معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

نرى السلطة الحاكمة في هذا الخبر تنهى عن نشر لقب الأنصار الّذي هو من سنّة الرسول (ص) لما فيه ثناء على الأنصار اليمانيين ، وليسوا من عصبة الخلافة ، والجامع بين هذه الموارد الّتي أوردناها هو نهي السلطة عن نشر سنّة الرسول ، حنقا على خصومها.

ثانيا ـ ما رواه ـ أيضا ـ بسنده عن ابن شهاب ، قال : قال لي خالد بن عبد الله القسري : اكتب لي النسب ، فبدأت بنسب مضر ، [فمكثت فيه أياما ، ثمّ أتيته ، فقال لي : ما صنعت؟ فقلت : بدأت بنسب مضر] وما أتممته ، فقال : اقطعه قطعه الله مع أصولهم ، واكتب لي السيرة. فقلت له : فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره؟ فقال : لا ، إلّا أن تراه في قعر الجحيم (٢٠).

نرى أنّ السلطة الحاكمة تمنع من كتابة اسم الإمام عليّ (ع) إلّا إذا ما كان فيه ذمّ له. فكيف إذا تسمح بكتابة سنّة الرسول (ص) الّتي تنصّ على أنّ الرسول (ص) عيّنه وصيّا من بعده؟!

نهى الخلفاء عن نشر سنّة الرسول (ص) وكان مصير من يخالفهم ويروي أو يكتب ما يخالف اتّجاههم مدى القرون القتل المعنوي أو الجسدي كما سنشير إلى أمثلة منه في ما يأتي إن شاء الله.

__________________

(٢٠) الأغاني ، ط. ساسي ١٩ / ٥٩ وط. بيروت ٢٢ / ٢٣.

وابن شهاب : هو محمد بن مسعود القرشي الزهري. أخرج حديثه جميع أصحاب الصحاح (ت : ١٢٥ ه‍ أو بعده بسنة أو سنتين). تقريب التهذيب ٢ / ٢٠٧.

وخالد بن عبد الله : ولي مكّة سنة ٨٩ ه‍ للوليد ، والعراقين البصرة والكوفة سنة ١٠٥ لهشام بن عبد الملك ، ثم عزله سنة ١٢٠. وقتله والي العراق من بعده. وقد رمي في نسبه ودينه. راجع ترجمته في الأغاني وتهذيب تاريخ ابن عساكر ٥ / ٦٧ ـ ٨٠ وغيره.

٤٢١

ز ـ تضعيف الروايات ورواة سنّة الرّسول (ص)

والكتب الّتي تنتقص السلطان وقتل المخالفين أحيانا

لا يستطيع الباحث أن يحصي عمل العلماء في تضعيف الراوي والكتاب اللّذين ينتقصان السلطان ، وكذلك تضعيفهم الروايات الّتي فيها انتقاص لمقام السلطة من خليفة ووال وأمير وأحيانا تقتل العامّة العالم المخالف لهذا الاتّجاه ، وكي لا يطول البحث في هذا الصنف من الكتمان نقتصر على ذكر أربعة أمثلة منه في ما يأتي :

١ ـ انتقاص من يذكر الوصيّة

قال ابن كثير ما موجزه :

(وأمّا ما يغترّ به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء ، من أنّه أوصى إلى عليّ بالخلافة ، فكذب وبهت وافتراء ، يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيّته ـ إلى قوله ـ : وما قد يقصّه بعض القصاص من العوام وغيرهم في الأسواق وغيرها من الوصيّة لعليّ في الآداب والأخلاق ... كلّ ذلك من الهذيانات ، فلا أصل لشيء منه بل هو اختلاق بعض السفلة الجهلة ولا يعول على ذلك ولا يغترّ به إلّا غبيّ عيي) (٢١).

هكذا تكلّم ابن كثير بتوتر عصبي شديد من عناء هذه المشكلة ، ولنر من هم الّذين اغترّ بهم جهلة الشيعة والقصّاص الأغبياء. إنّهم كلّ من الأشخاص الآتية أسماؤهم :

أولا ـ من الصحابة :

أ ـ الإمام علي بن أبي طالب المهاجري.

__________________

(٢١) البداية والنهاية ٧ / ٢٢٤.

٤٢٢

ب ـ سلمان المحمّدي (الفارسي).

ج ـ أبو أيّوب الأنصاري.

د ـ أبو سعيد الخدري الأنصاري.

ه ـ أنس بن مالك الأنصاري.

و ـ بريدة بن الحصيب الأسلمي المهاجري.

ز ـ عمرو بن العاص القرشي.

ح ـ أبو ذرّ الغفاري.

ط ـ الإمام الحسن سبط الرسول الأكبر.

ي ـ الإمام الحسين السبط الشهيد.

ك ـ حسّان بن ثابت الأنصاري.

ل ـ الفضل بن العبّاس بن عبد المطلب.

م ـ النعمان بن عجلان الأنصاري.

ن ـ عبد الله بن أبي سفيان الحرث بن عبد المطلب.

س ـ أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ع ـ سعيد بن قيس الأنصاري.

ف ـ حجر بن عديّ الكندي.

ص ـ خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.

ق ـ عمرو بن الحمق الخزاعى.

ر ـ عبد الله بن عباس ش ـ المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب.

ت ـ الأشعث بن قيس الكندي وهو من خصوم الإمام علي.

ثانيا ـ من التابعين :

أ ـ جرير بن عبد الله البجلي.

٤٢٣

ب ـ النجاشي الشاعر قيس بن عمرو.

ج ـ محمد بن أبي بكر (الخليفة الأول).

د ـ المنذر بن حميضة الوادعي.

ه ـ عبد الرحمن بن جعيل.

و ـ النضر بن عجلان.

ز ـ مالك الأشتر.

ح ـ عمر بن حارثة الأنصاري.

ط ـ عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي.

ثالثا ـ من حكام مدرسة الخلفاء وأئمة مذاهبهم :

أ ـ الأمير علي بن عبد الله عمّ الخليفة العباسي السفاح.

ب ـ الخليفة العبّاسي هارون الرشيد.

ج ـ الخليفة العبّاسي المأمون.

د ـ إمام الشافعيّة محمد بن إدريس الشافعي.

رابعا ـ من المؤلفين الذين أخرجوا أحاديث الوصية عن رسول الله (ص):

أ ـ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (ت : ٢٤١ ه‍) في كتابه : مناقب علي.

ب ـ الدينوري (ت : ٢٨٢ ه‍) في الأخبار الطوال.

ج ـ إمام المؤرخين الطبري (ت : ٣١٠ ه‍) في تاريخه.

د ـ البيهقي (كان حيّا قبل ٣٢٠ ه‍) في المحاسن والمساوئ.

ه ـ مسند الدنيا ، الطبراني إمام المحدثين في عصره (ت : ٣٦٠ ه‍) في معاجمه.

و ـ أبو نعيم الأصبهاني (ت : ٤٣٠ ه‍) في حلية الأولياء.

٤٢٤

ز ـ الحافظ ابن عساكر الشافعي (ت : ٥٧١ ه‍) في تاريخ مدينة دمشق.

ح ـ ابن الأثير (ت : ٦٣٠ ه‍) في تاريخه.

ط ـ ابن أبي الحديد الشافعي (ت : ٦٥٦ ه‍) في شرح نهج البلاغة.

ي ـ المتقي الهندي (ت : ٩٧٥ ه‍) في كنز العمال.

هؤلاء هم جهلة الشيعة والقصّاص الأغبياء على حسب تعبير ابن كثير الّذين اغترّوا بروايات الوصية ورووها وأخرجوها في كتبهم ، إلى كثير من نظرائهم من الصّحابة والتابعين الّذين اغترّوا بها واحتجوا بها في أشعارهم وخطبهم ورواها عنهم أمثال :

الزبير بن بكّار في الموفقيات ، والطبريّ وابن الأثير في تاريخيهما ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد. والمسعودي الشافعي في مروج الذهب ، والإمام المقدّم في الحديث الحاكم في المستدرك ، والذهبي في تذكرة الحفاظ ، وأمثالهم.

كتم ابن كثير كلّ ما ذكرناه آنفا ، وكتم أكثر ممّا أشرنا إليه ممّا كان في متناول أيدي علماء ذلك العصر ، وذهبت عنّا لتكتّمهم الشّديد عليها وإخفائها عن النّاس ، كتمها جميعا ولم يخرج منها شيئا في موسوعته التاريخية.

وكتمها ـ أيضا ـ بتضعيف الرواة والروايات والكتب الّتي خرجتها ، وتسخيف المحتجّين بها كي لا يصدق من يصل إليه شيء مما كتمها من كتاب آخر وقال : (ما يغترّ به جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء).

وهذا النوع من الكتمان كثير عند علماء مدرسة الخلفاء.

٢ ـ الطعن في رواة الحديث

نقل ابن عبد البرّ عن الشعبي أنّه قال في الحارث الهمداني :

(حدثني الحارث وكان أحد الكذابين). قال ابن عبد البر :

(ولم يبن من الحارث كذب ، وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ عليّ

٤٢٥

وتفضيله له على غيره ، ومن هاهنا والله أعلم كذّبه الشعبيّ لأنّ الشعبيّ يذهب إلى تفضيل أبي بكر وإلى أنّه أوّل من أسلم) (٢٢). انتهى قول ابن عبد البرّ.

٣ ـ الطعن في أئمة الحديث

في مدرسة الخلفاء يطعنون أحيانا في أئمة الحديث الّذين يروون حديثا يخالف اتّجاهها ، مثل ما جرى للحاكم الشافعي كما رواه الذهبي بترجمته (٢٣) وفي ما يلي ما أورده بإيجاز :

الحافظ الكبير إمام المحدّثين ، أبو عبد الله ، محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدويه النيسابوري المعروف بابن البيع. ولد سنة ٣١٢ ه‍ ، وتوفّي سنة ٤٠٥ ه‍. طلب الحديث من الصّغر ورحل إلى العراق وحجّ وجال في خراسان وما وراء النهر وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك ، بلغت تصانيفه قريبا من خمسمائة جزء ومن تآليفه فضائل الشافعي ، ونقل أنّ مشايخ الحديث كانوا يذكرون أيّامه وأنّ الأئمة من مقدّمي عصره كانوا يقدّمونه على أنفسهم ويراعون حقّ فضله ويعرفون له الحرمة الأكيدة.

قال الذهبي : وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال : (لا يصحّ ، ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي (رض) بعد النبيّ (ص)).

وقال : ثمّ تغيّر رأي الحاكم وأخرج حديث الطير في مستدركه.

ونقل الذهبي عن العلماء أنّهم قالوا عن مستدركه : إنّه جمع فيه أحاديث وزعم أنّها على شرط البخاري ومسلم ، منها حديث الطير ، ومن كنت مولاه فعليّ مولاه ، فأنكرها عليه أصحاب الحديث فلم يلتفتوا إلى قوله.

__________________

(٢٢) جامع بيان العلم ، باب حكم العلماء بعضهم في بعض ٢ / ١٨٩.

(٢٣) تذكرة الحفاظ ص ١٠٣٩ ـ ١٠٤٥.

٤٢٦

وقال الذهبي :

أمّا حديث الطير ، فله طرق كثيرة جدّا قد أفردتها بمصنّف ومجموعها هو يوجب أن يكون الحديث له أصل.

وأمّا حديث «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، فله طرق جيّدة ، وقد أفردت ذلك أيضا. يعني الذهبي أنّه ألّف في حديث «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، كتابا خاصّا.

قال المؤلف :

أمّا حديث «من كنت مولاه» فسيأتي بحثه في ذكر النصوص الواردة عن الرسول (ص) في حقّ الإمام عليّ (ع) إن شاء الله تعالى.

وحديث الطير برواية الصحابيّ أنس وغيره من الصّحابة ، أنّه أهدي إلى رسول الله طير مشويّ فدعا أن يأتيه الله بأحبّ الخلق إليه ـ أي بعد الرسول (ص) ـ فيأكل معه ، فجاء عليّ وأكل معه وبما أنّ الحديث يدلّ على أنّ الامام عليّا أفضل النّاس بعد رسول الله (ص) فقد أنكروا على الحاكم وغيره رواية هذا الحديث ، ولم نخرجها نحن في باب النّصوص ، لأنّنا لسنا بصدد إيراد فضائل الإمام عليّ (ع) وإنّما نورد النّصوص الصّريحة في حقّ آل الرسول (ص) في الحكم.

نقل الذهبي فضل الحاكم الشافعيّ في علم الحديث بمدرسة الخلفاء ، وبما أنّه خرّج في مستدركه أحاديث في فضل الإمام عليّ (ع) وما فيه انتقاص لمعاوية ، طعنوا فيه وقالوا ما نقله الذهبي :

(ثقة في الحديث ، رافضيّ خبيث).

(كان يظهر التسنّن في التقديم والخلافة وكان منحرفا عن معاوية وآله ـ يعني يزيد ـ متظاهرا بذلك ولا يعتذر منه).

٤٢٧

قال الذهبي :

(قلت : أمّا انحرافه عن خصوم عليّ فظاهر ، وأما أمر الشيخين فمعظم لهما بكلّ حال فهو شيعيّ لا رافضيّ ، وليته لم يصنّف المستدرك فانّه غضّ من فضائله بسوء تصرفه). انتهت أقوال الذهبي.

ولإمام المحدثين بمدرسة الخلفاء أسوة بإمام المذهب الشافعي محمد بن إدريس (ت : ٢٠٤ ه‍) حيث رمي بالرفض كما رواه البيهقي ، فقال الشافعي في ذلك :

قالوا ترفضت ، قلت كلّا

ما الرفض ديني ولا اعتقادي

لكن تولّيت غير شكّ

خير إمام وخير هادي

إن كان حبّ الوصيّ (٢٤) رفضا

فإنّني أرفض العباد

وممّا قال أيضا :

إن كان رفضا حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي

ويظهر أنه كان يضطر إلى الكتمان أحيانا فقد قال :

ما زال كتما منك حتّى كأنني

بردّ جواب السائلين لأعجم

وأكتم ودّي مع صفاء مودتي

لتسلم من قول الوشاة وأسلم(٢٥)

غير أنّه لم ينفعه الكتمان ورمي بالرفض كغيره من العلماء الّذين لا يكتمون رأيهم في ما ورد عن سنّة الرسول (ص) وسيرة الصّحابة ، وإنّ

__________________

(٢٤) ورد في ديوان الشافعي ط. بيروت ١٤٠٣ ه‍ ، وكذلك في (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) لمحمد بن يحيى العلوي (ت : ١٣٥٠ ه‍) وذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ١٣١ : (الولي) بدلا من (الوصي). ولنا أن نعد هذا التبديل في الصواعق من موارد الكتمان لدى أتباع مدرسة الخلفاء.

(٢٥) هذا موجز ما أورده الهيتمي (ت : ٩٧٤ ه‍) في الصواعق ، ط. مصر الثانية ، سنة ١٣٧٥ ه‍ ، ص ١٣١ ، مع قول البيهقي أورد جميعها مفصلا والبيت : إن كان رفضا ... مع بيتين آخرين رواها أيضا ابن الصباغ المالكي المكي (ت : ٨٥٥ ه‍) في كتابه الفصول حسب نقل صاحب الكنى والألقاب بترجمة الشافعي.

٤٢٨

أغلب علماء المذهب الشافعي بمدرسة الخلفاء لا يكتمون الحديث كما يفعله علماء المذاهب الأخرى في تلك المدرسة ولذلك يرمون بالرفض.

* * *

في هذا الباب لاحظنا أنواعا من الإنكار بدءا بتضعيف الراوي والرواة إلى طعنهم بالتشيّع والرفض والّذي كان يؤدّي إلى إسقاط الحديث عن الاعتبار. وكلّ أنواع الإنكار من أسهل الأمور في باب الاحتجاج للمنكر ومن أصعب الأمور عندئذ إثبات الحقّ ، فإنّ المنكر يسهل عليه أن يقول : الحديث ضعيف ، باطل ، كذب. وعلى صاحب الحقّ أن يأتي بالدليل تلو الدليل وليس للمنكر في مقابله أكثر من الإنكار وعدم القبول ، وهو في حقيقته قتل معنويّ للرواة ، وأحيانا يقتل الراوي الّذي يروي ما يخالف مصلحة مدرسة الخلفاء جسديا ، كما نذكر في ما يأتي مثالا واحدا منه لما جرى لأحد أصحاب الصحاح الستّة بمدرسة الخلفاء.

٤ ـ النسائي أحد مؤلّفي الصّحاح الستّة وقصّة قتله.

ننقل خبره وقصة قتله من كتابي الذهبي وابن خلّكان فقد قالا بترجمته (٢٦) ما موجزه :

الحافظ ، الإمام ، شيخ الإسلام ، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، كان إمام أهل عصره في الحديث وله كتاب السنن تفرّد بالمعرفة وعلوّ الإسناد ، واستوطن مصر. وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ويجتهد في العبادة ليلا. وخرج مع أمير مصر إلى الغزو ، وكان يحترز عن مجالسه والانبساط في المأكل ، وخرج آخر عمره حاجّا وبلغ دمشق ، وصنّف في دمشق كتاب الخصائص في فضل عليّ بن أبي طالب (رض) وأهل البيت ، وأكثر رواياته

__________________

(٢٦) تذكرة الحفاظ ص ٦٩٨. ووفيات الأعيان ١ / ٥٩.

٤٢٩

فيه عن أحمد بن حنبل ، فأنكروا عليه ذلك ، فقال : دخلت دمشق والمنحرف عن عليّ بها كثير ، فصنّفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله بهذا الكتاب ، فقيل له : ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال : أيّ شيء أخرج؟ حديث اللهمّ لا تشبع بطنه؟ فسكت السائل ، وسئل ـ أيضا ـ عن معاوية وما جاء من فضائله ، فقال : ألا يرضى رأسا برأس حتّى يفضل ، فما زالوا يدفعون في خصييه وداسوه حتى أخرج من المسجد وحمل إلى الرملة.

قال الحافظ أبو نعيم : مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول.

وقال الدار قطني : امتحن بدمشق وأدرك الشهادة. وكان ذلك سنة ٣٠٣ ه‍.

* * *

ولا ينحصر من أوذي وقتل في سبيل نشر سنّة الرسول (ص) بالنسائي وحده ، فقد لاقى الصحابيّ أبو ذرّ أيضا كما سيأتي ذكره بعيد هذا في بقية بحوث كتمان سنّة الرسول (ص) وقتل عدد غير قليل من العلماء ، ترجم بعضهم العلامة الحبر الأميني في كتابه ، شهداء الفضيلة.

ومن يجرؤ مع هذه الحالة أن يروي النصوص الواردة عن رسول الله (ص) في فضائل آله فضلا عن ذكر النصوص الواردة في حقّ آله في الحكم.

ألا يحقّ لابن كثير ، إذا كان يريد أن يداري من يطالب العلماء بإيراد فضائل معاوية أن يؤوّل ما فيه انتقاص لمعاوية إلى ما فيه له فضيلة في الدنيا والآخرة!!!

وكيف يتيسّر نشر سنّة الرسول (ص) مع هذه الحالة!؟

* * *

ذكرنا شيئا من مصير من يخالف مدرسة الخلفاء ويروي أو يكتب من سنّة الرسول (ص) ما يخالف مصلحة الخلفاء ، وفي ما يأتي نشير إلى مصير

٤٣٠

الكتب الّتي حوت من سنّة الرسول (ص) ما يخالف سياسة هذه المدرسة.

ح ـ إحراق الكتب والمكتبات

من أصناف الكتمان بمدرسة الخلفاء ، إحراق الكتب الّتي فيها سنّة الرسول (ص) سيرة وحديثا ممّا لا ترغب في نشره. وقد بدأ ذلك الخليفة عمر بن الخطاب كما سيأتي ذكره في باب بحوث مدرسة الخلفاء من مصادر الشريعة الإسلامية.

عن طبقات ابن سعد ، قال : إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمّا أتوه بها ، أمر بتحريقها.

وروى الزبير بن بكار (٢٧) : أنّ سليمان بن عبد الملك في زمان ولايته للعهد مرّ بالمدينة حاجّا ، وأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبيّ (ص) ومغازيه ، فقال أبان : هي عندي أخذتها مصحّحة ممّن أثق به ، فأمر عشرة من الكتاب بنسخها ، فكتبوها في رقّ ، فلمّا صارت إليه ، نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين ـ يقصد بيعة الأنصار في العقبتين الأولى والثانية ـ وذكر الأنصار في بدر ، فقال سليمان : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل فإمّا أن يكون أهل بيتي ـ أي الخلفاء الأمويين ـ غمصوا عليهم ، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا ، فقال أبان بن عثمان : أيّها الأمير! لا يمنعنا ما صنعوا بالشهيد المظلوم ـ يقصد الخليفة عثمان ـ من خذلانه ، أن نقول الحقّ. هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا. قال سليمان : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير المؤمنين ـ يقصد والده عبد الملك ـ لعلّه يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فحرّق ، ولمّا رجع أخبر أباه بما كان ، فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدم

__________________

(٢٧) الموفقيات ص ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

٤٣١

بكتاب ليس لنا فيه فضل تعرّف أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها ، قال سليمان : فلذلك أمرت بتحريق ما نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين ، فصوّب رأيه.

* * *

هكذا يأمر خلفاء المسلمين وأولياء عهدهم بإحراق كتب سنّة الرسول (ص) لئلّا يعرف المسلمون ما يخالف مصالح السّلطة ، وقد فعلت أكثر من ذلك حين أحرقت مكتبات فيها من كتب سنّة الرسول (ص) ما يخالف اتّجاهها نظير ما يأتي بيانه :

إحراق مكتبة إسلاميّة ببغداد

قال ابن كثير (٢٨) في ذكر حوادث سنة ٤١٦ ه‍ بترجمة سابور بن أردشير : كان كثير الخير سليم الخاطر إذا سمع المؤذّن لا يشغله شيء عن الصّلاة ، وقد وقّف دارا للعلم في سنة ٣٨١ ه‍ وجعل فيها كتبا كثيرة جدّا ، ووقّف عليها غلّة كبيرة ، فبقيت سبعين سنة ثمّ أحرقت عند مجيء طغرل في سنة ٤٥٠ ه‍ وكانت في محلّة بين السورين.

وقال الحموي بترجمة بين السورين في معجم البلدان :

بين السورين ، اسم لمحلّة كبيرة كانت بالكرخ وبها كانت خزانة الكتب الّتي وقفها وزير بهاء الدولة ، ولم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها كانت كلّها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولهم المحرّرة واحترقت في ما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد.

وقال ابن كثير (٢٩) ـ أيضا ـ بترجمة الشيخ أبي جعفر الطوسي ، من

__________________

(٢٨) البداية والنهاية ١٢ / ١٩.

(٢٩) نفس المصدر ١٢ / ٩٧.

٤٣٢

حوادث سنة ٤٦٠ ه‍ :

أحرقت داره بالكرخ وكتبه سنة ٤٤٨ ه‍.

وفعل أكثر من ذلك مع مخازن كتب الخلفاء الفاطميّين بمصر كما ذكره المقريزي (٣٠) (ت : ٨٤٨ ه‍) في ذكر الخزانات الّتي كانت في قصر الفاطميّين وقال عن خزانة الكتب :

وكانت من عجائب الدنيا ويقال : إنّه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من الّتي كانت بالقاهرة في القصر. ويقال : إنّها كانت تشتمل على ألف وستّمائة ألف كتاب ، وقال قبلها : (أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرق ورقها تأوّلا منهم أنّها خرجت من قصر السلطان وأنّ فيها كلام المشارقة الّذي يخالف مذهبهم سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الاقطار وبقي منها ما لم يحرق وسفت عليه الرياح التراب فصار تلالا باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب).

* * *

أسّس مكتبة الكرخ وزير البويهيّين من أتباع مدرسة أهل البيت (ع). فلمّا استولى السلجوقيّون من أتباع مدرسة الخلفاء أحرقوها وأحرقوا مكتبة الشيخ الطوسي بالكرخ ، وفعل أكثر من ذلك بخزائن كتب الخلفاء الفاطميّين بمصر عند استيلاء صلاح الدين على الحكم.

يا ترى كم كتم عنّا من سنّة الرسول (ص) بسبب تحريق الكتب والمكتبات الّتي كان أصحابها من مخالفي مدرسة الخلفاء؟ وكم كان فيها أحاديث صحيحة مسلسلة عن رسول الله (ص) في حقّ آل الرسول من ضمنها أحاديثه في الوصيّة ذهبت عنّا بسبب هذا النوع من الكتمان؟ الله أعلم بذلك.

__________________

(٣٠) خطط المقريزي ٢ / ٢٥٥ و ٢٥٤.

٤٣٣

وأهمّ من كلّ ما ذكرنا من أصناف كتمان سنّة الرسول (ص) تحريف سنّة الرسول وسيرة الصحابة الآتي ذكره في البحثين التاليين :

ط ـ حذف بعض الخبر من سيرة الصحابة وتحريفه

من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء حذف بعض الخبر وتحريفه ، كما فعل ذلك ابن كثير في خطبة الإمام الحسين في تاريخه ، فقد أورد الخطبة الطبريّ وابن الأثير في تاريخيهما وفي لفظهما :

(أمّا بعد فانسبوني ، فانظروا من أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها ، هل يجوز لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم (ص) وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الطيار ذو الجناحين عمّي ...) (٣١).

حرّف ابن كثير هذا الخبر في تاريخه ونقل أنّ الإمام الحسين قال :

(راجعوا أنفسكم وحاسبوها ، هل يصلح لكم قتال مثلي ، وأنا ابن بنت نبيكم ، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبيّ غيري ، وعليّ أبي ، وجعفر ذو الجناحين عمّي ، وحمزة سيد الشهداء عمّ أبي) (٣٢).

* * *

إنّ ابن كثير حذف ذكر الوصيّة من خطبة الإمام الحسين ، لأنّ ذكرها كما قلنا ينبّه العامّة على حقّ الإمام عليّ وسبطي الرسول (ص) في الحكم وهو ما يسوء السلطة نشر خبره ، ثمّ حرّف الخطبة. وهذا نوع من أنواع الكتمان

__________________

(٣١) تاريخ الطبري ط. أوربا ٢ / ٣٢٩. وتاريخ ابن الاثير ، ط. أوربا ٤ / ٥٢ وط. مصر الأولى ٤ / ٢٥.

(٣٢) ابن كثير ٧ / ١٧٩.

٤٣٤

بمدرسة الخلفاء ، ويوجد نظير هذا الحذف في سيرة الرسول (ص) وسنشير إلى شيء منه في الصنف العاشر من أصناف الكتمان الآتي بحثه بعد هذا.

ي ـ وضع الروايات والأخبار المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة

من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء ، وضع الأخبار المختلقة ونشر الروايات المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة. وإليك مثالا واحدا منها :

روى الطبري في تاريخه خبر أبي ذرّ وقال :

(وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة ، كرهت ذكر أكثرها. فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة كتب إليّ بها السريّ يذكر أنّ شعيبا حدّثه سيف ....) الحديث.

وتبعه ابن الأثير وقال ـ أيضا ـ في ذكره حوادث سنة ٣٠ من الهجرة :

(وفي هذه السنة كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصلح النقل به ...).

فمن هو سيف هذا الذي أورد الطبري القصّة الّتي رواها في خبر أبي ذرّ ، وتمسّك بها العاذرون معاوية؟ وما هو نوع أخباره ورواياته؟

هو سيف بن عمر التميمي (توفّي حدود سنة ١٧٠ ه‍) روى أخبارا عن عصر الرسول (ص) والسقيفة وبيعة أبي بكر وحروب الردّة والفتوح وحرب الجمل.

وصفه علماء الرجال وقالوا في نعته :

٤٣٥

ضعيف ، متروك الحديث ، ليس بشيء ، كذّاب ، كان يضع الأحاديث ، اتّهم بالزندقة (٣٣).

نوع أخباره ورواياته

اختلق في رواياته أكثر من خمسين ومائة صحابيّ لرسول الله (ص) نشرنا دراسات مفصّلة عن ثلاثة وتسعين منهم في المجلدين الأول والثاني من كتاب (خمسون ومائة صحابيّ مختلق) جعل سيف تسعة وعشرين منهم من قبيلته تميم ، اختلق لهم أخبارا في الفتوح وكثيرا من المعجزات والشعر ورواية الحديث ، غير أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أشخاصهم ولا شيئا من أخبارهم ، بل اختلقهم سيف جميعا ، كما اختلق عشرات الرواة وروى عنهم أخباره ، وقد نشرنا ، في جزأي (عبد الله بن سبأ) و (خمسون ومائة صحابيّ مختلق) دراسات عن نيف وسبعين راويا منهم ، تتبّعنا في حدود قدرتنا روايات سيف عنهم فوجدنا لراو واحد منهم والّذي سماه محمّد بن سواد بن نويرة ٢١٦ رواية ، ومنهم من روى عنه أقلّ من ذلك ، إلى رواية واحدة.

وكذلك اختلق شعراء للعرب وقادة للفرس والرومان وأراضي في البلاد الإسلامية وغيرها ، وحرّف سني الحوادث التأريخية ، كما حرّف أسماء أشخاص ذكروا في التاريخ الإسلامي ، ونشر الخرافات بين المسلمين في ما اختلق منها في أحاديثه ، واختلق حروبا في الردّة والفتوح لم تقع ، وذكر مئات الألوف ممّن قتلهم المسلمون قتلا فظيعا في تلك الحروب ممّا لم يكن

__________________

(٣٣) كان ما ذكرناه بعض ما ذكره في وصفه علماء أمثال : يحيى بن معين (ت : ٢٣٣ ه‍) ، أبي داود (ت : ٢٧٥ ه‍) ، النسائي صاحب الصحيح (ت : ٣٠٣ ه‍) ، ابن أبي حاتم الرازي (ت : ٣٢٧ ه‍) ، ابن حبان (ت : ٣٥٤ ه‍) ، الحاكم (ت : ٤٠٥ ه‍) وتفصيل ما ذكروا في حقّ سيف ومصادر ترجمة سيف بكتاب (عبد الله بن سبأ) الجزء الأوّل.

٤٣٦

شيء منها ، وأشاع في ما وضع واختلق أنّ الإسلام انتشر بحدّ السّيف ، وقد بيّنّا زيفها في أوّل الجزء الثاني من كتابنا (عبد الله بن سبأ).

انتشرت رواياته الموضوعة في أكثر من سبعين مصدرا (٣٤) من كتب الحديث والتاريخ والأدب وغيرها من مصادر الدراسات الإسلاميّة بمدرسة الخلفاء انتشر فيها ما روى سيف واختلق منذ عصر الرسول (ص) حتّى عصر معاوية ، وكان أكثر من أخذ عنه الطبريّ في تاريخه وروى عنه أمثال الأخبار (٣٥) الآتية :

أ ـ مسير الجيش على ماء البحر من الساحل إلى دارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر ، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل.

ب ـ تكليم الأبقار لعاصم بن عمرو التميمي الصحابي المختلق في حرب القادسية بلسان عربيّ فصيح. وإن بكيرا قال لفرسه أطلال عند نهر أراد أن يعبره يومئذ : (ثبي أطلال). فنطقت وقالت : (وثبا وسورة البقرة) أي أنّها أقسمت بسورة البقرة ، ثمّ وثبت!!!

ج ـ إنشاد الجنّ الشعر في فتح القادسية وثناؤهم على موقف تميم في الحرب.

د ـ فتح السوس بضرب الدجال باب السوس برجله وقوله : (انفتح بظار).

ه ـ تكلّم الملائكة على لسان الأسود بن قطبة التميمي في فتح بهرسير.

__________________

(٣٤) ذكرنا أسماء أكثرها في أوّل الجزء الأول من كتاب (خمسون ومائة صحابيّ مختلق).

(٣٥) راجع أخبارها في ذكر فتح دارين والقادسية والسوس وبهرسير ودراسة مقارنة لأخبار ـ سيف هذه بروايات صحيحة لغيره في كتاب (خمسون ومائة صحابيّ مختلق) الجزء الأول بتراجم عفيف بن المنذر وعاصم بن عمرو والأسود بن قطبة من الصحابة الّذين اختلقهم سيف بن عمر التميمي من قبيلته تميم.

٤٣٧

ومن تاريخ الطبري انتشرت أكاذيب سيف في كتب التاريخ الإسلامي الّتي ألّفت بعده إلى عصرنا الحاضر كما سنشير إلى بعض ذلك فيما يأتي.

انتشار أحاديث سيف من تاريخ الطبري إلى كتب التاريخ وسببه

قال ابن الأثير في مقدمة تاريخه الكامل :

إنّي قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد ، فابتدأت بالتاريخ الكبير الّذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبري ، إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافّة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه .... فلمّا فرغت منه أخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعته وأضفت إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه .... إلّا ما يتعلّق بما جرى بين أصحاب رسول الله (ص) فإنّي لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئا إلّا ما فيه زيادة بيان أو اسم إنسان ، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله ، على أنّي لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة والكتب المشهورة ممّن يعلم صدقهم في ما نقلوه وصحّة ما دوّنوه ... (٣٦).

وقال ابن كثير بعد انتهائه من ذكر أخبار الصّحابة في الردّة والفتوح والفتن :

هذا ملخّص ما ذكره ابن جرير الطبري ـ رحمه‌الله ـ عن أئمة هذا الشأن ، وليس في ما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلقة على الصّحابة والأخبار الموضوعة الّتي ينقلونها بما فيها (٣٧).

وقال ابن خلدون :

هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردّة والفتوحات

__________________

(٣٦) تاريخ ابن الأثير ط. مصر سنة ١٣٤٨ ه‍ ١ / ٥.

(٣٧) تاريخ ابن كثير ٧ / ٢٤٦.

٤٣٨

والحروب ثمّ الاتّفاق والجماعة ، أوردتها ملخّصة عيونها ومجامعها من كتب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنّه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمّة من خيار الأمّة وعدولهم من الصحابة والتابعين (٣٨).

نظرة تأمل في سبب اختيار كبار العلماء الأفذاذ

روايات سيف في أخبار صدر الاسلام

قال الطبري في خبر أبي ذرّ الصحابيّ الفقير ـ مثلا ـ مع معاوية الأمير :

(كرهت ذكر أكثرها ، فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة ... عن سيف).

وقال ابن الاثير :

(... من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصلح النقل به). ثمّ أورد قصّة سيف ووصفهم كذلك بالعاذرين.

إنّ العالمين الكبيرين لم يتركا روايات غير سيف لعدم اعتمادهما عليها ، بل لأنّهما لم يجدا فيها العذر للسّلطة الحاكمة ، ووجدا العذر عند العاذرين معاوية الأمير وعثمان الخليفة ، وهم سيف الزنديق وسلسلة رواته المختلقين ، فحشّى الطبري تاريخه الكبير بروايات سيف ، وللسبب نفسه أخذ ابن الأثير روايات سيف من تاريخ الطبري ، وكذلك فعل ابن كثير حيث قال في آخر ذكره خبر واقعة الجمل من أخبار سنة ستّ وثلاثين هجريّة عمّا نقله من أخبار سيف في حوادث ما بعد وفاة رسول الله (ص) إلى واقعة الجمل :

__________________

(٣٨) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٥٧.

٤٣٩

(هذا ملخّص ما ذكره ابن جرير الطبري ـ رحمه‌الله ـ عن أئمة هذا الشأن) وقصد من أئمة هذا الشأن الّذين ذكر ابن جرير الطبري الأخبار عنهم سيف الزنديق ورواته المختلقين.

وقد أفصح العلامة ابن خلدون أكثر منهم في سبب اختيارهم روايات سيف المنتشرة في تاريخ الطبري عن أخبار الخلافة أي بيعة الخلفاء والردّة والفتوح والجماعة أي الاجتماع على بيعة معاوية وقال :

(إنّه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد عن المطاعن والشّبهة في كبار الأمّة).

إذا فإنّ روايات سيف في تاريخ الطبري عن تلك الأخبار أوثق عندهم ، لأنّها أبعد عن المطاعن والشّبهة في كبار الأمّة من الصحابة والتابعين ، وهم الخلفاء والولاة وذووهم ، وإليكم دليلا آخر على أنّه من المعيب أن يذكر ما يورد النقد على الكبراء وينبغي البحث عن العذر لهم في ما يوجه النقد إليهم كيف ما كان ؛ في خبر درء سعد بن أبي وقاص الحدّ عن أبي محجن والبحث عن العذر لسعد الأمير.

كان أبو محجن الثقفي كما في ترجمته من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة ، مدمنا للخمر وحدّه الخليفة عمر سبع مرّات لذلك ، وأخيرا نفاه من المدينة ، والتحق بسعد بن أبي وقّاص في حرب القادسية فقيّده لشربه الخمر وأطلقت زوجة سعد سراحه وكانت له مواقف مشهورة في الحرب ، فدرأ سعد الحدّ عنه لموقفه وقال : والله لا نجلدك على الخمر أبدا. قال أبو محجن : وإذن لا أشربها أبدا.

كان هذا خبر درء سعد الحدّ عن أبي محجن ، وفي هذا الشأن نقل ابن حجر في ترجمة أبي محجن في كتابه الإصابة عن كتاب ابن فتحون (ت : ٥١٩ ه‍) : (التذييل على استيعاب أبي عمر بن عبد البرّ) وقال : (وقد عاب ابن فتحون أبا عمر على ما ذكره في قصة أبي محجن ، أنّه

٤٤٠