معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وروى ابن أبي الحديد (١٩) عن أبي جعفر الإسكافي وقال : «إنّ معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ (ع) تقتضي الطعن فيه ، والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله».

وروى في هذا الصدد عن الصحابة عن عمرو بن العاص ، الحديث الذي أخرجه البخاري (٢٠) ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص ، قال : سمعت رسول الله يقول جهارا غير سرّ (٢١) : «إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنما وليي الله وصالح المؤمنين».

وفي البخاري بعده بطريق آخر عنه. (ولكن لهم رحما أبلّها ببلالها) ـ

__________________

ونفطويه هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي قال في ترجمته بتاريخ بغداد : كان صدوقا له مصنّفات كثيرة ؛ وقال المسعودي في ذكر المؤرخين وأصحاب الأخبار في أول كتابه مروج الذهب ، ١ / ٢٣ : وكذلك تاريخ أبي عبد الله الملقب بنفطويه فمحشو من ملاحة كتب الخاصّة مملوء من فوائد السادة وكان أحسن أهل عصره تأليفا وأملحهم تصنيفا وذكر أسماء مؤلفاته في هديّة العارفين ص ٥ وقال (ت ٣٢٣ ه‍).

(١٩) شرح النهج ط. مصر الأولى ، ١ / ٣٥٨. والإسكافي نسبة إلى الإسكاف من نواحي النهروان بين بغداد وواسط. وأبو جعفر الإسكافي في مادة الإسكاف من معجم البلدان عداده في أهل بغداد أحد المتكلمين من المعتزلة (ت ٢٠٤ ه‍) وقال ابن حجر في ترجمته :

محمد بن عبد الله الإسكافي ؛ من متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم ؛ وإليه تنسب الطائفة الإسكافية منهم ؛ وهو بغدادي أصله من سمرقند ؛ قال ابن النديم : كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة ونبل الهمة والنزاهة ؛ بلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد ؛ وكان المعتصم يعظمه. وله مناظرات مع الكرابيسي وغيره. توفي سنة ٢٤٠ ، لسان الميزان ، ٥ / ٢٢١.

(٢٠) قد أورد البخاري هذا الحديث في صحيحه ج ٤ ، ٣٤ كتاب الأدب باب يبل الرحم ببلالها بطريقين عن ابن العاص. وفي ط البخاري كنّى عن آل أبي طالب قال أبي فلان.

(٢١) هذه الزيادة في رواية البخاري الثانية عن ابن العاص وكنى ـ أيضا ـ وقال آل أبي فلان. ومسلم ١ / ١٣٦ كتاب الايمان باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم.

٣٦١

يعني أصلها بصلتها ـ انتهى.

كانت تلكم رواية ابن أبي الحديد عن صحيح البخاري وفي طبعات البخاري في عصرنا بدل لفظ (آل أبي طالب) ب : (آل أبي فلان).

وروى الطبري عن المغيرة بن شعبة ، أنّه أقام سبع سنين وأشهرا في الكوفة لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه ، والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه ، غير أنّ المغيرة كان يداري ، فيشتدّ مرّة ، ويلين أخرى.

وروى الطبري : أنّ المغيرة بن شعبة قال لصعصعة بن صوحان العبدي وكان المغيرة يوم ذاك أميرا على الكوفة من قبل معاوية : «إيّاك أن يبلغنى عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس ، وإيّاك أن يبلغني عنك أنّك تذكر شيئا من فضل عليّ علانية ، فإنّك لست بذاكر من فضل عليّ شيئا أجهله ، بل أنا أعلم بذلك ، ولكنّ هذا السلطان قد ظهر ، وقد أخذنا باظهار عيبه للناس ، فنحن ندع كثيرا ممّا أمرنا به ، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدّا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقيّة ، فإن كنت ذاكرا فضله ، فاذكره بينك وبين أصحابك ، وفي منازلكم سرّا ، وأمّا علانية في المسجد ، فإنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا ولا يعذرنا فيه ...» الحديث.

وقال اليعقوبي (٢٢) ما موجزه :

وكان حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة علي بن أبي طالب ، إذا سمعوا المغيرة وغيره من أصحاب معاوية ، وهم يلعنون عليا على المنبر ، يقومون فيردون عليهم ، ويتكلمون في ذلك.

__________________

(٢٢) اليعقوبي ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

٣٦٢

فلما قدم زياد الكوفة وجّه صاحب شرطه إليهم ، فأخذ جماعة منهم فقتلوا ، وهرب عمرو بن الحمق الخزاعيّ إلى الموصل وعدّة معه ، وأخذ زياد حجر بن عديّ الكنديّ وثلاثة عشر رجلا من أصحابه فأشخصهم إلى معاوية فكتب فيهم أنّهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب ، وزروا على الولاة ، فخرجوا بذلك من الطاعة ، وأنفذ شهادات قوم. فلمّا صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال ، أمر معاوية بإيقافهم هناك ، ثمّ وجه إليهم من يضرب أعناقهم ، فكلّمه قوم في ستّة منهم فأخلى سبيلهم ، وأمر أن يعرض على الباقي البراءة من علي واللعن له فقالوا : إن فعلتم تركناكم وإن أبيتم قتلناكم ، فابرءوا منه نخلّ سبيلكم! قالوا : اللهم لسنا فاعلي ذلك!

فحفروا لهم قبورهم وأدنيت أكفانهم ، فقاموا الليل كلّه يصلون ، فلما أصبحوا عرضوا عليهم البراءة من علي فقالوا : نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه. فأخذ كل رجل منهم رجلا ليقتله فقال حجر دعوني أتوضأ وأصلي. فلما أتم صلاته قتلوه وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة مع حجر. فلما بلغوا عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم بن العفيف الخثعمي قالا : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين فنحن نقول في هذا الرجل مقالته. فبعثوا بهما إلى معاوية فلما دخلا عليه ، قال معاوية للخثعمي : ما تقول في علي ، قال : أقول فيه قولك! قال أتبرأ من دين علي؟ فسكت ، فقام ابن عم له فاستوهبه من معاوية فحبسه شهرا ثم خلّى سبيله على أن يذهب إلى الكوفة. أمّا العنزي فقد قال له : يا أخا ربيعة! ما قولك في علي؟ قال : أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا ومن الآمرين بالحقّ والقائمين بالقسط والعافين عن الناس. قال : فما قولك في عثمان؟ قال : هو أول من فتح باب الظلم وأرتج أبواب الحقّ. قال : قتلت نفسك. قال : بل إياك قتلت ، فبعث به معاوية إلى زياد وكتب إليه : أما بعد ، فإن هذا

٣٦٣

العنزي شرّ من بعثت ، فعاقبه عقوبته التي هو أهلها واقتله شرّ قتلة. فلمّا قدم به على زياد بعث زياد به إلى قسّ الناطف فدفن به حيّا (٢٣)

ومن قصص زياد بن أبيه في هذه المعركة أيضا ما وقع بينه وبين صيفي ابن فسيل ، فإنّه أمر فجيء به إليه ، فقال له : يا عدوّ الله! ما تقول في أبي تراب؟ قال : ما أعرف أبا تراب ؛ قال : ما أعرفك به! قال ما أعرفه ، قال : أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟! قال : بلى ، قال : فذاك ، ـ وبعد محاورة بينهما ـ قال : عليّ بالعصا ، فقال : ما قولك في عليّ؟ قال : أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين ، قال : اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض ؛ فضرب حتى ألصق بالأرض ؛ ثم قال : أقلعوا عنه ، فتركوه ، فقال له : إيه ما قولك في عليّ؟ قال : والله لو شرطتني بالمواسي والمدى ما قلت إلّا ما سمعت منّي ، قال لتلعننّه أو لأضربنّ عنقك ، قال : إذا والله تضربها قبل ذلك ، فأسعد وتشقى ، قال : ادفعوا في رقبته ، ثمّ قال : أوقروه حديدا واطرحوه في السجن ، ثمّ قتل مع حجر (٢٤).

وكتب إلى معاوية في رجلين حضرميّين (٢٥) أنّهما على دين عليّ ورأيه ، فأجابه : من كان على دين علي ورأيه ، فاقتله ، ومثل به ، فصلبهما على باب دارهما بالكوفة (٢٦).

كما أمره بدفن الخثعميّ الذي مدح عليّا وعاب عثمان حيّا ، فدفنه

__________________

(٢٣) أوردناها موجزة من عبد الله بن سبأ ٢ / ٢٨٤ ـ ٣٠٣ وفي ترجمة حجر من تاريخ دمشق لابن عساكر وتهذيبه تفصيل الخبر.

(٢٤) الطبري ، ٦ / ١٠٨ و ١٤٩ ؛ وابن الأثير ٣ ، ٢٠٤ ، والأغاني ١٦ ، ٧ ، وابن عساكر ، ٦ / ٤٥٩.

(٢٥) نسبة إلى حضر موت من بلاد اليمن.

(٢٦) المحبر ، ص ٤٧٩.

٣٦٤

حيا (٢٧).

وختم حياته بما ذكره المسعودي ، وابن عساكر ، قال ابن عساكر :

جمع أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ، ليعرضهم على البراءة من عليّ(٢٨). وقال المسعودي : وكان زياد جمع الناس بالكوفة بباب قصره يحرّضهم على لعن عليّ ، فمن أبى ذلك عرضه على السيف ، ثمّ ذكر أنّه اصيب بالطاعون في تلك الساعة فأفرج عنهم.

وكان عمرو بن الحمق الخزاعيّ ممن أصابه التشريد والقتل في هذه المعركة ، فإنّه فرّ إلى البراري ، فبحثوا عنه حتى عثروا عليه ، فحزّوا رأسه وحملوه إلى معاوية ، فأمر بنصبه في السوق ثم بعث برأسه إلى زوجته في السجن ـ وكان قد سجنها في هذا السبيل ـ فالقي في حجرها (٢٩).

عمّت هذه السياسة البلاد الإسلامية ، واتّبعها ونفّذها غير من ذكرنا من الأمراء أيضا ، كبسر بن أرطاة في ولايته البصرة ، وابن شهاب في الري (٣٠) فقد كانت لهم قصص في ذلك ذكرها المؤرخون ، ثمّ أصبحت هذه سياسة بني أمية التقليدية ، ولعن علي بن أبي طالب على منابر الشرق والغرب ما عدا سجستان ، فإنّه لم يلعن على منبرها إلّا مرة ، وامتنعوا على بني أمية ، حتى زادوا في عهدهم أن لا يلعن على منبرهم أحد في حين كان يلعن على منابر الحرمين

__________________

(٢٧) راجع قصة حجر بن عدي في عبد الله بن سبأ.

(٢٨) المسعودي في أيام معاوية ٣ / ٣٠ ؛ وابن عساكر ٥ / ٤٢١.

(٢٩) المعارف لابن قتيبة ٧ / ١٢ ، والاستيعاب ٢ / ٥١٧ ، والاصابة ٢ / ٥٢٦ ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ٤٨ ، والمحبر ، ص ٤٩٠.

(٣٠) في حوادث سنة ٤١ ه‍ من الطبري ٦ / ٩٦ ، وابن الأثير ٣ / ١٦٥ ، وابن شهاب في ابن الأثير ٣ / ١٧٩ في ذكر استعمال المغيرة على الكوفة من (حوادث سنة إحدى وأربعين).

٣٦٥

مكة والمدينة (٣١).

وقد كانوا يلعنون عليّا على المنابر بمحضر من أهل بيته ، وقصصهم في ذلك كثيرة نكتفي منها بذكر واحدة أوردها ابن حجر (٣٢) في تطهير اللّسان ، وقال :

إنّ عمرا صعد المنبر فوقع في عليّ ، ثمّ فعل مثله المغيرة بن شعبة ، فقيل للحسن : اصعد المنبر لتردّ عليهما ، فامتنع إلّا أن يعطوه عهدا أنّهم يصدقوه إن قال حقّا ، ويكذبوه (٣٣) إن قال باطلا ، فأعطوه ذلك ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أنشدك الله يا عمرو! يا مغيرة! أتعلمان أنّ رسول الله (ص) لعن السائق والقائد أحدهما فلان؟ قالا : بلى ، ثمّ قال : يا معاوية! ويا مغيرة! ألم تعلما أنّ النبي (ص) لعن عمرا بكل قافية قالها لعنة؟ قالا : اللهم بلى ...) الحديث.

ولمّا كان الناس لا يجلسون لاستماع خطبهم لما فيها من أحاديث لا يرتضونها ، خالفوا السنّة وقدّموا الخطبة على الصلاة. قال ابن حزم في المحلّى (٣٤).

أحدث بنو أمية تقديم الخطبة على الصلاة ، واعتلّوا بأنّ الناس كانوا إذا صلّوا تركوهم ، ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنّهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب (رض) فكان المسلمون يفرّون ، وحقّ لهم ذلك.

وقال اليعقوبي في تاريخه (٢ / ٢٢٣) :

__________________

(٣١) أوردتها ملخصة من معجم البلدان ٥ / ٣٨ ط. المصرية الأولى في لغة سجستان ، وهي من بلاد إيران.

(٣٢) في تطهير اللسان ص ٥٥ ، قال : وجاء بسند رجاله رجال الصحيح إلا واحدا فمختلف فيه لكن قواه الذهبى بقوله : إنّه أحد الاثبات ، وما فيه جرح أصلا ، ثم أورد الحديث.

(٣٣) كذا وردت في الأصل والصحيح يصدّقونه ... ويكذبونه.

(٣٤) المحلى لابن حزم تحقيق احمد محمد شاكر ٥ / ٨٥ ـ ٨٦ ؛ وراجع كتاب الأمّ للشافعي ١ / ٢٠٨

٣٦٦

وفي هذه السنة ـ سنة ٤٤ ه‍ ـ عمل معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين وخطب الخطبة قبل الصلاة ، وذلك أن الناس إذا صلوا ، انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة ، ووهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول الله (ص).

وفي الصحيحين (٣٥) وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال :

خرجت مع مروان وهو أمير المدينة ـ في أضحى أو فطر ـ فلمّا أتينا المصلّى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلّي ، فجبذت بثوبه ، فجبذني ، فارتفع ، فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيّرتم والله. فقال : يا أبا سعيد! قد ذهب ما تعلم. فقلت : ما أعلم والله خير ممّا لا أعلم ، فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لما بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة

وكانوا لا يكتفون بذلك ، بل يأمرون الصحابة به أيضا ، ففي صحيح مسلم (٣٦) وغيره عن سهل بن سعد : قال :

«استعمل على المدينة رجل من آل مروان ، فدعا سهل بن سعيد فأمره أن يشتم عليّا ، فأبى سهل ، فقال له : أمّا إذا أبيت فقل : لعن الله أبا التراب ، فقال سهل : ما كان لعليّ اسم أحبّ إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دعي بها ، فقال له : أخبرنا عن قصّته ، لم سمّي أبا تراب؟ قال جاء رسول الله (ص) بيت فاطمة ، فلم يجد عليّا في البيت ، فقال : أين ابن عمّك؟».

__________________

(٣٥) البخاري ٢ ، ١١١ ومسلم ٣ / ٢٠ ، وسنن أبي داود ١ / ١٧٨ ؛ وابن ماجة ١ / ٣٨٦ ، والبيهقي ٣ / ٢٩٧ ، وفي مسند أحمد ٣ / ١٠ و ٢٠ و ٥٢ و ٥٤ و ٩٢ ، واسم المعترض على مروان في مسند أحمد غير أبي سعيد.

(٣٦) أوردته ملخصا عن صحيح مسلم ٧ / ١٢٤ باب مناقب علي ، وأورده البخاري محرفا في صحيحه باب مناقب علي ، وفي باب نوم الرجل في المسجد من كتاب الصلاة ٢ / ١٩٩ ، وفي إرشاد الساري ٦ / ١١٢ : أن هذا الوالي هو مروان بن الحكم ؛ وراجع البيهقي ٢ / ٤٤٦.

٣٦٧

إلى قوله :

«هو في المسجد راقد ، فجاءه وهو مضطجع ، وقد سقط رداءه عن شقّه ، فجعل رسول الله (ص) يمسحه عنه ، ويقول : قم أبا التراب ، قم أبا التراب».

وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، قال : «أمر معاوية سعدا فقال : ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟ فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله (ص) فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول الله (ص) يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليّ : يا رسول الله! خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله (ص) : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي ، وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ؛ قال : فتطاولنا لها ، فقال : أدعوا لي عليّا فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولمّا نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة ، وحسنا ، وحسينا ، فقال : اللهم! هؤلاء أهلي» (٣٧).

ورواه المسعودي (٣٨) عن الطبري هكذا : قال :

«لما حجّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد ، فلمّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، فأجلسه معه على سريره ، ووقع في عليّ ، وشرع في سبّه ، فزحف

__________________

(٣٧) مسلم ٧ / ١٢٠ ، والترمذي ١٣ / ١٧١ ؛ والمستدرك ٣ / ١٠٨ و ١٠٩ ؛ وزاد فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة ، والاصابة ٢ / ٥٠٩ ؛ والنسائي في الخصائص ص ١٥.

(٣٨) مروج الذهب ٣ / ٢٤ في أيام معاوية ، ثم ذكر ما صدر عن معاوية في المجلس مما أربأ بقلمي عن ذكره

٣٦٨

سعد ، ثمّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمّ شرعت في سبّ عليّ؟! والله لأن يكون فيّ خصلة واحدة من خصال عليّ أحبّ إليّ ، ثمّ ساق الحديث باختلاف يسير وذكر في آخره أنّه قال : وأيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت ، ثمّ نهض».

أمّا ابن عبد ربّه فقد أورده باختصار في أخبار معاوية من العقد الفريد وقال : (٣٩)

«ولمّا مات الحسن بن عليّ حجّ معاوية ، فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليا على منبر رسول الله (ص) فقيل له : إنّ هاهنا سعد بن أبي وقّاص. رولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ، ثمّ لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلمّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا ، فكتبت أمّ سلمة زوج النبيّ (ص) إلى معاوية : إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ، ومن أحبّه ، وأنا أشهد الله أنّ الله أحبّه ، ورسوله ، فلم يلتفت إلى كلامها» انتهى (٤٠).

وقال ابن أبي الحديد :

روى أبو عثمان ـ الجاحظ ـ أيضا أنّ قوما من بني أميّة قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين! إنك قد بلغت ما أملت ، فلو كففت عن لعن هذا الرجل!رفقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر

__________________

(٣٩) العقد ٣ / ١٢٧.

(٤٠) نقلته باختصار من كتاب (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) ، بحث دواعي وضع الحديث من فصل (مع معاوية).

٣٦٩

فضلا! (٤١).

تربية أهل الشام منذ زمن معاوية على بغض الإمام علي (ع) ولعنه

روى الثقفي في كتابه الغارات وقال : إنّ عمر بن ثابت كان يركب بالشام ويدور في القرى بالشام فإذا دخل قرية جمع أهلها ثم يقول :

أيّها الناس! إنّ علي بن أبي طالب كان رجلا منافقا أراد أن ينخس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة فالعنوه. قال : فيلعنه أهل تلك القرية ثم يسير إلى القرية الأخرى فيأمرهم بمثل ذلك (وكان في أيام معاوية).

خبر ليلة العقبة بإيجاز :

عند ما رجع النبيّ سنة ٩ للهجرة من غزوة تبوك ومرّ بعقبة هرشى على ملتقى طريق الشام والمدينة ومكة وفي أسفلها واد تسير القوافل منها فأمر الجيش أن يسيروا من بطن الوادي وسار هو ليلا من طريق عقبة هرشى فتآمر بعض المنافقين على نفر ناقة الرسول ليلا ليقتلوه فمنعهم من ذلك الصحابيان عمار بن ياسر وحذيفة اللذان كانا في صحبة الرسول. راجع خبره في إمتاع الأسماع (٤٧٧) ، ومادة هرشى من معجم البلدان ، ونسب عميل معاوية هذا العمل إلى ابن عم الرسول (ص).

الباعث لمعاوية على ما فعل :

إن كان دافع سائر قريش في ما فعلته مع الإمام علي (ع) ، كرهها أن

__________________

(٤١) شرح الخطبة (٥٧) من شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة.

٣٧٠

تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم. فقد كان دافع معاوية القرشي الأموي مع ذلك حقده على بني هاشم كما يظهر ذلك في الخبر الآتي :

روى الزبير بن بكار وقال :

قال المطرف بن المغيرة بن شعبة :

دخلت مع أبي على معاوية. فكان أبي يأتيه فيتحدث معه ، ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ، ويعجب بما يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، ورأيته مغتمّا فانتظرته ساعة ، وظننت أنّه لأمر حدث فينا فقلت : ما لي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ فقال : يا بنيّ! جئت من عند أكفر الناس وأخبثهم. قلت : وما ذاك؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنّك قد بلغت سنّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا ، وبسطت خيرا فإنّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه ، وإنّ ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه ، فقال : هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل: أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره ، إلّا أن يقول قائل : عمر.

وإنّ ابن أبي كبشة ليصاح به كلّ يوم خمس مرات (أشهد أنّ محمدا رسول الله) فأى عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلّا دفنا دفنا (٤٢).

كان ذلكم من معاوية بسبب حقده على بني هاشم.

__________________

(٤٢) الموفقيات ص ٥٧٦ ـ ٥٧٧ ومروج الذهب ٢ / ٤٥٤ وابن أبي الحديد ١ / ٤٦٢ وط. مصر تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ٥ / ١٢٠. وكانت قريش تكني رسول الله (ص) أبا كبشة استهزاء به.

٣٧١

أسباب حقد معاوية على بني هاشم :

لمعرفة أسباب حقد معاوية على بني هاشم ينبغي قراءة بحث (مع معاوية) من كتابنا (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) وكان في ما شرحناه هناك من تلك الأسباب :

إنّ معاوية ورث ذلكم الحقد من أمّه هند التي لاكت كبد حمزة عمّ الرسول (ص) في غزوة احد ، وصنعت من أطرافه قلادة تشفيا لغيظها على بني هاشم ، وأخيرا شفى حقد آل أبي سفيان يزيد بن معاوية بقتله آل الرسول في كربلاء وقطع رءوسهم وسبي نسائهم كما ذكرناه مفصلا في المجلد الثالث من هذا الكتاب ، وولي بعد يزيد آل مروان من بني أمية وفي ما يأتي أمثلة من سياستهم مع آل الرسول بعد ذكر ما فعله ابن الزبير في دولته :

سياسة ابن الزبير

شرح ابن أبي الحديد سياسة ابن الزبير في دولته وقال :

روى عمر بن شبّة وابن الكلبيّ والواقدي وغيرهم من رواة السير ، أنّه مكث أيام ادّعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلّي فيها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : لا يمنعني من ذكره إلّا أن تشمخ رجال بآنافها.

وقال :

وفي رواية محمد بن حبيب وأبي عبيدة معمر بن المثنى : انّ له أهيل سوء ينغضون رءوسهم عند ذكره.

وقال : أيضا وروى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس : ما

٣٧٢

حديث أسمعه عنك! قال : وما هو؟ قال : تأنيبي وذمّي! فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره» ، فقال ابن الزبير : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت من أربعين سنة ... الحديث. عرّض ابن عباس إلى بخل ابن الزبير في حديثه.

وقال أيضا : روى عمر بن شبّة عن سعيد بن جبير ، قال : خطب عبد الله بن الزبير ، فنال من عليّ عليه‌السلام ، فبلغ ذلك محمد بن الحنفيّة (ت ٨١ ه‍) ، فجاء إليه وهو يخطب ، فوضع له كرسيّ ، فقطع عليه خطبته ، وقال : يا معشر العرب ، شاهت الوجوه! أينتقص عليّ وأنتم حضور! إنّ عليّا كان يد الله على أعداء الله ، وصاعقة من أمره ، أرسله على الكافرين والجاحدين لحقّه ، فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه ، وأضمروا له السيف والحسد وابن عمه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ بعد لم يمت ؛ فلما نقله الله إلى جواره ، وأحبّ له ما عنده ، أظهرت له رجال أحقادها ، وشفت أضغانها ، فمنهم من ابتزّه حقّه ، ومنهم من ائتمر به ليقتله ، ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل ؛ فإن يكن لذريّته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم ، وتحفر على أجسادهم ؛ والأبدان منهم يومئذ بالية ، بعد أن تقتل الأحياء منهم ، وتذلّ رقابهم ، فيكون الله عزّ اسمه قد عذّبهم بأيدينا وأخزاهم ونصرنا عليهم ، وشفا صدورنا منهم ، إنّه والله ما يشتم عليّا إلّا كافر يسرّ شتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويخاف أن يبوح به ، فيكنّي بشتم علي عليه‌السلام عنه. أما إنّه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره ، وسمع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» (٤٣).

__________________

(٤٣) شرح الخطبة ٥٧ من نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

٣٧٣

وقال ابن أبي الحديد :

وكان عبد الله بن الزبير يبغض عليّا عليه‌السلام ، وينتقصه وينال من عرضه. (٤٤)

وقال اليعقوبي :

تحامل عبد الله بن الزبير على بني هاشم تحاملا شديدا ، وأظهر لهم العداوة والبغضاء ، حتى بلغ ذلك منه أن ترك الصلاة على محمّد في خطبته ، فقيل له : لم تركت الصلاة على النبيّ؟ فقال : إنّ له أهل سوء يشرئبون لذكره ، ويرفعون رءوسهم إذا سمعوا به.

وأخذ ابن الزبير محمّد بن الحنفيّة ، وعبد الله بن عبّاس ، وأربعة وعشرين رجلا من بني هاشم ليبايعوا له ، فامتنعوا ، فحبسهم في حجرة زمزم ، وحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ليبايعنّ أو ليحرقنّهم بالنار ، فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن علي ومن قبله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومن قبله من المسلمين ، أما بعد فإن عبد الله بن الزبير أخذنا ، فحبسنا في حجرة زمزم ، وحلف بالله الذي لا إله إلّا هو لنبايعنّه ، أو ليضر منّها علينا بالنار ، فيا غوثاه! (٤٥) فوجّه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب ، فقدم مكّة ، فكسر الحجرة ، وقال لمحمّد بن عليّ : دعني وابن الزبير! قال : لا أستحل من قطع رحمه ما استحلّ منّي(٤٦).

__________________

ورواه اليعقوبي في تاريخه ، ٢ / ٢٦٢ ، أكثر تفصيلا من هذا ، وابن الزبير هو عبد الله بن الزبير الأسدي بويع له بالخلافة بعد موت يزيد بن معاوية سنة ٦٤ في الحجاز والعراق واستمر حكمه حتى قتله الحجاج سنة ٦٧ ه‍.

(٤٤) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ١ / ٧٨.

(٤٥) في نسختنا : فيا غوثا ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤٦) تاريخ اليعقوبي ، ٢ / ٢٦١. ومحمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب (ت ٨١ ه‍).

٣٧٤

بعد ابن الزبير :

بعد قتل ابن الزبير صفا الجوّ للخلفاء الأمويين من آل مروان فتابعوا معاوية في سياسته في شأن الإمام علي (ع) كالآتي بيانه بحوله تعالى :

ب ـ على عهد عبد الملك وابنه الوليد

روى ابن أبي الحديد عن الجاحظ أنّه قال :

وقال أبو عثمان : وما كان عبد الملك مع فضله وأناته وسداده ورجحانه ممن يخفى عليه فضل علي عليه‌السلام ، وإن لعنه على رءوس الأشهاد ، وفي أعطاف الخطب ، وعلى صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه ، ويرجع إليه وهنه ، لأنهما جميعا من بني عبد مناف ، والأصل واحد ، ولكنه أراد تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف ، وأن يقرّر في أنفس الناس أنّ بني هاشم لا حظّ لهم في هذا الأمر ، وأنّ سيّدهم الذي به يصولون ، وبفخره يفخرون ، هذا حاله وهذا مقداره ، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الأمر أبعد ، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح.

وقال أيضا :

روى أهل السّيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليّا عليه‌السلام ، فقال : لعنه «الله» بالجر ، كان لصّ ابن لصّ.

فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد ، ومن نسبته عليّا عليه‌السلام إلى اللصوصيّة وقالوا : ما ندري أيّهما أعجب! وكان الوليد لحّانا (٤٧).

__________________

(٤٧) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ١ / ٨٥ و ٧٥ و ٥٨. وعبد الملك بن مروان بويع له بالخلافة سنة ٦٥ ه‍ وتوفي سنة ٨٦ ه‍ وبويع بعده لابنه الوليد بالخلافة.

٣٧٥

ويؤيد أن الوليد كان لحانا ما رواه أهل السير وقالوا :

إنّ روح بن زنباع قال دخلت يوما على عبد الملك وهو مهموم فقال : فكّرت في من أوليه العرب فلم أجده! فقلت : وأين أنت عن ريحانة قريش وسيدها الوليد! فقال لي يا أبا زنباع إنّه لا يلي العرب إلّا من تكلّم بكلامهم ، قال فسمعها الوليد فقام من ساعته وجمع أصحاب النحو وجلس معهم في بيت وطيّن عليه ستة أشهر ثم خرج وهو أجهل ممّا كان. فقال عبد الملك أما إنه قد أعذر (٤٨).

* * *

كان ذلكم بعض آثار سياسة الخلافة القرشية على عهد عبد الملك وابنه الوليد وبعضه الآخر ندرسه من خلال دراسة ما فعله واليهما الحجاج في هذا الشأن.

بعض ما فعله الحجاج تنفيذا للسياسة القرشية

روى ابن أبي الحديد بعض ما فعله الحجاج في هذا الشأن وقال : كان الحجاج لعنه الله يلعن عليا (ع) ، ويأمر بلعنه. وقال له متعرّض به يوما وهو راكب : أيها الأمير ، إن أهلي عقّوني فسمّوني عليّا ، فغيّر اسمي ، وصلني بما أتبلّغ به ، فإني فقير. فقال : للطف ما توصلت به قد سميتك

__________________

(٤٨) ترجمة الوليد في تاريخ الإسلام للذهبي ، ٤ / ٦٥ ، وقال الذهبي ـ أيضا ـ في ترجمة روح بن زنباع في سير أعلام النبلاء ، ط. الأولى ، ٤ / ٢٥١. وكان شبه الوزير للخليفة عبد الملك (ت ٨٤ ه‍).

٣٧٦

كذا ، ووليتك العمل الفلاني فاشخص إليه (٤٩).

وروى المسعودي في هذا الشأن وقال :

قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ وهو رجل من أود ، حي من اليمن ، وكان شريفا في قومه ، وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها ، وشهد معه تحريق البيت ، وكان من أنصاره وشيعته : والله ما كافأناك بعد ، ثم أرسل إلى أسماء ابن خارجة ـ وكان من فزارة ـ أن زوج عبد الله بن هانئ ابنتك ، فقال : لا والله ، ولا كرامة ، فدعا له بالسياط ، فقال : أنا أزوجه ، فزوجه ، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية أن زوّج عبد الله بن هانئ ، قال : ومن أود؟ والله لا أزوجه ولا كرامة ، قال : هاتوا السيف ، قال : دعني حتى أشاور أهلي ، فشاورهم ، فقالوا : زوجه لا يقتلك هذا الفاسق ، فزوجه ، فقال له الحجاج : يا عبد الله ، قد زوجتك بنت سيد بني فزارة وابنة سيد همدان وعظيم كهلان ، وما أود هنالك ، فقال : لا تقل ـ أصلح الله الأمير ـ ذلك ، فإن لنا مناقب ما هي لأحد من العرب ، قال : وما هذه المناقب؟ قال ما سبّ أمير المؤمنين عثمان في ناد لنا قط ، قال : هذه والله منقبة ، قال : وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا ، وما شهدها مع أبي تراب منا إلا رجل واحد ، وكان والله ما علمته امرأ سوء ، قال : وهذه والله منقبة ، قال : وما منّا أحد تزوج امرأة تحب أبا تراب ولا تتولاه ، قال : وهذه والله منقبة ، قال وما منّا امرأة إلّا نذرت إن قتل الحسين أن تنحر عشر جزائر لها ، ففعلت ، قال : وهذه والله منقبة ، قال : وما منّا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل ، وقال : وأزيدكم ابنيه الحسن والحسين وأمهما فاطمة ، قال : وهذه

__________________

(٤٩) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٧٥.

٣٧٧

والله منقبة. قال : وما أحد من العرب له من الملاحة والصباحة ما لنا ، فضحك الحجاج وقال : أما هذه يا أبا هانئ فدعها. وكان عبد الله دميما شديد الأدمة مجدورا ، في رأسه عجر ، مائل الشدق ، أحول قبيح الوجه ، شديد الحول (٥٠).

وروى ابن سعد في ترجمة عطية بن سعد بن جنادة العوفي من طبقاته وقال :

كتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادع عطية فإن لعن علي ابن أبي طالب وإلّا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته. فدعاه فأقرأه كتاب الحجاج فأبى عطية أن يفعل ، فضربه أربعمائة سوط وحلق رأسه ولحيته (٥١).

* * *

وسار على نهج الحجاج أخوه وواليه على اليمن كالآتي بيانه :

بعض ما فعله أخو الحجاج محمد بن يوسف زمان ولايته على اليمن

روى الذهبي عن حجر المدري ما موجزه قال : قال علي بن أبي طالب : كيف بك إذا أمرت أن تلعنني.

__________________

(٥٠) مروج الذهب ، ٣ / ١٤٤.

(٥١) الطبقات الكبرى ٦ / ٢١٢ ـ ٢١٣ وط. اوروبا ٢ / ٢٤٩٤ ، وتهذيب التهذيب ٧ / ٢٢٤ ـ ٢٢٦ وفي تقريب التهذيب : وعطية أخرج حديثه البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وتوفي سنة ١١١ ه‍. ومحمد بن القاسم الثقفي كان على رأس جيش في بلاد فارس فأمره الحجاج سنة ٩٢ ه‍ أن يذهب لفتح بلاد السند ففتح بلادها وقتل ملكها وكان في ما فتح من بلادها مدينة الكراتشي ومولتان من بلاد باكستان اليوم ولما ولي الخليفة سليمان أمر بتصفية ولاة الحجاج فسجن محمد وقتل في السجن سنة ٩٢ ه‍.

٣٧٨

قلت : أو كائن ذلك؟

قال : نعم! قلت : فكيف أصنع؟

قال : العنّي ولا تبرأ منّي.

قال فامره محمد بن يوسف أخو الحجاج أن يلعن عليّا.

فقال : إن الأمير أمرني أن ألعن عليّا فالعنوه لعنه الله. فما فطن لها إلّا رجل (٥٢).

* * *

هكذا توالت سياسة الخلافة الأموية القرشية إلى زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي قام بنقض تلكم السياسة كما سندرسه في ما يأتي :

ج ـ على عهد عمر بن عبد العزيز :

إنّ عمر بن عبد العزيز خالف سياسة الخلافة الاموية وأمر بترك لعن الإمام علي (ع). وذكروا في سبب ذلك وقالوا ما رواه ابن أبي الحديد وغيره واللفظ لابن أبي الحديد.

فأمّا عمر بن عبد العزيز (رض) فإنه قال : كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمرّ بي يوما وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن عليا ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه

__________________

(٥٢) تاريخ الإسلام للذهبي ، ٤ / ٥١ ـ ٥٢ ، في ترجمة محمد بن يوسف الثقفي وحجر هو ابن قيس الهمداني والمدري نسبة إلى مدر جبل باليمن قال ابن حجر تابعي ثقة أخرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة ترجمته في تهذيب التهذيب ٢ / ٢١٥ وتقريبه ١ / ١٥٥.

٣٧٩

وردي ، فلما رآني قام فصلّى وأطال في الصلاة ـ شبه المعرض عنّي حتى أحسست منه بذلك ـ فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ؟ فقال لي : يا بنيّ ، أنت اللاعن عليّا منذ اليوم! قلت : نعم ، قال : فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم! فقلت : وهل كان عليّ من أهل بدر؟ فقال : ويحك! وهل كانت بدر كلها إلّا له! فقلت لا أعود ، فقال : الله أنك لا تعود! قلت : نعم. فلم ألعنه بعدها (٥٣) ، ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة ، وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي عليه‌السلام فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوما : يا أبت ، أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالى أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل ، صرت ألكن عييّا! فقال : يا بنيّ ، إنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد. فوقرت كلمته في صدري ؛ مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري ، فأعطيت الله عهدا ؛ لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيّرنّه ، فلما منّ الله عليّ بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (٥٤) يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٥) ، وكتبت به إلى

__________________

(٥٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ، ٤ / ٥٨ ـ ٥٩. وأورد هذا الخبر ابن عساكر في تاريخ دمشق ، ورقة ١٣١ ، في ترجمة عمر بن عبد العزيز ، وعمر بن عبد العزيز ولي الخلافة سنة ٩٩ ه‍. ومات مسموما سنة ١٠١ ه‍.

(٥٤) أورد الخبرين بإيجاز كلّ من ابن الأثير في تاريخه ، ٥ / ١٦. والمسعودي في مروج الذهب ، ٣ / ١٨٤.

(٥٥) سورة النحل / ٩٠.

٣٨٠