معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

وقال مالك الأشتر :

كل شيء سوى الإمام صغير

وهلاك الإمام خطب كبير

قد أصبنا وقد أصيب لنا اليو

م رجال بزل حماة صقور

واحد منهم بألف كبير

إنّ ذا من ثوابه لكثير

إنّ ذا الجمع لا يزال بخير

فيه نعمى ونعمة وسرور

من رأى غرّة الوصيّ عليّ

إنّه في دجى الحنادس نور

إنّه والّذي يحجّ له النّا

س سراج لدى الظّلام منير

من رضاه إمامه دخل الجنّ

ة عفوا وذنبه مغفور

بعد أن يقضي الّذي أمر اللّ

ه به ليس في الهدى تخبير(٤٩)

ونقل المسعودي في مروج الذهب :

أ ـ في ذكر من رثى الإمام عليّا بعد استشهاده :

وفي ذلك يقول آخر من شيعة علي رضي الله عنه :

تأسّ فكم لك من سلوة

تفرج عنك غليل الحزن

بموت النّبيّ وقتل الوصيّ

وقتل الحسين وسمّ الحسن

ب ـ في ذكر قتل حجر بن عدي :

__________________

(٤٩) قال ابن اعثم في الفتوح (٣ / ٢٢٦) والخوارزمي في المناقب ص ١٧٠ ما موجزه : إن الأشتر وسائر أصحاب الإمام علي (ع) افتقدوه يوما بصفين فبحثوا عنه ووجدوه تحت رايات ربيعة فرأى الإمام الأشتر متغيرا عن حاله باكيا فقال له : ما خبرك يا مالك أفقدت ابنك أم أصابك غير ذلك؟ فجعل الأشتر ينشد ويقول ... الأبيات.

حماة : جمع حام وهو المدافع الّذي لا يقرب أو الأسد لحمايته.

الدّجى : جمع دجية وهي الظلمة.

الحنادس : جمع حندس ، ليل حندس أي مظلم ، والحنادس ثلاث ليال من الشّهر لظلمتهنّ.

٣٢١

وإنّ قاتل حجر بن عدي قال له ساعة قتله :

إنّ أمير المؤمنين قد أمرني بقتلك ، يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب ، وقتل أصحابك ، إلّا أن ترجعوا عن كفركم وتلعنوا صاحبكم وتتبرّءوا منه ، فقال حجر وجماعة ممن كان معه : إنّ الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا ممّا تدعونا إليه ، ثمّ القدوم على الله وعلى نبيّه وعلى وصيّه أحبّ إلينا من دخول النّار (٥٠).

وقال علي بن محمد بن جعفر العلوي فيمن انتمى إلى سامة بن لؤي بن غالب :

وسامة منّا فأمّا بنوه

فأمرهم عندنا مظلم

أناس أتونا بأنسابهم

خرافة مضطجع يحلم

وقلنا لهم مثل قول الوص

يّ وكلّ أقاويله محكم

إذا ما سئلت فلم تدر ما

تقول فقل : ربّنا أعلم(٥١)

الوصية في شعر المأمون

قد دفعت سياسة التقرّب إلى العلويّين الخليفة العبّاسيّ المأمون ، أن ينتخب الإمام عليّا الرضا وليّا للعهد ويذكر الوصيّة في شعره ؛ فقد قال :

ألام على حبّي الوصيّ أبا الحسن

وذلك عندي من أعاجيب ذا الزمن(٥٢)

__________________

(٥٠) مروج الذهب أ : في ٢ / ٤٢٨ ، وب : ٣ / ٤.

(٥١) المسعودي في ذكر خبر ولد سامة أواخر ترجمة الإمام عليّ ٢ / ٤٠٨. وولد سامة الّذين تكلّموا في انتسابهم إليه هم بنو ناجية.

أمّا علي بن محمد بن جعفر العلوي ، فإنّ جعفرا هذا هو الإمام جعفر الصادق بن الباقر وعليّ ابنه. نسبه في الأنساب لابن حزم ص ٦١

(٥٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ٢٢.

٣٢٢

وقال أيضا :

ومن غاو يغصّ عليّ غيظا

إذا أدنيت أولاد الوصيّ(٥٣)

اشتهار لقب الوصيّ للإمام عليّ (ع) مدى القرون

وروى المبرد في الكامل وقال : قال الكميت :

والوصيّ الّذي أمال التجو

بي به عرش أمة لانهدام

قال المبرد : قوله : الوصيّ ، فهذا شيء كانوا يقولونه ويكثرون (٥٤).

إذا فالإمام عليّ كان مشهورا بأنّه وصيّ الرسول (ص) حتّى أصبح الوصيّ لقبا له كما كان مشهورا بكنيته أبي تراب.

واستشهد المبرد على قوله بأنّ الامام عليّا كان مشهورا بلقب الوصيّ بما ورد في شعر أبي الأسود الدؤلي قوله : (الوصي) مع اسم حمزة والعبّاس ، بلا تعريف لأحدهم حيث قال:

__________________

(٥٣) المحاسن والمساوئ للبيهقي ١ / ١٠٥.

(٥٤) التجوبي هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي التدؤلي ، قاتل الإمام عليّ (ع). وقيل له التجيبي والتجوبي نسبة إلى المحلة الّتي كان يسكنها بمصر قبل هجرته إلى الكوفة. راجع الهامش رقم ٣١ من هذا الفصل.

الكامل للمبرد ، ط. مكتبة المعارف ، بيروت ٢ / ١٥١.

والمبرد هو : أبو العباس ، محمد بن يزيد الأزدي الثمالي البصري. قال الخطيب البغدادي بترجمته : شيخ أهل النحو وحافظ علوم العربية ، من تأليفه : الكامل في اللغة. توفّي ببغداد سنة ٢٨٥ ه‍ ، ترجمته بتاريخ بغداد ٣ / ٣٨٠ ، وكشف الظنون ، مادة : (الكامل).

والكميت : أبو المستهل ابن زيد الأسدي ، من أهل الكوفة. كان عالما بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها ، ثقة في علمه. ترجم شعره الهاشميات إلى الألمانية ، (ت : ١٢٦ ه‍). الأعلام للزركلي ٦ / ٩٢.

٣٢٣

أحبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة والوصيّا(٥٥)

وقول الحميريّ :

إنّي أدين بما دان الوصيّ به

يوم النخيلة من قتل المحلينا(٥٦)

وقوله أيضا :

والله منّ عليهم بمحمّد

وهداهم وكسا الجنوب وأطعما

ثمّ انبروا لوصيّه ووليّه

بالمنكرات فجرعوه العلقما(٥٧)

وقال إمام الشافعية ، محمد بن إدريس (ت ٢٠٤ ه‍) :

إن كان حبّ الوصيّ رفضا

فإنّني أرفض العباد(٥٨)

وقال ابن دريد :

أهوى النبيّ محمّدا ووصيّه

وابنيه وابنته البتول الطاهرة(٥٩)

__________________

(٥٥) الكامل للمبرد ٢ / ١٥٢. وأورده أبو الفرج بترجمة الحميري في الأغاني ، ط. ساسي ، ٧ / ١٠.

وأبو الأسود : ظالم بن عمرو الدؤلي ، من الفقهاء والأعيان والشعراء ، واضع علم النحو ، رسم له علي بن أبي طالب شيئا من أصول النحو فكتب فيه أبو الأسود ، وأخذ عنه جماعة ، وهو أول من نقط المصحف ، شهد مع عليّ (ع) صفّين ، توفّي بالبصرة سنة ٦٩ ه‍. الأعلام للزركلي ٣ / ٣٤. وراجع العقد الفريد ط. مصر عام ١٣٧٢ ، ٣ / ٢١١.

(٥٦) الكامل للمبرد ٢ / ١٧٥ ، وأورد البيت وتفصيل سبب إنشاد السيد الحميري الشعر ، في الأغاني ، ط. ساسي ٧ / ٢١ يوم الخريبة.

والسيد الحميري ، إسماعيل بن محمد ، كان واحدا من ثلاثة ، أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ، كان مقدما عند الخليفتين المنصور والمهدي العبّاسيّين ، توفي سنة ١٧٣ ه‍. الأعلام للزركلي ١ / ٣٢٠.

(٥٧) في ترجمة السيد الحميري ، من الأغاني ٩ / ٦ يوم الخريبة.

(٥٨) ديوان الشافعي ص ٣٥ ، ط. بيروت ، ١٤٠٣ ه‍.

(٥٩) بترجمة ابن دريد في الكنى والألقاب ١ / ٢٧٤.

٣٢٤

وفي ديوان المتنبي :

وقيل للمتنبي : ما لك لم تمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض)؟ فقال :

وتركت مدحي للوصيّ تعمّدا

إذ كان نورا مستطيلا شاملا

وإذا استقل الشيء قام بذاته

وكذا ضياء الشمس يذهب باطلا(٦٠)

والبيت الثاني جرى مجرى الأمثال بهذا اللفظ :

وإذا استطال الشيء قام بنفسه

وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا(٦١)

وقال يمدح أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي كما في ديوانه أيضا :

هو ابن رسول الله وابن وصيّه

وشبههما شبهت بعد التجارب(٦٢)

وقال شيخ الإسلام الحمويني الجويني (ت : ٧٢٢ ه‍) :

أخو أحمد المختار صفوة هاشم

أبو السادة الغرّ الميامين مؤتمن

وصيّ إمام المرسلين محمّد

علي أمير المؤمنين أبو الحسن

 ـ الأبيات (٦٣). وقال أيضا :

أخي خاتم الرسل الكرام محمّد

رسول إله العالمين مطهر

__________________

وابن دريد : أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي البصري شاعر نحوي ، لغوي ومن مؤلفاته :

الجمهرة (ت : ٣٢١ ه‍).

(٦٠) ديوان أبي الطيب المتنبي (ت : ٤٦٨ ه‍) تحقيق فريدرخ ، ص : ٨٥٦ ، ط. برلين ، سنة ١٨٦١ م.

(٦١) ورد بهذا اللّفظ في ترجمة أبي نواس في الكنى والألقاب ١ / ١٦٢.

(٦٢) ديوان المتنبّي ص ٣٣٣.

(٦٣) في مقدّمة كتابه فرائد السّمطين ، الورقة : ٢ ب ، مخطوطة مصورة المكتبة المركزية بجامعة طهران برقم ١٦٩٠ / ١١٦٤. جمع في البيت الثاني بين ذكر الاسم (علي) وذكر الصفة (وصيّ).

٣٢٥

عليّ وصيّ المصطفى ووزيره

أبي السادة الغرّ البهاليل حيدر(٦٤)

وقال السيّد محمد حبيب العبيدي (ت ١٣٨٣ ه‍) مفتي الموصل ، أيّام ثورة العراقيين عام ١٩٢٠ ميلاديّة ، عند احتلال بريطانيا للعراق وفي دحض ادعاء بريطانيا أنّ لها حقّ الوصاية على العراق والعراقيين. في صرخته الأولى ، كما سمّاها في ديوانه :

أيّها الغرب جئت شيئا فريّا

ما علمنا غير الوصي وصيّا

* * *

قسما بالقرآن والإنجيل

ليس نرضى وصاية لقبيل

أو تسيل الدماء مثل السيول

أفبعد الوصي زوج البتول

نحن نرضى بالإنكليز وصيّا؟

دون ملك العراق بين الطلول

لأبي عبد الله نجل البتول

قد أريقت دماء خير قتيل

أفبعد الحسين سبط الرسول

نحن نرضى بالإنكليز وصيّا؟

قد ظلمنا العراق يا ساكنيه

إنّ دمع النساء لا يجديه

حين تبكي السبطين أو تبكيه

أفمن بعد المجتبى وأخيه

نحن نرضى بالإنكليز وصيّا؟

يا محيّي آل النبیّ الكرام

أيكون العراق ملك اللئام

وهو ميراث آل خير الأنام

أفبعد الائمة الأعلام

نحن نرضى بالإنكليز وصيّا؟

* * *

__________________

(٦٤) في أوّل السمط الأول من كتابه فرائد السّمطين ، الورقة : ٧ ب.

٣٢٦

وقال في صرخته الثانية :

اشهدوا يا أهل الثرى والثريا

قد أبت شيعة الوصيّ وصيّا

* * *

قد نكثنا عهد النبيّ لدينا

واحتملنا إثما وعارا وشينا

إن قبلنا وصاية وغوينا

أفلا يسخط الوصيّ علينا

إن رضينا بالإنكليز وصيّا؟

ما عسى أن نقول يوم الجزاء

لنبيّ الهدى أبي الزهراء

والشهيد المقيم في كربلاء

وإمام الهدى بسامراء

إن رضينا بالإنكليز وصيّا؟

وقال أيضا في قصيدة ثانية :

لست منّا ولم نكن منك شيّا

فلما ذا تكون فينا وصيّا

لم تكن يا ابن لندن علويّا

هاشميّا ولم تكن قرشيّا

لا ولا مسلما ولا عربيّا

من بني قومنا ولا شرقيا

فلما ذا تكون فينا وصيّا؟

إلى قوله :

لا تقل جعفريّة حنفيّة

لا تقل شافعيّة زيديّة

جمعتنا الشريعة الأحمديّة

وهي تأبى الوصاية الغربيّة

فلما ذا تكون فينا وصيّا؟

قد سئمنا سياسة التفريق

وأهتدينا إلى سواء الطريق

يا عدواً لنا بثوب صديق

أنت بين الوصيّ والصديق

٣٢٧

لست إلاّ مزوراً اجنبيا

فلماذا تكون فينا وصيلا (٦٥)

* * *

كلّ ما ذكرناه في شأن الوصيّ والوصية كان مشهورا لدى أتباع مدرسة الخلفاء منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع عشر فقد قال الضبّي من عسكر عائشة يوم الجمل :

نحن بنو ضبّة أعداء عليّ

ذاك الّذي يعرف قدما بالوصيّ

كانوا يلقّبون الإمام عليّا بالوصيّ ويلقّبونه مع الأحد عشر من بنيه بالأوصياء كما قاله الخليفة العباسي هارون الرشيد في ما أخبر عمّا يقع من القتال بين ولديه الأمين والمأمون.

كانوا يلقبون الإمام عليّا بالوصي في حال الغفلة عن معنى هذا اللقب ومغزاه. أما في حال التنبه إلى معنى هذا اللقب ومغزاه فقد كانوا ينكرونه حينا ويكتمونه حينا آخر ، ويحرفون الكلام عن مواضعه آونة أخرى. كما سندرس كل ذلك في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(٦٥) ثورة العشرين في ذكراها الخمسين ، معلومات ومشاهدات بقلم السيّد محمد علي كمال الدين. مطبعة التضامن ، ١٣٩١ ه‍ ـ ١٩٧١ م ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٣٢٨

مدرسة الخلفاء تبذل جهودا كبيرة

في سبيل كتمان أخبار الوصيّة وتأويل ما انتشر منها

إنّ أوّل من وجدناه يفعل ذلك ، أمّ المؤمنين عائشة في ما روي عنها من حديث ، غير أنّ حديثها في إنكار الوصية يدل على اشتهار الإمام عليّ بلقب (الوصي) في عصرها ، كما نبيّن ذلك في ما يأتي :

حديث عائشة يدلّ على أنّ عليّا كان وصيّ الرسول (ص)

وممّا يدلّ على أنّ الإمام عليّا كان مشهورا بين الصحابة بأنّه وصيّ رسول الله (ص)

مضافا إلى ما أوردناه ؛ رواية أمّ المؤمنين عائشة كما في صحيح مسلم ، قال :

ذكروا عند عائشة أن عليّا كان وصيّا فقالت :

متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى صدري ـ أو قالت : حجري ـ فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنّه قد مات ، فمتى أوصى إليه (١)

* * *

__________________

(١) صحيح مسلم ، شرح النووي ، كتاب الوصية ، ١١ / ٨٩. وصحيح البخاري ، كتاب ـ

٣٢٩

كانت أمّ المؤمنين عائشة بحاجة إلى استنفار النّاس لحرب الإمام عليّ والّتي سمّيت في التاريخ باسم حرب الجمل ، ومن ثمّ نرى أنّ هذه المذاكرة لم تجر عفوا ، وإنّما كانت شبيهة بالاحتجاج عليها في ما اشتهر للإمام بأنّه وصيّ النبيّ ، وكان هذا الموقف منها متناسبا مع هذا الواقع التاريخي ، وكذلك متناسبا مع مواقفها الأخرى من الإمام عليّ ؛ فقد روى ابن سعد عن عائشة ، في خبر مرض رسول الله (ص) أنّها قالت :

فخرج بين رجلين تخطّ رجلاه في الأرض بين ابن عبّاس ـ تعني الفضل ـ وبين رجل آخر ؛ قال عبيد الله : فأخبرت ابن عباس بما قالت ، قال : فهل تدري من الرجل الآخر الّذي لم تسمّ عائشة؟ قال : قلت : لا! قال ابن عباس : هو عليّ! إنّ عائشة لا تطيب له نفسا بخير (٢).

وفي حديث آخر ورد في مسند أحمد ٦ / ١١٣ :

جاء رجل فوقع في عليّ وفي عمّار عند عائشة فقالت :

أمّا عليّ ، فلست قائلة لك فيه شيئا ؛ وأمّا عمّار فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول فيه : «لا يخيّر بين أمرين إلّا اختار أرشدهما».

هكذا كانت أمّ المؤمنين تدفع عن عمّار الوقيعة وتسكت عمّن ينال من الامام عليّ(ع).

وفي حديث ثالث :

وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما واللّفظ لمسلم :

__________________

ـ المغازي باب مرض النبي ، ٣ / ٦٥ ، وكتاب الوصية ، باب الوصايا. وفتح الباري ٦ / ٢٩١. ومسند أحمد ٦ / ٣٢.

(٢) طبقات ابن سعد ، ط. بيروت ٢ / ٢٣٢.

وقد أورد البخاري الحديث نفسه في صحيحه باب مرض النبي ووفاته ٣ / ٦٣ ، وهذا لفظه : (فقال ابن عبّاس : هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال قلت : لا ، قال ابن عبّاس : هو علي بن أبي طالب).

حذف البخاري من الحديث قول ابن عباس : (ان عائشة لا تطيب له نفسا بخير).

٣٣٠

عن عائشة أنّ رسول الله (ص) بعث رجلا على سريّة وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فلمّا رجعوا ذكر لرسول الله (ص) فقال : سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك. فسألوه ، فقال : لأنها صفة الرحمن ، فأنا أحبّ أن أقرأ بها. فقال رسول الله (ص) : أخبروه أنّ الله يحبّه (٣).

ترى من يكون هذا الرجل الّذي يحبّه الله ولم تر عائشة أن تذكر اسمه؟ إنّه لو كان والدها الخليفة أبا بكر أو الخليفة عمر أو غيرهما من ذوي عصبتها مثل ابن عمّها طلحة ونظرائهم ، لذكرت اسمه ؛ ومهما بحثنا في مصادر مدرسة الخلفاء لم نجد اسمه ، فاضطررنا إلى مراجعة مصادر مدرسة أهل البيت ، فوجدنا الخبر في تفسير سورة الإخلاص من تفسير مجمع البيان وتفسير البرهان ، وباب معنى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) من كتاب التوحيد للشيخ أبي جعفر محمّد بن علي الصّدوق (ت : ٣٨١ ه‍) واللّفظ للأخير : عن الصحابي عمران بن حصين :

أنّ النبيّ (ص) بعث سريّة واستعمل عليها عليّا (ع). فلمّا رجعوا سألهم ، فقالوا : كلّ خير ، غير أنّه قرأ بنا في كلّ صلاة ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). فقال : لم فعلت هذا؟ فقال : لحبّي ل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). فقال النبيّ (ص) : ما أحببتها حتّى أحبّك اللهعزوجل (٤).

__________________

(٣) صحيح مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل قراءة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ح ٢٦٣ ، ص ٥٥٧. وصحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب ما جاء في دعاء النبيّ (ص) أمته في توحيد الله تبارك وتعالى ٤ / ١٨٢.

(٤) تفسير مجمع البيان للشيخ أبي علي أمين الدين ، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت : ٥٤٨ ه‍) ، تصحيح أحمد عارف الزين ، مطبعة العرفان ، صيدا ، سنة ١٣٣٣ ـ ١٣٥٦ ه‍ ١٠ / ٥٦٧. وتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني ، (ت : ١١٠٧ أو ١١٠٩ ه‍) ط. الثالثة ، قم سنة ١٣٩٤ ه‍ ٤ / ٥٢١. وتوحيد الصدوق ، ط. طهران ، سنة ١٣٨٧ ه‍ ص ٩٤ ح ١١.

وعمران بن حصين أبو نجيد الخزاعي ، أسلم عام خيبر ، بعثه عمر ليفقّه أهل البصرة ، وكان من فضلاء الصحابة ومجاب الدعوة ، توفي بالبصرة سنة ٥٢ ه‍. أسد الغابة ٤ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٣٣١

ولصحّة هذا الحديث شاهدان قويّان :

أ ـ في صحيح البخاريّ وغيره أنّ أمّ المؤمنين عائشة عبّرت في حديثها عن الإمام عليّ بلفظ : رجل ، وكذلك فعلت في هذا الحديث.

ب ـ ورد في صحيح البخاريّ وغيره أنّ رسول الله (ص) قال لعليّ يحبّه الله كما قال في هذا الحديث : أحبّك الله.

هكذا لا تذكر أمّ المؤمنين عائشة اسم عليّ (ع) في حديثها وتكنّي عنه بالرجل ؛ ولم تقتصر على هذا المقدار من الجفوة بل زادت ، كما سنذكر بعضها في ما يأتي :

أمّ المؤمنين تظهر السرور بقتل الإمام علي (ع)

وأكثر من كلّ ما ذكرناه ما رواه أبو الفرج في مقتل الإمام علي (ع) وقال :

(لمّا أن جاء عائشة قتل الإمام علي ، سجدت) (٥) أي : سجدت شكرا لله ممّا بشّروها به.

وروى الطبري وأبو الفرج وابن سعد وابن الأثير وقالوا :

لمّا أتى عائشة نعي عليّ قالت :

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قرّ عينا بالإياب المسافر

ثمّ قالت : من قتله؟ فقيل : رجل من مراد ، فقالت :

فإن يك نائيا فلقد نعاه

غلام ليس في فيه التراب

فقالت زينب بنت أمّ سلمة : ألعليّ تقولين هذا؟ فقالت : إذا نسيت فذكروني (٦).

__________________

(٥) مقاتل الطالبيين ، ط. القاهرة ، سنة ١٣٦٨ ه‍ ، ص ٤٣.

(٦) تاريخ الطّبري في ذكر سبب مقتل أمير المؤمنين من حوادث سنة ٤٠ ه‍ ، ط. أوربا ١ / ٣٤٦٦. وكذلك ابن الاثير ، ط. أوربا ٣ / ٣٣١ ، وط. الأولى ، ٣ / ١٥٧. وطبقات ابن سعد ٣ / ٢٧. ومقاتل الطالبيين ص ٤٢ ، وفي لفظه : (بغاه غلام) ، وفي لفظ غيره : (نعاه).

٣٣٢

ثمّ تمثّلت :

ما زال إهداء القصائد بيننا

باسم الصديق وكثرة الألقاب

حتّى تركت كأنّ قولك فيهم

في كلّ مجتمع طنين ذباب(٧)

مقارنة أحاديث أمّ المؤمنين عائشة بأحاديث غيرها

كان ما ذكرناه بعض مواقف أمّ المؤمنين عائشة من الإمام عليّ (ع). أمّا قولها : (متى أوصى إليه ، وانخنث فمات في صدري أو حاقنتي وذاقنتي) (٨). فقد تفرّدت هي بروايته وتعارضه الروايات الآتية :

قال ابن سعد في طبقاته : باب من قال توفي رسول الله (ص) في حجر عليّ بن أبي طالب ، عن الإمام عليّ :

«قال : قال رسول الله (ص) في مرضه : ادعوا لي أخي ؛ قال : فدعي له علي ، فقال : ادن منّي. فدنوت منه فاستند إليّ فلم يزل مستندا إليّ وإنّه ليكلّمني حتّى أن بعض ريق النبيّ (ص) ليصيبني. ثمّ نزل برسول الله (ص) وثقل في حجري ...» الحديث.

وروى عن عليّ بن الحسين ، قال :

(قبض رسول الله (ص) ورأسه في حجر عليّ).

وعن الشعبي ، قال :

(توفّي رسول الله (ص) ورأسه في حجر عليّ وغسله عليّ ...) الحديث.

__________________

(٧) ورد تمثل أمّ المؤمنين بالبيتين في مقاتل الطالبيين ص ٤٢.

(٨) صحيح البخاري ، كتاب الوصايا ، الباب الاول ، ٢ / ٨٤. وكتاب المغازي ، باب مرض النبيّ ٣ / ٦٣ منه ، وصحيح مسلم كتاب الوصية باب : ١٩ ، وابن ماجة كتاب الجنائز ، باب ٦٤ ، ومسند أحمد ٦ / ٣٢ ، ٦٤ و ٧٧ ، والطبري ١ / ١٨١٤. وراجع قبله ص : ٢٩٨ من هذا الكتاب.

٣٣٣

وروى عن أبي غطفان ، قال :

(سألت ابن عبّاس : أرأيت رسول الله (ص) توفّي ورأسه في حجر أحد؟ قال : توفّي وهو لمستند إلى صدر عليّ ، قلت : فإنّ عروة حدثني عن عائشة أنها قالت : توفي رسول الله (ص) بين سحري ونحري! فقال ابن عبّاس : أتعقل؟ والله لتوفّى رسول الله (ص) وإنه لمستند إلى صدر عليّ ، وهو الّذي غسله ...) الحديث.

وروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري :

(أنّ كعب الأحبار قام زمن عمر فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين :

ما كان آخر ما تكلّم به رسول الله (ص)؟ فقال عمر : سل عليّا ، قال : أين هو؟ قال : هو هنا. فسأله ، فقال عليّ : أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة! فقال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يبعثون. قال : فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال : سل عليا ؛ قال : فسأله فقال : كنت أنا أغسله وكان العباس جالسا وكان أسامة وشقران يختلفان إليّ بالماء) (٩).

لو كان النبيّ انخنث وتوفّي بين سحر عائشة ونحرها أو حاقنتها وذاقنتها ، كما قالت هي ، لقال الخليفة عمر لكعب الأحبار : سل أمّ المؤمنين عائشة عن آخر ما تكلّم به رسول الله (ص) ولم يكن يحيله على الإمام علي (ع).

وأقوى من كلّ الروايات السّابقة رواية من شهدت ذلك من أمّهات المؤمنين وهي أمّ سلمة قالت :

__________________

(٩) هذه الأحاديث الخمسة في طبقات ابن سعد ، باب : من قال : توفي رسول الله (ص) في حجر عليّ بن أبي طالب. ط. أوربا ٢ / ق ٢ / ٥١.

٣٣٤

(والّذي أحلف به أن كان عليّ لأقرب النّاس عهدا برسول الله (ص) عدناه غداة وهو يقول : جاء عليّ؟ جاء عليّ؟ ـ مرارا ـ فقالت فاطمة كأنّك بعثته في حاجة. قالت: فجاء بعد ، فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب ، قالت أمّ سلمة : وكنت من أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه رسول الله (ص) وجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض (ص) من يومه ذلك ، فكان أقرب الناس به عهدا) (١٠).

وفي رواية عبد الله بن عمرو :

(أنّ رسول الله (ص) قال في مرضه : ادعوا لي أخي ـ إلى قوله ـ فدعي له عليّ فستره بثوبه وأكبّ عليه ...) (١١) الحديث.

وممّا قاله الإمام عليّ (ع) عن وفاة رسول الله (ص) قوله :

(فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون) (١٢).

وقال أيضا :

(ولقد قبض رسول الله (ص) وإنّ رأسه لعلى صدري. ولقد سالت نفسه في كفّي ، فأمررتها على وجهي. ولقد وليت غسله (ص) والملائكة أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ، ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي

__________________

(١٠) أخرجه الحاكم في مستدركه ٣ / ١٣٨ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، واعترف بصحّته الذهبي في تلخيص المستدرك ، وأخرجه ابن عساكر في باب : أنه كان أقرب الناس عهدا برسول الله (ص) ، من ترجمة الإمام عليّ ٣ / ١٤ ـ ١٧ بطرق متعددة ، وفي مصنف ابن أبي شيبة ٦ / ٣٤٨. ومجمع الزوائد ٩ / ١١٢. وكنز العمال ، ط. الثانية ؛ كتاب الفضائل ، فضائل علي بن أبي طالب ، ح ٣٧٤ ، ١٥ / ١٢٨ وأخرجه سبط ابن الجوزي ، في تذكرة خواص الأمة ، باب حديث النجوى والوصية عن كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل.

(١١) كنز العمال ، ط. الأولى ، ٦ / ٣٩٢. وتاريخ ابن كثير ٧ / ٣٥٩. وترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر ، ط. بيروت ، سنة ١٣٩٥ ه‍ ٢ / ٤٨٤.

(١٢) نهج البلاغة ، الخطبة : ٢٠٢.

٣٣٥

هينمة منهم يصلّون عليه حتّى واريناه في ضريحه) (١٣).

مناقشة أحاديث أم المؤمنين عائشة

تفرّدت أمّ المؤمنين عائشة برواية ، أنّ النبيّ (ص) توفّي في حجرها في مقابل كلّ تلكم الأحاديث.

وأغلب الظنّ كما قلنا سابقا أنّها قالت ذلك في حرب البصرة ، أي بعد زمان الخليفتين عمر وعثمان ، وكذلك يناسب هذا القول عصر معاوية حيث كان ينهى عن نقل فضائل الإمام ويأمر بنقل ما يناقضها.

وعلى فرض صحّة قول عائشة أنّ النبيّ (ص) توفّي على صدرها ، هل كان ذلك مناقضا لما تواتر من أنّ الإمام عليّا كان وصيّ رسول الله (ص)؟ وأ لم يكن ثمّت زمان آخر ليدلي الرسول (ص) بوصاياه للإمام عليّ؟ كما تدلّ عليه روايات كثيرة مثل ما رواه أصحاب السنن والمسانيد عن الإمام عليّ ، قال :

(كان لي من رسول الله (ص) مدخلان : مدخل بالليل ، ومدخل بالنهار ، فكنت إذا أتيته وهو يصلّي تنحنح) (١٤).

وفي رواية :

(كانت لي من رسول الله (ص) منزلة لم تكن لأحد من الخلائق ؛ إنّي كنت آتيه كلّ سحر فأسلّم عليه حتى يتنحنح ...) (١٥) الحديث.

ومن تاريخ ابن عساكر عن جابر :

(لمّا كان يوم الطّائف ، ناجى رسول الله (ص) عليّا ، فأطال نجواه فقال بعض أصحابه : لقد أطال نجوى ابن عمّه. فبلغه ذلك ، فقال : ما أنا

__________________

(١٣) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٩٧.

(١٤) سنن ابن ماجة ، كتاب الأدب ، باب الاستئذان ، ح ٣٧٠٨ ، ومسند أحمد ١ / ٨٠.

(١٥) مسند أحمد ١ / ٨٥ و ١٠٧ ويأتي تفصيله في باب مصادر الشريعة الإسلاميّة لدى مدرسة أهل البيت.

٣٣٦

انتجيته ؛ بل الله انتجاه).

وفي لفظ آخر للرّواية :

(فناجاه طويلا ، وأبو بكر وعمر ينظران والنّاس ، قال : ثمّ انصرف إلينا فقال الناس: قد طالت مناجاتك اليوم يا رسول الله! فقال : ما أنا انتجيته ولكنّ الله انتجاه)(١٦).

* * *

أوردنا هذه الروايات من مصادر أخرى ـ أيضا ـ في باب ذكر حاملي علوم الرسول (ص) من هذا الكتاب ، وفي باب مصادر الشريعة الإسلاميّة لدى مدرسة أهل البيت(ع).

مقارنة بين حديث أم المؤمنين عائشة وحديث الإمام علي (ع)

تفرّدت أمّ المؤمنين عائشة برواية ما أخبرت به عن خبر آخر ساعات حياة الرسول الأكرم (ص) أنه طلب طستا ليبول فانخنث ومات بين حاقنتها وذاقنتها ، وأمثال هذه الألفاظ ، أضف إليه حديثها وحديث غيرها في بدء نزول الوحي :

أنّ رسول الله (ص) عند ما تلقّى أوّل وحي هبط به جبرائيل من الله بآيات سورة اقرأ ، شكّ في جبرائيل أنّه شيطان يريد أن يتلعّب به ، وشكّ في الآيات الكريمة أنّها من قبيل سجع الكهان حتى طمأنه الرجل النصرانيّ ورقة بن نوفل أنه نبيّ أوحي إليه كموسى بن عمران ، فاطمأنّ وأدرك أنه نبيّ ،

__________________

(١٦) أخرج الحديثين ابن عساكر بترجمة الإمام علي ٢ / ٣١٠ و ٣١١ ، وابن كثير في تاريخه ٧ / ٣٥٦ ، وفي شرح نهج البلاغة ط. مصر الأولى ٢ / ٧٨ ما ملخّصه :

دخلت عائشة وهما يتناجيان ، فقالت : يا عليّ ليس لي إلّا يوم من تسعة أيام ، أفما تدعني يا ابن أبي طالب!؟

٣٣٧

إلى أحاديث أخرى لهذه المدرسة عن سيرة رسول الله (ص).

إنّ تلكم الأحاديث كما ذكرنا في البحوث التمهيديّة كوّنت رؤية خاصّة عن رسول الله (ص) لمن يعتقد بها ، تحطّ من مقام أفضل الرسل عن مستوى الإنسان العادي ، ولهذا حقّ للرجل (ذي المعرفة) السعودي أن يقول : محمد رجّالا مثلي مات.

أمّا في حديث الإمام عليّ عن بدء نزول الوحي وهو الشاهد الوحيد الّذي كان عندئذ مع الرّسول (ص) في غار حراء : أنّه سمع رنّة حينئذ وأنّ الرّسول (ص) أخبره أنّ الرنّة من الشّيطان لأنّه أيس من عبادته.

وفي حديثه أيضا : انّ الله قرن برسول الله (ص) منذ أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.

وفي حديثه عن وفاة رسول الله (ص) أنّه أدناه إليه وأخذ يناجيه ويسرّ إليه ويوصي حتّى قبض (ص) (١٧) وسالت نفسه في كفّه فأمرّها على وجهه وأنّه أخذ في تغسيله وتكفينه والملائكة أعوانه في ذلك ، وقد ضجّت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج ، وأنّه ما فارقت سمعه هينمة منهم يصلّون عليه حتّى واراه في ضريحه.

إنّ أمثال هذه الأحاديث عن سيرة الرسول بمدرسة أهل البيت ـ أيضا ـ كوّنت رؤية خاصة لمن يعتقد بها ، ولن يتيسّر تقارب بين المسلمين ما لم تدرس المجموعتان من الأحاديث معا دراسة مقارنة لنصل إلى الحقيقة المنشودة ثمّ يتفاهم الإخوة المسلمون في ضوء تلك الدراسات إن شاء الله تعالى.

ونؤكّد مرّة أخرى أنّ في مقدمة ما ينبغي دراسته دراسة مقارنة ؛ أخبار سيرة الرسول الأكرم (ص) وتاريخ عصر الرسول (ص) وعصر من تشرّف بصحبته.

__________________

(١٧) وقد أيّد حديثه ، حديث أم سلمة وغيرها في ذلك.

٣٣٨

حديثان متعارضان من أم المؤمنين عائشة

وموقفان مختلفان

روى ابن عساكر أنّ امرأتين سألتا عائشة ، فقالتا :

يا أمّ المؤمنين أخبرينا عن عليّ ، قالت : أي شيء تسألن عن رجل وضع يده من رسول الله (ص) موضعا فسالت نفسه في يده فمسح بها وجهه ، واختلفوا في دفنه ، فقال : إنّ أحبّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيّه. قالت : فلم خرجت عليه؟ قالت : أمر قضي ، لوددت أن أفديه بما في الأرض (١٨).

إنّ حديثها هذا يتّفق مع حديث الإمام علي الّذي قال فيه :

قبض رسول الله (ص) وإنّ رأسه على صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي وأمررتها علي وجهي.

ويتعارض مع حديثها :

(انخنث بين حاقنتي وذاقنتي).

وروى ابن عساكر ـ أيضا ـ عن عائشة أنّها قالت : قال رسول الله (ص) وهو في بيتها لمّا حضره الموت :

ادعوا لي حبيبي ...

فدعوا عليّا فأتاه ، فلمّا رآه أفرد الثوب الّذي كان عليه ثمّ أدخله فيه فلم يزل يحتضنه حتى قبض عليه (١٩).

حديثها هذا يتّفق مع حديث عبد الله بن عمرو الّذي قال فيه :

(إنّ رسول الله قال في مرضه : ادعوا لي عليّا ....) ويعارض

__________________

(١٨) كلا الحديثين أخرجهما ابن عساكر في ترجمة الإمام علي ٣ / ١٥.

(١٩) كلا الحديثين أخرجهما ابن عساكر في ترجمة الإمام علي ٣ / ١٥.

٣٣٩

أحاديثها ، في أنّ الرسول (ص) توفّي بين سحرها ونحرها ، وأمثالها ، ومنشأ صدور الحديثين المتعارضين من أمّ المؤمنين عائشة ؛ وسببه ، اختلاف موقفها من الإمام علي. وبيانه:

موقفان مختلفان تجاه الإمام علي (ع)

بعد وفاة الرّسول (ص) بويع الخليفة أبو بكر ، وبقي عليّ ومعه جميع بني هاشم ستّة أشهر بحسب رواية أمّ المؤمنين عائشة لم يبايعوه حتى توفّيت فاطمة (٢٠) ، ثمّ بقي الإمام عليّ بعيدا عن الساحة ، حتّى أخريات خلافة عثمان ، حيث قادت أمّ المؤمنين عائشة (٢١) المعارضين من طلحة والزبير وغيرهما لمجابهة الخليفة أملا منها في أن يلي بعده ابن عمّها طلحة. ولمّا قتل عثمان وبايع المسلمون عليّا أقامت عليه حرب الجمل ، وانكسرت فيها وأرجعها الإمام عليّ إلى المدينة ، وبقيت حانقة عليه حتى استشهد ، ومرّ بنا إظهارها للسّرور من مقتله ، ثمّ ولي الحكم معاوية وجمع بينهما الموقف الواحد من الإمام ، ثم فترت العلاقة بينهما على أثر قتل معاوية لحجر بن عدي.

ولمّا أراد معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد ، كان شقيقها عبد الرحمن بن أبي بكر من أشدّ المعارضين لبيعة يزيد ، وخطب مروان في مسجد الرسول (ص) وكان واليا على الحجاز من قبل معاوية ، فقال :

إنّ أمير المؤمنين قد اختار لكم ، فلم يأل ، وقد استخلف لابنه يزيد بعده.

فقام عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : كذبت والله يا مروان! وكذب

__________________

(٢٠) مرّ مصادر الخبر في بحث السقيفة من هذا الكتاب.

(٢١) أوردنا تفاصيل موقف عائشة من عثمان ومعاوية في كتابنا : (أحاديث أم المؤمنين عائشة) فصل : مع معاوية ، وأوردنا فهرستا من تلك الوقائع.

٣٤٠