوا الأخبار المكذوبة بدلا من الأخبار الصحيحة ولم ينشروا الأخبار المختلقة بين النّاس مع علمهم بكذبها ، فإنّهم كانوا يعلمون بكذب ما نسبه سيف إلى عمّار وأبي ذرّ وابن مسعود وحجر بن عدي إلى عشرات غيرهم من الصحابة والتابعين في ما افتراه عليهم من أنّهم اتّبعوا يهوديّا أمرهم بالإفساد بين المسلمين وإيقاع الفتنة والفساد بينهم حتّى قتل بعضهم البعض الآخر وهم لا يدركون ما يعملون! على عقول من صدّق هذه الخرافات ، العفا! كيف يصدّقون أنّ الخليفة عثمان لم يتنبّه إلى هذا اليهودي على حدّ زعم سيف في إثارته الفتن! وكيف لم يسأل عمّار وأبو ذرّ الإمام عليّا عمّا يدعو له هذا اليهودي من أنّه وصيّ رسول الله (ص)؟! وكيف لم يسأله ربيبه محمّد بن أبي بكر عن صدق مزعمة هذا اليهودي؟!

لست أدري كيف يصدّقون هذه الأكاذيب؟! ولست أزعم أنّ العلماء صدّقوا بحديث سيف ، كلّا ، فإنّهم يعلمون كذب ما اختلقه وافتراه وإنّما عجبي من عامّة النّاس كيف يصدّقون هذه الأساطير الخرافية؟ فإنّ العلماء الّذين نشروا أكاذيب سيف كانوا يعلمون كذبه وإنّما تقبّلوها لأنّ الزنديق طلاها بطلاء الدفاع عن ذوي السلطة في ما انتقدوا عليه ، مثل ما فعل في

٤٧١

ما انتقد عليه خالد على قتله مالك بن نويرة ونكاحه زوجته في ليلته ، وفي ما رمي به المغيرة بن شعبة زمان إمارته على البصرة ، وفي خبر درء سعد بن أبي وقّاص حدّ شرب الخمر عن أبي محجن ، وفي خبر الوليد وحدّه على شرب الخمر. إنّ سيف بن عمر عالج جميع ما انتقد عليه هؤلاء وغيرهم من الخلفاء والولاة وذويهم ، فلم يهتمّ كبار العلماء عندئذ أن ينشروا ما افتراه هذا الزنديق على أبرار الصحابة الفقراء ، أمثال ابن مسعود وأبي ذرّ وعمّار تحت غطاء الدفاع عن أولئك ، لأنّ المهمّ عندهم كتمان ما يعاب عليه الخلفاء والولاة وذووهم عن عامّة النّاس. وبنشر أكاذيب سيف بلغوا غايتهم وبلغ سيف ـ أيضا ـ غايته من تسخيف صحابة النبيّ الأبرار ونشر الأراجيف السخيفة في التاريخ الإسلامي بدافع الزندقة.

ويظهر من قول الطبري في ذكر سبب قتل عثمان : (فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها) (٦٧) أنّ العلل الّتي دعته إلى كتمان الأخبار الصحيحة ، هي كتمان الأخبار الّتي تعاب بها سلطة الخلافة عن عامّة النّاس ، كما سبق لنا أن نقلنا منه أنّه قال : (ممّا لا يتحمّله عامّة النّاس).

وخلاصة القول : إنّهم في هذا الصنف من الكتمان ، يحرّفون حديث الرسول (ص) وسيرته وسيرة أهل بيته وأصحابه وأخبارهم الصحيحة ويبدّلونها بأخبار مختلقة ، كما فعل سيف ذلك بدافع زندقته. وأنّ العلماء يروّجون هذه الروايات المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة مع علمهم بأنّها غير صحيحة لما يجدون فيها دفاعا عن السلطة الحاكمة وذويهم من خلفاء وولاة وأمراء!!!

وهذا النوع من الكتمان غير قليل عند علماء مدرسة الخلفاء.

__________________

(٦٧) تاريخ الطبري ، ط. اوربا ١ / ٢٩٨٠.

٤٧٢

خلاصة بحث أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء

قد رأينا العلماء بمدرسة الخلفاء مجمعين على كتمان كلّ رواية أو خبر يسبب توجيه النقد إلى ذوي السلطة في صدر الإسلام ، وولاتهم وذويهم ، محتجّين في ذلك بأنّ أولئك كانوا من صحابة الرسول (ص). ولا يصحّ ذكر ما يسبب انتقادهم ، بينا هم نشروا من الروايات المكذوبة ما فيه طعن على أبرار صحابة رسول الله (ص) الفقراء أمثال عمّار وأبي ذرّ وابن مسعود.

وفي سبيل الدفاع عن ذوي السلطة ، تارة يكتمون كلّ الرواية والخبر ، وأحيانا يحذفون من الخبر والرواية بعضها الّذي يوجّه النقد إلى ذوي السلطة بسببها ، ويأتون بباقي الرواية ممّا لا يوجب النقد عليهم ، وتارة أخرى يبدّلون من الرواية والخبر ما يسبب النقد على الولاة بكلمة مبهمة لا يفهم منها شيء من المراد ، وأخرى يحرّف بعضهم الخبر والرواية بأنواع التحريف حتّى يبلغ الأمر أن يجعل الحليم البارّ ظالما سفيها ، والظالم المتعنّت بارّا حليما ؛ أي يبدّل الشيء إلى نقيضه تماما ثمّ يتسابق الآخرون إلى نشر ذلك الخبر المحرّف والرواية المختلقة وتوثيقهما وإشاعتهما في المجتمعات الإسلامية بدل الخبر الصحيح والرواية الصحيحة الّتي تسبّب النقد على الحكّام والأمراء ، ويتسابقون كذلك ويتعاونون في تضعيف الرواية الّتي تسبّب النقد لذوي السلطة والطعن على راويها وعلى مؤلّف الكتاب الّذي أورد الرواية فيه بأنواع الطعون والتضعيف والتسخيف ، وإن لم يستطيعوا كلّ ذلك أوّلوا تلك الرواية والخبر إلى ما فيه مصلحة ذوي السلطة ويبدّل النقد الموجّه إليهم إلى مدحهم والثناء عليهم.

ويحترمون من التزم هذا الاتّجاه ويجلّونه على قدر التزامه الأسلوب المذكور ، يوثّقون الراوي الملتزم بذلك ويصفون خبره بالصحيح ، ويصفون تأليف المؤلف الملتزم بهذا النهج بالوثاقة والصحّة على قدر التزامهما المسلك

٤٧٣

المتّفق عليه ، ويشهرونهما ويذكرونهما بكلّ تجلّة واحترام. ومن ثم اشتهرت سيرة ابن هشام في مدرسة الخلفاء ومن تابعهم بالوثاقة لالتزامه ما اتّفقوا عليه ، وأهملت سيرة ابن إسحاق لعدم التزامه الأسلوب المقبول عندهم ، وتركوا تدارسها واستنساخها حتّى أدّى ذلك إلى فقدان سيرة ابن إسحاق في حين أنّ ابن هشام أخذ جميع ما حوته سيرته من سيرة ابن إسحاق مع إسقاط (ما يسوء النّاس ذكره) من سيرة ابن إسحاق بحسب تعبيره.

ومن ثمّ ـ أيضا ـ أصبح تاريخ الطبري أوثق مصادر التاريخ الإسلامي وأكثرها شهرة واعتبارا وأصبح مؤلفه الطبري إمام المؤرّخين بمدرسة الخلفاء ، لأنّه باتّباعه المنهج المذكور بثّ روايات سيف الّتي كان يعلم كذبها ومخالفتها للحقّ والواقع التاريخي في أخبار عصر الصحابة أو بالأحرى الخلفاء الأوائل ، ثمّ تهافت العلماء على أخذ ما ورد منها في تاريخ الطبري ونشرها في مصادر الدراسات الإسلامية وأهملوا الأخبار الصحيحة في مقابلها حتّى نسيت وفقدت من المجتمعات الإسلامية.

ومن ثمّ ـ أيضا ـ أصبح البخاري إمام المحدّثين بمدرسة الخلفاء ، وأصبح صحيحه أصحّ كتاب بعد كتاب الله عندهم ، وأصبحت الأحاديث الصحيحة في غير صحيحه أو صحيح مسلم غير معتبرة.

منشأ الاختلاف فى روايات مصادر الدراسات الاسلامية

إذا أمعنّا النظر في بحوثنا السابقة وما يأتي في بحوث اجتهادات الخلفاء من الجزء الثاني لهذا الكتاب ، عرفنا منشأ الاختلاف في روايات مصادر الدراسات الإسلامية ، فقد وجدنا في الموردين أحاديث وضعت موافقة لسياسة السلطات الحاكمة ومصلحتها ، مقابل الروايات الصحيحة الّتي كانت تخالف سياستهم ومصلحتهم ، ومن ثمّ انكشف لنا ميزان ثابت لتمييز الحديث القوي

٤٧٤

من الضعيف ، فإنّ الضعيف من الأحاديث المتعارضة في صحيح البخاري في شأن البكاء على الميت ـ مثلا ـ ما وافق سياسة السلطة الحاكمة الّتي تنهى عن البكاء على الميّت وتنسب النهي إلى الرسول (ص) ، والحديث القويّ ما خالفها مثل حديث أمّ المؤمنين عائشة وحديث غيرها الّتي أخبرت عن جواز البكاء على الميت وأنّه من سنة الرسول (ص). وكذلك الضعيف في حديثي أمّ المؤمنين عائشة المتعارضين في بيان من كان إلى جنب رسول الله (ص) في آخر ساعات حياته ما فيه : (متى أوصى إليه وقد انخنث ومات في صدري) ، والقويّ منهما حديثها الآخر الّذي ورد فيه أنّ الإمام عليّا كان إلى جنب الرسول في آخر ساعات حياته لموافقة الأول منهما لرغبات الحكّام ومخالفة الثاني لسياستهم.

هذا هو الميزان الثابت لمعرفة القويّ من الضعيف في أحاديث سنّة الرسول (ص) وسيرة الصحابة والتابعين وسيرة الأنبياء السابقين والأحكام الّتي اجتهد فيها الخلفاء وفقا لرأيهم وأمثالها.

نتيجة البحوث وحقيقة الأمر

يرى الباحث المتتبّع أنّ الميزان الثابت لمعرفة الحقّ من الباطل بمدرسة الخلفاء إنّما هو مصلحة ذوي السلطة ، وأنّ كلّ رواية أو خبر يوجّه النّقد لهم أو يشينهم فهو ضعيف وغير صحيح وباطل ، وكلّ كتاب وكلّ راو أو مؤلّف يروي شيئا من ذلك فهو ضعيف وغير ثقة ، ويرمى بأنواع الطعون ، وإذا ورد الحديث أو الخبر من راو لا يستطيعون الطعن عليه وعلى مؤلّف الكتاب ، فإنّهم حينئذ يؤولون الحديث إلى ما يرغبون فيه. ومن جهة أخرى كلّ مؤلف أو راو يذكر مناقب ذوي السلطة ويترك ما يوجّه النّقد إليهم ، فهو ثقة وصدوق ، فإذا استطاع أن يدافع عنهم في ما يروي ويؤلّف ، فهو الثقة المأمون المصدق ، وتنتشر رواياته في الكتب وتذاع. ومن هذا الباب الواسع أدخل سيف الزنديق

٤٧٥

في سنة رسول الله (ص) وسيرته وحديثه بمقتضى زندقته ما شاء ، ولذلك ـ أيضا ـ انتشرت رواياته في أكثر من سبعين مصدرا من مصادر الدراسات الإسلامية زهاء ثلاثة عشر قرنا.

إنّ سيف بن عمر أدخل في سنّة رسول الله (ص) حديثا وسيرة ما اختلقه ودرسناه في أبواب «رسل النبيّ (ص)» و «عمال رسول الله (ص)» و «الوافدون على رسول الله (ص)» و «ربيب رسول الله (ص)» من كتاب (خمسون ومائة صحابيّ مختلق) وكتابنا (رواة مختلقون) وقد مرّ بنا في ما سبق كيف حرّف سيف حديث رسول الله (ص) في حقّ عمّار.

كان هذا رأينا في سيف ونظائره مثل أبي الحسن البكري مؤلف كتاب «الأنوار» الّذي أدخل أحاديث خرافية في كتاب : سيرة النبيّ (ص) المختار وغيره من كتبه ، ومثل كعب الأحبار الّذي أدخل الإسرائيليّات في مصادر الدراسات الإسلاميّة ، وقد درسنا أخبارهم وآثارهم في سلسلة (أثر الائمة في إحياء السنّة). كان هذا شأن هؤلاء عندنا.

أمّا البخاري وصحيحه ، وابن هشام وسيرته ، والطبري وتاريخه ، وأمثالهم من العلماء الّذين ناقشنا أسلوبهم ، فلهم عندنا شأن آخر فإنّهم وإن كانوا ينتقدون في شيء من أسلوبهم ، فإنّهم مع ذلك قد أوردوا في كتبهم الكثير من سنة رسول الله (ص) الصحيحة سيرة وحديثا ممّا نعتمدها ونرويها عنهم ، وكذلك دأب علماء مدرسة أهل البيت مع من يرون خطأ في عمله العلمي ، فإنّهم عندئذ ينتقدون أسلوبه أشدّ الانتقاد رغم أنّهم يجلّونه ويحترمونه ويأخذون منه غير الّذي انتقدوه فيه ، وهذا معنى عدم تقليدهم لمن تقدّمهم من العلماء لا في الأحكام الفقهية ولا في دراية الحديث ، إنّ علماء مدرسة أهل البيت يضعّفون الحديث الضعيف في أصول الكافي وصحيح

٤٧٦

البخاري معا ، ويأخذون ـ أيضا ـ الحديث الصحيح من كليهما ، وإنّ المجلسي الكبير (ت: ١١١١ ه‍) عند ما شرح كتاب الكافي في كتابه مرآة العقول نبّه فيه على آلاف الأحاديث الضعيفة الواردة في أبواب كتاب الكافي ، وهو أشهر كتاب حديث في مدرسة أهل البيت ، وهذا الأمر بمدرسة أهل البيت مخالف لما عليه أتباع مدرسة الخلفاء الّذين يرون لصحيح البخاري ما يرونه لكتاب الله ، ويعتقدون أنّه ليس فيه حديث غير صحيح ، بل يرون أكثر من ذلك حيث يرون صحّة ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من سنّة الرسول (ص) مما لم يرد في كتاب الله ، ويصعب عليهم أن يتقبلوا صحّة سنّة الرسول (ص) الّتي وردت في غير صحيحي مسلم والبخاري ، والكتب الأربعة الأخرى الّتي سمّيت جميعها بالصحاح السّتّة. على أنّ الكثير من حفظة الحديث بمدرسة الخلفاء غير أولئك الّذين ذكرناهم ألّفوا في الحديث : الصحاح والمسانيد والسنن والمصنفات والزوائد وغيرها أمثال :

صحيح ابن خزيمة (ت : ٣١١ ه‍).

صحيح ابن حبّان (ت : ٣٥٤ ه‍).

الصحاح المأثورة عن رسول الله (ص) للحافظ أبي علي ابن السكن (ت : ٣٥٣ ه‍).

مسند الطيالسي (ت : ٢٠٤ ه‍).

مسند أحمد (ت : ٢٤١ ه‍).

سنن البيهقي (ت : ٤٥٨ ه‍).

السنن لأبي بكر الشافعي (ت : ٣٤٧ ه‍).

المعاجم الثلاثة للطبراني (ت : ٣٦٠ ه‍).

المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (ت : ٢١١ ه‍).

مصنف ابن أبي شيبة (ت : ٢٣٥ ه‍).

٤٧٧

مجمع الزوائد للهيثمي (ت : ٨٠٧ ه‍).

المستدرك للحاكم (ت : ٤٠٥ ه‍).

وعشرات الموسوعات الحديثية الأخرى لمحدثين آخرين.

وفي سيرة النبيّ والصحابة والفتوح ألّف أمثال :

خليفة بن خيّاط (ت : ٢٤٠ ه‍) الطبقات والتاريخ.

البلاذري (ت : ٢٧٩ ه‍) فتوح البلدان وأنساب الأشراف.

المسعودي (ت : ٣٤٥ ه‍) التنبيه والإشراف ومروج الذهب.

الواقدي (ت : ٢٠٧ ه‍) المغازي.

ابن سعد (ت : ٢٣٠ ه‍) الطبقات.

وعشرات المؤلفات المعتبرة الأخرى لمؤلفين آخرين.

لما ذا اختصّ بالاهتمام الصحاح السّتّة في الحديث إلى حدّ إهمال غيرها ، وفي السير والمغازي : سيرة ابن هشام ، وفي التاريخ : تاريخ الطبري ، مع عدم العناية بغيرهما.

وخلاصة القول : إنّ علماء مدرسة الخلفاء يوجّه إليهم النّقد في عملهم العلمي لأمرين :

أوّلا ـ إنّهم يكتمون من سنّة رسول الله (ص) سيرة وحديثا ومن سائر الأخبار ما يخالف سياسة السلطات الحاكمة مدى القرون سواء أكان ذلك ممّا يخصّ سيرة الأنبياء السلف أو سيرة خاتم الأنبياء وأهل بيته وصحابته ، أو في العقائد الإسلامية أو تفسير القرآن ، كما شاهدنا ذلك من الطبري وابن كثير في تفسير آية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) في كتمانهم لفظ (ووصيّي وخليفتي) في حقّ الإمام عليّ وتبديلها ب (كذا وكذا) ، وكذلك فعلوا بالنصوص الّتي تبيّن سنّة الرسول (ص) في الأحكام الإسلامية الّتي تخالف

٤٧٨

اجتهادات الخلفاء ، كما سيأتي بيانه في بحث مصادر الشريعة الإسلامية لدى مدرسة الخلفاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى.

ثانيا ـ لا ينبغي للمسلمين في هذا اليوم وهم على أبواب نهضة إسلامية شاملة أن يبقوا على تقليد أئمة المذاهب الأربعة في الفقه ولا على تقليد أصحاب الصحاح السّتّة في تصحيح الحديث وتضعيفه وخاصّة البخاري ومسلم ، وكذلك في الأحكام الإسلامية الّتي اجتهد الخلفاء فيها في مقابل نصوص سنّة رسول الله (ص) بحسب ما رأوه من المصلحة في عصرهم ، بل ينبغي أن يبحثوا عن سنّة رسول الله (ص) الصحيحة ويظهروا ما أخفي منها بحسب سياسة الخلفاء مدى القرون ، ثمّ يجاهدوا في سبيل الدعوة لتوحيد كلمة المسلمين والعمل بكتاب الله وسنّة رسوله (ص) الصحيحة ، وبذلك يتيسّر توحيد كلمة المسلمين حول كتاب الله وسنة رسوله (ص) المجمع عليها وما ذلك من لطف الله على المسلمين ببعيد.

عود على بدء في بحث الوصية

لمّا كانت النصوص الدّالّة على حقّ الإمام علي في الحكم بعد النبيّ (ص) وحقّ الأئمة من ولده فيها من أهمّ ما يوجّه النقد لم ولي الحكم دونهم ، لم يأل العلماء بمدرسة الخلفاء جهدا في كتمان تلكم النصوص ، وكان من أهمّها بحث علماء أهل الكتاب بعد وفاة رسول الله (ص) عن وصيّه وأقوالهم فيه ، مثل خبر الراهبين اللّذين مرّ عليهما الإمام عليّ في طريق صفّين. بينما حفظ نظير تلك الأخبار علماء مدرسة أهل البيت في كتبهم (٦٨) ـ ، مثل خبر مجيء يهوديّين في عصر أبي بكر وسؤالهما عن وصيّ النبيّ وبعد أن أشار

__________________

(٦٨) راجع أخبارهم في البحار. ط. طهران ، الثانية ١٠ / ١٠ ـ ٥٠.

٤٧٩

النّاس إلى أبي بكر ، ولم يجدا أجوبة أسئلتهما عنده ، أرسلوا إلى الإمام علي ، فحضر وأجاب عن أسئلتهما ، فقالا : أنت وصيّ خاتم الأنبياء ، وأسلما. وخبر آخرين من أهل الكتاب جاءوا على عهد عمر وجرى لهم مع عمر وعليّ مثل ما سبق ذكره على عهد أبي بكر ، وقد مرّ بنا في ما سبق سؤال كعب الأحبار من الخليفة عمر عن أشياء من أحوال رسول الله (ص) وإحالة عمر إيّاه إلى عليّ بن أبي طالب ، واستمرّت أمثال هذه المراجعات من أهل الكتاب وإسلامهم إلى عصور متأخّرة ، فقد قال ابن كثير في تاريخه (٦٩) ـ بعد ما نقل من التوراة : أنّ الله بشّر إبراهيم بإسماعيل وأنّه ينمّيه ويجعل من ذرّيّته اثني عشر عظيما ، ونقل عن ابن تيمية أنّه قال : (وهؤلاء المبشّر بهم في حديث جابر بن سمرة ، ولا تقوم الساعة حتّى يوجدوا.

قال : وغلط كثير ممّن تشرّف بالإسلام من اليهود ، فظنّوا أنّهم الّذين تدعو إليهم فرقة

الرافضة فاتّبعوهم).

يا ترى ما هي أخبار الكثير من اليهود الّذين تشرّفوا بالإسلام واتّبعوا الرافضة إنّ العلماء ارتأوا ما قاله الطبري : (لا يحتمل سماعها العامة) فأسقطوا أخبار أهل الكتاب الّذين أسلموا واتّبعوا الرافضة جملة وتفصيلا.

عدد الأخبار والروايات والنصوص الّتي أسقطوها

إذا قارنّا ما رواه ابن كثير في تاريخه من الحديث عن رسول الله (ص) في أمر الخوارج الّذين قاتلهم الإمام علي (ع) في النهروان والّذي بلغ سبع عشرة صفحة من كتابه مع النزر اليسير من روايات رسول الله (ص) الّتي بقيت في

__________________

(٦٩) ٦ / ٢٥٠.

٤٨٠