معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

معاوية ، ما الخيار أردتما لأمة محمّد ، ولكنّكم تريدون أن تجعلوها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام هرقل.

فقال مروان : هذا الّذي أنزل الله فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الأحقاف / ١٧.

فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب ، فقامت من وراء الحجاب ، وقالت : يا مروان! يا مروان! فأنصت الناس ، وأقبل مروان بوجهه ، فقالت :

أنت القائل لعبد الرحمن أنه نزل فيه القرآن؟ كذبت والله ما هو به ، ولكنّه فلان بن فلان ، ولكنّك فضض من لعنة الله.

وفي رواية ، فقالت : كذب والله ما هو به ، ولكنّ رسول الله (ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان فضض من لعنة الله عزوجل (٢٢).

وأخرج البخاري الحديث في صحيحه وقال :

(كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية ، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إنّ هذا الّذي أنزل الله فيه : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي). فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلّا أنّ الله أنزل عذري) (٢٣).

هكذا حذف البخاري قول عبد الرحمن : (تريدون أن تجعلوها هرقلية ...) وأبدله بقوله : (قال شيئا) وحذف رواية أمّ المؤمنين عائشة في حقّ مروان. بينا أوردها ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري المسمّى بفتح

__________________

(٢٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٩٩ في ذكره حوادث سنة ٥٦ ه‍.

والفضض : القطعة من الشيء.

(٢٣) صحيح البخاري ٣ / ١٢٦ ، باب (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) من تفسير سورة الأحقاف.

٣٤١

الباري مفصّلا ، وفي لفظ بعضها : ولكن رسول الله (ص) لعن أبا مروان ومروان في صلبه(٢٤).

وإنّما فعل الشيخ البخاري ذلك لأنّ معاوية ويزيدهما من خلفاء المسلمين ، ولا يرى البخاريّ أن يسمع العامّة قول عبد الرحمن في حقّهما ، أنّهما جعلا الخلافة هرقلية كلّما مات هرقل قام هرقل مقامه.

وحذف رواية أمّ المؤمنين عائشة في مروان ـ أيضا ـ لأنّ مروان أصبح خليفة للمسلمين ولا ينبغي ذكر ما يشينه. هكذا فعل الشيخ البخاري في صحيحة ، فإنّه حذف كلّ شيء يشين الخلفاء والحكّام في كلّ حديث ورد فيه من ذلك شيء. ومن ثمّ اعتبرت مدرسة الخلفاء كتابه أصحّ الكتب بعد كتاب الله ، وعدّ هو إمام أهل الحديث لديهم.

* * *

لمّا لم يستطع مروان أن يأخذ البيعة في الحجاز ليزيد ، قدم معاوية الحجاز حاجّا ودخل المدينة ، وكان من خبره ما رواه ابن عبد البرّ ، حيث قال :

(قعد معاوية على المنبر يدعو إلى بيعة يزيد ، فكلّمه الحسين بن علي ، وابن الزبير وعبد الرّحمن بن أبي بكر ، فكان كلام ابن أبي بكر : أهرقلية!؟ إذا مات كسرى كان كسرى مكانه؟ لا نفعل والله أبدا. وبعث إليه معاوية بمائة ألف درهم بعد أن أبى البيعة ليزيد ، فردّها عليه عبد الرّحمن ، وأبى أن يأخذها ، وقال : أبيع ديني بدنياي!؟ فخرج إلى مكّة ، فمات بها قبل أن تتمّ البيعة ليزيد بن معاوية) (٢٥).

__________________

(٢٤) فتح الباري ١٠ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، وأخرج القصة بتفصيلها أبو الفرج في الأغاني ١٦ / ٩٠ ـ ٩١. وراجع ترجمة الحكم بن أبي العاص من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة ومستدرك الحاكم ٤ / ٤٨١ ، وتاريخ ابن كثير ٨ / ٨٩ والإجابة في ما استدركته عائشة على الصحابة ، وترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر في تاريخ دمشق لابن عساكر.

(٢٥) راجع ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر من الاستيعاب ٢ / ٣٩٣. وأسد الغابة ٣ / ٣٠٦.

٣٤٢

وذكر ابن عبد البرّ بعده وقال :

(إنّ عبد الرحمن مات فجأة بموضع يقال له : (الحبشي) (٢٦) على نحو عشرة أميال من مكّة فدفن بها. ويقال : إنّه توفّي في نومة نامها ، ولمّا اتّصل خبر موته بأخته عائشة أمّ المؤمنين (رض) ظعنت من المدينة حاجّة حتّى وقفت على قبره ، وكانت شقيقته ، فبكت عليه وتمثّلت :

وكنّا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا

فلمّا تفرقنا كأني ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا(٢٧)

أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث متّ مكانك ، ولو حضرتك ما بكيتك).

وفي مستدرك الحاكم :

(رقد في مقيل قاله ، فذهبوا يوقظونه فوجدوه قد مات ، فدخل في نفس عائشة تهمة أن يكون صنع به شرّ وعجل عليه فدفن وهو حيّ) (٢٨).

* * *

لو بقي عبد الرّحمن حيّا لما تمّت بيعة يزيد مع موقفه الصّارم ضد بيعته ومعه أمّ المؤمنين عائشة ، فمات في طريق مكّة ، كما مات مالك الأشتر في طريق مصر مسموما بسمّ دسّه إليه معاوية (٢٩).

__________________

والإصابة ٢ / ٤٠٠. وشذرات الذهب في ذكر حوادث سنة ٥٣ ه‍ ، وقريب منه ما في مستدرك الحاكم ٣ / ٤٧٦.

(٢٦) في معجم البلدان :

الحبشي : جبل بأسفل مكة ، بينه وبين مكة ستة أميال ، مات عنده عبد الرحمن بن أبي بكر فجأة ، فحمل على رقاب الرجال إلى مكّة ، فقدمت عائشة من المدينة وأتت قبره وتمثلت : وكنا كندماني جذيمة .... البيتين.

(٢٧) راجع ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر من الاستيعاب بهامش الإصابة ٢ / ٣٩٣.

(٢٨) مستدرك الحاكم ٣ / ٤٧٦ ، وكذلك في تلخيص المستدرك للذهبي وقد ورد فيه : (الحبشي).

(٢٩) راجع فصل : مع معاوية ، من كتابنا (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة)

٣٤٣

مات عبد الرحمن ليفسح الطريق لبيعة يزيد ، كما توفّي قبله الإمام الحسن بسمّ دسّه إليه معاوية. اغتيل عبد الرحمن في هذا السبيل ، كما اغتيل سعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ولم يخف ذلك على أمّ المؤمنين عائشة ، فأقامت على بني أميّة عامّة حربا شعواء من الدعاية القويّة ضدّهم بدأتها بنشر ما سمعته من النبيّ (ص) في شأن مروان وأبيه الحكم ، وقابلت سياسة معاوية خاصّة والّتي كانت ترمي إلى طمس فضائل بني هاشم عامّة وبيت الإمام خاصّة ، لمقام الحسنين عند المسلمين ، وهو يريد أن يورث الخلافة في عقبه وبلغ الأمر به أن أمر بلعن الإمام عليّ (ع) على منابر المسلمين ، عندئذ قابلت أمّ المؤمنين عائشة هذه السّياسة مقابلة قويّة وأخذت تنشر في هذا الدور فضائل الإمام عليّ وشبليه الحسن والحسين سبطي رسول الله (ص) وزوجته فاطمة ابنة رسول الله (ص) ومن ثمّ روي عنها في فضائلهم بعض ما كانت سمعته من رسول الله (ص) وما شاهدته ، ومن جملته الحديثان الآنفان المتعارضان مع أحاديثها الأخرى في وفاة الرسول (ص).

* * *

كان موقف أمّ المؤمنين عائشة من حديث الوصيّة جزءا من عمل الخلافة القرشية مع أحاديث الرسول (ص) في شأن أهل بيته تبعا لسياسة عامّة قريش : (ألّا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم) كما يأتي ذكرها في البحث الآتي بإذنه تعالى.

٣٤٤

كتمان فضائل الإمام عليّ ونشر سبّه ولعنه والسبب فيهما

نبدأ في ما يأتي بذكر السبب في ذينك ثم نوالي إيراد أخبار كتمان فضائل الإمام علي ونشر سبّه ولعنه.

كرهت قريش أن تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم

روى الطبري محاورتين جرتا بين الخليفة عمرو ابن عباس وقال : قال الخليفة في إحداهما لابن عباس :

ما منع قومكم منكم؟ ـ أي ما منع قومكم قريشا من ولايتكم ـ

قال ابن عباس : لا أدري!

قال عمر : لكنّي أدري ، يكرهون ولايتكم لهم!

قال ابن عباس : لم ونحن لهم كالخير!؟

قال : غفرا ؛ يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة فيكون بجحا. بجحا لعلّكم تقولون إن أبا بكر فعل ذلك ، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره. الحديث.

وفي الثانية قال :

يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟

٣٤٥

فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ؛ فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت.

فقال : تكلم يا ابن عباس.

فقلت : أما قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت ؛ فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزوجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة ؛ فإن الله عزوجل وصف قوما بالكراهية فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

فقال عمر : هيهات والله يا ابن عباس ؛ قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك مني.

فقلت : وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر : بلغني أنك تقول : إنما صرفوها عنا حسدا وظلما.

فقلت : أما قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ ظلما فقد تبين للجاهل والحليم ، وأما قولك حسدا ؛ فان إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.

فقال عمر : هيهات! أبت والله قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشا ما يزول.

فقلت : مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بالحسد والغش ؛ فإن قلب رسول الله صلى الله عليه

٣٤٦

وسلم من قلوب بني هاشم.

فقال عمر : إليك عني يا ابن عباس.

فقلت : أفعل.

فلما ذهبت أقوم استحيا مني فقال :

يا ابن عباس مكانك! فو الله إني لراع لحقّك ، محبّ لما سرك.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن لي عليك حقّا وعلى كل مسلم ؛ فمن حفظه فحظه أصاب ، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثم قام فمضى (١).

وقفة تأمّل لدراسة الحديثين

في الحديثين صرح الخليفة عمر بأنّ قريشا كرهوا أن يجتمع في بني هاشم النبوّة والخلافة فيتبجّح بنو هاشم على قريش بجحا أي يتباهوا بذلك على قريش مباهاة.

وقال في الثاني : (فاختارت قريش لأنفسها فاصابت ووفّقت). إذا فقد بحثت قريش في أمر الولاية عن مصلحة أنفسهم ـ في ظاهر الأمر الدنيوي ـ وليس مصلحة سائر المسلمين. وأي فرق للمسلمين أيّ قبيلة من قريش وليت الحكم بعد رسول الله (ص).

وفي تصويبه عمل قريش لم يستدل بغير قوله (اختارت قريش لأنفسها) ولم يذكر أي دليل آخر من كتاب الله أو سنّة رسوله (ص).

ويستفاد من جواب ابن عباس (فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث

__________________

(١) في ذكر سيرة عمر من حوادث سنة ٢٣ ه‍ من تاريخ الطبري ط مصر الأولى ، ١ / ٣٠ ـ ٣٢ ، وطبعة اوروبا ، ١ / ٢٧٦٨ ـ ٢٧٧٢ ، والثانية منهما ـ أيضا ـ في تاريخ ابن الأثير ، ٣ / ٢٤ ـ ٢٥ ، واللفظ للطبري.

٣٤٧

اختار الله عزوجل لها لكان الصواب بيدها) أمران :

أوّلا ـ إن اختيار قريش كان في غير ما اختاره الله ، ويقصد حيث اختار الله الإمام عليّا (ع). كما سنورد الآيات والأحاديث في هذا الصدد بعيد هذا إن شاء الله تعالى.

ثانيا ـ إنه ليس لقريش أن تختار غير ما اختاره الله. ويشير بقوله هذا إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦). وشدد النكير على كراهية قريش أن تجتمع النبوة والخلافة في بني هاشم وقال : إن الله عزوجل وصف قوما بالكراهية فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (محمد / ٩). وقد فصّلنا القول في مدلول حبط الأعمال في بحث «جزاء الأعمال» من كتاب «عقائد الإسلام» فليراجع.

وفي جواب الخليفة لابن عباس لم يجد ردّا لدعوى ابن عباس أن قريشا اختاروا غير ما اختار الله وغير ما أنزل الله ؛ بل جابهه بنقل ما بلغه أن ابن عباس قال : (إنّما صرفوها عنا حسدا وظلما) ولم ينكر ذلك ابن عباس ، بل أبان حجّته في هذا القول وقال :

(أمّا قولك : ظلما ؛ فقد تبين للجاهل والحليم).

يعني ابن عباس من قوله هذا أنّ قوله : بأنّ بني هاشم ظلموا في تنحية الإمام علي عن الحكم ليس يخص ابن عبّاس وحده ليكون هو الذي كشف بقوله ذلك عن تلك الحقيقة ، بل إن ذلك قد تبين لجميع الناس ؛ العاقل الحصيف منهم ، والجاهل الخسيس

وأجاب عن قوله (حسدا) وقال : (إن إبليس حسد آدم ونحن ولده

٣٤٨

المحسودون).

ولعلّ ابن عباس يشير في كلامه هذا إلى قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٣ ـ ٣٤) أي إنّ بني هاشم من ذريّة من حسده إبليس لأنّ الله اصطفاهم ، وللذرية أسوة في ذلك بآبائهم.

وأخيرا جاش صدر الخليفة بالغيظ ولم يتحمل أقوال ابن عباس وقال له : (هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشا ما يزول).

فأجابه ابن عباس وقال : (مهلا يا أمير المؤمنين! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغشّ ؛ فإنّ قلب رسول الله (ص) من قلوب بني هاشم).

ونترك شرح كلمة الخليفة لما فيها من قسوة. أمّا كلمة ابن عباس فقد أشار فيها إلى قوله تعالى في سورة الأحزاب : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) ولمّا لم يستطع الخليفة أن يرد على ابن عباس قوله أمره بالابتعاد عنه وقال له: (إليك عني يا ابن عباس!) أي ابتعد عنّي ، ولمّا أطاع ابن عباس أمر الخليفة وأراد أن يقوم ؛ لان عليه الخليفة وختم الأمر بينهما بالحسنى ، واستمرت الخلافة القرشية كسائر قريش في كرهها لاستيلاء بني هاشم على الحكم. كما يظهر ذلك من المحاورة التي دارت بين الخليفة وابن عباس بعد موت عامل حمص حيث خاطب الخليفة ابن عباس بقوله :

يا ابن عباس! إن عامل حمص هلك ، وكان من أهل الخير ـ وأهل الخير قليل ـ وقد رجوت أن تكون منهم ، وفي نفسي منك شيء لم أره منك ،

٣٤٩

وأعياني ذلك ، فما رأيك في العمل؟

قال : لن أعمل حتّى تخبرني بالّذي في نفسك.

قال : وما تريد إلى ذلك؟

قال : أريده ، فإن كان شيء أخاف منه على نفسي ، خشيت منه عليها الّذي خشيت ، وإن كنت بريئا من مثله علمت أنّي لست من أهله ، فقبلت عملك هنالك ، فإنّي قلّما رأيتك طلبت شيئا إلّا عاجلته.

فقال : يا ابن عباس! ، إنّي خشيت أن يأتي عليّ الّذي هو آت وأنت في عملك فتقول : هلمّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم ... الحديث (٢).

يظهر أنّ هذه المحاورة جرت بينهما في اخريات حياة عمر. وجرى في آخر شهر من حياة الخليفة عمر ما رواه في هذا الصدد البخاري بسنده وقال :

عن ابن عباس أنّه قال : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجّة حجّها إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم ، فقال : يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ؛ فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة فتمت. فغضب عمر ثم قال : إنّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم امورهم. قال عبد الرحمن فقلت : يا أمير المؤمنين! لا تفعل فإنّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير ، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم

__________________

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٣٢١ ـ ٣٢٢.

٣٥٠

المدينة فإنها دار الهجرة والسنة ، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا ، فيعي أهل العلم مقالتك ، ويضعونها على مواضعها.

فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر ابن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف. فأنكر عليّ وقال : ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال :

أما بعد! فإني قائل لكم مقالة قد قدّر لي أن أقولها ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليّ ـ إلى قوله ـ ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترنّ امرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا. ـ إلى قوله في آخر الخطبة أيضا ـ فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا (٣).

ياترى! من هو فلان المعزوم على بيعته؟ ومن هو فلان الذي أهاج بقوله

__________________

(٣) صحيح البخاري ٤ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، باب رجم الحبلى من الزنا من كتاب الحدود. وقد أوردنا مورد الحاجة من الخطبة ص ١٥١ قبل هذا. و (ويضعونها) كذا وردت في الأصل والصواب : يضعوها.

٣٥١

غضب الخليفة فخطب وقال في خطبته ما قال؟ إنّ ابن أبي الحديد الشافعي قد كشف في بعض ما رواه عن اسميهما وقال :

(إنّ الرجل الّذي قال : لو قد مات عمر لبايعت فلانا ؛ عمّار بن ياسر قال : لو قد مات عمر لبايعت عليّا. فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به) (٤)

دراسة مفهوم الخطبة :

يفهم من كلام الخليفة أنه خشي أن يفلت زمام الأمر بعد وفاته من يد قريش ويبادر غيرهم من المسلمين ـ صحابة وتابعين ـ إلى بيعة من يكرهون ولايته ، وهو الإمام علي ، ولذلك ابتكر طريقة سدّ بها الطريق على أولئك وقال : (من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا). قال ذلك في حين أنه بنفسه ولي أمر المسلمين دون مشورة المسلمين ، واستند في شرعية حكمه إلى تعيين الخليفة أبي بكر له ، ومهما يكن من أمر فقد أمسك ـ بطرحه ذلك ـ بزمام الأمر بقوة بيده ، ثم طرح بعد ذلك بقليل ، وعند ما طعن ، وأمر بأن يجتمع ستة من قريش ليختاروا واحدا منهم للخلافة ، وجعل أمر ترشيح الخليفة بيد عبد الرحمن بن عوف ، وشرط هذا ـ للبيعة ـ عمل الخليفة بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، فقبل عثمان الشرط ورفضه الإمام علي (ع) ، وكانوا يعلمون أنّ الإمام عليا لا يقبل أن يجعل سيرة أبي بكر وعمر في عداد كتاب الله وسنة رسوله. وإذا رجعنا إلى ص ١٨٣ من هذا الكتاب نجد الخليفة عمر ينبئ سعيد بن العاص الأمويّ أنّ

__________________

(٤) في شرح الخطبة (٢٦) من شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة.

٣٥٢

الّذي يلي الأمر من بعده هو ذو رحم سعيد ، وقد ولي بعد الخليفة عمر ذو رحم سعيد (عثمان بن عفان الأمويّ) ، ولعلّنا نجد السبب ـ أيضا ـ في ص ١٧٢ منه أنّ أبا بكر دعا عثمان خاليا فقال : (اكتب ... هذا ما عهد أبو بكر إلى المسلمين ، أمّا بعد) فاغمي عليه فذهب عنه ، (فكتب عثمان : أمّا بعد! فإنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطاب) ولمّا أفاق أمضى ما كتبه عثمان من توليته عمر لأنّه كان قد وافق قصده.

وعن أمر من يلي بعد عثمان روى اليعقوبي وقال :

إن عثمان اعتلّ علّة اشتدّت به ، فدعا حمران بن أبان ، وكتب عهدا لمن بعده ، وترك موضع الاسم ، ثمّ كتب بيده : عبد الرحمن بن عوف ، وربطه وبعث به إلى أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره ، فقال عبد الرحمن ، وغضب غضبا شديدا : أستعمله علانية ، ويستعملني سرّا! ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة. وغضب بنو أميّة ، فدعا عثمان بحمران مولاه ، فضربه مائة سوط ، وسيّره إلى البصرة. فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف.

ووجه إليه عبد الرحمن بن عوف بابنه ، فقال له قل له : والله لقد بايعتك ، وإن فيّ ثلاث خصال أفضلك بهن ... الخبر (٥).

ويظهر أنّه كان قد بتّ في أن يلي الحكم بعد عثمان عبد الرحمن بن عوف غير أنّ عبد الرحمن توفي قبل عثمان سنة ٣١ أو ٣٢ ه‍ بعد أن اشتد الخصام بينهما (٦) ، وكذلك وقع الخلاف بين بني أميّة «الأسرة الحاكمة من قريش»

__________________

(٥) تاريخ اليعقوبي ، ٢ / ١٦٩.

(٦) راجع الاوائل لأبي هلال العسكري ط. بيروت ١٤٠٧ ، ص ١٢٩ ، وشرح النهج لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ١ / ١٦٩.

٣٥٣

وسائر أفخاذ قريش ، وقادت أم المؤمنين عائشة أسرتها من تيم والمخالفين حتّى سقط الخليفة عثمان قتيلا في داره في المدينة وبمحضر من المهاجرين والأنصار (٧).

عند ذلك ملك المسلمون أمرهم وانحلّوا من كلّ بيعة سابقة توثقهم فتهافتوا على الإمام علي (ع) يبايعونه وفي مقدمتهم أصحاب رسول الله (ص) ، ولما ولي الإمام عليّ (ع) الحكم ألغى جميع امتيازات قريش التي منحوها على عهد الخلفاء قبله ، وساوى بين سروات قريش وسائر المسلمين ـ العرب منهم والموالي ـ في تقسيم بيت المال والمنزلة الاجتماعية ، فلملمت قريش أطرافها بعد أربعة أشهر من حكمه ، وأقامت عليه حرب الجمل التي اجتمع فيها مروان (المطالب بدم عثمان) وطلحة والزبير (اللذان حرّضا على قتل عثمان) بقيادة أمّ المؤمنين عائشة التي أفتت بقتل عثمان ثم أقامت قريش عليه حرب صفين. أقامت الحربين عليه باسم الطلب بدم عثمان ، وبذلك شوشت قريش على المسلمين في خارج المدينة الرؤية الصحيحة. وبعد تحكيم الحكمين بصفين خرجت على الإمام علي الخوارج بنهروان. ولهذا كلّه تكرر شكوى الإمام من ظلم قريش مثل قوله في كتابه لأخيه عقيل :

«فدع عنك قريشا وتركاضهم في الضّلال ، وتجوالهم في الشّقاق ، وجماحهم في التّيه ؛ فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلي ؛ فجزت قريشا عني الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ... الكتاب» (٨).

__________________

(٧) راجع كتابنا : (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) ط. بيروت عام ١٤٠٨ ص ٨٧ ـ ١٦٢ فصل في عهد الصهرين.

(٨) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ـ الرسائل ، الكتاب رقم ٣٦. والأغاني ط. ساسي ١٥ / ٤٤.

٣٥٤

وأخبر عن مشاجرة وقعت بينه وبين أحدهم وقال :

وقد قال قائل : إنّك على هذا الأمر لحريص.

فقلت : بل أنتم والله لأحرص وأبعد ، وأنا أخصّ وأقرب! وإنّما طلبت حقّا لي وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه فلمّا قرعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ كأنّه [بهت] لا يدري ما يجيبني به!

اللهمّ إنّي أستعينك على قريش ومن أعانهم ؛ فإنهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ؛ ثمّ قالوا : ألا إنّ [في] الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تتركه (٩).

وقال في خطبة اخرى :

«اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم فإنّهم قطعوا رحمي

__________________

والتركاض : مبالغة في الركض ، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال ، وكذلك التجوال من الجول والجولان ، والشقاق : الخلاف ، وجماحهم : استعصاؤهم على سابق الحقّ ، والتيه : الضلال والغواية.

الجوازي : جمع جازية بمعنى المكافأة ، دعاء عليهم بالجزاء على أعمالهم.

(٩) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، الخطبة : ١٦٧. وطبعة بيروت للدكتور صبحي الصالح ، الخطبة : ١٧٢.

وضرب الوجه : كناية عن الرد والمنع ، و «قرعته بالحجّة» : من «قرعه بالعصا» ضربه بها ، وهبّ : من هبب التيس ـ أي : صياحه ـ أي : كان يتكلم بالمهمل مع سرعة حمل عليها الغضب كأنّه مخبول لا يدري ما يقول.

وأستعينك : أستنصرك وأطلب منك المعونة ، ويروى في مكانه «أستعديك» أي : أطلب منك أن تعديني عليهم وأن تنتصف لي منهم.

و «ثم قالوا ـ الخ» أي : إنهم اعترفوا بفضله ، وأنه أجدرهم بالقيام به ففي الحقّ أن يأخذه ، ثم لما اختار المقدم في الشورى غيره عقدوا له الأمر ، وقالوا للإمام : في الحقّ أن تتركه ، فتناقض حكمهم بالحقية في القضيتين ، ولا يكون الحقّ في الأخذ إلّا لمن توافرت فيه شروطه.

و «حرمة رسول الله» كناية عن زوجته ، وأراد بها أمّ المؤمنين عائشة.

٣٥٥

وأكفئوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقّا كنت أولى به من غيري ، وقالوا ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه وفي الحقّ أن تمنعه ، فاصبر مغموما أو مت متأسّفا. فنظرت فإذا ليس لي رافد ، ولا ذاب ، ولا مساعد إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن المنيّة فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشّجى ، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم ، وآلم للقلب من حزّ الشّفار» (١٠).

وأخيرا استشهد الإمام (ع) بيد أحد الخوارج في محراب مسجد الكوفة وبعد استشهاد الإمام علي (ع) استولى معاوية على الحكم في سنة أربعين للهجرة وسمّوا هذا العام بعام الجماعة وهو في الحقيقة عام الجماعة لقريش ، واستمرّ حكم معاوية عشرين عاما ، وتوفي في سنة ستين للهجرة.

* * *

كان ذلكم بعض آثار كراهية قريش لحكم الإمام علي (ع) ، ومن آثار تلك الكراهية منعهم نشر حديث الرسول (ص) كما سنذكرها في ما يأتي بإذنه تعالى.

منع كتابة حديث الرسول (ص)

روى عبد الله بن عمرو بن العاص وقال :

__________________

(١٠) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، الخطبة : ٢١٢.

وقد ورد القسم الأوّل منها في كتاب الغارات للثقفي ، ص ٣٩٢.

وأستعديك : أستعينك. وأكفأ الإناء أي قلبه ، كناية عن تضييعهم حقّه.

والرافد : المعين ، والذاب : المدافع ، و «ضننت» اي : بخلت ، والقذى : ما يقع في العين ، والشجى: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه ، يريد غصة الحزن.

والشفار : جمع شفرة ، وهي حدّ السيف وغيره.

٣٥٦

«كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله (ص) فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله (ص) ورسول الله (ص) بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله (ص) فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : اكتب! فو الذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حقّ» (١١).

صرّحت قريش بسبب نهيها عن كتابة حديث الرسول (ص) وهو أن يكون حديثه في حال غضبه على أحد أو حال رضاه من أحد.

ففي الأولى يبقى حديث الرسول (ص) منقصة له ، ونحن نعلم كم تحدّث الرسول (ص) عن عتاة قريش وشرح الآيات التي نزلت تقريعا لهم!

وفي الثانية يبقى حديث الرسول (ص) نصّا في حقّ أحد لا يرضون أن ينشر نصّ له.

ولهذا السبب نفسه منعوا كتابة وصية الرسول (ص) في مرض وفاته عند ما قال :

«هلمّ أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده».

فقال عمر : إنّ النبي غلبه الوجع ، وعندكم كتاب الله ، فحسبنا كتاب الله.

وقالوا : «ما شأنه! أهجر؟» (١٢).

كان هذا المنع وذلك النهي بسبب خشية أن ينشر نصّ عن الرسول (ص) في حقّ من يكرهون ولايته فتجتمع الخلافة والنبوة في بيتهم!

وبسبب تلكم الكراهية ـ أيضا ـ منع الخليفة عمر في عهد خلافته من

__________________

(١١) راجع مصادره في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤١.

(١٢) راجع ص ٤١ من المجلد الثاني من هذا الكتاب المتن والهامش.

٣٥٧

كتابة حديث الرسول (ص) ، وأحرق ما كتبه الصحابة من حديث الرسول (ص) ، وبقي المنع نافذا حتى عصر الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز وجرت أمور أخرى ذكرناها في فصل : (منع كتابة الحديث على عهد الخلفاء) من المجلد الثاني من هذا الكتاب ، وجرى بعد عهد الخلفاء الأربعة ما سنذكره على التوالي في ما يأتي إن شاء الله تعالى :

سياسة الخلافة القرشية وسائر بني أمية

أ ـ على عهد معاوية :

ذكر الجاحظ بإيجاز سياسة الخلافة القرشية على عهد معاوية كما رواه ابن أبي الحديد وقال :

قال أبو عثمان الجاحظ : إنّ معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ عليّعليه‌السلام والبراءة منه.

وخطب بذلك على منابر الإسلام ، وصار ذلك سنة في أيام بني أميّة إلى أن قام عمر بن عبد العزيز (رض) فأزاله.

وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أنّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة : اللهم إنّ أبا تراب ألحد في دينك ، وصدّ عن سبيلك ؛ فالعنه لعنا وبيلا ، وعذبه عذابا أليما. وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز (١٣).

__________________

(١٣) شرح الخطبة السابعة والخمسين من خطب نهج البلاغة في شرح ابن أبي الحديد ط. مصر سنة ١٣٧٨ ه‍ (١ / ٥٦) وهو مصدر ما نرويه عن شرح ابن أبي الحديد في ما يأتي.

وأبو عثمان الجاحظ هو عمرو بن بحر الليثي البصري اللغوي النحوي كان مائلا إلى النصب ومن كتبه (العثمانية) التي نقض عليه أبو جعفر الإسكافي والشيخ المفيد (ت ٢٥٥ ه‍) في البصرة.

٣٥٨

روى الطبري (١٤) وقال : استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلما أمّره عليها دعاه ، وقال له : قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادا على بصرك ، ولست تاركا إيصاءك بخصلة ، لا تترك شتم عليّ وذمّه ، والترحّم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب عليّ ، والإقصاء لهم ، والإطراء لشيعة عثمان ، والإدناء لهم. فقال له المغيرة : قد جرّبت وجرّبت وعملت قبلك لغيرك ، فلم يذممني ، وستبلو فتحمد أو تذمّ ، فقال : بل نحمد إن شاء الله.

وروى ابن أبي الحديد عن المدائني في كتاب الأحداث وقال :

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمّة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب ، وأهل بيته ، .... وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة (١٥).

وقال : كتب معاوية (١٦) إلى عمّاله في جميع الآفاق : ألّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه ، وأهل ولايته ، والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم ، وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه ، واسم أبيه ، وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفضيه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ،

__________________

(١٤) في حوادث سنة إحدى وخمسين من الطبري ٦ ، ١٠٨ وابن الأثير ٣ ، ٢٠٢

(١٥) شرح الخطبة (٥٧) من نهج البلاغة لابن أبي الحديد ط. مصر الأولى ، ٣ / ١٥ ـ ١٦. ومنه ننقل كلما ننقل من شرح ابن أبي الحديد.

(١٦) قد نقل كتاب معاوية هذا أيضا أحمد أمين في فجر الإسلام ٢٧٥.

٣٥٩

فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه ، وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حينا ، ثم كتب إلى عماله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصحابة فإنّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ إلى عيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان ، وفضله ، فقرئت كتبه على الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجرى الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتى رووه ، وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك إلى ما شاء الله ... ، فظهرت أحاديث كثيرة موضوعة ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ...) الحديث (١٧).

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه ، وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ، في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال : «إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أمية تقرّبا إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم» (١٨).

__________________

(١٧) في شرح «من كلام له ، وقد سأله سائل عن أحاديث البدعة» من شرح النهج ٣ / ١٥ ـ ١٦ ، أورد ابن أبي الحديد الروايتين المرويتين عن (المدائني). وهو ابو الحسن علي بن محمد بن عبد الله (ت ٣١٥ ه‍) ذكر له النديم في الأحداث ٢٥ كتابا (الفهرست ص ١١٥)

(١٨) المصدر السابق ؛ وص ٢١٣ من فجر الإسلام.

٣٦٠