معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

كان منهمكا في الشراب ـ إلى قوله ـ : وأنكر ابن فتحون على من روى أنّ سعدا أبطل عنه الحدّ وقال : [لا يظنّ هذا بسعد] ثمّ قال : [لكن له وجه حسن] ولم يذكره وكأنّه أراد بقوله لا يجلده في الخمر بشرط أضمره وهو : إن ثبت عليه أنه يشربها ، فوفّقه الله أن تاب توبة نصوحا فلم يعد إليها ...) (٣٩).

* * *

هكذا يبحث أتباع مدرسة الخلفاء عمّا يرفع النقد عن الكبراء وهم الخلفاء والولاة وذووهم من الخلفاء الأوائل حتّى معاوية ومروان بن الحكم ويزيد بن معاوية وولاتهم الّذين يسمّونهم الكبراء أو كبراء الصّحابة والتابعين. وبما أنّ سيف بن عمر الزنديق عرف من أين تؤكل الكتف ، فقد وضع روايات موافقة لرغبات جميع الطبقات بمدرسة الخلفاء مدى العصور ، وطلا رواياته بطلاء الدفاع عن الخلفاء وذويهم في ما انتقدوا عليه ونشر فضائلهم.

وتحت هذا الغطاء السميك استطاع أن يخفي أهدافه في الطعن بالإسلام والإضرار به ونشر الخرافات الضارّة بالعقائد الإسلامية بين المسلمين ، وكذلك استطاع أن ينشر ويذيع بين الناس أنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف.

استطاع سيف أن يصل إلى كلّ أهدافه في ما اختلق بدافع زندقته. وسنورد أمثلة ممّا ذكرنا في ما يأتي.

ومن أمثلة نشره الخرافات الضارّة بالعقيدة الإسلامية ما رواه في خبر الأسود العنسي المتنبي وخبر مناجاة كسرى مع الرسول (ص) عند الله كالآتي.

__________________

(٣٩) الإصابة ٤ / ١٧٣ ـ ١٧٥.

٤٤١

أوّلا ـ قصّة الأسود العنسي في روايات سيف

روى الطبري في قصة الأسود العنسي (٤٠) عدة روايات عن سيف تتلخّص في ما يلي:

إنّ الأسود لمّا ادّعى النبوة وتغلّب على اليمن وقتل ملكها شهر بن باذان وتزوّج امرأته وأسند أمر الجيش إلى قيس بن عبد يغوث ، وأسند أمر الأبناء ـ وهم أبناء الفرس باليمن ـ إلى فيروز وداذويه ، كتب النبيّ (ص) إلى هؤلاء بقتال الأسود إمّا مصادمة أو غيلة. فاتّفقوا على اغتياله ، فأخبره شيطانه فأرسل إلى قيس وقال : يا قيس! ما يقول الملك؟ قال قيس : وما يقول؟ قال : يقول : (عمدت إلى قيس فأكرمته حتّى إذا دخل منك كلّ مدخل ، وصار في العزّ مثلك ، مال ميل عدوّك ؛ وحاول ملكك وأضمر على الغدر! إنّه يقول : يا أسود ، يا أسود ، يا سوءة! يا سوءة! اقطف قنّته (٤١) وخذ من قيس أعلاه وإلّا سلبك أو أخذ قنّتك!) ، فقال قيس : فحلف به وكذب : (وذي الخمار (٤٢) لأنت أعظم في نفسي وأجلّ عندي من أن أحدّث بك نفسي) ، قال الأسود : (ما أجفاك! أتكذب الملك؟! وعرفت الآن أنّك تائب ممّا اطلع عليه منك) يعني ما اطلع عليه شيطانه الّذي يسمّيه الملك.

وقال سيف : ثمّ خرج قيس وأخبر جماعته بما جرى له مع الأسود وتواطئوا على إنفاذ ما اتّفقوا عليه من قتله ، فدعا الأسود قيسا ثانية ، وقال له : (ألم أخبرك الحقّ وتخبرني الكذابة إنّه يقول ـ يعني شيطانه الّذي يسمّيه

__________________

(٤٠) نسبة إلى عنس بن مذحج وهم حيّ من زيد بن كهلان بن سبأ ، ترجمتهم في أنساب ابن حزم ص ٣٨١.

(٤١) اقطف قنته أي اقطع رأسه ، وقنة كل شيء أعلاه مثل القلة.

(٤٢) كان الأسود يلقب ذا الخمار أو ذا الحمار.

٤٤٢

الملك ـ : يا سوءة! يا سوءة! إلّا تقطع من قيس يده يقطع قنّتك العليا). فقال له قيس: (ليس من الحقّ أن أقتلك وأنت رسول الله فمر بي بما أحببت ، فإمّا الخوف والفزع فأنا فيهما مخافة! اقتلني! فموتة أهون عليّ من موتات أموتها كلّ يوم) ، قال سيف : فرقّ له فأخرجه! وقال : دعا الأسود بمائة جزور بين بقرة وبعير ، وخطّ خطا فأقيمت من وراء الخطّ ، وقام من دونها ، فنحرها غير محبسة ولا معقّلة ، ما يقتحم الخطّ منها شيء ، ثمّ خلاها فجالت إلى أن زهقت. ونقل سيف عن الراوي أنّه قال : (ما رأيت أمرا كان أفظع منه ، ولا يوما أوحش منه).

قال سيف : وتواطئوا مع زوجته على اغتياله ـ ليلا ـ فلمّا دخلوا عليه ليقتلوه بادره فيروز ، فأنذره شيطانه بمكان فيروز وأيقظه. فلمّا أبطأ تكلّم الشيطان على لسانه وهو يغطّ في نومه وينظر إلى فيروز قال له : (ما لي ولك يا فيروز؟). فدقّ فيروز رقبته وقتله.

قال : (ثمّ دخل الباقون ليحتزّوا رأسه ، فحرّكه شيطانه فاضطرب فلم يضبطوا أمره حتّى جلس اثنان على ظهره وأخذت المرأة شعره ، فجعل يبربر بلسانه فاحتزّ الآخر رقبته فخار كأشدّ خوار ثور سمع قطّ ، فابتدر الحرس الباب ، وقالوا : ما هذا؟ فقالت المرأة : النبيّ يوحى إليه ، فخمد ...) الحديث.

* * *

روى هذا الخبر عن سيف كلّ من الطبري والذهبي في تاريخيهما ، وأخذه من الطبري كلّ من ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون ، غير أنّ الأخير أورده بإيجاز.

٤٤٣

دراسة خبر الأسود العنسي

آ ـ رواة الخبر :

روى سيف هذا الخبر في إحدى عشرة رواية رواها عن أربعة رواة اختلقهم وهم كلّ من:

١ ـ سهل بن يوسف الخزرجي السلمي.

٢ ـ عبيد بن صخر الخزرجي السلمي.

٣ ـ المستنير بن يزيد النخعي.

٤ ـ عروة بن غزية الدثيني.

هكذا تخيّلهم سيف الزنديق غير أنّ الله لم يخلق رواة بهذه الأسماء وإنّما اختلقهم سيف بن عمر لرواياته.

ب ـ دراسة متن الخبر :

قد قارنّا روايات سيف المختلفة في خبر الأسود العنسي بالروايات الصحيحة وبيّنا اختلاقه الروايات والرواة في هذا الخبر في الجزء الثاني من (عبد الله بن سبأ.)

ثانيا ـ خبر مناجاة كسرى مع الرسول عند الله في رواية سيف

روى سيف في قصّة مسير يزدجرد إلى خراسان بعد واقعة جلولاء وقال :

(كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو يومئذ ملك فارس ، لمّا انهزم أهل جلولاء خرج يريد الريّ وكان ينام في محمله والبعير يسير به ولا يعرسون ، فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله فأنبهوه ليعلم ولئلّا يفزع إذا خاض البعير ، فعنف وقال : بئسما صنعتم ، والله لو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمّة ، إنّي رأيت : أنّي ومحمّدا تناجينا عند الله ، فقال له :

٤٤٤

ـ أملكهم مائة سنة.

فقال : ـ زدني.

فقال : ـ عشرا ومائة سنة.

فقال : ـ زدني.

فقال : ـ عشرين ومائة سنة.

فقال : ـ لك.

وأنبهتموني ، فلو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمّة ...) (٤٣).

دراسة خبر مناجاة كسرى والرسول (ص)

أ ـ دراسة رواة الخبر :

روى سيف أسطورة مناجاة كسرى والرسول (ص) عند الله عن مختلقاته من الرواة الآتية أسماؤهم :

١ ـ محمّد ، وقد تخيّله : محمّد بن عبد الله بن سواد بن نويرة.

٢ ـ المهلب ، وهو عنده : المهلب بن عقبة الأسدي.

٣ ـ عمرو ، وقد اختلق سيف راويين باسم عمرو ، تخيّل أحدهما :

عمرو بن ريان والآخر : عمر بن رفيل ، وبيّنّا اختلاقه هذه الأسماء في الجزء الأول من (عبد الله بن سبأ) و (خمسون ومائة صحابيّ مختلق)

ب ـ دراسة متن الخبر :

درسنا متن هذا الخبر في أول الجزء الأول من (خمسون ومائة صحابيّ مختلق) وبيّنّا زيفه ولا حاجة لإعادة البحث في هذه العجالة.

ما ذا استهدف الزنديق من وضع هذين الخبرين؟

__________________

(٤٣) راجع مصادره في البحث الأوّل من البحوث التمهيدية في الجزء الاول من (خمسون ومائة صحابيّ مختلق).

٤٤٥

زعم سيف أنّ الأسود الّذي ادّعى النبوة كان يخبر قيسا بكلّ ما ينويه مرّة بعد أخرى ويقول :

(قال الملك!) وكان الملك الّذي يخبره هو الشيطان! وظهرت من الأسود مدّعي النبوة معجزة باهرة حين خطّ خطّا أوقف وراءه مائة جزور بين بقرة وبعير وقام من دونها ونحرها جميعا غير محبسة ولا معقلة ما يقتحم الخطّ منها شيء ، ثمّ خلاها فجالت إلى أن زهقت ، وإنّ الراوي استعظم هذا الأمر! وقال في الخبر الثاني : (إنّ كسرى رأى في المنام أنه اجتمع مع الله ورسوله في مؤتمر ثلاثي ...) الحديث.

أليس مغزى الأسطورة الأولى أنّ نبيّ المسلمين ادّعى النبوّة وكان من يسمّيه (الملك) يخبره بالغيب ، وتصدر منه المعجزات.

والأسود العنسي أيضا ادّعى النبوة وكان من يسمّيه (الملك) يخبره بالغيب وتظهر منه المعجزات؟ هل نشر الزنديق هذه الأسطورة دون أن يقصد إلقاء الشبهات في أذهان المسلمين؟

وفي الأسطورة الثانية ، ألم يقصد الزنديق الاستهزاء بربّ المسلمين ونبيّهم حين جمعهما في مؤتمر واحد مع عدوّهما يزدجرد ملك الفرس في ما رآه!!؟

هكذا نقل كبار العلماء عن سيف أساطير الخرافة وحشوا بها كتب التاريخ الإسلامي وأصبحت تلك الأساطير جزءا من مصادر الدراسات الإسلامية ، وكذلك نشروا في كتب التاريخ الإسلاميّ ما أشاعه سيف الزنديق بأنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف ، نظير الأخبار الآتية.

إشاعة الزنديق أنّ الإسلام انتشر بالسيف وإراقة الدماء

أشاع سيف في ما اختلق من أخبار حروب الردّة والفتوح بأنّ الإسلام

٤٤٦

انتشر على وجه الأرض بحدّ السيف وإراقة الدماء ؛ وممّا اختلق باسم حروب الردّة ، الأكاذيب والتهويلات الآتية :

تهويلات وأكاذيب في ما رواه سيف من أخبار حروب الردّة

مهّد سيف لما أراد أن يذكر في حروب الردّة من تهويلات بما روى في روايات قصيرة له أوردها الطبري في أول أخبار الردّة ، قال سيف فيها :

(كفرت الأرض وتضرّمت نارا ، وارتدّت العرب من كلّ قبيلة خاصّتها أو عامّتها إلّا قريشا وثقيفا). ثمّ ذكر ارتدادا في غطفان ، وامتناع هوازن من دفع الصدقة ، واجتماع عوام طيّئ وأسد على طليحة ، وارتداد خواصّ بني سليم ، وقال : (وكذلك سائر الناس بكلّ مكان) وقال : (وقدمت كتب أمراء النبيّ من كلّ مكان بانتقاض القبائل خاصّتها ، أو عامّتها).

ونقل الخبر كذلك ابن الأثير وابن خلدون بتاريخيهما ، ونقله ابن كثير بالمعنى حيث قال في تاريخه (٤٤).

(ارتدّت العرب عند وفاة رسول الله (ص) ما خلا أهل المسجدين مكّة والمدينة).

ثمّ ذكر سيف في ما اختلقه من حروب الردّة كيف أرجع المرتدّون إلى الإسلام بحدّ السيف كما زعمه الزنديق في رواياته. ومن أمثلة ما روى في حروب الردّة ما سمّاها بحرب الأخابث كالآتي :

ردّة عكّ والأشعرين وخبر طاهر ربيب رسول الله (ص) في روايات سيف

وقال سيف في خبر الأخابث من عكّ :

كان أوّل من انتفض بتهامة العكّ والأشعرين لمّا بلغهم نبأ وفاة

__________________

(٤٤) البداية والنهاية ٦ / ٣١٢.

٤٤٧

النبيّ (ص) تجمعوا وأقاموا على الأعلاب (طريق الساحل) فكتب بذلك طاهر إلى أبي بكر ، ثمّ سار إليهم مع مسروق العكّي حتّى التقى بهم ، فاقتتلوا ، فهزمهم الله وقتلوهم كلّ قتلة ، وأنتنت السّبل لقتلهم ، وكان مقتلهم فتحا عظيما.

وأجاب أبو بكر طاهرا ـ من قبل أن يأتيه كتابه بالفتح ـ : (بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعلاب ، فقد أصبت ، فعاجلوا هذا الضرب ولا ترفهوا عنهم ، وأقيموا بالأعلاب حتّى يأتيكم أمري). فسمّيت تلك الجموع ومن تأشب إليهم إلى اليوم الأخابث ، وسمّي ذلك الطريق طريق الأخابث ، وقال في ذلك طاهر بن أبي هالة :

ووالله لو لا الله لا شيء غيره

لما فضّ بالأجراع جمع العثاعث

فلم تر عيني مثل يوم رأيته

بجنب صحار في جموع الأخابث

قتلناهم ما بين قنّة خامر

إلى القيعة الحمراء ذات النبائث

وفئنا بأموال الأخابث عنوة

جهارا ولم نحفل بتلك الهثاهث

قال : وعسكر طاهر على طريق الأخابث ، ومعه مسروق في عكّ ينتظر أمر أبي بكر.

* * *

أدار سيف خبر ردّة عكّ والأشعرين على من تخيّله طاهر بن أبي هالة ، فمن هو طاهر في أحاديث سيف؟

طاهر في أحاديث سيف

تخيّل سيف طاهر بن أبي هالة التميمي من أمّ المؤمنين خديجة وربيب رسول الله (ص) وعامله في حياته ، وذكر من أخباره في عصر أبي بكر إبادته للمرتدّين من عكّ والأشعرين ، ومن أحاديث سيف استخرجوا ترجمته وذكروه في عداد الصّحابة في كلّ من الاستيعاب ومعجم الصّحابة وأسد

٤٤٨

الغابة وتجريد أسماء الصّحابة والإصابة وغيرها ، وكذلك ترجم في معجم الشعراء وسير النبلاء.

وذكر خبره في تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وميرخواند.

واعتمد (شرف الدين) على هذه المصادر وذكر اسم طاهر في عداد أسماء الشّيعة من أصحاب عليّ في كتابه (الفصول المهمّة).

واعتمادا على أخبار سيف ترجم البلدانيون الأعلاب والأخابث في عداد الأماكن مثل الحموي في معجم البلدان وعبد المؤمن في مراصد الاطلاع.

مناقشة الخبر

روى سيف أخبار طاهر في خمس من رواياته في أسانيدها خمس رواة اختلقهم باسم سهل عن أبيه يوسف السلمي وعبيد بن صخر بن لوذان وجرير بن يزيد الجعفي وأبي عمرو مولى طلحة.

ولم يكن وجود لردة عكّ والأشعرين.

ولم يخلق الله أرضا باسم الأعلاب والأخابث.

ولا صحابيّا شيعيّا ربيبا لرسول الله (ص) من أمّ المؤمنين خديجة اسمه طاهر بن أبي هالة.

ولم تقع حرب الإبادة لعكّ والأشعرين المرتدّين كما تخيّلها سيف ، ولا الرواة الّذين روى عنهم أخبار طاهر وردة عكّ والأشعرين والأخابث.

اختلق سيف الردّة ، وحربها ، والأراضي ، والشعر ، وكتاب أبي بكر ، والصحابيّ ، والرواة ، ووصل من خلالها إلى هدفه أنّ الناس ارتدّوا بعد رسول الله (ص) عامّة عدا قريش وثقيف ، وهكذا حاربهم المسلمون حرب إبادة ، وقد ناقشنا كلّ هذه الأخبار وأسانيدها في ترجمة من

٤٤٩

سمّاه بطاهر بن أبي هالة في الجزء الأول من كتاب (خمسون ومائة صحابيّ مختلق).

كانت هذه إحدى حروب الردّة الّتي اختلقها سيف ، وممّا اختلق من حروب الردّة واختلق أخبارها ، ما سمّاه بردّة طيّئ وردّة أمّ زمل وردّة أهل عمان والمهرة وردّة اليمن الأولى وردّة اليمن الثانية.

اختلق ارتداد تلك القبائل والبلاد وحروبها وحروب ردّة أخرى زعم أنها وقعت في عصر أبي بكر ، كذب فيها جميعا. وكذب وافترى في ذكر عدد من قتل في تلك المعارك وذكر تهاويل مزعومة سوّد بها وجه التاريخ الإسلامي الناصع ، وكذلك فعل في أخبار الفتوح حيث ذكر معارك لم تقع ، وقتلا وإبادة من قبل جيوش المسلمين لم يكن لهما وجود في التاريخ بتاتا كالآتي ذكرهما.

فتح أليس وتخريب مدينة أمغيشيا في أحاديث سيف

روى الطبري عن سيف في خبر أليس وأمغيشيا من فتوح سواد العراق وقال في خبر أليس :

فاقتتلوا قتالا شديدا والمشركون يزيدهم كلبا وشدّة ما يتوقّعون من قدوم بهمن جاذويه ، فصابروا المسلمين للّذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه وحرب المسلمون عليهم ، وقال خالد : اللهمّ إنّ لك عليّ إن منحتنا أكتافهم ألّا أستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم ، ثمّ إنّ الله عزوجل كشفهم للمسلمين ومنحهم أكتافهم ، فأمر خالد مناديه فنادى في الناس : الأسر الأسر ، لا تقتلوا إلّا من امتنع فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا وقد وكّل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر ، ففعل ذلك بهم يوما وليلة ، وطلبوهم الغد وبعد الغد حتّى انتهوا إلى النهرين ومقدار ذلك من كلّ جوانب أليس ، فضرب أعناقهم وقال له القعقاع وأشباه

٤٥٠

له : لو أنّك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم إنّ الدماء لا تزيد على أن ترقرق منذ نهيت عن السيلان ونهيت الأرض عن نشف الدماء ، فأرسل عليها الماء ، تبرّ بيمينك ، وقد كان صدّ الماء عن النهر فأعاده فجرى دما عبيطا فسمّى نهر الدم لذلك الشأن إلى اليوم. وقال آخرون منهم بشير بن الخصاصية وبلغنا أنّ الأرض لما نشفت دم ابن آدم نهيت عن نشف الدماء ونهي الدم عن السيلان إلّا مقدار برده.

وقال : كانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثمانية عشر ألفا أو يزيدون ثلاثة أيام ....

وقال بعده في خبر هدم مدينة أمغيشيا :

لمّا فرغ خالد من وقعة أليس ، نهض فأتى أمغيشيا وقد أعجلهم عمّا فيها وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد ، فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكلّ شيء كان في حيزها ، وكانت مصرا كالحيرة ، وكانت أليس من مسالحها ، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قطّ.

اختلق سيف جميع هذه الأخبار بتفاصيلها مع رواتها ولنتأمّل في ما وضع واختلق في الخبرين.

نظرة تأمل في رواية سيف عن أليس ومدينة أمغيشيا

قال سيف :

في وقعة أليس آلى خالد أن يجري نهرهم بدمائهم ، فلمّا غلب غيّر مجرى الماء من نهرهم واستأسر فلول الجيش الفارسي والمدنيين من أهل الأرياف من كلّ جوانب أليس مسافة يومين وأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين وو كلّ بهم رجالا يضربون أعناقهم على النهر يوما وليلة ، والدم ينشف فقال له القعقاع ـ الصحابي الذي اختلقه سيف ـ وأشباه له : لو قتلت

٤٥١

أهل الأرض لم تجر دماؤهم ، أرسل عليها الماء تبرّ يمينك ، فأرسل عليها الماء فأعاده فجرى النهر دما عبيطا فسمّي نهر الدم لذلك إلى اليوم. ثمّ قال : ذهب خالد إلى أمغيشيا وكانت مصرا كالحيرة فأمر بهدم أمغيشيا وكلّ شيء كان في حيزها وبلغ عدد قتلاهم سبعين ألفا.

* * *

أمّا هدم مدينة أمغيشيا الّتي اختلق سيف المدينة وحيّزها وخبر هدمها ، فقد كان له نظير في التاريخ من قبل طغاة مثل هولاكو وجنكيز وكذلك قتل الأسرى ، غير أنّ سيفا نسب إلى خالد ما لم يجر له نظير في تاريخ الحروب وهو أنه أجرى نهرهم بدمائهم ، وأنّه لذلك سمّي نهرهم بنهر الدم إلى اليوم.

اختلق سيف كلّ هذه الأخبار واختلق أخبار معارك الثني والمذار والمقر وفم فرات بادقلى وحرب المصيخ وقتلهم الكفّار يوم ذاك حتّى امتلأ الفضاء من قتلاهم ، فما شبهوهم إلّا بغنم مصرّعة وكذلك معركة الزميل والفراض وقتل مائة ألف من الروم فيها.

اختلق سيف جميع أخبار هذه الحروب ونظائرها وانتشرت في تواريخ الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون وغيرهم ، ولا حقيقة لواحدة منها ، وقد ناقشنا أخبارها وأسانيدها في بحث (انتشار الإسلام بالسيف والدم في حديث سيف) من كتاب (عبد الله بن سبأ) الجزء الثاني.

ألا يحقّ لخصوم الإسلام مع هذا التاريخ المزيّف أن يقولوا : (إنّ الإسلام انتشر بحدّ السيف)!؟

وهل يشكّ أحد بعد هذا في هدف سيف من وضع هذا التاريخ وما نواه من سوء للإسلام؟! وما الدافع لسيف إلى كلّ هذا الدّس والوضع إن لم تكن الزندقة الّتي وصفه العلماء بها!؟

وأخيرا هل خفي كلّ هذا الكذب والافتراء على إمام المؤرخين الطبري؟

٤٥٢

وعلّامتهم ابن الأثير؟ ومكثرهم ابن كثير؟ وفيلسوفهم ابن خلدون؟ وعلى عشرات من أمثالهم ، كابن عبد البرّ وابن عساكر والذهبي وابن حجر؟

كلّا فإنّهم هم الّذين وصفوه بالكذب ورموه بالزندقة! وقد ذكر الطبري وابن الأثير وابن خلدون في تواريخهم في وقعة ذات السلاسل : أنّ ما ذكره سيف فيها خلاف ما يعرفه أهل السير!

إذا فما الّذي دعاهم إلى اعتماد رواياته دون غيرها مع علمهم بكذبه وزندقته ، إن هو إلّا أنّ سيفا حلّى مفترياته بإطار من نشر مناقب ذوي السلطة من الصحابة ، فبذل العلماء وسعهم في نشرها وترويجها ، مع علمهم بكذبها؟ ففي فتوح العراق ـ مثلا ـ أورد مفترياته تحت شعار مناقب خالد بن الوليد ، فقد وضع على لسان أبي بكر أنّه قال بعد معركة أليس وهدم مدينة أمغيشيا : (يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد).

كما زيّن ما اختلق في معارك الرّدّة بإطار من مناقب الخليفة أبي بكر ، وكذلك فعل في ما روى واختلق عن فتوح الشام وإيران على عهد عمر ، والفتن في عصر عثمان ، وواقعة الجمل في عصر عليّ ، فإنّه زيّن جميعها بإطار من مناقب ذوي السلطة والدفاع عنهم في ما انتقدوا عليه وبذلك راجت روايات سيف وشاعت أكاذيبه ونسيت الروايات الصحيحة وأهملت ، على أنّه ليس في ما وضعه سيف واختلق ـ على الأغلب ـ فضيلة للصحابة بل فيه مذمّة لهم.

ولست أدري كيف خفي على هؤلاء أنّ جلب خالد عشرات الألوف من البشر وذبحهم على النهر ليجري نهرهم بدمائهم ليست فضيلة له ، ولا هدمه مدينة أمغيشيا ولا نظائرها إلّا على رأي الزنادقة في الحياة من أنّها سجن للنور ،

٤٥٣

وأنّه ينبغي السعي في إنهاء الحياة لإنقاذ النور من سجنه (٤٥).

ومهما يكن من أمر ، فإنّ بضاعة سيف المزجاة إنّما راجت لأنّه طلاها بطلاء من مناقب الكبراء ، وإنّ حرص هؤلاء على نشر فضائل ذوي السلطة والدفاع عنهم أدّى بهم إلى نشر ما في ظاهره فضيلة لهم وإن لم تكن لهم في واقعه فضيلة!

والأنكى من ذلك أنّ سيفا لم يكتف باختلاق روايات في ظاهرها مناقب للصحابة من ذوي السلطة ويدسّ فيها ما شاء لهدم الإسلام ، بل اختلق صحابة للرسول (ص) لم يخلقهم الله! ووضع لهم ما شاء من كرامات وفتوح وشعر ومناقب كما شاء! وذلك معرفة منه بأنّ هؤلاء يتمسّكون بكلّ ما فيه مناقب لأصحاب الحكم كيف ما كان ، فوضع واختلق ما شاء لهدم الإسلام! اعتمادا منه على هذا الخلق عند هؤلاء! وضحكا منه على ذقون المسلمين! ولم يخيّب هؤلاء ظنّ سيف ، وإنّما روّجوا مفترياته زهاء ثلاثة عشر قرنا!

* * *

أوردنا إلى هنا أمثلة ممّا اختلقه سيف للطّعن بالإسلام وأطره بإطار مناقب كبراء الصحابة والتابعين أي ذوي السلطة منهم ، وفي ما يأتي ندرس أمثلة أخرى منها ممّا أطره بإطار حلّ معضلة مدرسة الخلافة مدى القرون ، كما سيأتي بيانها.

كانت شهرة الإمام عليّ (ع) بالوصيّ

معضلة مدرسة الخلافة مدى القرون

رأينا في ما مرّ بنا كيف دارت المعركة الكلامية بين المدرستين حول نصّ

__________________

(٤٥) راجع بحث الزندقة والزنادقة من البحوث التمهيدية في الجزء الأوّل من (خمسون ومائة صحابيّ مختلق).

٤٥٤

الوصية مدى سبعمائة سنة منذ عهد أمّ المؤمنين عائشة حتّى عصر ابن كثير ، لأن نصّ الوصيّة كان يشخّص قصد الرسول (ص) في سائر النصوص الّتي نصّ بها على حقّ آله في الحكم بدءا بالإمام عليّ وانتهاء بالإمام المهدي ، مثل حديث الغدير وحديث أنّ عليّا ولي الأمر بعد الرسول (ص) ووارثه ، إلى غيرهما. بينما كانت مدرسة الخلفاء تؤوّل تلك النّصوص إلى مدلول الفضيلة لآل الرسول (ص). وممّا يوضّح ذلك أنّ علماء أهل الكتاب ـ مثلا ـ عند ما كانوا يتكلّمون عن وصيّ خاتم الأنبياء ، ما كانوا يعنون غير وليّ عهده من بعده.

وأنّ أنصار الإمام عليّ (ع) عند ما كانوا يذكرون الوصيّة في خطبهم وأشعارهم. يحتجّون بها على حقّ الإمام عليّ (ع) في الحكم مثل أبي ذرّ على عهد عثمان ومالك الأشتر يوم بيعة الإمام عليّ (ع) ومحمّد بن أبي بكر في كتابه لمعاوية ، والمهاجرين والأنصار في أشعارهم في الجمل وصفّين ، والإمام الحسن (ع) عند ما خطب ليبايع له ، والإمام الحسين عند ما خطب على جيش الخلافة بكربلاء ، كلّهم كانوا يحتجّون بالوصيّة ، لأنّها كانت تشير إلى جميع النّصوص الّتي وردت بحقّهم وتشملها ، فكأنّهم في احتجاجهم بالوصيّة يدلون بجميع تلك النّصوص.

وإنّ قيام العلويّين المطالبين بالحكم لم ينته باستشهاد الإمام الحسين (ع) وإنّما استمرّت ثوراتهم على الخلفاء حتّى عصر العباسيين ، وكان في مقدمة ما يضايق مدرسة الخلفاء في كلّ تلكم القرون في المعركة السياسية شهرة الإمام عليّ (ع) بأنّه وصيّ النبيّ (ص) لما كان يحتجّ بها المطالبون بالحكم من العلويين باعتبار أنّها تدلّ كما ذكرنا آنفا على نصّ النّبيّ (ص) بحقّ الإمام عليّ (ع) وولده في الحكم.

ومن ثمّ لمّا أراد المأمون تهدئة ثورات العلويّين تظاهر بالاستدلال بالوصيّة وولى الإمام الرضا العهد من بعده ، وبذلك هدّأ العلويّين في كلّ مكان

٤٥٥

وجلب رءوسهم إلى عاصمته وقضى على جلّهم بالسّمّ وانتصر عليهم.

إذا كانت شهرة الإمام عليّ (ع) بالوصيّة هي معضلة مدرسة الخلفاء مدى القرون ، فكيف حلّ سيف هذه المعضلة؟

سيف يضع حلّا لمعضلة مدرسة الخلفاء

مرّ بنا كيف كانت مدرسة الخلفاء تعمد إلى كتمان كلّ ما فيه ذكر للوصيّة حذفا وتحريفا وطعنا على رواة الحديث والمحتجّين به ، وتأويلا للنصوص الصريحة للوصيّة ، ولم يبلغ أحدهم شأو سيف في ما وضع من حلّ لهذه المشكلة العويصة بتحريفه الحقائق إلى ما يناقضها في ما اختلقه من روايات نذكرها في ما يأتي :

أ ـ روى الطبري (٤٦) في أول أخبار سنة خمس وثلاثين للهجرة الرواية الآتية :

(عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، قال : كان عبد الله بن سبأ يهوديّا من أهل صنعاء ، أمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثمّ البصرة ثمّ الكوفة ثمّ الشام. فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر فاعتمر فيهم ، فقال لهم في ما يقول : لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع ويكذب بأنّ محمّدا يرجع وقد قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) فمحمّد أحقّ بالرجوع من عيسى ، قال : فقبل ذلك عنه فوضع لهم الرجعة فتكلّموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبيّ ولكلّ نبيّ وصيّ ، وكان عليّ وصيّ محمّد. ثمّ قال : محمّد خاتم الأنبياء ، وعليّ خاتم

__________________

(٤٦) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٩٤١ ـ ٢٩٤٤.

٤٥٦

الأوصياء. ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله (ص) ووثب على وصيّ رسول الله (ص) وتناول أمر الأمّة؟ ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حقّ ، وهذا وصيّ رسول الله (ص) فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطّعن على أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا النّاس وادعوهم إلى هذا الأمر.

فبثّ دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار ، وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كلّ مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون ، فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتّى تناولوا بذلك المدينة. وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون ويسرّون غير ما يبدون ، فيقول أهل كلّ مصر : إنّا لفي عافية ممّا ابتلى به هؤلاء ، إلّا أهل المدينة ، فإنّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا : إنّا لفي عافية ممّا فيه النّاس وجامعه محمّد وطلحة من هذا المكان ، قالوا : فأتوا عثمان فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أيأتيك عن النّاس الّذي يأتينا ، قال : لا والله ما جاءني إلّا السلامة ، قالوا : فإنّا قد أتانا وأخبروه بالّذي أسقطوا إليهم ، قال : فأنتم شركائي وشهود المؤمنين ، فأشيروا عليّ ، قالوا : نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتّى يرجعوا إليك بأخبارهم. فدعا محمّد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة وأرسل عمّار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام وفرّق رجالا سواهم ، فرجعوا جميعا قبل عمّار فقالوا : أيّها النّاس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامّهم وقالوا جميعا : الأمر أمر المسلمين إلّا أنّ أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم ، واستبطأ النّاس عمّارا حتّى ظنّوا أنّه قد اغتيل ، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله بن

٤٥٧

سعد بن أبي سرح يخبرهم أنّ عمّارا قد استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه ، منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن ملجم وسودان بن حمران وكنانة بن بشر).

ب ـ روى الذهبي (٤٧) في أوائل ذكره أخبار سنة خمس وثلاثين هجرية الحديثين الآتيين :

أوّلا ـ (قال سيف بن عمر عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، قال : لمّا خرج ابن السوداء إلى مصر نزل على كنانة بن بشر مرّة وعلى سودان بن حمران مرّة ، وانقطع إلى الغافقي ، فشجّه الغافقي فكلّمه ، وأطاف به خالد بن ملجم وعبد الله بن رزين وأشباه لهم فصرف لهم القول فلم يجدهم يجيبون إلى الوصية ...) إلى آخر الحديث الطويل.

ثانيا ـ روى بعد هذا الحديث خبر عمّار في مصر كالآتي :

(قال سيف : عن مبشر وسهل بن يوسف ، عن محمّد بن سعد بن أبي وقاص ، قال : قدم عمّار بن ياسر من مصر وأبي يسأل ، فبلغه فبعثني إليه أدعوه ، فقام معي وعليه عمامة وسخة وجبّة فراء ، فلمّا دخل على سعد قال له : ويحك يا أبا اليقظان ، إن كنت فينا لمن أهل الخير فما الّذي بلغني عنك من سعيك في فساد بين المسلمين والتألّب على أمير المؤمنين أمعك عقلك أم لا؟ فأهوى عمّار إلى عمامته وغضب فنزعها وقال : خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه. فقال سعد : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ويحك حين كبرت سنّك ورقّ عظمك ونفد عمرك ، خلعت ربقة الإسلام من عنقك وخرجت من الدين عريانا. فقام عمّار مغضبا مولّيا وهو يقول : أعوذ بربّي من فتنة سعد. فقال

__________________

(٤٧) تاريخ الإسلام ٢ / ١٢٢ ـ ١٢٨.

٤٥٨

سعد : ألا في الفتنة سقطوا ، اللهمّ زد عثمان بعفوه وحلمه عندك درجات ، حتّى خرج عمّار من الباب. فأقبل عليّ سعد يبكي حتّى أخضل لحيته وقال : من يأمن الفتنة ، يا بنيّ لا يخرجنّ منك ما سمعت منه فإنّه من الأمانة وإنّي أكره أن يتعلّق به الناس عليه يتناولونه ، وقد قال رسول الله (ص) : الحقّ مع عمّار ما لم تغلب عليه ولهة الكبر ، فقد وله وخرف. وممّن قام على عثمان ، محمّد بن أبي بكر الصدّيق ، فسأل سالم بن عبد الله في ما قيل عن سبب خروج محمّد ، قال : الغضب والطمع وكان من الإسلام بمكان ، وغرّه أقوام فطمع وكانت له دالّة ولزمه حقّ فأخذه عثمان من ظهره.

ج ـ روى الطبري (٤٨) في أخبار سنة ثلاثين أمر أبي ذرّ كالآتي :

(عن سيف ، عن عطية ، عن يزيد الفقعسي ، قال : لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذرّ فقال : يا أبا ذرّ ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ، ألا إنّ كلّ شيء لله كأنّه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين ، فأتاه أبو ذرّ فقال : ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله؟ قال : يرحمك الله يا أبا ذر ، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره ، قال : فلا تقله. قال : فإنّي لا أقول إنّه ليس لله ، ولكن سأقول مال المسلمين. قال : وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له : من أنت؟ أظنّك والله يهوديّا. فأتى عبادة بن الصامت فتعلّق به فأتى به معاوية فقال : هذا والله الّذي بعث عليك أبا ذرّ. وقام أبو ذرّ بالشام وجعل يقول : يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء ، بشّر الّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، فما زال حتّى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء وحتّى شكا الأغنياء ما يلقون من النّاس. فكتب معاوية

__________________

(٤٨) تاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ٢٨٥٨ ـ ٢٨٥٩.

٤٥٩

إلى عثمان : إنّ أبا ذرّ قد أعضل بي وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان : إنّ الفتنة قد أخرجت خطمها وعينها فلم يبق إلّا أن تثب فلا تنكأ القرح وجهّز أبا ذرّ إليّ وابعث معه دليلا وزوده وارفق به وكفكف الناس ونفسك ما استطعت فإنّما تمسك ما استمسكت ، فبعث بأبي ذرّ ومعه دليل ، فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع قال: بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال : يا أبا ذرّ ما لأهل الشام يشكون ذربك؟ فأخبره أنّه لا ينبغي أن يقال مال الله ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا ، فقال : يا أبا ذرّ عليّ أن أقضي ما عليّ وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزّهد وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد ، قال : فتأذن لي في الخروج؟ فإنّ المدينة ليست لي بدار. فقال : أو تستبدل بها إلّا شرّا منها ، قال : أمرني رسول الله (ص) أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا. قال : فانفذ بما أمرك به. قال : فخرج حتى نزل الربذة فخطّ بها مسجدا وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتّى لا ترتد أعرابيّا ، ففعل).

دراسة روايات سيف في أخبار الفتن

اختلق سيف هذه الأخبار ونظائرها في الدفاع عن الخلفاء الأمويين : عثمان ، ومعاوية ، ومروان ، والولاة : الوليد ، وسعد بن أبي سرح ، وغيرهم من كبراء بني أميّة ، فراجت قصصه المختلقة في أخبار تلك الفتن ، وانتشرت في مصادر الدراسات الإسلاميّة انتشار النّار في الهشيم ، كما برهنّا على ذلك في أوّل الجزء الأوّل من (عبد الله بن سبأ) ، وأثبتنا الصحيح من أخبار تلك الفتن في فصل (في عصر الصهرين) وفصل (مع معاوية) من كتابنا (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) الجزء الأول ، ونشير في ما يأتي إلى أمثلة من أنواع الاختلاق والتحريف في روايات سيف السابقة.

٤٦٠