معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

رجليك. أتمدّ رجليك بين يدي رسول الله (ص)!؟ والله لو لا رسول الله لأنفذت حضنيك بالرّمح! ثمّ قال : يا رسول الله صلّى الله عليك ، إن كان أمرا من السّماء فامض له ، وإن كان غير ذلك فو الله لا نعطيهم إلّا السيف. متى طمعتم بهذا منّا؟ فدعا رسول الله (ص) سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما خفية ، فقالا : إن كان هذا أمرا من السّماء فامض له ، وإن كان أمرا لم تؤمر فيه ولك فيه هوى فسمع وطاعة ، وإن كان إنّما هو الرأي فما لهم عندنا إلّا السيف. فقال رسول الله (ص) : «إنّي رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم.» ، فقالا : يا رسول الله ، والله إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد ، ما طمعوا بهذا منّا قطّ : أن يأخذوا ثمرة إلا بشراء أو قرى! فحين أتانا الله بك وأكرمنا بك ؛ وهدانا بك ، نعطي الدّنيّة!؟ لا نعطيهم أبدا إلّا السيف. فقال (ص) : «شقّ الكتاب» فشقّه سعد ، فقام عيينة والحارث. فقال (ص) : «ارجعوا بيننا السيف» رافعا صوته.

كانت هذه قصّة استشاره الرسول (ص) أصحابه في هذه الغزوة ، ويظهر من محاورة الرسول (ص) فيها أنّه ـ صلوات الله عليه ـ أراد أن يوقع الخلاف بين القبائل المحاربة ، وخاصّة أنّ في آخره يرفع صوته ويقول : «ارجعوا بيننا السيف» فإنّ هذا الخبر ينتشر ويبلغ قريشا ويقع بينهم الخلاف ، وقد رويا بعد هذا : أنّ رسول الله (ص) أمر نعيم بن مسعود لذلك ونجح ، فألقى الشكّ والترديد والخلاف بين بني قريظة وقريش وكان ذلك من أسباب انكسارهم (١٩).

__________________

(١٩) مغازي الواقدي ٢ / ٤٧٧ ـ ٤٨٠. وإمتاع الأسماع للمقريزي ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

والعلهز : كان أهل الجاهلية في سنيّ القحط والمجاعة يخلطون الوبر بالدم ويشوونه ويأكلون ويسمّونه العلهز.

الهجرس : ولد الثعلب ، وقيل هو القرد أو دويبة أخرى.

٢٤١

في ضوء ما بيّناه من مشاورات الرسول (ص) يتّضح لنا جليّا أنّه لم تكن الغاية من تلك المشاورات أن يتعلم الرسول (ص) من أصحابه الرأي الصائب ليعمل به ، بل كانت الغاية أحيانا أن يعلمهم الرسول (ص) بأسلوب المشورة الرأي الصائب الّذي كان يعلمه الرسول (ص) مسبقا ليعملوا به.

كما كان شأن مشورته إيّاهم في غزوة بدر ، فإنّ الله كان قد أعلم رسوله (ص) النتيجة مسبقا من أنّهم سيقاتلون قريشا وينتصرون عليهم ، وبعد المشاورة أعلمهم الرسول (ص) نتيجة الأمر ، وأراهم مصارع قريش. إذا كانت الغاية من المشاورة توجيه المسلمين بأسلوب المشاورة إلى ما ينبغي أن يعملوه خلافا لأسلوب الملوك الجبّارين الّذين يملون آراءهم على الناس بقولهم مثلا : نحن ملك ... أصدرنا أمرنا الملكي بكذا ....

وإنّ صدر الآية يدلّ بوضوح على ما ذكرنا ، فإنّه تعالى قال : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ...) آل عمران / ١٥٩. فالمشاورة هنا من مصاديق اللّيونة وكونها رحمة من الله ، اللّتين وردتا في صدر الآية.

تارة تكون الغاية من المشاورة الملاينة كالمثال السابق ، وتارة تكون الغاية تربية نفوس المسلمين ، كما كان شأن المشاورة في غزوة أحد ، فإنّ رسول الله (ص) بعد أن أخذ برأيهم ولبس لامة حربه بقصد السير إلى أحد ، ندموا على إلحاحهم على الرسول (ص) بالخروج ، وقالوا : يا رسول الله (ص) ما كان لنا أن نخالفك ، فاصنع ما بدا لك. فقال : «قد دعوتكم إلى هذا فأبيتم ، ولا ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يحكم الله بينه وبين أعدائه».

يظهر من المحاورات الّتي دارت بين الرسول (ص) وأصحابه في هذه الواقعة ، أنّ عدم استجابة الرسول (ص) لرغبتهم العارمة في الخروج كان يؤثر على نفوسهم تأثيرا سيّئا ، ويولد فيهم ضعف النفس والتردّد وعدم الإقدام في

٢٤٢

الحروب ، ومن أجل ذلك أخذ برأيهم مع علمه بأنّ رأيهم غير صائب. أمّا في غزوة الخندق ، فقد كانت المشاورة كيدا كاد به المشركين ، وقد نجحت خطّته صلوات الله عليه وآله.

الثاني ـ مناقشة الاستدلال بالبيعة

عرفنا في ما سبق :

أنّ البيعة كالبيع تنعقد بالرضا والاختيار وليس بحدّ السيف والجبر.

وأنّه لا بيعة في معصية.

ولا في خلاف ما أمر الله به.

وأنّه لا بيعة لمن يعصي الله.

وعرفنا أنّ أوّل بيعة أخذت بعد رسول الله هي البيعة للخليفة أبي بكر ، وعلى صحّتها تتوقّف صحّة بيعة الخليفة عمر ، لأنّها أخذت بأمر من الخليفة أبي بكر. وعلى صحّة بيعة الخليفة عمر تتوقّف صحّة بيعة الخليفة عثمان ، لأنّها أخذت بأمر من الخليفة عمر حين أمر أن يبايعوا من الستّة القرشيّين من بايعه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يقتلوا من خالف.

وعرفنا كيف أخذت البيعة للخليفة أبي بكر غلابا في سقيفة بني ساعدة ، ثمّ بمساعدة قبيلة بني أسلم في سكك المدينة ، وكيف حملت النار إلى بيت فاطمة (ع) ابنة رسول الله (ص) لأنّه قد تحصّن فيه من أبى أن يبايع ، وأنّ بني هاشم لم يبايعوا مدّة حياة ابنة رسول الله (ص) ، وأنّ الجنّ قتلت سعد بن عبادة بسهمين لأنّه لم يبايع!

* * *

كان هذا شأن أخذ البيعة في المدينة. أما خارج المدينة ، فكان شأن من امتنع عن بيعة الخليفة أبي بكر وأبى أن يدفع الزكاة لجباة الخليفة ، قتل الرجال ، وسبي النساء ، وسلب الأموال.

٢٤٣

كما كان شأن مالك بن نويرة عامل رسول الله (ص) (٢٠) وأسرته من قبيلة تميم حين دهمهم جيش خالد بن الوليد ليلا ، وأخذوا السلاح ، فقال جيش خالد : إنّا المسلمون. فقال أصحاب مالك : ونحن المسلمون. فقال لهم جيش خالد : فإن كنتم كما تقولون ، فضعوا السّلاح. فوضعوها ثمّ صلّوا مع جيش خالد (٢١) : ثمّ أخذوهم إلى خالد بن الوليد ، فأمر بضرب عنق مالك. فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه الّتي قتلتني ـ وكانت في غاية الجمال ـ فقال خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام. فقال مالك : إنّا على الإسلام. وبعد قتله أمر خالد برأسه فنصب أثفية للقدر وتزوج بامرأته في تلك الليلة ولمّا يدفن مالك (٢٢).

وكما كان شأن قبائل كندة ، فإنّ زياد بن لبيد البياضي عامل أبي بكر أخذ ناقة لفتى من كندة ، فسأله الكندي أخذ غيرها فأبى ذلك ، لأنّه وسمها بميسم الصدقة (٢٣). فذهب الفتى إلى رجل من سادات كندة يقال له : حارثة بن سراقة ، وقال له : يا ابن عمّ إنّ زياد بن لبيد قد أخذ لي ناقة فوسمها وجعلها مع إبل الصدقة ، وأنا مشغوف بها ، فإن رأيت أن تكلّمه فيها فلعلّه أن يطلقها ويأخذ غيرها من إبلي. فأقبل حارثة إلى زياد وقال له : إن رأيت أن تردّ ناقة هذا الفتى عليه وتأخذ غيرها فعلت منعما. فقال زياد : قد وضع عليها ميسم الصدقة. فترادّا الكلام ، فأقبل حارثة إلى إبل الصدقة فأخرج الناقة بعينها ،

__________________

(٢٠) راجع ترجمته في الإصابة ٣ / ٣٣٦ ، رقم الترجمة : ٧٦٩٨.

(٢١) تاريخ الطبري ط. أوربا ١ / ١٩٢٧ ـ ١٩٢٨ وراجع تاريخ اليعقوبي ط. بيروت ، ٢ / ١٣١.

(٢٢) راجع تاريخ أبي الفداء ص ١٥٨. ووفيات الأعيان ، ترجمة وثيمة. وكذلك فوات الوفيات. وبقية المصادر مع تفصيل الخبر في كتاب عبد الله بن سبأ ط. بيروت سنة ١٤٠٣ ه‍ ، ١ / ١٨٥ ـ ١٩١.

(٢٣) فتوح البلدان ، ردة بني وليعة والأشعث بن قيس.

٢٤٤

وقال للفتى : خذ ناقتك فإن كلّمك أحد سأحطم أنفه بالسّيف وقال :

نحن إنما أطعنا رسول الله (ص) إذ كان حيّا ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ؛ وأمّا ابن أبي قحافة فلا والله ماله في رقابنا طاعة ولا بيعة. وأنشأ أبياتا من جملتها :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا عجبا ممّن يطيع أبا بكر

فقال له الحارث بن معاوية من سادة كندة : إنّك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد.

فقال له زياد : صدقت ولكنّا اخترناه لهذا الأمر.

فقال له الحارث : أخبرني لم نحّيتم عنها أهل بيته؟ وهم أحقّ الناس بها لأنّ الله عزوجل يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) الأحزاب / ٦.

فقال له زياد : إنّ المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك!

فقال له الحارث : لا والله ما أزلتموها عن أهلها إلّا حسدا منكم ، وما يستقرّ في قلبي أنّ رسول الله (ص) خرج من الدنيا ولم ينصب للنّاس علما يتّبعونه ، فارحل عنّا أيّها الرجل فإنك تدعو إلى غير رضا. ثمّ أنشأ الحارث يقول :

كان الرسول هو المطاع فقد مضى

صلّى عليه الله لم يستخلف

فأرسل زياد إبل الصّدقة أمامه إلى المدينة ، ثمّ سار إلى المدينة وأخبر أبا بكر ، فجهّزه في أربعة آلاف مقاتل. فسار زياد يريد حضر موت وفي طريقه كان يباغت قبائل كندة ويقتل منهم ويستأسر ، مثل بني هند الّذين هاجمهم وقتل منهم جماعة واحتوى على نسائهم وذراريهم.

ووافى حيّ بني العاقل من كندة غافلين فلمّا أشرفت الخيل عليهم تصايحت النّساء واقتتل الرجال ساعة ووقعت الهزيمة عليهم ، واحتوى رياد

٢٤٥

نساءهم وأموالهم.

وكبس بخيله في جوف اللّيل حيّ بني حجر من كندة ، فقتل منهم مائتي رجل ، وأسر خمسين ، وفرّ الباقون ، واحتوى على النساء والأولاد.

ثم قاتله الأشعث بن قيس وحاصره في مدينة (تيم) واسترجع منه الأموال والذّراريّ وردّها إلى أهلها ، فأرسل الخليفة إلى الاشعث كتابا يسترضيه فقال الأشعث للرسول :

إنّ صاحبك أبا بكر يلزمنا الكفر بمخالفتنا له ، ولا يلزم صاحبه الكفر بقتله قومي وبني عمّي.

فقال له الرسول : نعم يا أشعث! يلزمك الكفر لأنّ الله تبارك وتعالى قد أوجب عليك الكفر بمخالفتك لجماعة المسلمين.

فضربه غلام من بني عمّ الأشعث بسيفه فقتله ، واستحسن فعله الأشعث فغضب من ذلك عامّة أصحاب الأشعث حتى بقي في قريب من ألفي رجل. فكتب زياد إلى أبي بكر يخبره بقتل الرسول وأنهم محاصرون. فاستشار الخليفة المسلمين في ما يصنع فأشار عليه أبو أيّوب الأنصاري وقال :

إنّ القوم كثير عددهم وإذا همّوا بالجمع جمعوا خلقا كثيرا ، فلو صرفت عنهم الخيل في عامك هذا رجوت أن يحملوا الزكاة إليك بعد هذا العام طائعين.

فقال أبو بكر : والله لو منعوني عقالا واحدا ممّا كان النبيّ وظفه عليهم لقاتلتهم عليه أبدا أو ينيبوا إلى الحقّ. ثمّ كتب إلى عكرمة بن أبي جهل أن يسير بمن أجابه من أهل مكّة إلى زياد ويستنهض من مرّ عليه من أحياء العرب. فخرج في ألفي فارس من قريش ومواليهم وأحلافهم ، ثمّ سار إلى مأرب. وبلغ ذلك أهل دبا فغضبوا وقالوا نشغله عن محاربة بني عمّنا من كندة ، وأخرجوا عامل أبي بكر. فكتب أبو بكر إليه أن يسير إليهم ، وأن

٢٤٦

لا يقصر فيهم ، وإذا فرغ منهم أن يبعث بهم أسراء. فسار إليهم عكرمة وقاتلهم وحاصرهم ، فسألوا الصّلح وأن يؤدّوا الزكاة ، فأبى إلّا أن ينزلوا على حكمه ، فأجابوه. فدخل عكرمة حصنهم ، وقتل أشرافهم صبرا ، وسبى نساءهم وأولادهم ، وأخذ أموالهم ووجّه بالباقين إلى أبي بكر ، فهمّ أن يقتل الرجال ويقسم النساء والذرية ، فقال له عمر :

يا خليفة رسول الله ، إنّ القوم على دين الإسلام يحلفون بالله مجتهدين ما كنّا رجعنا عن دين الإسلام. فحبسهم أبو بكر إلى أن توفّي وأطلق عمر سراحهم على عهده.

فسار عكرمة إلى زياد فبلغ خبر الأشعث فانحاز إلى حصن النجير وجمع فيه نساءه ونساء قومه. فبلغ ذلك قبائل كندة ممّن كان تفرّق عن الأشعث لمّا قتل رسول أبي بكر فتلاوموا أن يتركوا بني عمّهم محاصرين ، فسارت لقتال زياد ، فجزع لذلك فقال له عكرمة : أرى أن تقيم محاصرا لمن في الحصن وأمضي أنا فألقى هؤلاء القوم ، فقال له زياد : نعم ما رأيت ، ولكن إن ظفر الله بهم فلا ترفع السيف حتى تبيدهم عن آخرهم.

فقال عكرمة : لست آلو جهدا في ما أقدر عليه.

فسار عكرمة حتّى وافى القوم فتقاتلوا وكانت الحرب بينهم سجالا والأشعث لا يعلم عن ذلك شيئا ، وطال عليهم الحصار واشتدّ بهم الجوع والعطش ، فطلب من زياد الأمان له ولأهل بيته وعشرة من وجوه أصحابه وكتب بينهم ، فبعث زياد الكتاب إلى عكرمة ، فأخبر عكرمة قبائل كندة بذلك وأراهم الكتاب ، فتركوا القتال وانصرفوا ، ودخل زياد الحصن وأخذ يضرب أعناق المقاتلة صبرا ، ووافاه كتاب أبي بكر أن يحمل من نزل على حكمه إلى المدينة ، فصفد من بقي منهم بالحديد وأرسلهم إلى المدينة (٢٤).

__________________

(٢٤) لقد لخّصنا الخبر ممّا رواه البلاذريّ في فتوح البلدان في ذكر ردّة بني وليعة ، والأشعث بن ـ

٢٤٧

هكذا تمّت بيعة الخليفة أبي بكر والّتي يصفها الخليفة عمر بأنها كانت فلتة ، وعليها بنيت خلافة الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان وبها يستدلّون.

الثالث ـ مناقشة الاستدلال بعمل الصّحابة

إنّ الاستدلال بعمل الصّحابة يتمّ لو كانت سيرتهم مصدرا للتشريع الإسلامي في عداد الكتاب والسنّة ونزل فيهم ما نزل في رسول الله (ص) مثل قوله تعالى :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) الأحزاب / ٢١.

وقوله :

(ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر / ٧.

وبدون ذلك لا حجّة علينا في عمل الصّحابة. ثمّ لسنا ندري بمن نقتدي ، وعمل بعضهم وأقوالهم يخالف البعض الآخر ، ومن ثمّ اختلفت آراء العلماء في كيفيّة إقامة الخلافة ، أتقام ببيعة رجل لأنّ العبّاس عمّ النبي (ص) قال لعلي (ع) : (امدد يدك أبايعك يبايعك الناس) أم بقول الخليفة عمر حين قال : (بيعة أبي بكر فلتة) أم نقتدي بمعاوية حين شهر السيف في وجه الخليفة الشرعيّ الإمام علي (ع)؟ ولا نرى حاجة إلى المناقشة أكثر مما بيّنّا. أمّا ما استدلّ بعضهم بقول الإمام عليّ في نهج البلاغة ، فسندرسه في ما يأتي:

__________________

ـ قيس الكندي ص ١٢٢ ـ ١٢٣. والحموي في مادة : حضرموت من معجم البلدان ، وفتوح ابن أعثم ١ / ٥٧ ـ ٨٥. وتمام الخبر في عبد الله بن سبأ ٢ / ٣٩٣ ـ ٤١٠.

٢٤٨

مناقشة الاستدلال بما ورد في نهج البلاغة على صحّة الاستدلال

بالشورى والبيعة وعمل الأصحاب.

استدلّ بعضهم على ما ارتأى في الشّورى والبيعة والاقتداء بعمل الصّحابة بما رواه الشريف الرضي عن الإمام علي (ع) بباب الكتب من نهج البلاغة وهذا نصّه :

ومن كتاب له ، إلى معاوية :

إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشّاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار. فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك [لله] رضى ؛ فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه ؛ فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى ...(٢٥).

فإنّ الإمام قد احتجّ في هذا الكتاب على معاوية بالبيعة والشورى وإجماع المهاجرين والأنصار ، وبناء على هذا فإنّ الإمام يرى صحة إقامة الإمامة بما ذكره.

والجواب أن الشريف الرضي كان أحيانا يتخيّر نتفا من كتب الإمام وخطبه ممّا يجده في أعلى درجات البلاغة ويترك سائره ، وكذلك فعل مع هذا الكتاب وقد أورد الكتاب بتمامه نصر بن مزاحم في كتاب صفّين ، وهذا نصّه :

بسم الله الرحمن الرحيم.

أمّا بعد ، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشّام ؛ لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه ، فلم يكن للشّاهد أن

__________________

(٢٥) نهج البلاغة وشرحه لابن أبي الحديد ، الكتاب السادس من باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين.

٢٤٩

يختار ، ولا للغائب أن يردّ. وإنّما الشّورى للمهاجرين والأنصار ، فإذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك لله رضى ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين ، وولّاه الله ما تولّى ويصليه جهنّم وساءت مصيرا. وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون ؛ فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية ، إلّا أن تتعرّض للبلاء. فإن تعرّضت له قاتلتك واستعنت الله عليك. وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكم القوم إليّ أحملك وإيّاهم على كتاب الله. فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللّبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم أنّك من الطّلقاء (٢٦) الّذين لا تحلّ لهم الخلافة ، ولا تعرض فيهم الشّورى. وقد أرسلت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله ، وهو من أهل الإيمان والهجرة : فبايع. ولا قوة إلّا بالله (٢٧).

اتّضح لنا من هذا الكتاب أنّ الإمام عليّا يحتجّ على معاوية بما التزم به هو ونظراؤه ويقول له : إنّ بيعتي بالمدينة لزمتك يا معاوية وأنت بالشام كما التزمت ببيعة عثمان بالمدينة وأنت بالشّام ، وكذلك لزمت بيعتي نظراءك خارج المدينة كما لزمتهم بيعة عمر في المدينة وهم في أماكن أخرى.

هكذا يلزمه الإمام عليّ بكلّ ما التزمه هو ونظراؤه من مدرسة الخلافة يوم ذاك ، وهذا وارد لدى العقلاء ، فإنّهم يحتجّون على الخصم بما التزمه هو. هذا أوّلا.

__________________

(٢٦) الطلقاء : جمع طليق ، وهو الأسير الّذي أطلق عنه إساره وخلي سبيله. ويراد بهم الّذين خلّى عنهم رسول الله (ص) يوم فتح مكّه وأطلقهم ولم يسترقهم.

(٢٧) صفين لنصر بن مزاحم ط. القاهرة سنة ١٣٨٢ ه‍ ، ص ٢٩.

٢٥٠

وثانيا قوله : «فإذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما ، كان ذلك لله رضى» فإنّه قد ورد في بعض النسخ : «كان ذلك رضى» (٢٨) ، أي كان لهم رضى ، على أن يكون ذلك باختيار منهم ولم تؤخذ البيعة بالجبر وحدّ السيف. وعلى فرض أنّه كان قد قال : «كان لله رضى» نقول : نعم ، ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار بما فيهم الإمام عليّ وسبطا الرسول الحسن والحسين ، كان ذلك لله رضى.

وأخيرا لست أدري كيف استشهدوا بهذا القول من نهج البلاغة ونسوا أو تناسوا سائر أقوال الإمام الّتي نقلها الشريف الرضي ـ أيضا ـ في نهج البلاغة مثل قوله في باب الحكم :

لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين (ع) أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله (ص) قال(ع):

ما قالت الأنصار؟ قالوا :

قالت : منّا أمير ومنكم أمير. قال (ع) :

فهلّا احتججتم عليهم بأنّ رسول الله (ص) وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم؟! قالوا : وما في هذا من الحجّة عليهم؟

فقال (ع) :

لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصيّة بهم!!

ثم قال (ع) :

فما ذا قالت قريش؟ قالوا : احتجّت بأنها شجرة الرسول (ص) ، فقال (ع) :

__________________

(٢٨) راجع نهج البلاغة ط. الاستقامة بالقاهرة تجد لفظ الجلالة «لله» بين علامتين إشارة الى أنه لم يرد لفظ الجلالة بين النسخ.

٢٥١

احتجّوا بالشّجرة وأضاعوا الثّمرة (٢٩).

وقوله ـ أيضا ـ في باب الحكم :

وا عجبا! أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة (٣٠).

قال الرضي : وله شعر بهذا المعنى :

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبيّ وأقرب

وأجمع أقواله في هذا الباب ما وردت في الخطبة الشقشقية (خ : ٣) الّتي قال فيها(ع) :

«أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عنّي السّيل ولا يرقى إليّ الطّير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء (٣١) أو أصبر على طخية عمياء (٣٢) يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه (٣٣) فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى (٣٤) فصبرت وفي العين

__________________

(٢٩) يريد من الثمرة آل بيت الرسول (ص).

(٣٠) نهج البلاغة ، الحكمة : رقم ١٨٥ ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.

(٣١) وطفقت ... الخ : بيان لعلة الإغضاء. والجذّاء : بمعنى المقطوعة. ويقولون : رحم جذاء ، أي : لم توصل. وسن جذاء أي متهتمة. والمراد هنا ليس ما يؤيدها. كأنه قال : تفكرت في الأمر فوجدت الصبر أولى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا.

(٣٢) طخية : أي ظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقلي ، وإنما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.

(٣٣) يكدح : يسعى سعي المجهود.

(٣٤) أحجى : ألزم ، من حجى به كرضي : أولع به ولزمه. ومنه : هو حجيّ بكذا أي : جدير ، وما أحجاه وأحج به أي : أخلق به ، وأصله من الحجا بمعنى العقل ، فهي أحجى أي أقرب إلى العقل ، وهاتا بمعنى هذه ، أي : رأى الصبر على هذه الحالة التي وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير.

٢٥٢

قذى ، وفي الحلق شجا (٣٥) أرى تراثي نهبا ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده (٣٦) ـ ثمّ تمثّل بقول الأعشى : ـ

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر(٣٧)

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته (٣٨) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (٣٩) فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (٤٠) ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصّعبة (٤١) إن أشنق لها

__________________

(٣٥) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه. والتراث : الميراث.

(٣٦) أدلى بها : ألقى بها إليه.

(٣٧) الكور بالضم : الرحل أو هو مع أداته ، والضمير راجع إلى الناقة المذكورة في الأبيات قبل. وحيان كان سيدا في بني حنيفة مطاعا فيهم ، وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة ، وكان الأعشى ينادمه ، والأعشى هذا : هو الأعشى الكبير أعشى قيس ، وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل.

وجابر : أخو حيّان أصغر منه.

ومعنى البيت أنّ فرقا بعيدا بين يومه في سفره وهو على كور ناقته وبين يوم حيان في رفاهيته ، فإنّ الأول كثير العناء شديد الشقاء ، والثاني وافر النعيم وافي الراحة. ووجه تمثّل الإمام بالبيت ظاهر بأدنى تأمل.

(٣٨) رووا أنّ أبا بكر قال بعد البيعة : (أقيلوني فلست بخيركم).

(٣٩) لشدّ ما تشطرا ضرعيها : جملة شبه قسمية اعترضت بين المتعاطفين والشطر أيضا أن تحلب شطرا وتترك شطرا ، فتشطرا : أي أخذ كلّ منهما شطرا. وسمّى شطري الضرع ضرعين مجازا : وهو هاهنا من أبلغ أنواعه حيث أنّ من ولي الخلافة لا ينال الأمر إلّا تامّا ، ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهما ، فأطلق على تناول الأمر واحدا بعد واحد اسم التشطر والاقتسام ، كأنّ أحدهما ترك منه شيئا للآخر ، وأطلق على كل شطر اسم الضرع نظرا لحقيقة ما نال كلّ منهما.

(٤٠) الكلام ـ بالضمّ ـ : الأرض الغليظة وفي نسخة كلمها. وإنّما هو بمعنى الجرح كأنّه يقول : خشونتها تجرح جرحا غليظا.

(٤١) الصعبة من الإبل : ما ليست بذلول. وأشنق البعير ، وشنقه : كفّه بزمامه حتى ألصق ذفراه : (العظم الناتئ خلف الأذن) بقادمة الرحل ، أو رفع رأسه وهو راكبه. واللام هنا زائدة للتحلية ولتشاكل أسلس. وأسلس : أرخى. وتقحّم : رمى بنفسه في القحمة ، أي : أهلكها.

قال الرضي : «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم» يريد أنّه إذا شدّد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها ، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم ـ

٢٥٣

خرم ، وإن أسلس لها تقحّم ، فمني النّاس لعمر الله ـ بخبط وشماس (٤٢) وتلوّن واعتراض ؛ فصبرت على طول المدّة ، وشدّة المحنة ؛ حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فيا لله وللشّورى (٤٣) متى

__________________

ـ يملكها. يقال : أشنق الناقة ، إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه ؛ وشنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكّيت في إصلاح المنطق. وإنّما قال : «أشنق لها» ولم يقل : «أشنقها» لأنه جعله في مقابلة قوله : «أسلس لها» فكأنّه عليه‌السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها. انتهى.

الصعبة : إما أن يشنقها فيخرم أنفها ، وإما أن يسلس لها فترمي به في مهواة تكون فيها هلكته.

(٤٢) مني الناس : ابتلوا وأصيبوا ، والشماس ـ بالكسر ـ : إباء ظهر الفرس عن الركوب. والنفار. والخبط : السير على غير جادة. والتلون : التبدل. والاعتراض : السير على غير خط مستقيم ، كأنّه يسير عرضا في حال سيره طولا يقال : بعير عرضي ، يعترض في سيره لأنه لم يتم رياضته ، وفي فلان عرضية ، أي : عجرفة وصعوبة.

(٤٣) لقد أوردنا تفصيل القصّة من أوثق المصادر في ما سبق ، وقال الشيخ محمد عبده في شرحه لهذا الكلمة :

كان سعد من بني عمّ عبد الرحمن كلاهما من بني زهرة ، وكان في نفسه شيء من عليّ كرم الله وجهه من قبل أخواله لأنّ أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ، ولعليّ في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور. وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان ؛ لأنّ زوجته أمّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط كانت أختا لعثمان من أمّه ، وكان طلحة ميّالا لعثمان لصلات بينهما ، على ما ذكره بعض رواة الأثر. وقد يكفي في ميله إلى عثمان انحرافه عن علي ، لأنّه تيميّ وقد كان بين بني هاشم وبني تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر وبعد موت عمر بن الخطاب (رض) اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا ، وانضمّ طلحة في الرأي إلى عثمان ، والزبير إلى علي ، وسعد إلى عبد الرحمن. وكان عمر قد أوصى بأن لا تطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام ، وأن لا يأتي الرابع إلا ولهم أمير وقال : إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الّذي فيه عبد الرحمن. فأقبل عبد الرحمن على عليّ وقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله ورسوله ـ (ص) ـ وسيرة الخليفتين من بعده. فقال عليّ : أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمي وطاقتي ؛ ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك ، فأجابه بنعم. فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة وقال : اللهم اسمع واشهد. اللهمّ إنّي جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان ، وصفق يده في يد عثمان. وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين وبايعه. قالوا : وخرج الإمام عليّ واجدا ، فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن : والله لقد تركت عليّا وإنّه من الّذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال : يا مقداد لقد تقصيت الجهد للمسلمين. فقال المقداد : والله إني لأعجب من قريش ، إنّهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أنّ رجلا أقضى بالحقّ ولا أعلم به منه. فقال عبد الرحمن : يا مقداد ، إني ـ

٢٥٤

اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر (٤٤)!! لكنّي أسففت إذ أسفوا (٤٥) وطرت إذ طاروا ؛ فصغى رجل منهم لضغنه (٤٦) ومال الآخر لصهره (٤٧) مع هن وهن (٤٨). إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (٤٩) بين نثيله ومعتلفه ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الرّبيع (٥٠) ، إلى أن انتكث فتله ، وأجهز عليه عمله (٥١) وكبت به بطنته (٥٢). فما راعني إلّا والنّاس كعرف الضّبع إليّ ينثالون (٥٣) عليّ من كلّ جانب ؛ حتّى

__________________

ـ أخشى عليك الفتنة فاتّق الله. ثم لمّا حدث في عهد عثمان ما حدث من قيام الأحداث من أقاربه على ولاية الأمصار ووجد عليه كبار الصحابة روي أنّه قيل لعبد الرحمن : هذا عمل يديك ، فقال : ما كنت أظنّ هذا به! ولكن لله عليّ أن لا أكلّمه أبدا ، ثم مات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان ، حتى قيل : إن عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول إلى الحائط لا يكلّمه! والله أعلم ، والحكم لله يفعل ما يشاء.

(٤٤) المشابه بعضهم بعضا دونه.

(٤٥) أسف الطائر : دنا من الأرض ؛ يريد أنه لم يخالفهم في شيء.

(٤٦) صغى صغيا وصغا صغوا : مال. والضغن : الضغينة يشير إلى سعد.

(٤٧) يشير إلى عبد الرحمن.

(٤٨) يشير إلى أغراض أخرى يكره ذكرها ، وقد أشرنا الى بعضها في باب مناقشة الشورى.

(٤٩) يشير إلى عثمان ، وكان ثالث الخلفاء. ونافجا حضنيه : رافعا لهما. والحضن : ما بين الإبط والكشح ؛ يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه. ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاما. والنثيل : الروث. والمعتلف : من مادة (علف) موضع العلف وهو معروف ، أي : لا همّ له إلا ما ذكر.

(٥٠) الخضم ، على ما في القاموس : الأكل مطلقا ، أو بأقصى الأضراس ، أو ملء الفم بالمأكول ، أو خاصّ بالشيء الرطب. والقضم : الأكل بأطراف الأسنان أخفّ من الخضم. والنبتة ـ بكسر النون ـ : كالنبات في معناه.

(٥١) انتكث فتله : انتقض. وأجهز عليه عمله : تمم قتله ، تقول : أجهزت على الجريح ، وذففت عليه.

(٥٢) البطنة ـ بالكسر ـ : البطر والأشر ، والكظة (أي : التخمة) والإسراف في الشبع. وكبت به : من كبا الجواد إذا سقط لوجهه.

(٥٣) عرف الضبع : ما كثر على عنقها من الشعر ، وهو ثخين ، يضرب به المثل في الكثرة والازدحام.

وينثالون : يتتابعون مزدحمين.

٢٥٥

لقد وطئ الحسنان ، وشقّ عطفاي (٥٤) ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (٥٥).

فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون (٥٦) كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بلى! والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم (٥٧) وراقهم زبرجها ، أما والّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة (٥٨) لو لا حضور الحاضر (٥٩) وقيام الحجّة بوجود النّاصر ، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم (٦٠) ، لألقيت حبلها على غاربها (٦١) ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (٦٢).

قالوا : وقام إليه رجل من أهل السواد (٦٣) عند بلوغه إلى هذا الموضع من

__________________

(٥٤) الحسنان : ولداه الحسن والحسين. وشقّ عطفاه : خدش جانباه من الاصطكاك. وفي رواية : (شقّ عطافي) ، والعطاف : الرداء. وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة.

(٥٥) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم ، يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه.

(٥٦) الناكثة : أصحاب الجمل. والمارقة : أصحاب النهروان. والقاسطون ـ أي الجائرون ـ : أصحاب صفّين.

(٥٧) حليت الدنيا : من حليت المرأة إذا تزيّنت بحليها. والزبرج : الزينة من وشي أو جوهر.

(٥٨) النسمة ـ محركة ـ : الروح ، وبرأها : خلقها.

(٥٩) من حضر لبيعته ، ولزوم البيعة لذمة الإمام بحضوره.

(٦٠) والناصر : الجيش الّذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة. والكظة : ما يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام ، والمراد استئثار الظالم بالحقوق. والسغب : شدة الجوع ، والمراد منه هضم حقوقه.

(٦١) الغارب : الكاهل ، والكلام تمثيل للترك وإرسال الأمر.

(٦٢) عفطة العنز : ما تنثره من أنفها ، تقول : عفطت تعفط من باب ضرب ، غير أنّ أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة. والأشهر في العنز النفطة بالنون ، يقال : ما له عافط ولا نافط ، أي نعجة ولا عنز. كما يقال : ماله ثاغية ولا راغية. والعفطة : الحبقة أيضا ، لكنّ الأليق بكلام أمير المؤمنين هو ما تقدم.

(٦٣) السواد : العراق ، وسمّي سوادا لخضرته بالزرع والأشجار ، والعرب تسمّي الأخضر ـ

٢٥٦

خطبته فناوله كتابا ، فأقبل ينظر فيه ، فقال له ابن عبّاس رضي الله عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطّردت خطبتك من حيث أفضيت.

فقال : هيهات يا ابن عبّاس ، تلك شقشقة (٦٤) هدرت ثمّ قرّت.

قال ابن عبّاس : فو الله ما أسفت على كلام قطّ كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين (ع) بلغ منه حيث أراد.

نسوا أو تناسوا كلّ هذه الأقوال من الإمام علي (ع) وتمسّكوا بقول احتجّ به الإمام عليّ على معاوية لالتزام معاوية ونظرائه به.

الرابع ـ مناقشة الاستدلال بأنّ الخلافة تقام بالقهر والغلبة

من سبر التاريخ الإسلامي ، وجد أنّ حكم الخلافة إلى عهد الخلفاء العثمانيّين الأتراك كان يقوم على أساس القسر ، وشذّ قيامه خلاف ذلك مثل حكم الإمام علي (ع) وهذا هو الصّحيح في الأمر ولا مناقشة لنا في ذلك.

أمّا ما قالوا : (من غلب عليهم بالسيف حتّى صار خليفة وسمّي أمير المؤمنين فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما برّا كان أو فاجرا).

لست أدري عمّ يتكلّم هؤلاء الأعلام : عن شريعة الله في إقامة الحكم في المجتمع الإسلامي ، أم عن شريعة الغاب لمجتمع الأسود والفهود!؟

ولكي لا يؤاخذنا البعض على إيراد أقوال السّابقين باعتقاد أنّ أهل هذا العصر لا يوافقونهم في آرائهم ومعتقداتهم ويقول الآخرون : (فلنكن اليوم في

__________________

ـ أسود. قال الله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) يريد الخضرة ، كما هو ظاهر.

(٦٤) الشقشقة ـ بكسر فسكون فكسر ـ : شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج ، وصوت البعير بها عند إخراجها هدير ، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الآلة ؛ قال في القاموس : والخطبة ـ

٢٥٧

حاضر الإسلام) (٦٥) ، نثبت هنا صورة غلاف كتاب طبع لمدارس بلد فيه الكعبة البيت الحرام ومسجد الرّسول وحرمه ، والكتاب يثني على يزيد ويروي الحديث في مدحه ، يزيد الّذي رمى الكعبة بالمنجنيق وأباح مسجد الرسول وحرمه لجيشه ثلاثة أيام يقتلون النّاس ويقعون على النساء ، كما سيأتي تفصيله في باب (جيش الخلافة يستبيح حرم الرسول) وباب (مسير جيش الخلافة إلى مكّة). وينشر في الحرمين الشّريفين للدفاع عن يزيد والثناء عليه هذا الكتاب :

__________________

ـ الشقشقية العلوية ، وهي هذه.

(٦٥) مجلة الأزهر ، مجلد ٣٢ ، باب الكتب من جلد ١٠ ، سنة ١٣٨٠ ص ١١٥٠ ـ ١١٥١ في نقده لكتاب عبد الله بن سبأ.

٢٥٨

٢٥٩

اطاعة الإمام الجائر المخالف لسنة الرسول (ص)

رأينا في بحث وجوب طاعة الإمام بمدرسة الخلفاء كيف رووا عن رسول الله (ص) النهي عن الخروج على السلطان الجائر المخالف لسنّة الرسول (ص) وجوب طاعته ؛ أمّا مدرسة أهل البيت (ع) فقد رووا عن رسول الله (ص) روايات تناقض تلك الروايات مثل رواية الإمام الحسين (ع) سبط رسول الله (ع) عن جده قال :

«من رأى سلطانا جائرا مستحلّا لحرم الله ناكثا عهده مخالفا لسنّة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّا على الله أن يدخله مدخله» (٦٦).

وبمقارنة نظير هذه الروايات بروايات مدرسة الخلفاء ، أدركنا أنّ تلكم الروايات بمدرسة الخلفاء إنّما رويت عن رسول الله (ص) احتسابا للخير وتأييدا للسّلطات الحاكمة على المسلمين ، وكان ذلك في أوائل العصر الأمويّ ، ثمّ دوّنوها في عصر تدوين الحديث أوائل القرن الثاني الهجري بكتب الحديث صحاحها ومسانيدها (٦٧) وتسالموا جميعا على صحّتها والعمل بها ، وشرحها وعلّق عليها وأكّدها علماء بلاط السّلطات الحاكمة من محدّثين وقضاة وخطباء وأئمة الجمعة والجماعة وأشباههم مدى العصور في شتّى البلاد منذ عصر الخلافة الأمويّة بالشّام والأندلس ثم العباسيّة في بغداد والعثمانيّين في تركيا وحكّام المماليك في مصر والسلاجقة والغزنويّين في إيران والاكراد في الشّام ، وأغدقت تلك السّلطات عليهم الجاه والمال والحظوة في بلاطها ،

__________________

(٦٦) في خطبة الإمام الحسين (ع) لجيش حرّ بن يزيد الرياحي ، بتاريخ الطبري وابن الأثير ومقتل الخوارزمي.

(٦٧) تأتي الإشارة إليه في أوائل الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.

٢٦٠