معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

عشرة أنواع من الكتمان والتحريف

لسنّة الرسول (ص)

وأخبار سيرة أهل بيته وأصحابه

٤٠١

دراسة عمل مدرسة الخلفاء

بنصوص سنة الرسول (ص) المخالفة لاتّجاهها

في هذه العجالة نضرب ـ مثلا ـ لما فعلته مدرسة الخلفاء بالنصوص الّتي تخالف اتّجاهها بعملها مع النصوص الّتي فيها ذكر صفة الوصيّ للإمام عليّ (ع) في سنّة الرسول (ص) وأقوال الصّحابة ونقول :

روت الصّحابة روايات متعددة موثوقة ومعتبرة أنّ رسول الله (ص) قال : عليّ وصيّي ووزيري ووارثي. وفي بعضها : وخليفتي ؛ واشتهر الإمام عليّ بلقب الوصيّ من بين هذه الألقاب ، وأصبح علما له ، ولم يعرف غيره بهذا اللّقب ، كما كنّاه رسول الله (ص) بأبي تراب ، فاختصّ به واشتهر وأصبح علما له ، ولم تعرف لغيره هذه الكنية. ثمّ أكثرت الصّحابة والتابعون ومن جاء بعدهم من الشعراء ذكره بالوصيّ في أشعارهم كما ورد ذكره عند علماء أهل الكتاب وأخبروا النّاس بذلك.

إنكار الوصية

لما كانت شهرة لقب (الوصيّ) للإمام عليّ تخالف سياسة مدرسة الخلفاء ، فقد سعوا في مقابلة هذه الشّهرة بإنكارها وكتمان النصوص الدالّة عليها.

٤٠٢

بدأت أمّ المؤمنين عائشة بحملة دعاية قويّة ضدّ شهرة الإمام عليّ بلقب الوصيّ وأنكرته ، ثمّ استمرّت حملاتهم ضدّ هذه الشّهرة بأشكال أخرى مدى القرون.

ومن أهمّ ما فعلته مدرسة الخلفاء في هذا المقام كتمان النصوص الواردة في شأن الوصيّة ، ويجد الباحث المتتبّع من كتمان النصوص الّتي تخالف سياسة الخلفاء بمدرستهم سواء ما كان منها في شأن الوصيّة أو في غيرها ، أمرا هائلا خطيرا.

ومن أمثلة الكتمان لدى مدرسة الخلفاء ، الأصناف العشرة الآتية ، نذكرها بحسب أهميتها في كتمان سنة الرسول (ص) بدءا بالمهمّ فالأهمّ :

أ ـ حذف بعض الحديث من سنّة الرسول (ص) وتبديله بكلمة مبهمة.

ب ـ حذف تمام الخبر من سيرة الصّحابة مع الإشارة إلى الحذف.

ج ـ تأويل معنى الحديث من سنّة الرسول (ص).

د ـ حذف بعض أقوال الصّحابة مع عدم الإشارة إليه.

ه ـ حذف تمام الرواية من سنّة الرسول (ص) مع عدم الإشارة إليه.

و ـ النهي عن كتابة سنة الرسول (ص).

ز ـ تضعيف الروايات ورواة سنة الرسول (ص) والكتب الّتي تنتقص السلطان.

ح ـ إحراق الكتب والمكتبات.

ط ـ حذف بعض الخبر من سيرة الصّحابة وتحريفه.

ي ـ وضع الروايات المختلقة بدلا من روايات سنة الرسول (ص) الصحيحة وسيرة الصحابة الصحيحة :

٤٠٣

أ ـ حذف بعض الحديث من سنّة الرسول (ص) وتبديلها بكلمة مبهمة

من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء ، حذف بعض الحديث من سنّة الرسول (ص) وتبديلها بكلمة مبهمة بدل ما حذف ، مثل ما فعله الطبري وابن كثير بخبر دعوة بني هاشم في تفسير الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) حيث حذفا قول رسول الله (ص) : «ووصيّي وخليفتي فيكم» وأبدلاه بقولهما : [وكذا وكذا].

ومن هذا النوع من الكتمان ما فعله البخاري في صحيحه مع سيرة الصحابة في خبر عبد الرحمن الّذي مرّ بنا سابقا ، حيث حذف قول عبد الرحمن لمروان وقال : [فقال عبد الرحمن شيئا] بدّل كلام عبد الرحمن بقول مبهم وأضاف إلى ذلك حذف ما روته أمّ المؤمنين عائشة عن رسول الله (ص) من الحديث في حقّ الحكم والد الخليفة مروان.

ومن هذا النّوع من الكتمان ـ أيضا ـ ما فعلوه بخبر استشاره رسول الله (ص) أصحابه في شأن غزوة بدر وجواب أصحابه له ؛

فقد روى ابن هشام والطبري وقالا :

(وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن. ثمّ قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ولكن ، اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ـ إلى قوله : ـ فقال رسول الله (ص) خيرا ودعا له به).

٤٠٤

وجاء في جواب سعد بن معاذ الأنصاري قوله :

(فامض يا رسول الله (ص) لما أردت ، فنحن معك ، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلّف منّا رجل ... فسر رسول الله (ص) بقول سعد ونشطه ذلك).

ترى ما ذا كان جواب الصحابيّين أبي بكر وعمر لرسول الله (ص) الّذي حذف من هذه الرواية وأبدل بقول مبهم وهو : [وأحسن]؟ ولو كان القول حسنا فلم حذف ذلك القول الحسن!؟ بينا أثبت قول المقداد المهاجري وسعد بن معاذ الأنصارى ، نرجع إلى صحيح مسلم فنجد في روايته :

انّ رسول الله (ص) شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان قال :

(فتكلّم أبو بكر ، فأعرض عنه. ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه .... الحديث).

ترى لما ذا أعرض الرسول (ص) عن الصحابيّين ، لو كان قولهما حسنا؟ ونبحث عن قولهما لدى الواقدي والمقريزي فنجدهما يقولان هكذا ، واللّفظ للأول :

(قال عمر : يا رسول الله إنّها والله قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ، والله ما آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزّها أبدا ، ولتقاتلنّك ، فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته ...) (١).

عرفنا من رواية ابن هشام والطبري ومسلم أنّ الصحابيّ عمر تكلّم بعد الصحابيّ أبي بكر ، ووصف الطبري وابن هشام قول كلّ منهما ب [فأحسن] وفي رواية مسلم أنّ الرسول (ص) أعرض عن أبي بكر ، ثمّ عن عمر ، ومن ثمّ نعرف أنّ قولهما كان أمرا واحدا ، وعند ما صرّح الواقدي والمقريزي بقول عمر وكتما قول أبي بكر ، كشف لنا قول عمر ـ أيضا ـ عن

__________________

(١) مرّ بنا ذكر مصادر الخبر في بحث مناقشة الاستدلال بالشورى بهذا الكتاب.

٤٠٥

قول أبي بكر.

ولمّا كان قول الصحابيّين يسوء ذكره بعض الناس حذف قولهما من رواية ابن هشام والطبري ومسلم ، ومن أجل هذا النوع من الكتمان ، أصبحت هذه الكتب من أوثق الكتب بمدرسة الخلفاء.

وأصبح صحيح البخاري الّذي لم يذكر شيئا من هذا الخبر ؛ مبهما وغير مبهم أكثر اشتهارا بالصحّة والوثاقة من جميع الكتب.

* * *

إنّ الطبري وابن كثير أبدلا من حديث الرسول (ص) «وصيّي وخليفتي» ب [كذا وكذا] لأنّ هذا الخبر ينبّه العامة إلى حقّ الإمام عليّ في الحكم ، ولا يحسن انتشاره.

وأبدل البخاري قول عبد الرحمن ب (شيئا) ، لأنّ قول عبد الرحمن كان يسوء الخلفاء : معاوية ويزيد ومروان ، وينبّه العامة على ما لا ينبغي أن يتنبهوا إليه.

وأبدل قول أبي بكر وعمر في جواب رسول الله (ص) في كلّ من سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري ، وحذف من رواية صحيح مسلم ، لما فيه ما لا يزين الخليفتين أبا بكر وعمر ، وكلّهم حذف بعض الخبر وأبهم في القول.

وهذا النوع من الكتمان كثير عند علماء مدرسة الخلافة.

ب ـ حذف تمام الخبر من سيرة الصّحابة مع الإشارة إلى الحذف

ومن أنواع الكتمان عندهم ما فعلوه بمكاتبات جرت بين محمّد بن أبي بكر ومعاوية ، فقد وجدنا في كتاب صفّين لنصر بن مزاحم (ت : ٢١٢ ه‍) ومروج الذهب للمسعودي (ت : ٣٤٦ ه‍) تفصيل كتاب محمّد بن أبي بكر لمعاوية وفيه ذكر فضائل الإمام عليّ بما فيها أنه وصيّ النبيّ ، واعتراف معاوية

٤٠٦

في جوابه بها ، وفي الكتابين ذكر ما لا يزين الخلفاء نشره ، فحذفهما الطبري (ت : ٣١٠ ه‍) مع ذكره لسنده إلى الكتابين ، واعتذر عن ذلك بعدم احتمال العامّة لسماع ما فيهما ، أي أنه أخفى الحقائق عن النّاس.

وجاء بعده ابن الاثير (ت : ٦٣٠ ه‍) وفعل كذلك واعتذر بالعذر نفسه.

وجاء بعدهما ابن كثير وأشار إلى كتاب محمد بن أبي بكر في موسوعته التاريخيّة الكبرى (٢) واقتصر بقوله : (وفيه غلظة).

* * *

قصد الطبري وابن الأثير من قولهما : (عدم احتمال العامّة لسماع ما فيهما) : أنّ العامّة لا تبقى على عقيدتها بالخلفاء بعد سماع الكتابين.

وهذا الصنف من الكتمان ، أي : حذف تمام الخبر مع الإشارة إلى الخبر المحذوف ، نادر عند علماء مدرسة الخلفاء.

ج ـ تأويل معنى الحديث من سنة الرسول (ص)

من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء تأويل معنى الرواية كما فعل الذهبي (٣) بترجمة النسائي صاحب السنن ؛ فإنّه قال : سئل النسائي أن يخرج فضائل معاوية ، قال : أي شيء أخرج؟! حديث : اللهمّ لا تشبع بطنه؟

فقال الذهبي :

(قلت : لعلّ هذه منقبة لمعاوية لقول النبيّ (ص) : اللهمّ من لعنته أو شتمته ، فاجعل ذلك له زكاة ورحمة).

__________________

(٢) البداية والنهاية ٧ / ٣١٤. وقد أوردنا الكتابين مع تعليقنا عليهما ، وعلى ما فعله الطبري في ما سبق.

(٣) تذكرة الحفاظ ص ٦٩٨ ـ ٧٠١

٤٠٧

قال الذهبي (ت : ٧٤٨ ه‍) [لعلّ ...]. وجاء بعده ابن كثير (ت : ٧٧٤ ه‍) وقال :

(وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه).

وهذا نصّ كلامه (٤) في الرواية الّتي وردت في شأن معاوية ، في صحيح مسلم ، باب (من لعنه النبيّ أو سبّه ، جعله الله له زكاة وطهورا) من كتاب البرّ والصلة ، عن ابن عباس قال :

كنت ألعب مع الصّبيان فجاء رسول الله (ص) فتواريت خلف باب ، قال : فجاء فخطاني خطاة وقال : «اذهب وادع لي معاوية». قال : فجئت فقلت : هو يأكل. قال: ثمّ قال لي : «اذهب فادع لي معاوية». قال : فجئت فقلت : هو يأكل ، فقال : «لا أشبع الله بطنه» (٥). كان هذا لفظ مسلم.

وأورد الحديث ابن كثير في تاريخه وزاد على كلام رسول الله (ص) بعد قوله : «اذهب وادع لي معاوية» جملة : (وكان يكتب الوحي) وهذا لفظ ابن كثير :

(عن ابن عباس ، قال : كنت ألعب مع الغلمان فإذا رسول الله (ص) قد جاء ، فقلت : ما جاء إلّا إليّ ، فاختبأت على باب فجاءني فخطاني خطاة أو خطاتين ، ثمّ قال : اذهب فادع لي معاوية ـ وكان يكتب الوحي ـ قال : فذهبت فدعوته له ، فقيل : إنّه يأكل. فأتيت رسول الله (ص) فقلت : إنّه يأكل ، فقال : اذهب فادعه ، فأتيته الثانية فقيل : إنّه يأكل ، فأخبرته ، فقال في الثالثة : لا أشبع الله بطنه. قال : فما شبع بعدها. وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه ، أمّا في دنياه ، فإنّه لمّا صار إلى الشام أميرا(٦) كان يأكل

__________________

(٤) البداية والنهاية ، ٨ / ١١٩.

(٥) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة ، ح ٩٦ ، ص ٢٠١٠.

وخطاني : ضربني باليد المبسوطة بين الكتفين.

(٦) وهذه الإضافة الى آخرها من كلام ابن كثير.

٤٠٨

في اليوم سبع مرّات يجاء بقصعة فيها لحم كثير وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ، ويقول : والله ما أشبع وإنّما أعيا ، وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كلّ الملوك. وأمّا في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الّذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصّحابة ، أنّ رسول الله (ص) قال :

اللهمّ إنما أنا بشر فأيّما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه ، وليس لذلك أهلا ، فاجعل ذلك كفّارة وقربة تقرّبه بها عندك يوم القيامة. فركب مسلم من الحديث الأول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية ، ولم يورد له غير ذلك) (٧). انتهى كلام ابن كثير. وأراد بما قال أنّ دعاء الرسول على معاوية دعاء له في الدنيا والآخرة ؛ أمّا في الدنيا فبما ذكره من مزيّة كثرة الأكل للملوك ، وأمّا الآخرة فاعتمد الأحاديث الّتي نسبت إلى رسول الله (ص) أنّه كان يلعن المؤمنين ـ معاذ الله ـ ودعا أن يكون لهم زكاة وطهورا ، وأنّ مسلما حين أورد هذا الحديث في آخر هذا الباب أثبت لمعاوية رضوانا وتقرّبا إلى الله يوم القيامة.

وهكذا يؤوّلون الأحاديث والأخبار الّتي فيها ذمّ لذوي السلطة من الخلفاء والولاة إلى ما فيه مدحهم والثناء عليهم.

ولنا هنا نظرة تأمّل في ما رووا أنّ النبيّ لعن المؤمنين ـ معاذ الله ـ.

نظرة تأمّل في ما رووا في باب من لعنه النبيّ (ص)

رووا واللّفظ هنا لمسلم في صحيحه ، باب من لعنه النبيّ : أنّ رسول الله (ص) قال:

«اللهمّ إنّي أتّخذ عندك عهدا لن تخلفنيه فإنّما أنا بشر فأيّ المؤمنين آذيته ، شتمته ، لعنته ، جلدته ، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك

__________________

(٧) البداية والنهاية ، ٨ / ١١٩.

٤٠٩

يوم القيامة».

أشعر ـ وأنا أكتب هذا ـ بمثل طعن المدى في قلبي لعظم ما نسب إلى رسول الله (ص)!! يروون هذا الحديث في مقابل قول الله سبحانه وتعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وينبغي دراسة هذا الحديث في الصنف الثامن من أنواع الكتمان : (وضع الروايات المختلقة بدلا من الروايات الصحيحة) ، فإنّها نسبت إلى رسول الله (ص) في مقابل ما تواتر عند جميع المسلمين من سيرة رسول الله الصحيحة في باب سموّ أخلاقه الكريمة ، وإنّما رويت أمثال هذه الرواية عن رسول الله (ص) لكتمان ما مرّ بنا من رواية أمّ المؤمنين عائشة أنّ رسول الله (ص) لعن الحكم بن أبي العاص والد الخليفة الأموي مروان ، وكتمان ما تواترت روايته عن رسول الله (ص) في حقّ الخليفة معاوية الّتي أوّلها ابن كثير إلى ما فيه مدح معاوية ؛ وبما أنّا قد ناقشنا هذه الأحاديث في الجزء الثاني من كتاب (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) والثالث من (أثر الأئمة في إحياء السنة) ، فلا نعيد تلك البحوث في هذا الكتاب.

* * *

عود على بدء

نعود إلى بحث تأويل معنى الرواية من أصناف الكتمان ونقول :

وكان من هذا الباب من التأويل وما يأتي بحثه (٨) في خبر درء سعد بن أبي وقاص حدّ شرب الخمر عن أبي محجن ، وتمحل ابن فتحون وابن حجر في تأويل قول سعد لأبي محجن: (والله لا نجلدك على الخمر). وسيأتي في بحث نصّ رسول الله (ص) على أنّ عدد الأئمة الخلفاء بعده اثنا عشر ، كيف ارتبكوا في تأويله عند ما رأوا أنه لا يصدق على غير الأئمة الاثني

__________________

(٨) في بحث انتشار أحاديث سيف ... في الصنف العاشر من أصناف الكتمان.

٤١٠

عشر من آل رسول الله (ص). وأوّل كلّ واحد من العلماء الحديث على غير الأئمة الاثني عشر من آل الرسول (ص) بما لم يرض به العالم الآخر ونقضه.

ومن هذا الباب من الكتمان ما فعله الطبراني بالحديث الآتي كما في مجمع الزوائد(٩).

(عن سلمان ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنّ لكلّ نبيّ وصيّا ، فمن وصيّك؟ فسكت عنّي ، فلمّا كان بعد رآني فقال : يا سلمان فأسرعت إليه قلت : لبّيك ، قال : «تعلم من وصيّ موسى؟» قلت : نعم : يوشع بن نون ، قال : «لم؟» قلت : لأنّه كان أعلمهم يومئذ ، قال : «فإنّ وصيّي وموضع سرّي وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني عليّ بن أبي طالب». رواه الطبراني وقال : وصيّي : أنه أوصاه بأهله لا بالخلافة).

انتهى ما نقله الهيثمي عن الطبراني في مجمع الزوائد.

دراسة للحديث النبويّ الشريف ونظرة تأمّل في تأويل الطبراني إيّاه

لمعرفة مدى صحّة تأويل الطبرانيّ للحديث الشريف ندرس ثلاثة جوانب من الحديث : السائل ، والسؤال ، وحكمة النبيّ في الجواب.

السائل هو : سلمان الفارسيّ نسبا ، ولم يكن من بني عبد المطّلب أو أقرباء أزواج الرّسول أو أصهاره ليعنيه من يخلفه الرسول على أهله وإنّما كان ممّن عاشر رهبان النصارى وعلماءهم قبل أن يسلم على يدي الرسول (ص) ، وأخذ منهم علم الأمم السابقة وأخبار أنبيائها وأوصيائها ، ومن ثمّ قال للرسول (ص) : (إنّ لكل نبيّ وصيّا فمن وصيّك؟). فهو إذن يسأل عن وصيّ النبيّ على شريعته ووليّ عهده في أمّته ، ولم يقل له انّ ربّ كلّ عائلة يعيّن وصيّا فمن وصيّك من بعدك؟ ليفهم منه أنّه يسأل عن خليفته على أهله.

__________________

(٩) مجمع الزوائد ، ٩ / ١١٣ ـ ١١٤.

٤١١

أمّا جواب النبيّ (ص) وتأخّره عن الإجابة فقد كان هذا شأن النبيّ (ص) في الأمور المهمّة. ينتظر أمر السّماء مثل انتظاره في المدينة أمر السّماء في تحويل القبلة إلى الكعبة وهو يعلم أنّها قبلته ، حتّى نزلت عليه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) البقرة / ١٤٤. ولمّا كان رسول الله (ص) يعلم تنافس الإنسان العربي على الإمرة كما مرّ بنا بعض أخباره (١٠) فيما سبق ، وكان المجتمع الإسلاميّ الصغير في المدينة الّذي بدأ النبيّ (ص) بتأسيسه لا يتحمّل نشر خبر ولاية عهد الإمام علي بعد النبيّ (ص) ، تأخّر النبيّ (ص) في جواب سلمان ، ولعلّه أجاب سلمان حين أذن له بذلك ، وعندئذ فاتح سلمان وأعدّه لاستماع الجواب بالسؤال منه عن وصيّ موسى وهو يعلم أن سلمان يعلم ذلك بما عنده من علماء أهل الكتاب ، فلمّا أجابه بأنّ يوشع بن نون كان وصيّ موسى ، سأله النبيّ (ص) وقال له : «لم؟» فلمّا قال سلمان في جوابه : (لأنّه كان أعلمهم يومئذ) قال النبيّ (ص) : «فإنّ وصيّي و... عليّ بن أبي طالب».

والحكمة في جواب النبيّ لسلمان بهذا الأسلوب ما يأتي :

أولا : ضرب النبيّ (ص) المثل بيوشع بن نون لأنّه كان أشهر أوصياء الأنبياء ، ولأنّ موسى بن عمران (ع) كان قد استخلفه على أمّته من بعده ، فقاد بني إسرائيل ومارس الحروب ، كما فعل الإمام علي بعد النبيّ (ص) في مدّة حكمه.

ثانيا : سأل عن سبب كون يوشع وصيّا لموسى وأجاب سلمان أنه كان أعلمهم.

بهذه المحاورة بيّن رسول الله (ص) أنّ عليّا وصيّه. ليس لكونه ابن عمّ الرسول (ص) أو لأنّه دافع عن الإسلام في حروب النبيّ (ص) ببسالة فائقة ،

__________________

(١٠) في فصل مصطلحات بحث الإمامة والخلافة.

٤١٢

بل لأنّه أعلمهم ، أي أنّه كشف عن قابلية الإمام عليّ للوصاية على الإسلام والمسلمين وأكّد ذلك بقوله (ص) : «موضع سرّي وخير من أترك بعدي». وهذا الكلام ـ أيضا ـ أوّله الطبراني وقال : «خير من أترك بعدي من أهل بيتي». كان هذا تأويل الطبراني في حديث لم يجد فيه مغمزا من ضعف وما شاكله من القول.

حيرة عالم آخر في تأويل معنى الوصية

قال ابن أبي الحديد الشافعي في شرح الوصيّة في كلام الإمام عليّ (ع).

(لا يقاس بآل محمّد (ص) من هذه الأمّة أحد ... هم أساس الدين ... ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصيّة والوراثة) ما يأتي :

(أمّا الوصيّة فلا ريب عندنا أن عليّا (ع) كان وصيّ رسول الله (ص) وإن خالف في ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد ، ولسنا نعني بالوصيّة النّصّ على الخلافة ولكن أمورا أخرى لعلّها إذا لمحت أشرف وأجلّ). انتهى كلام ابن أبي الحديد.

ونقول في جوابه :

إنّ الإمام عليّا (ع) لم يقل : لي حقّ الولاية والوصيّة والوراثة ، كي يمكن تأويل قوله إنّ له حقّ الولاية والوصيّة على أهل رسول الله (ص) ، بل قال : (آل محمّد هم أساس الدين ... وفيهم الوصيّة). أثبت الإمام الصّفات المذكورة لآل رسول الله (ص) بما فيها الوصيّة ، ولا معنى للقول بأنّ ـ آل رسول الله (ص) لهم حقّ الوصيّة على آل رسول الله (ص) ، أثبتها الإمام لآل رسول الله (ص) وهو أحدهم وسائرهم الأئمة الأحد عشر من بنيه. ومن ثمّ حار العلامة الشافعي في تأويل الوصية هنا ولم يستطع أن يردد تأويل

٤١٣

الطبراني ، وإنما قال : (لسنا نعني بالوصية النصّ على الخلافة ولكن أمورا أخرى) ، فما هي الأمور الأخرى الّتي لم تذكرها أيّها العالم المحتار في تأويل الحديث؟

وخلاصة القول إنّ العلماء في هذا الصّنف من الكتمان يؤوّلون من سنّة رسول الله (ص) حديثه وسيرته وسيرة أهل بيته وأصحابه ما يخالف مصلحة السلطة الحاكمة على المسلمين من خلفاء وولاة وما فيه نقدهم إلى ما فيه مصلحتهم ومدحهم والثناء عليهم.

د ـ حذف بعض من أقوال الصّحابة مع عدم الإشارة إليه

من أنواع الكتمان بمدرسة الخلفاء ؛ حذف بعض الخبر الّذي ينقلونه دون ما إشارة إلى المحذوف ؛ مثل ما فعلوه مع قصيدة الصّحابيّ الأنصاريّ النعمان بن عجلان الّتي استشهدنا ببيتين منها في باب الأشعار الّتي قيلت في الوصيّة ، وقد رواها الزبير بن بكّار بتمامها ضمن إيراده أخبار السقيفة وما وقع بين المهاجرين والأنصار من خصومة ومحاججات ، منها أقوال عمرو بن العاص ضدّهم ، فأجابه النعمان بقصيدة ذكر فيها مواقف الأنصار في حروب رسول الله (ص) مع قريش ، ثمّ إيواءهم مهاجرة قريش ومقاسمتهم الأموال ، ثمّ ذكر حوادث السقيفة وقال :

وقلتم : حرام نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

وأهل أبو بكر لها خير قائم

وإنّ عليّا كان أخلق بالأمر

وكان هوانا في عليّ وإنّه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه

وقاتل فرسان الضّلالة والكفر

وهذا بحمد الله يهدي من العمى

ويفتح آذانا ثقلن من الوقر

٤١٤

نجي رسول الله في الغار وحده

وصاحبه الصديق في سالف الدهر

 ـ الأبيات (١١).

وأورد ابن عبد البرّ تمام القصيدة بترجمة النعمان بن عجلان من الاستيعاب غير أنه حذف منها البيتين الآتيين :

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والبغي والنكر

وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه

وقاتل فرسان الضّلالة والكفر

حذف هذين البيتين لما فيهما من ثناء على ابن عمّ الرسول (ص) أنّه وصيّ الرسول (ص) وأبقى البيتين اللّذين فيهما مدح أبي بكر.

وجاء بعده ابن الأثير وقال بترجمة النعمان من أسد الغابة :

ومن شعره يذكر أيام الأنصار ويذكر الخلافة بعد النبيّ (ص) ، ثمّ ذكر من أوّل القصيدة أبياته في أيّام الأنصار فحسب وحذف من القصيدة الأبيات الّتي يشير فيها إلى الخلاف الّذي وقع يوم ذاك في أمر الخلافة والبيتين اللّذين مدح فيهما الإمام عليّا وخاصّة أنّه كان وصيّ النبيّ.

وجاء ابن حجر بعده فقال في ترجمته :

(وهو القائل يفخر بقومه من أبيات) ثمّ أورد أبياته في المفاخرة بأيّام الأنصار ولم يذكر من أبيات هذه القصيدة ما فيه ذكر الخلافة.

وهكذا كلّما تأخّر الزمن حذف العلماء من الروايات ما لم يرق لهم ذكره ، فابتعدنا عن فهم الواقع التاريخي.

إذا نرى أنّ الزبير بن بكار (ت : ٢٥٦ ه‍) غفل وذكر في كتابه الموفقيات ما وقع من الاختلاف في أمر الخلافة بعد رسول الله (ص) وما تقاولوا فيه من خطب وشعر ، ومن ضمنها قصيدة النعمان بن عجلان الّتي فيها بيتان ذكر

__________________

(١١) راجع مصادر ترجمته وشعره في الهامش رقم ٣٢ ص ٢٩٢ ، في باب : شهرة لقب وصيّ النبيّ (ص) للامام عليّ وانتشار ذكره في أشعار الصحابة والتابعين من هذا الكتاب.

٤١٥

فيهما فضائل الإمام علي وخاصة أنّه وصيّ النبيّ ، وتنبّه لها ابن عبد البرّ (ت : ٤٦٣ ه‍) فحذف البيتين.

وجاء بعده ابن الأثير (ت : ٦٣٨ ه‍) وتنبّه إلى أنّ ذكر ما وقع من الخلاف في الخلافة ـ أيضا ـ لا يصلح ، فحذف من القصيدة ما فيه ذكر الاختلاف في أمر الخلافة وقال : (ويذكر الخلافة). هذا إضافة إلى حذفه ما فيه وصف الإمام عليّ.

وجاء بعدهما ابن حجر (ت : ٨٥٢ ه‍) فحذفها كذلك ولم يقل إنّ في القصيدة ذكرا للخلافة.

وهكذا كلّما تأخر الزمن زاد العلماء من حذف الحقائق ما لا يصلح ذكره لمدرسة الخلفاء.

* * *

إذا راجعنا ما سبق إيراده في بحث الوصيّة وما يأتي في بحث أصناف الكتمان ، وما كتموه من خبر الوصية ، يتّضح جليّا ، أنّ انتشار تعيين الرسول عليّا وصيّا له كان يسوء مدرسة الخلفاء ، فحذفوا من القصيدة والخبر هذا القسم دون أن يشيروا إلى أنّهم حذفوا منهما شيئا ، وهذا النوع من الكتمان من أكثر أصناف الكتمان بمدرسة الخلفاء سواء في حديث الرسول (ص) أو سيرته أو سيرة صحابته ، ويطول بنا المقام لو أردنا أن نأتي بأمثلة منها في غير شأن الوصيّة من سنّة الرسول (ص) في هذا المقام.

ه ـ حذف تمام الرواية من سنّة الرسول (ص) مع عدم الإشارة إليه

إنّ ابن هشام (١٢) أخذ من سيرة ابن إسحاق برواية البكائي ما أورد في

__________________

(١٢) ابن هشام : أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري.

قال ابن خلكان : (جمع سيرة رسول الله (ص) من المغازي والسير لابن إسحاق ـ

٤١٦

سيرته من روايات سيرة الرسول (ص) وقال في ذكر منهجه بأول الكتاب :

(وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ... وأشياء يشنع الحديث به وبعض يسوء الناس ذكره ...).

وكان ممّا حذفه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق (ممّا يسوء الناس ذكره) خبر دعوة الرسول بني عبد المطّلب عند ما أوحى الله إليه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فقد روى الطبري في تاريخه عن ابن إسحاق بسنده أنّ رسول الله (ص) قال في دعوته لبني عبد المطّلب :

«فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم عنها جميعا. وقال عليّ بن أبي طالب :

أنا يا نبيّ الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ـ رقبة عليّ بن أبي طالب ـ ثمّ قال:

«إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا».

قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع

__________________

ـ وهذبها ...).

وقال السيوطي في بغية الوعاة ، ص ٣١٥ : (مهذب السيرة النبوية ، سمعها من زياد البكائي صاحب ابن اسحاق ونقّحها ...).

قصدوا من هذّبها ونقّحها ؛ أنه حذف من سيرة ابن إسحاق ما كان مخالفا لمصلحة السلطة الحاكمة.

توفي بمصر سنة ٢١٨ أو ٢١٣ ه‍.

والبكائي : هو زياد بن عبد الله بن طفيل البكائي العامري (ت : ١٨٣ ه‍).

وابن إسحاق : هو أبو عبد الله أو أبو بكر محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي ولاء ، كتب السيرة بأمر الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور لابنه الخليفة المهديّ. توفي سنة ١٥١ أو ١٥٢ أو ١٥٤ ه‍.

أوردنا هذه التراجم من مقدمة محمد حسين هيكل على سيرة ابن هشام ، ط. القاهرة سنة ١٣٥٦ ه‍ ، ورجعنا إلى هذه الطبعة في ما أوردناه في المتن.

٤١٧

لابنك وتطيع) (١٣).

حذف ابن هشام هذا الخبر وأخبارا كثيرة أخرى كان يرى أنّ ذكرها يسوء الناس وهم عصبة الخلافة (١٤). ولهذا السبب أهملت سيرة ابن إسحاق لأنّ فيها أخبارا لا يرغبون في نشرها حتى فقدت نسخها (١٥). واشتهرت سيرة ابن هشام وأصبحت أوثق سيرة عند الناس.

وقد أدرك الطبري أهميّة هذا النّصّ في حقّ الإمام عليّ بعد أن أثبته في تاريخه فتدارك في تفسيره ما غفل عنه في تاريخه ، فإنّه لما أورد الخبر بالسند نفسه في تفسيره آية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال :

فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا .... ثمّ قال :

إنّ هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا. قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب ... الحديث (١٦).

وكذلك فعل ـ أيضا ـ ابن كثير في تاريخه (١٧) وتفسير الآية من تفسيره.

وهذا ما نسمّيه بحذف بعض الخبر مع الإبهام في القول.

وأكثر من هذا ما فعله محمد حسين هيكل حيث أورد الخبر في ص ١٠٤ من الطبعة الأولى من كتابه (حياة محمّد) ولفظه :

«فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر وأن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

__________________

(١٣) أوردتها ملخصة من تاريخ الطبري ، ط. مصر الأولى ، ٢ / ٢١٦ ـ ٢١٧.

(١٤) ذكرنا بعضها في كتابنا المخطوط : (من تاريخ الحديث).

(١٥) طبع أخيرا قسم من سيرة ابن إسحاق في الرباط بالمغرب سنة ١٣٩٦ ه‍.

(١٦) تفسير الطبري ، ط. الأولى ، بولاق ، سنة ١٣٢٣ ـ ١٣٣٠ ه‍ ، ١٩ / ٧٢ ـ ٧٥.

(١٧) البداية والنهاية ٣ / ٤٠.

٤١٨

وحذفه في الطبعة الثانية سنة ١٣٥٤ ص ١٣٩ من كتابه (١٨).

وهذا الصّنف من الكتمان أي كتمان تمام الخبر دون ما إشارة إليه كثير عند علماء مدرسة الخلفاء.

و ـ النهي عن كتابة سنّة الرسول (ص)

من أهمّ أصناف كتمان سنّة الرسول (ص) بمدرسة الخلفاء نهي الخلفاء عن كتابة سنّة الرسول (ص). وكان بدء النهي في عصر رسول الله (ص) حيث نهت قريش عبد الله بن عمرو بن العاص عن كتابة حديث الرسول (ص) وقالت له : تكتب كلّ ما سمعته من رسول الله (ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الرضا والغضب. وقريش هنا هم المهاجرون من أصحاب رسول الله (ص) وهم الّذين منعوا الرسول عن كتابة وصيّته في آخر ساعة من حياته ، ثمّ لمّا ولوا الحكم بعد رسول الله (ص) نهوا عن كتابة حديث الرسول (ص) وبقي منع كتابة الحديث ساريا حتّى عصر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حيث رفع الحظر وأمر بتدوين حديث الرسول (ص). وسيأتي تفصيل أخبار النهي عن كتابة حديث رسول الله (ص) في الجزء الثاني من الكتاب في بحث مصادر الشريعة الإسلاميّة لدى المدرستين ، ومضى ذكر خبر منع الرسول (ص) من كتابة وصيّته في خبر السقيفة.

والله أعلم كم من حديث لرسول الله (ص) في أمر الوصيّة ، نسي مع ما نسي من سنّة الرسول (ص) بسبب عدم كتابتها طيلة هذه القرون.

* * *

__________________

(١٨) نقلناه من كتاب الغدير للحبر الحجة الأميني ، ط. طهران ، سنة ١٣٧٢ ه‍ ، ٢ / ٨٨ ـ ٢٨٩.

٤١٩

ويلحق بهذا الصنف من الكتمان الخبران الآتيان :

أولا ـ خبر الأنصار مع معاوية وعمرو بن العاص ، كما رواه صاحب الأغاني وقال ما موجزه :

حضرت وفود الأنصار باب معاوية بن أبي سفيان ، فخرج إليهم حاجبه سعد أبو درّة ، فقالوا له : استأذن للأنصار. فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص ، وقال : الأنصار بالباب. فقال عمرو : ما هذا اللّقب الّذي قد جعلوه نسبا يا أمير المؤمنين؟ أردد القوم إلى أنسابهم ، فقال [له معاوية : إنّي أخاف من ذلك الشّنعة ، فقال] : هي كلمة تقولها إن مضت عرّتهم ونقصتهم وإلّا فهذا الاسم راجع إليهم. فقال له : اخرج فقل : من كان هاهنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل ، فقالها الحاجب ، فدخل ولد عمرو بن عامر كلّهم إلّا الأنصار ، فنظر معاوية إلى عمرو نظر منكر ، فقال له : باعدت جدّا ، فقال : اخرج فقل: من كان هاهنا من الأوس والخزرج فليدخل. فخرج فقالها [فلم يدخل أحد ، فقال معاوية : أخرج فقل : من كان هاهنا من الأنصار فليدخل ، فخرج فقالها] فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير ، وهو يقول :

يا سعد لا تعد الدّعاء فما لنا

نسب نجيب به سوى الأنصار

نسب تخيره الإله لقومنا

أثقل به نسبا على الكفّار

إنّ الذين ثووا ببدر منكم

يوم القليب هم وقود النار

وقام مغضبا فانصرف. فبعث معاوية فردّه وترضّاه ، وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار.

فقال معاوية لعمرو : كنّا أغنياء عن هذا (١٩).

__________________

(١٩) الأغاني ، ط. ساسي ١٤ / ١٢٠ و ١٢٢ ، وط. بيروت ١٦ / ١٣ و ١٧.

٤٢٠