معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

القرآن وروايات أئمة أهل البيت (ع).

ج ـ خليفة الرسول في حديث الرسول (ص): من يقوم بتبليغ حديثه وسنّته.

د ـ في مصطلح المسلمين سمّي أبو بكر بخليفة رسول الله (ص) ، وسمّي عمر بخليفة خليفة رسول الله ، ثم سمّي عمر بأمير المؤمنين وبقيت هذه التسمية للحاكم الإسلامي الأعلى إلى آخر الخلفاء العثمانيين ، وفي العهدين الأموي والعباسي اضيف إلى ذلك تسميته بخليفة الله ، وإلى جانب ذين الاسمين اشتهرت تسمية الحاكم الأعلى في العهد العثماني ب (الخليفة) أي خليفة الرسول ، وانتشرت هذه التسمية لدى المسلمين بعد العهد العثماني حتّى اليوم ، وقيل لجميع من ولي الحكم بعد الرسول (ص) إلى العثمانيين ب (الخليفة) أي خليفة الرسول (ص) ، وسمّي الخلفاء الأربعة بعد الرسول (ص) ب (الخلفاء الراشدين) ، وانتقل مصطلح (الخليفة) إلى أتباع مدرسة أهل البيت وسمّوا من ولي الحكم بعد الرسول (ص) إلى العثمانيين ب (الخليفة) ، وقد أدّت الغفلة عن هذا الأمر إلى التشويش على المسلمين فاشتهر لدى مدرسة الخلفاء أنّ الرسول (ص) ترك أمّته هملا ولم يعين المرجع من بعده لأن المصطلح الذي استحدثوه بعد الرسول (ص) لم يرد في حديث الرسول (ص) ، واستند أتباع مدرسة أهل البيت إلى ما ورد عن الرسول (ص) في تعيين الإمام عليّ وصيّا بعده ، وقالوا : إن الرسول (ص) عيّنه خليفة للمسلمين بالمعنى الذي استحدثه المسلمون للخليفة بعد الرسول (ص) ، واشتدّ الخلاف بين المسلمين في هذا الأمر.

وسيأتي البحث في ما فعله الرسول (ص) ، وما قاله في هذا الصدد بما يكشف عن حقيقة الأمر ، بعيد هذا إن شاء الله تعالى.

٢٢١

رابعا ـ أمير المؤمنين

ممّا أوردنا سابقا عرفنا أن لفظ أمير المؤمنين استعمل منذ عصر الخليفة عمر بن الخطاب وأريد به الحاكم الإسلاميّ الأعلى ، وبقي متداولا كذلك إلى عصر العثمانيّين.

خامسا ـ الإمام

الإمام في اللّغة : الإنسان الّذي يؤتمّ به ويقتدى بقوله أو فعله محقّا كان أو مبطلا (٣٥) ، كما ورد في قوله تعالى :

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) الإسراء / ٧١ ـ ٧٢.

ومن الثّاني ما ورد ذكره في قوله تعالى :

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) التوبة / ١٢.

والإمام في الإسلام هو الهادي إلى سبيل الله بأمر من الله إنسانا كان كما ورد ذكره في قوله تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة / ١٢٤.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ...) الأنبياء / ٧٣.

أو كان كتابا كما ورد ذكره في قوله تعالى :

(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) هود / ١٧.

__________________

(٣٥) راجع مادة (أمّ) في معاجم اللغة.

٢٢٢

وندرك من فحوى الآيتين المذكورتين أعلاه أن شرط الإمام في الإسلام إن كان كتابا أن يكون منزلا من قبل الله على رسله لهداية النّاس كما كان شأن كتاب محمّد (ص) : القرآن الكريم ، ومن قبله كتاب موسى : التوراة ، وكذلك شأن كتب سائر الأنبياء (٣٦).

وإن كان إنسانا أن يكون معيّنا من قبل الله لقوله تعالى :

(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) و (عَهْدِي).

وأن يكون غير ظالم لنفسه ولا لغيره أي غير عاص لله لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وفي ضوء ما سبق يصحّ القول بأنّ الإمام في الاصطلاح الإسلامي هو :

أ ـ الكتاب المنزل من قبل الله على رسله لهداية النّاس.

ب ـ الإنسان المعيّن من قبل الله لهداية الناس وشرطه أن يكون معصوما من الذنوب.

سادسا ـ الأمر وأولو الأمر

لمعرفة معنى (الأمر) و (أولي الأمر) وهل هما مصطلحان شرعيّان أم لا؟ نستعرض في ما يلي موارد استعمالهما في لغة العرب وعرف المسلمين والنصوص الإسلامية كتابا وسنة ، فنقول :

أ ـ في لغة العرب

ورد في سيرة ابن هشام ، والطّبري ، وغيرهما ، أنّ رسول الله كان يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الإسلام ، ويخبرهم أنه نبيّ

__________________

(٣٦) راجع مادة : (الكتاب) في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

٢٢٣

مرسل من قبل الله ، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبيّن عن الله ما بعثه به.

قال : وإنّه أتى بني عامر بن صعصعة ذات مرّة فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس (٣٧) : والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثمّ قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» قال: فقال له : أفنهدف نحورنا (٣٨) للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك (٣٩).

* * *

إنّ هذا العربي كان يفهم (أمر رسول الله (ص)) على أنه سيادة وحكم على العرب ، فأراد أن يعقد مع الرسول (ص) حلفا يكون لقبيلته الحكم والسيادة على العرب من بعد الرسول (ص) ، لكنّ الرسول (ص) امتنع من إجابته رغم حاجته الشديدة يوم ذاك إلى المؤازرين ، لأنّ الأمر ليس إليه وإنّما الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء.

وكذلك كان شأن هوذة بن عليّ الحنفي في طلبه من الرسول (ص) حين دعاه الرسول (ص) إلى الإسلام كما في طبقات ابن سعد ، ما ملخّصه : كتب رسول الله (ص) إلى هوذة بن عليّ الحنفي يدعوه إلى الإسلام ،

__________________

(٣٧) قال ابن هشام : فراس ، ابن عبد الله بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. سيرة ابن هشام ٢ / ٣٣.

(٣٨) (أفنهدف نحورنا) معناه نصيّرها هدفا ، والهدف : الغرض الّذي يرمى بالسهام إليه.

(٣٩) سيرة ابن هشام ٢ / ٣١ ـ ٣٤. والطبري ، ط. أوربا ١ / ١٢٠٥ ـ ١٢٠٦.

٢٢٤

فكتب في جواب النبيّ (ص) : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني ، فاجعل لي بعض الأمر أتّبعك ، فقال النبي (ص) : «لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت» (٤٠).

نرى أن الرسول (ص) قصد من (سيابة) : الأرض المهملة. إذن فقد طلب هوذة من الرسول (ص) أن يجعل له بعض الأمر : إمارة ما على أرض أو قبيلة وما شابههما ، فأجابه الرسول (ص) أنّه لا يؤمّره ولا على سيابة من الأرض ، وهذا القول من الرسول (ص) نظير قول أهل الكوفة أو البصرة عند ما وظّف واليهم على كلّ واحد منهم نقل كميّة من الحصباء إلى مسجدهم الجامع ليفرشه بالحصباء ، وأمر عليهم أحدهم وكان يتصعّب في قبول الحصباء منهم ، فقالوا : يا حبّذا الإمارة ولو على الحجارة! وكذلك الأمر في الخبر السابق ، فإنّ هوذة طلب من الرسول الإمارة (ولو على الحجارة) فأجابه الرسول (ص) : لا ، ولا على الحجارة.

ب ـ في عرف المسلمين :

كان أكثر استعمال (الأمر) في عرف المسلمين يوم السّقيفة وما بعدها ، قال سعد بن عبادة للأنصار يوم السقيفة :

(استبدّوا بهذا الأمر دون الناس ...).

__________________

(٤٠) طبقات ابن سعد ، ط. أوربا ١ / ق ٢ / ١٨.

وقالوا في السيابة : واحدة السياب : البسر الأخضر ، وعلى هذا لم يكن من المناسب أن يقول ولا سيابة أي لا بسر من الأرض بل كان المناسب أن يقول ولا بسر من التمر. ونرى أن السيابة مشتقة من السيب وهو كلّ سيب وخلي ، ومنه السائبة : أي الدابة المهملة ، ويكون المعنى : الأرض الخالية والمتروكة.

٢٢٥

وأجابته الأنصار بقولهم : (نولّيك هذا الأمر).

ثمّ ترادوا الكلام وقالوا : فان أبت مهاجرة قريش فقالوا : ... نحن عشيرته وأولياؤه فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده؟ ...).

وقال أبو بكر في احتجاجه عليهم يوم ذاك : (ولن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ...).

وقال ـ أيضا ـ في قريش : (هم أحقّ الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم ذلك إلّا ظالم).

وقال عمر ـ أيضا ـ يوم السقيفة : (من ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته ونحن أهله وعشيرته).

وقال الحباب بن المنذر في جوابه : (لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ... فأنتم والله أحق بهذا الأمر ...).

وقال بشير بن سعد عندئذ في حقّ قريش : (لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا)(٤١).

ج ـ في النصوص الإسلامية :

لقد ورد في حديث الرسول ذكر (الأمر) كثيرا ممّا سندرسه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى. ونكتفي هنا بتسجيل كلمة الرسول (ص) في جواب العامري :

«إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء».

وقد ورد في كتاب الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

__________________

(٤١) كل هذه المحاججات وردت في خبر السقيفة بتاريخ الطبري ، ط. أوربا ١ / ١٨٣٧ ـ ١٨٥١.

٢٢٦

مِنْكُمْ ...) النساء / ٥٩.

* * *

في كلّ هذه الموارد سواء في لغة العرب ، وعرف المسلمين ، والنصوص الإسلامية سنّة وكتابا ، إنّما أريد من (الأمر) أمر الإمامة والحكم على المسلمين.

وعلى هذا فإنّ (الأمر) استعمل في الشّرع الإسلاميّ بنفس المعنى الّذي استعمل فيه لدى العرب والمسلمين ، ولا مانع بعد ذلك أن نسمّي (أولي الأمر) مصطلحا شرعيّا وتسمية إسلامية وأنّه أريد به الإمام بعد النبيّ (ص) ، ولا خلاف في ذلك ، ولكنّ الخلاف بين المدرستين في من يصدق عليه تسمية أولي الأمر ، فإنّ مدرسة أهل البيت (ع) ترى أنّه لمّا كان المقصود من أولي الأمر : الأئمة ، فلا بدّ أن يكون منصوبا من قبل الله ، معصوما من الذّنوب على التفصيل الّذي سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله.

وترى مدرسة الخلافة أنّ (أولي الأمر) : من بايعه المسلمون بالحكم. وبناء على ذلك يرون وجوب طاعة كلّ من بايعوه ، وعلى هذا الأساس أطاعوا الخليفة يزيد بن معاوية فقتلوا وسبوا آل بيت رسول الله (ص) بكربلاء ، وأباحوا مدينة الرسول (ص) ثلاثة أيّام ، ورموا الكعبة بالمنجنيق ، كما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله تعالى.

سابعا ـ الوصيّ والوصيّة

ورد مصطلح الوصيّ والوصيّة ومشتقّاتهما في كلام العرب بالمعاني الآتية :

يقال لإنسان حيّ يعهد لإنسان آخر أن يقوم بأمر يهمّه بعد وفاته : الموصي ، وللآخر : الوصيّ ، وللأمر الموصى به : الوصيّة ؛ وتجري الوصية بلفظ الوصيّة ومشتقّاتها تارة مثل أن يقول الموصي لوصيّه : أوصيك بعدي برعاية

٢٢٧

أهلي أو إدارة مدرستي ، وأن تفعل كذا وكذا ، وأخرى بلفظ يؤدّي معنى الوصيّة ، مثل أن يقول الموصي لوصيّه : أطلب منك أن تقوم بعدي برعاية أهلي وإدارة مدرستي وتفعل كذا وكذا ....

ويخبر الموصي الآخرين عن وصيّته أحيانا بلفظ : أوصيت إلى فلان ، ووصيّي فلان ، وأخرى يقول : عهدت إلى فلان ، أو : أوكلت إليه أن يقوم بكذا ، وكلا اللّفظين يؤدّيان معنى واحدا ، وهكذا نظائرهما.

كان هذا موجز معنى مصطلح الوصيّ والوصيّة ومشتقاتهما في لغة العرب ، وبنفس المعنى وردت في القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة ؛ قال الله سبحانه في سورة البقرة الآيات ١٨٠ ـ ١٨٢ :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) ـ إلى قوله تعالى ـ : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) وفي سورة المائدة الآية ١٠٦ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ...) وكذلك وردت في سورة النّساء الآيتان ١١ و ١٢.

وممّا ورد في السنّة النبويّة ما رواه كلّ من البخاري في أوّل كتاب الوصايا من صحيحه ، ومسلم في كتاب الوصيّة من صحيحه (٤٢) :

إنّ رسول الله (ص) قال : «ما حقّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه أن يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبة عنده».

وللوصيّة أحكامها في الفقه الإسلامي. وبناء على ما ذكرنا إنّ لفظي الوصيّ والوصيّة من المصطلحات الإسلاميّة.

والوصيّة من الأنبياء والرسل كما سننقل أمثلة منها من التوراة والإنجيل

__________________

(٤٢) صحيح البخاري ٢ / ٨٣. وصحيح مسلم بشرح النووي ١١ / ٧٤.

٢٢٨

أن يعهد الرسل إلى أوصيائهم حمل شريعتهم بعدهم إلى الناس ورعاية أمّتهم من بعدهم.

وفي هذه الأمّة فعل خاتم الأنبياء (ص) مثل من سبقه من الرسل وعهد إلى الإمام عليّ (ع) تبليغ شريعته ورعاية أمّته من بعده ، وبواسطته عهد ذلك إلى بنيه الأئمة الأحد عشر من بعده وأخبر النبيّ المسلمين بكلّ ذلك ، تارة بلفظ الوصيّ والوصيّة ومشتقّاتهما ، وأخرى بألفاظ أخرى تؤدي المعنى نفسه. فلقّب الإمام عليّ بلقب الوصيّ وأصبح علما له ، كما سيأتي بيان كل ذلك في باب النصوص الواردة عن رسول الله (ص) في تعيين وليّ الأمر من بعده مع بيان قول من أنكر ذلك ورأى أنّ رسول الله (ص) لم يهتمّ بأمر المسلمين ولم يوص إلى أحد من بعده ، إن شاء الله تعالى.

٢٢٩

دراسة رأي مدرسة الخلفاء

بعد دراسة المصطلحات السبعة الماضية تتيسّر لنا دراسة رأي المدرستين في الخلافة والإمامة وما استدلّوا به في هذا المقام ، ونبدأ بدراسة آراء مدرسة الخلافة في ما يأتي.

رأي مدرسة الخلافة وما استدلّوا به :

أولا ـ قال الخليفة أبو بكر (١) :

لن يعرف هذا الأمر إلّا لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين (عمر وأبي عبيدة) فبايعوا أيّهما شئتم.

ثانيا ـ قال عمر بن الخطاب (٢) :

فلا يغترّنّ امرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا

__________________

(١) البخاري ، كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى.

(٢) البخاري ، كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى.

٢٣٠

وإنّها قد كانت كذلك ، ولكنّ الله وقى شرّها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه تغرّة أن يقتلا.

مناقشة الاستدلالين

أشرنا هنا أولا إلى استدلال الخليفة أبي بكر في السقيفة ، وثانيا إلى رفع الخليفة عمر شعار الشورى لولاية الأمر من بعده. أمّا ما كان من احتجاج الخليفة أبي بكر في السقيفة ، فإنّ الحقيقة في أمر احتجاجات جميعهم يوم ذاك ، هي أنّها كانت تجري وفق المنطق القبلي ؛ فإنّ الأنصار لمّا تركوا جثمان رسول الله (ص) ملقى بين أهله ، وبادروا إلى سقيفة بني ساعدة ليولّوا سعدا ما قالوا إنّ سعدا أفضل من غيره وأولى بهذا الأمر ، بل قالوا : إنّ الناس في فيئكم ولا يجترئ مجترئ عليكم.

وإنّ مهاجرة قريش ـ أيضا ـ لمّا التحقوا بهم احتجّوا بالمنطق القبلي حين قالوا : إنّ قريشا أوسط العرب دارا ، وقالوا : من ذا ينازعنا سلطان محمّد ونحن أهله وعشيرته!؟

وكذلك كان قول الأنصاريّ حين قال : منّا أمير ومنكم أمير ، وقول المهاجري حين قال : نحن الأمراء وأنتم الوزراء.

وكذلك كان دافع أسيد بن حضير وسائر من حضر من أفراد قبيلته الأوس قبليّا حين خافوا سلطة الخزرج عليهم ، وتذكّروا حرب البعاث بينهم ، والّتي لم يكن قد مضى عليها عقدان من الزمن وقالوا : والله لئن وليتها عليكم الخزرج مرّة ، لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر.

وتمّت الغلبة أخيرا لمهاجرة قريش بمجيء قبيلة (أسلم) الّتي ملأت

٢٣١

سكك المدينة ، وبايعت أبا بكر ونصرت مهاجرة قريش على الأنصار. وحقّ للخليفة عمر بعد ذلك أن يعتبر بيعة أبي بكر فلتة!

* * *

كانت هذه حقيقة تلك الواقعة مهما كان نوع الاستدلال فيها.

أمّا ما ذكره الخليفة عمر من أمر الشورى ، فسندرسه بحوله تعالى ضمن دراسة آراء أتباع مدرسة الخلفاء في ما يأتي.

ثالثا ـ آراء أتباع مدرسة الخلفاء في أمر الخلافة :

تتلخّص آراء مدرسة الخلفاء في شأن الخلافة وإقامتها في الأمرين التاليين :

أولا ـ تقام الخلافة :

أ ـ بالشورى

ب ـ بالبيعة

ج ـ باتّباع ما عملته الصحابة في إقامتها

د ـ بالقهر والغلبة

ثانيا ـ يجب طاعة الخليفة بعد ما بويع ، وإن عصى ربّه.

* * *

بعد دراسة المصطلحات المذكورة تتيسّر لنا دراستها واحدة بعد الأخرى في ما يأتي :

الأول ـ مناقشة الاستدلال بالشّورى

إنّ أوّل من ذكر الشّورى وأمر بها لإقامة الخلافة هو الخليفة عمر بن الخطاب ، غير أنه لم يأت بدليل على أن الإمامة في الإسلام تقام بالشورى ،

٢٣٢

واستدلّ المتأخّرون من أتباع مدرسة الخلفاء على صحّة إقامة الإمامة بالشورى بآيتين من كتاب الله ، وبما ورد عن رسول الله (ص) أنّه كان يستشير أصحابه في بعض الأمور المهمّة ، وبكلمة عن الإمام عليّ. ونحن نبدأ هنا بدراسة ما استدلّوا به في هذا الصّدد ثمّ ندرس الشورى الّتي أمر بها الخليفة عمر.

الاستدلال للشورى بكتاب الله وسنة رسوله

استدلّوا :

أ ـ بقوله تعالى للمؤمنين : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى / ٣٨.

ب ـ بقوله تعالى لرسوله (ص) : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران / ١٥٩.

ج ـ إنّ رسول الله (ص) كان يستشير أصحابه في الأمور المهمّة ، فنقول :

أولا ـ الاستدلال بآية (وَأَمْرُهُمْ شُورى)

إنّ هذه الجملة من الآية ٣٨ من سورة الشورى جاء بعدها : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). كلتا الجملتين تدلان على رجحان الفعل فيهما ، وليس على وجوب التشاور والإنفاق.

هذا أولا ، وثانيا إنّما يصح التشاور في أمر لم يرد فيه من الله ورسوله حكم ، فقد قال الله سبحانه :

(ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب / ٣٦.

وسيأتي بعيد هذا ما ورد عن الله ورسوله (ص) في أمر الإمامة ما لا يبقى معه مورد للتشاور.

ثانيا ـ الاستدلال بآية (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

إنّ هذه الآية التاسعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران قد وردت

٢٣٣

ضمن سلسلة من آيات ١٣٩ ـ ١٦٦ منها ، وكلّها في أمر غزوات الرسول (ص) وكيف نصرهم الله فيها ، وفي بعضها يخاطب المسلمين وخاصة الغزاة منهم ويعظهم ، وفي بعضها يخاطب الرسول (ص) خاصّة ومن ضمنها هذه الآية :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

يظهر جليّا أنّ الأمر بالمشاورة في هذه الآية كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ولم يكن أمرا بالعمل برأيهم ، بل قال له : فإذا عزمت فتوكّل واعمل برأيك. ويفهم من المجموع أيضا أنّ مقام المشاورة الراجحة إنّما هو في الغزوات ، وما ذكره من مشاورة الرسول (ص) أصحابه أيضا كانت في الغزوات كما سنذكرها في ما يأتي :

ثالثا ـ الاستدلال بمشاورة الرسول (ص) أصحابه

إنّ مشاورة الرسول (ص) أصحابه كانت في الغزوات فقط ، كما صرح بذلك الصحابي أبو هريرة ، وقال :

فلم أر أحدا كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت مشاورته أصحابه في الحرب فقط (٣). وأشهرها مشاورته معهم في غزوة بدر ، وقصتها كما يأتي :

أ ـ غزوة بدر

ندب رسول الله (ص) أصحابه للتعرّض لقافلة قريش التجارية الراجعة

__________________

(٣) كتاب المغازي للواقدي ٢ / ٥٨٠. تحقيق الدكتور مارسدن جونس.

٢٣٤

من الشام بقيادة أبي سفيان وخرج معه ٣١٣ شخصا ممّن استعدّ للاستيلاء على القافلة التجارية وليس للقتال ، وبلغ الخبر أبا سفيان فانحرف في سيره عن الطريق ، واستصرخ قريشا بمكّة فخرجت مستعدّة للقتال في جيش يقارب الألف محارب ، وأفلت أبو سفيان والقافلة ، فكان الرسول (ص) أمام خيارين : التراجع إلى المدينة بسلام ، أو مقاتلة جيش قريش المتأهّب للقتال بجيشه غير المتكافئ عددا وعدّة.

تفصيل الخبر :

روى ابن هشام في سيرته وقال :

وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا غيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثمّ قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثمّ قام المقداد(٤).

ثمّ ذكر ما قاله المقداد وما قالته الأنصار ، بينا لم يذكر ما قاله أبو بكر ثمّ عمر! وفي صحيح مسلم :

فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه ، فقام المقداد ... (٥).

إنّ مسلما هكذا ذكر أيضا ، ولم يذكر ما تكلّم به أبو بكر ، وكلاهما لم يتمّا ذكر الخبر ، ونحن ننقل تمام الخبر من مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي واللفظ للأول قال: قال عمر :

يا رسول الله ، إنّها والله قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ، والله ما آمنت منذ كفرت ، والله لا تسلم عزّها أبدا ، ولتقاتلنّك ، فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته. ثم قام المقداد بن عمرو فقال :

__________________

(٤) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٥٣.

(٥) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة بدر ٣ / ١٤٠٣.

٢٣٥

يا رسول الله ، امض لأمر الله فنحن معك ؛ والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) المائدة / ٢٤ ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ؛ والّذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ـ وبرك الغماد من وراء مكّة بخمس ليال من وراء الساحل ممّا يلي البحر ، وهو على ثماني ليال من مكّة إلى اليمن ـ فقال له رسول الله (ص) خيرا ، ودعا له بخير.

ثمّ قال رسول الله (ص) : «أشيروا عليّ أيّها الناس!» وإنما يريد رسول الله (ص) الأنصار ، وكان يظنّ أنّ الأنصار لا تنصره إلّا في الدار ، وذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأولادهم. فقال رسول الله (ص) : «أشيروا عليّ!» فقام سعد بن معاذ فقال :

أنا أجيب عن الأنصار ؛ كأنك يا رسول الله تريدنا! فقال : «أجل». قال :

إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره ، وإنّا قد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ كلّ ما جئت به حقّ ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السّمع والطاعة ؛ فامض يا نبيّ الله ؛ فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما بقي منّا رجل ؛ وصل من شئت ، واقطع من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت. والّذي نفسي بيده ، ما سلكت هذا الطريق قطّ ، وما لي بها من علم ، وما نكره أن يلقانا عدوّنا غدا ؛ إنّا لصبر عند الحرب. صدق عند اللّقاء ، لعلّ الله يريك منّا ما تقرّ به عينك.

حدّثنا محمّد قال : حدّثنا الواقديّ قال : فحدّثني محمّد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد قال : قال سعد :

يا رسول الله ، إنّا قد خلّفنا من قومنا قوما ما نحن بأشدّ حبّا لك منهم ،

٢٣٦

ولا أطوع لك منهم ، لهم رغبة في الجهاد ونيّة ؛ ولو ظنّوا يا رسول الله أنّك ملاق عدوّا ما تخلّفوا ، ولكن إنما ظنّوا أنّها العير. نبني لك عريشا فتكون فيه ونعدّ لك رواحلك ، ثمّ نلقى عدوّنا ، فإن أعزّنا الله وأظهرنا على عدوّنا كان ذلك ما أحببنا ، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا.

فقال له النبيّ (ص) خيرا ، وقال : «أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد!»

قالوا : فلمّا فرغ سعد من المشورة ، قال رسول الله (ص) :

«سيروا على بركة الله. فإنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله ، لكأني أنظر إلى مصارع القوم». قال : وأرانا رسول الله (ص) مصارعهم يومئذ ؛ هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، فما عدا كلّ رجل مصرعه. قال : فعلم القوم أنّهم يلاقون القتال ، وأنّ العير تفلت ، ورجوا النّصر لقول النبي (ص) (٦).

كانت استشارة رسول الله (ص) في هذا المقام : أنّه استشار أصحابه في ما ذا يفعلون ، بعد أن أخبره الله سبحانه وتعالى بأنّهم سيقاتلون وينتصرون ، وأخبره بمصارع القوم والرسول (ص) أيضا أخبر أصحابه بمصارع القوم بعد أن وافقوه على القتال ، فهو إذ يستشيرهم لا يريد الاستفادة من رأيهم ، وإنّما هو نوع من الملاينة وإخبار بإفلات غير قريش وتغيير الأمر من الاستيلاء على مال التجارة إلى القتال ليستعدّوا للقتال.

ب ـ غزوة أحد

كانت تلكم مشاورة الرسول (ص) أصحابه في غزوة بدر. وفي ما يلي قصّة مشاورة الرسول أصحابه في غزوة أحد وفي هذه المشاورة عمل رسول

__________________

(٦) مغازي الواقدي ، ط. آكسفورد ١ / ٤٨ ـ ٤٩. وإمتاع الأسماع للمقريزي ص ٧٤ ـ ٧٥.

٢٣٧

الله (ص) برأي أصحابه ، كما ورد في مغازي الواقدي وإمتاع الأسماع للمقريزي (٧) ، قالا :

إنّ رسول الله (ص) صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال :

«أيّها النّاس ، إنّي رأيت في منامي رؤيا : رأيت كأنّي في درع حصينة ، ورأيت كأنّ سيفي ذا الفقار انقصم (٨) من عند ظبته (٩) ، ورأيت بقرا تذبح ؛ ورأيت كأنّي مردف كبشا».

فقال الناس : يا رسول الله (ص) ، فما أوّلتها؟ قال :

«أما الدّرع الحصينة فالمدينة ، فامكثوا فيها. وأمّا انقصام سيفي من عند ظبته فمصيبة في نفسي. وأما البقر المذبّح فقتلى في أصحابي. وأمّا أنّي مردف كبشا فكبش الكتيبة نقتله إن شاء الله».

وفي رواية :

«وأمّا انقصام سيفي فقتل رجل من أهل بيتي». وقال : «أشيروا عليّ» ورأى رسول الله (ص) ألّا يخرج من المدينة فوافقه عبد الله بن أبيّ والأكابر من الصّحابة مهاجرهم وأنصارهم ، وقال عليه‌السلام : «امكثوا في المدينة واجعلوا النّساء والذّراريّ في الآطام ، فإن دخل علينا قاتلناهم في الأزقّة ـ فنحن أعلم بها منهم ـ ورموا من فوق الصياصي والآطام» (١٠). وكانوا قد شبّكوا المدينة بالبنيان من كلّ ناحية فهي كالحصن ، فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدرا وطلبوا الشهادة وأحبّوا لقاء العدوّ : اخرج بنا إلى عدوّنا. وقال حمزة ، وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك بن ثعلبة ، في طائفة من الأنصار : إنّا نخشى يا رسول الله أن يظنّ عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم ،

__________________

(٧) مغازي الواقدي ص : ٢٠٨ ـ ٢١٤. وإمتاع الأسماع للمقريزي ص ١١٣ ـ ١١٨.

(٨) انقصم : تكسّر وتثلم.

(٩) الظّبة : حدّ السيف من قبل ذبابه وطرفه.

(١٠) الصياصي جمع صيصية : وهي الحصون ، والآطام جمع أطم : وهي بيوت من حجارة كانت لأهل المدينة.

٢٣٨

فيكون هذا جرأة منهم علينا ؛ وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك الله عليهم ، ونحن اليوم بشر كثير ؛ قد كنّا نتمنّى هذا اليوم وندعو الله به ، فساقه الله إلينا في ساحتنا. ورسول الله (ص) لما يرى من إلحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح. وقال حمزة : والّذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتّى أجالدهم (١١) بسيفي خارجا من المدينة ، وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما. وتكلّم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، والنّعمان بن مالك بن ثعلبة ، وإياس بن أوس بن عتيك ، في معنى الخروج للقتال. فلمّا أبوا إلّا ذلك صلّى (١٢) رسول الله (ص) الجمعة بالناس وقد وعظهم وأمرهم بالجدّ والجهاد ؛ وأخبرهم أنّ لهم النصر ما صبروا. ففرح النّاس بالشّخوص (١٣) إلى عدوّهم ، وكره ذلك المخرج كثير. ثمّ صلّى رسول الله (ص) العصر بالنّاس وقد حشدوا ، وحضر (١٤) أهل العوالي (١٥) ورفعوا النّساء في الآطام ، ودخل (ص) بيته ومعه أبو بكر وعمر (رض) فعمّماه ولبّساه. وقد صفّ الناس له ما بين حجرته إلى منبره ، فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقالا للنّاس: قلتم لرسول الله (ص) ما قلتم واستكرهتموه على الخروج ، والأمر ينزل عليه من السماء ، فردّوا الأمر إليه فما أمركم فافعلوه ، وما رأيتم فيه له هوى أو رأي فأطيعوه. فبينا هم على ذلك إذ خرج رسول الله (ص) قد لبس لأمته (١٦) ، ولبس الدرع فأظهرها وحزم وسطها بمنطقة (١٧) [من أدم] (١٨) من حمائل

__________________

(١١) جالد بالسيف : ضرب به كأنه يجلد بسوط لسرعة ضربه وتتابعه.

(١٢) في الأصل : (صلى الله).

(١٣) الشخوص : الخروج.

(١٤) في الأصل : (حضرو).

(١٥) العوالي : ضيعة بينها وبين المدينة ثلاثة أميال.

(١٦) اللأمة : أداة الحرب ولباسها ، كالرمح والبيضة والمغفر والسيف والنبل.

(١٧) المنطقة والنطاق ، كلّ ما يشدّ به الوسط كالحزام.

(١٨) الذي بين المعقوفتين كان في الأصل بعد قوله : (حمائل سيف) ، وهذا حقّ موضعه.

٢٣٩

سيف ، واعتمّ ، وتقلّد السيف. فقال الّذين يلحّون : يا رسول الله ، ما كان لنا أن نخالفك ، فاصنع ما بدا لك ، فقال : «قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ، ولا ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يحكم الله بينه وبين أعدائه ، انظروا ما أمرتكم به فاتّبعوه ، امضوا على اسم الله فلكم النّصر ما صبرتم».

* * *

لعلّ الحكمة في استجابة رسول الله (ص) لإلحاح أصحابه في الخروج أنّه لو لم يستجب لهم الرسول لأثّر في أنفسهم تأثيرا سيّئا ، وأولد فيهم الضعف والاستكانة بدل الإقدام والشجاعة ، أمّا عدم استجابته لهم بعد أن طابقوا رأيه فقد ذكر هو (ص) حكمته.

مثال آخر من عمل الرسول برأي أصحابه فيما أشاروا عليه : قصّة جرت في غزوة الخندق نوردها في ما يأتي :

ج ـ غزوة الخندق

روى الواقدي والمقريزي عن بدء غزوة الخندق وقالا :

«وشاورهم رسول الله (ص). وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب ... فأشار عليهم سلمان بحفر الخندق».

وأخبرا كذلك عن مشاورة أخرى في آخر أيام القتال وقالا :

وأقام (ص) وأصحابه محصورين بضع عشرة ليلة حتّى اشتدّ الكرب ، وقال (ص) : «اللهم إنّي أنشدك عهدك ووعدك ؛ اللهم إنّك إن تشأ لا تعبد». وأرسل إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف ـ وهما رئيسا غطفان ـ أن يجعل لهما ثلث ثمر المدينة ويرجعا بمن معهما ، فطلبا نصف الثّمر فأبى عليهم إلّا الثّلث ، فرضيا. وجاءا في عشرة من قومهما حتّى تقارب الأمر ، وأحضرت الصّحيفة والدّواة ليكتب عثمان بن عفّان (رض) الصّلح ـ وعبّاد بن بشر قائم على رأس رسول الله (ص) مقنّع في الحديد ـ ، فأقبل أسيد بن حضير ، وعيينة مادّ رجليه فقال له : يا عين الهجرس ، اقبض

٢٤٠