معالم المدرستين - ج ١

السيد مرتضى العسكري

معالم المدرستين - ج ١

المؤلف:

السيد مرتضى العسكري


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦١٦

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الشورى / ٣٨ من صار هذا الشيء شورى بين القوم إذا تشاوروا فيه (١).

لم يتغيّر معنى مشتقّات هذه المادّة في استعمال القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، ولدى المسلمين عمّا كانت عليه في لغة العرب ، وإنّما الكلام في مورد الشورى والمشاورة في الشرع الإسلاميّ وحكمها. كما سيأتي بيانه بعيد هذا ان شاء الله.

ثانيا ـ البيعة

أ ـ البيعة في لغة العرب :

البيعة في لغة العرب : الصفقة على إيجاب البيع (٢) ، وصفق يده بالبيعة والبيع ، وعلى يده صفقا : ضرب بيده على يده عند وجوب البيع ، وتصافقوا : تبايعوا (٣). كان هذا معنى البيعة لدى العرب.

أمّا العهد والحلف : فقد كانت العرب تعقد الحلف والعهد بأساليب مختلفة ، مثل ما فعل بنو عبد مناف حين أرادوا أن يقاتلوا بني عبد الدار على من يقوم بحجابة البيت وسقاية الحاجّ وغيرهما من أعمال السيادة بمكة.

فروى ابن إسحاق أنّ بني عبد مناف أخرجوا جفنة مملوءة طيبا فوضعوها في المسجد عند الكعبة ، ثم غمسوا أيديهم فيها ، وتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ، ثمّ مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم وسمّوا (المطيبين) (٤).

وروى ـ أيضا ـ في أمر تجديد الكعبة : أنّ البنيان عند ما بلغ موضع

__________________

(١) راجع مادة : (شور) من : مفردات الراغب. ولسان العرب. ومعجم ألفاظ القرآن الكريم.

(٢) لسان العرب ، مادة : (بيع).

(٣) لسان العرب ، مادة : (صفق).

(٤) سيرة ابن هشام ١ / ١٤١ ـ ١٤٣.

٢٠١

الركن اختصموا فيه ، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتّى تحاوروا وتحالفوا ، وأعدّوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثمّ تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسمّوا (لعقة الدم) (٥).

ب ـ البيعة في الإسلام

كانت البيعة ، أي : صفق اليد على اليد ، في لغة العرب علامة على وجوب البيع ، وأصبحت في الإسلام علامة على معاهدة المبايع المبايع له أن يبذل له الطاعة في ما تقرّر بينهما ، ويقال : بايعه عليه مبايعة : عاهده عليه.

وورد في القرآن الكريم في قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفتح / ١٠.

ونذكر من سنّة الرسول (ص) ثلاث مرّات أخذ الرسول (ص) فيها البيعة من المسلمين :

١ ـ البيعة الأولى

إنّ أول بيعة جرت في الإسلام بيعة العقبة الأولى ، أخبر عنها عبادة بن الصامت وقال :

(وافى موسم الحج من الأنصار اثنا عشر رجلا ممن أسلم منهم في المدينة ، وقال عبادة :

بايعنا رسول الله (ص) بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب ، على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ،

__________________

(٥) سيرة ابن هشام ١ / ٢١٣.

٢٠٢

ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، فإن وفيتم فلكم الجنّة ، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحدّه في الدنيا فهو كفّارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله عزوجل ؛ إن شاء عذّب ، وإن شاء غفر (٦). وسمّيت هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى).

٢ ـ البيعة الثانية الكبرى بالعقبة

روى كعب بن مالك وقال :

خرجنا من المدينة للحجّ وتواعدنا مع رسول الله (ص) العقبة أواسط أيّام التشريق ، وخرجنا بعد مضيّ ثلث الليل متسلّلين مستخفين حتّى اجتمعنا في الشّعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان ، فجاء رسول الله (ص) ومعه عمّه العبّاس ، فتكلّم رسول الله (ص) فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثمّ قال :

«أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم والّذي بعثك بالحقّ لنمنعنّك مما نمنع به أزرنا (٧) ، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب ....

فقال أبو الهيثم بن التيّهان : يا رسول الله إنّ بيننا وبين الرجال حبالا ، وإنّا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم رسول الله (ص) ثمّ قال : «بل الدم الدم والهدم الهدم ...» أي : ذمّتي ذمّتكم وحرمتي حرمتكم.

وقال رسول الله (ص) : «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم». فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا ؛ تسعة من الخزرج وثلاثة بن الأوس ، قال رسول الله (ص) : «أنتم على قومكم بما فيكم كفلاء ككفالة

__________________

(٦) سيرة ابن هشام ٢ / ٤٠ ـ ٤٢.

(٧) أزرنا : نساؤنا ، والمرأة يكنّى عنها بالازار.

٢٠٣

الحواريّين لعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومي» يعني : المسلمين. قالوا : نعم.

واختلفوا فيمن كان أوّل من ضرب على يده ، أسعد بن زرارة أم أبو الهيثم بن التيّهان(٨).

٣ ـ بيعة الرضوان ، او بيعة الشّجرة

في سنة سبع من الهجرة ، استنفر رسول الله (ص) أصحابه للعمرة فخرج معه ألف وثلاثمائة ، أو ألف وستّمائة ، ومعه سبعون بدنة ، وقال : لست أحمل السّلاح ، إنّما خرجت معتمرا. وأحرموا من ذي الحليفة ، وساروا حتّى دنوا من الحديبية على تسعة أميال من مكّة ، فبلغ الخبر أهل مكّة فراعهم ، واستنفروا من أطاعهم من القبائل حولهم وقدّموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل ، فاستعدّ لهم رسول الله (ص) وقال : إن الله أمرني بالبيعة. فأقبل النّاس يبايعونه على ألّا يفرّوا ، وقيل : بايعهم على الموت ، وأرسلت قريش وفدا للمفاوضة ، فلمّا رأوا ذلك تهيّبوا وصالحوا رسول الله (ص) ... (٩).

هذه ثلاثة أنواع من البيعة على عهد الرسول (ص) وهي :

أ ـ البيعة على الإسلام.

ب ـ البيعة على إقامة الدولة الإسلامية.

ج ـ البيعة على القتال.

والبيعة الثالثة تجديد للبيعة الثانية ، وذلك لأنّ الرسول (ص) كان قد استنفرهم للعمرة. وبعد تبدّل الحالة من العمرة إلى القتال ، كانت الحالة

__________________

(٨) سيرة ابن هشام ٢ / ٤٧ ـ ٥٦.

(٩) إمتاع الأسماع للمقريزي ص ٢٧٤ ـ ٢٩١.

٢٠٤

الحادثة مخالفة للعمل الّذي استنفرهم له وخرجوا من أجله ، فكأنّه كان مخالفا لما عاهدهم عليه ، فلذلك احتاج إلى أخذ البيعة للقيام بالعمل الجديد ، وفعل ذلك وأعطى ثمره في إرعاب أهل مكّة ، وحصول النتيجة المطلوبة.

ونختم البحث بستّ روايات وردت في البيعة وطاعة الإمام :

١ ـ روى ابن عمر قال : كنا نبايع رسول الله (ص) على السّمع والطّاعة ثمّ يقول لنا : «فيما استطعت» (١٠).

٢ ـ وفي رواية ، وقال عليّ : «ما استطعتم» (١١).

٣ ـ وفي رواية ، وقال جرير : قال : «قل : في ما استطعت» (١٢).

٤ ـ وروى الهرماس بن زياد قال : مددت يدي إلى النبيّ (ص) وأنا غلام ليبايعني ، فلم يبايعني (١٣).

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله (ص) :

«على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ وكره ، إلّا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (١٤).

__________________

(١٠) صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب البيعة ، ح ٥ ، وصحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب البيعة على السمع والطاعة في ما استطاع ، ح ٩٠ ، وسنن النسائي ، كتاب البيعة ، باب البيعة في ما يستطيع الإنسان.

(١١) سنن النسائي ، كتاب البيعة ، باب البيعة في ما يستطيع الإنسان.

(١٢) صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب البيعة ، ح ٥.

(١٣) البخاري كتاب الأحكام ، باب بيعة الصغير. وسنن النسائي ، كتاب البيعة ، باب بيعة الغلام.

والهرماس بن زياد ، أبو حيدر البصري الباهلي : من قيس عيلان. مات باليمامة بعد المائة. راجع ترجمته بأسد الغابة ، وتقريب التهذيب.

(١٤) صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ، ح ٣. وصحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، ح ١٨٣٩. وسنن ابن ماجة ، كتاب الجهاد ، باب لا طاعة في معصية الله ، ح ٢٨٦٣. وسنن النسائي ، كتاب البيعة ، باب جزاء من أمر بمعصية. ومسند أحمد ٢ / ١٧ و ١٤٢.

٢٠٥

٥ ـ وعن ابن مسعود قال :

قال (ص) : «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنّة ويعملون بالبدعة ، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها». فقلت : يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال : «تسألني يا ابن أمّ عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله» (١٥).

٦ ـ وعن عبادة بن الصامت في حديث طويل آخره :

«فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم» (١٦).

وفي رواية :

«لا تضلوا بربكم» (١٧).

يتّضح لنا من دراسة البيعة في سنّة الرسول (ص) أنّ للبيعة ثلاثة أركان :

أ ـ المبايع.

ب ـ المبايع له.

ج ـ المعاهدة على الطّاعة للقيام بعمل ما.

وتقوم البيعة أولا على تفهّم ما يطلب الطاعة على القيام به ، ثمّ تنعقد المعاهدة بضرب يد المبايع على يد المبايع له بالكيفيّة الواردة في السنّة ، والبيعة على هذا مصطلح شرعيّ ، غير أنّ شروط تحقّق البيعة المشروعة في الإسلام غير واضحة لكثير من المسلمين اليوم ، فنقول :

تنعقد البيعة في الإسلام إذا توفرت فيها الشروط الثلاثة التالية :

__________________

(١٥) سنن ابن ماجة ٢ / ٩٥٦ ، ح ٢٨٦٥. ومسند أحمد ١ / ٤٠٠ وفي لفظ : ليس طاعة لمن عصى الله.

(١٦) مسند أحمد ٥ / ٣٢٥ عن عبادة بن الصامت وأنه روى الحديث في دار عثمان عند ما شكاه معاوية إلى عثمان فجلبه عثمان إلى المدينة ، ومختصر الحديث برواية عبادة في ص ٣٢٩ منه.

(١٧) تهذيب تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢١٥.

٢٠٦

أ ـ أن يكون المبايع ممن تصحّ منه البيعة ، ويبايع مختارا.

ب ـ أن يكون المبايع له ممّن تصحّ مبايعته.

ج ـ أن تكون البيعة لأمر يصحّ القيام به.

وعلى ما بيّنّا لا تصحّ البيعة من صبيّ أو مجنون ، لأنّهما غير مكلّفين بالأحكام في الإسلام ، ولا تنعقد بيعة المكره ، لأنّ البيعة مثل البيع ، فكما لا ينعقد البيع بأخذ المال من صاحبه قهرا ودفع الثمن له ، كذلك البيعة لا تنعقد بأخذها بالجبر وفي ظلّ السيف.

وكذلك لا تصحّ البيعة للمتجاهر بالمعصية ، ولا تصحّ البيعة للقيام بمعصية الله. إذن فالبيعة مصطلح إسلاميّ ، ولها أحكامها في الشرع الإسلاميّ.

الخلاصة :

البيعة في لغة العرب : الصفقة على إيجاب البيع. وفي الإسلام أمارة على معاهدة المبايع المبايع له على أن يبذل له الطاعة في ما تقرر بينهما ، ولا تنعقد إذا لم تتوفر شروطها : فإنها لا تصحّ من صبي أو مجنون ، ولا تنعقد البيعة من مكره ولا تصحّ للمتجاهر بالمعصية ولا تصحّ للقيام بمعصية الله.

وقد بايع رسول الله (ص) على الإسلام أوّلا ، وعلى إقامة الدولة الإسلامية ثانيا ، كما بايع المسلمين على القتال ، وأشار الله سبحانه وتعالى إلى الأخير في قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) الفتح / ١٠.

٢٠٧

ثالثا ـ الخليفة وخليفة الله في الأرض

أوّلا ـ الخليفة والخلافة :

الخلافة في لغة العرب : النيابة عن الغير (١٨).

والخليفة : من يخلف غيره ، ويقوم مقامه ، ويسدّ مسدّه (١٩).

وبهذا المعنى ورد في القرآن الكريم ، في قوله تعالى :

أ ـ في سورة الاعراف :

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ...) (٦٩).

(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ ...) (٧٤).

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ...) (١٦٩).

ب ـ في سورة مريم :

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ ...) (٥٩).

ج ـ في سورة الأنعام :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ ...) (١٣٢).

وكذلك ورد في غيرها ونظائرها من آيات كريمة.

وورد في المعنى اللغوي ـ أيضا ـ في حديث الرسول (ص) في قوله :

__________________

(١٨) مفردات الراغب ، مادة : (خلف).

(١٩) نهاية اللغة ، لابن الأثير ، ولسان العرب ، مادة (خلف).

٢٠٨

«اللهمّ ارحم خلفائي ، اللهمّ ارحم خلفائي ، اللهمّ ارحم خلفائي».

قيل له : يا رسول الله (ص) من خلفاؤك؟

قال : «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي».

واستعمل ـ أيضا ـ في المعنى اللغوي في عصر الصحابة كالآتي :

أ ـ على عهد الخليفة الأول :

قال ابن الأثير في نهاية اللّغة :

وفي حديث أبي بكر ، جاءه أعرابيّ فقال له : أنت خليفة رسول الله؟

فقال : لا.

فقال : ما أنت؟

قال : أنا الخالفة من بعده.

قال ابن الأثير : الخالفة : الّذي لا غناء عنده ولا خير فيه ، وإنّما قال ذلك تواضعا ... (٢٠).

ب ـ على عهد الخليفة الثاني :

روى السيوطي (ت : ٩١١ ه‍) في تاريخه وقال : (فصل في نبذ من أخباره وقضاياه) أخرج العسكري في (الأوائل) والطبراني في (الكبير) والحاكم في (المستدرك) : «أنّ عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة : لأيّ شيء كان يكتب : «من خليفة رسول الله (ص)» في عهد أبي بكر؟ ثمّ كان عمر كتب أوّلا : «من خليفة أبي بكر» ، فمن أوّل من كتب : «من أمير

__________________

(٢٠) وعن ابن الأثير نقل ذلك في لسان العرب.

٢٠٩

المؤمنين»؟ فقال : حدّثتني الشفاء ـ وكانت من المهاجرات ـ أنّ أبا بكر كان يكتب : من خليفة رسول الله ، وكان عمر يكتب : من خليفة خليفة رسول الله ، حتى كتب عمر إلى عامل العراق أن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله ، فبعث إليه لبيد بن ربيعة وعديّ بن حاتم ، فقدما المدينة ، ودخلا المسجد ، فوجدا عمرو بن العاص ، فقالا : استأذن لنا على أمير المؤمنين : فقال عمرو : أنتما والله أصبتما اسمه. فدخل عليه عمرو ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال : ما بدا لك في هذا الاسم؟ لتخرجنّ ممّا قلت.

فأخبره وقال : أنت الأمير ونحن المؤمنون ، فجرى الكتاب بذلك من يومئذ».

وروى عن النووي في تهذيبه ، وقال :

قال عمر للناس : أنتم المؤمنون وأنا أميركم ، فسمّي أمير المؤمنين ، وكان قبل ذلك يقال له : خليفة خليفة رسول الله ، فعدلوا عن تلك العبارة لطولها (٢١).

ثانيا : خليفة الله في الأرض :

١ ـ في المصطلح الإسلامي :

ورد «خليفة الله في الأرض» في المصطلح الإسلامي بمعنى من اصطفاه الله من البشر وجعله إماما للناس وحاكما.

وقد ورد بهذا المعنى في قوله تعالى في سورة البقرة :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...) (٣٠).

وفسر بعضهم الآية بأنّ الله تعالى جعل آدم (ع) خليفته في الأرض ؛ وفسّرها آخرون بأنّ الله تعالى جعل نوع الإنسان خليفته في الأرض ، ويؤيد

__________________

(٢١) تاريخ السيوطي ، ط. مطبعة السعادة بمصر ، ١٣٧١ ه‍ ، ص ١٣٧ ـ ١٣٨. والحاكم في ـ

٢١٠

التفسير الأوّل قوله تعالى في سوره (ص) :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ ...) (٢٦).

فإنّه لو كان معنى الآية الأولى : إنّ الله جعل نوع الإنسان خليفته في الأرض فلا معنى عندئذ لتخصيص داود (ع) بجعله خليفة الله في الأرض من بين نوعه الإنساني الذي كان الله قد جعله خليفته في الأرض قبل داود (ع) ومع داود (ع) وبعده ، ثمّ انّ فاء السببية (٢٢) في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) تدلّ على أن تخويل داود (ع) حقّ الحكم بين الناس كان بسبب جعله خليفة لله في الأرض ، أي انّه بسبب أنّ الله تعالى جعله خليفة في الأرض منحه حقّ الحكم بين الناس. إذا فإنّ منحه حقّ الحكم فرع على تعيينه خليفة لله في الأرض. وبناء على ذلك ففي أيّ مورد وجدنا آية كريمة أخرى تدلّ على منح الله حقّ الحكم لأحد من أصفيائه علمنا أن ذلك الولي الصفي ـ هنا ـ خليفة لله في الأرض كما في قوله تعالى في سورة المائدة :

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ...) (٤٤).

وكذلك في قوله تعالى مخاطبا لخاتم أنبيائه (ص) :

١ ـ في سورة النساء :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ...) (١٠٥).

٢ ـ في سورة المائدة :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٤٨).

في خبر داود وجدنا تخويله الحكم بين الناس فرعا على جعله خليفة في

__________________

ـ المستدرك ٣ / ٨١ ـ ٨٢. والأوائل للعسكري ص ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢٢) راجع فاء السببية في مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.

٢١١

الأرض ، وفي الآيات الثلاث وجدنا تخويل الأنبياء حقّ الحكم فرعا على إنزال الكتاب إليهم ، ومن هذه المقارنة ندرك أن الله جعل حملة كتبه إلى الناس خلفاءه في الأرض ، سواء كان ما يحملونه إلى الناس من الكتاب والشريعة تلقّوه وحيا من الله مثل آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ؛ أو تلقوه من الموحى إليهم مثل داود وسليمان الوصيين على شريعة موسى بن عمران وحملة كتابه (التوراة) إلى الناس.

وقد استعمل خليفة الله بهذا المعنى في روايات أئمة أهل البيت (ع) (٢٣).

جعل الله خلفاءه أئمة للناس :

وقد جعل الله تعالى خلفاءه في الأرض أئمة للناس وآتاهم الكتاب والنبوة ، كما أخبر الله تعالى عن إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب في سورة الأنبياء وقال :

(... وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٢ ـ ٧٣).

وقال جلّ ذكره في سورة الأنعام :

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ... * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ ... * وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ * ... وَاجْتَبَيْناهُمْ

__________________

(٢٣) راجع البحار (٢٦ / ٢٦٣) الحديث (٤٧) نقلا عن كنز الفوائد للكراجكي ، والكافي (١ / ٢٠٠) ، ومن لا يحضره الفقيه (٢ / ٣٦٩ و ٣٧١).

٢١٢

وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * ... أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٨٣ ـ ٨٩).

إذا فإنّ من جعله الله خليفة في الأرض يحكم بين الناس ، جعله ـ أيضا ـ إماما لهم يهديهم بكتاب الله ويبلغهم شريعته. وبناء على ذلك يكون أهم وظائف خلفاء الله التبليغ. كما ورد التصريح بذلك في قوله تعالى :

أ ـ في سورة النحل :

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣٥).

ب ـ في سورة النور (٥٤) وسورة العنكبوت (١٨) :

(وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

ج ـ وأمثالهما في سور :

آل عمران (٢٠) ، والمائدة (٩٢ ، ٩٩) ، والرعد (٤٠) ، وإبراهيم (٥٢) ، والنحل (٣٥) ، والشورى (٤٨) ، والاحقاف (٣٥) ، والتغابن (١٢).

ثمّ إنه لا يبلّغ عن الله عزوجل إلّا رسول يوحى إليه ، أو وصيّ عيّنه الله لذلك. كما نجد مثالا له في خبر تبليغ الآيات العشر الأولى من سورة براءة كالآتي تفصيله.

أ ـ في مسند أحمد وغيره واللفظ لمسند أحمد قال :

«عن علي قال :

لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكّة ، ثمّ دعاني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لي :

٢١٣

أدرك أبا بكر ، فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم ، فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! نزل فيّ شيء؟ قال : لا. ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك» (٢٤).

ب ـ في تفسير السيوطي عن أبي رافع قال :

بعث رسول الله (ص) أبا بكر (رض) ببراءة إلى الموسم ، فأتى جبرئيل عليه‌السلام فقال: إنّه لن يؤديها عنك إلّا أنت أو رجل منك ، فبعث عليّا رضي الله عنه على أثره حتّى لحقه بين مكّة والمدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم (٢٥).

ج ـ وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال :

«إنّ رسول الله (ص) بعث أبا بكر (رض) ببراءة إلى أهل مكّة ، ثمّ بعث عليّا (رضي الله عنه) على أثره فأخذها منه. فكأنّ أبا بكر (رض) وجد في نفسه فقال النبيّ (ص) يا أبا بكر! إنّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي» (٢٦).

في هذا الخبر أرسل الرسول (ص) صحابيّه أبا بكر لتبليغ عشر آيات من صدر البراءة إلى المشركين في حجّ العام التاسع للهجرة ، فأتاه جبرئيل ـ أمين وحي الله ـ وقال له: إنّه لن يؤديها عنك إلّا أنت أو رجل منك. أي إن تبليغ

__________________

(٢٤) مسند أحمد (١ / ١٥١) ، وتحقيق أحمد محمد شاكر (٢ / ٣٢٢) الحديث ١٢٩٦ ، وفي الدرّ المنثور للسيوطي (٣ / ٢٠٩) ، وفيه عن أنس بن مالك وسعد بن أبي وقاص ، وجاء في لفظ سعد : «... فكأنّ أبا بكر (رض) وجد في نفسه فقال النبي (ص) يا أبا بكر! إنّه لا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو رجل مني».

(٢٥) تفسير الدر المنثور للسيوطي ٣ / ٢١٠.

(٢٦) تفسير الدر المنثور للسيوطي ٣ / ٢٠٩.

٢١٤

عشر آيات من سورة البراءة للمخاطبين بها مباشرة وظيفة تبليغية خاصة بالرسول ، ولن يؤدي هذه الوظيفة عن الرسول إلّا هو أو رجل منه وهو عليّ بن أبي طالب وصيّه على شريعته. كما ستأتي الروايات في تعيين الوصيّ للرسول (ص) في بحث الوصيّة إن شاء الله تعالى ، ومن ثمّ ندرك أنّ التبليغ عن الله مباشرة وظيفة وولاية للرسول ووصيّه.

يؤتي الله خلفاءه ما يعجز عنه البشر :

أحيانا تقتضي حكمة الله أن يأتي خليفته ـ الذي جعله إماما للناس ومبلغا لكتابه وشريعته ـ بآية تدلّ على صدقه في ما يبلّغ عن الله ، وتسمى تلك الآية في العرف الإسلامي بالمعجزة ؛ لعجز البشر عن الإتيان بمثلها.

كما أخبر الله تعالى عن بعض ما أتى به رسولاه موسى وعيسى (ع) وقال في خبر ما أتى به كليمه موسى عليه‌السلام :

أ ـ في سورة الاعراف :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١٠٧).

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (١٠٨).

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (١١٧).

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) (١٦٠).

ب ـ في سورة الشعراء :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢).

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥).

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ

٢١٥

كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣).

وأخبر جل ذكره عما آتى رسوله عيسى بن مريم (ع) في سورة المائدة ، فقال تعالى:

(... إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ...) (١١٠).

وفي سورة آل عمران حكى عن عيسى (ع) أنّه قال :

(... وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ...) (٤٩).

وأخبر تعالى عن ما آتى داود وسليمان الوصيين على شريعته في سورة الأنبياء وقال عزّ اسمه :

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ...) (٧٩).

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ ... * وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ ...) (٨١ ـ ٨٢).

وليس من الضروري أن يؤتي الله جميع الأئمة جميع المعجزات كما لم يذكر سبحانه عن هود ولوط وشعيب أنّه آتاهم معجزات موسى وعيسى وداود وسليمان صلوات الله عليهم أجمعين ، وكذلك لم يمكّن الناس بعض الرسل من أن يحكموا بينهم بالعدل ، وكذلك لم يتسنّ للرسول موسى (ع) ولخاتم الرسل محمد (ص) أن يحكما بين الناس في أوّل أمرهما ، بينما هم أئمة خلفاء منذ بدء تكليفهم بالتبليغ. إذا فإنّ الخلافة والإمامة ملازمتان لتعيين الله صفيّا من أصفيائه لتبليغ كتابه ودينه ، وليستا ملازمتين للحكم بين الناس وإتيان

٢١٦

المعجزات. وبناء على ذلك فإنّ خليفة الله هو المبلغ عن الله.

كان ذلكم معنى خليفة الله في كتاب الله.

وورد معنى خليفة الرسول (ص) في حديث الرسول (ص) كالآتي :

«اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي».

قيل له : يا رسول الله! من خلفاؤك.؟

قال : «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي» (٢٧).

إذا فإن خليفة الله هو الذي عيّنه الله لتبليغ شريعته ، وخليفة الرسول هو الذي يقوم بتبليغ حديث الرسول وسنته من تلقاء نفسه.

كذلك استعمل مصطلحا خليفة الله وخليفة الرسول في الكتاب والسنّة واستعملا في مصطلح المسلمين كالآتي بيانه :

٢ ـ الخليفة وخليفة الله في مصطلح المسلمين :

مرّ بنا في بحث معنى الخليفة اللغوي أنّ أبا بكر كان يسمّى بخليفة رسول الله (ص) وعمر بخليفة خليفة رسول الله (ص) ، وأنّه سمي بعد ذلك بأمير المؤمنين ، وبقي ذلك متداولا إلى آخر الخلفاء العثمانيين ، وإلى جانب ذلك سمّي الحاكم الإسلامي الأعلى بما يأتي:

أ ـ في العصر الأموي والعباسي :

تعارف أتباع مدرسة الخلفاء منذ العصر الأموي وإلى العصر العباسي على تسمية الحاكم الأعلى بخليفة الله.

فقد قال الحجاج في خطبة صلاة الجمعة :

__________________

(٢٧) راجع مصادره في المجلد الثاني من هذا الكتاب (ط ٣ ، ص ٥٨ ـ ٥٩).

٢١٧

فاسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيّه عبد الملك بن مروان (٢٨).

ولمّا قيل في مجلس المهديّ العباسيّ : إنّ الخليفة الأموي الوليد كان زنديقا ، قال المهدي :

خلافة الله عنده أجلّ من أن يجعلها في زنديق (٢٩).

واشتهر ذلك على لسانهم في العصر الأموي والعصر العباسي ، وورد ذكره في شعر الشعراء ، كما قال جرير في قصيدة أنشدها في الخليفة عمر بن عبد العزيز وقال :

خليفة الله ما ذا تأمرون بنا

لسنا إليكم ولا في دار منتظر(٣٠)

وإنّ عمر بن عبد العزيز مع اشتهاره بالتديّن لم ينكر ذلك من قول جرير.

وقال ـ أيضا ـ مروان بن أبي حفصة (ت : ١٨٢) في الخليفة أبي جعفر المنصور في قصيدته الّتي مدح بها معن بن زائدة الشيباني (ت : ١٥١ ه‍) حيث قال :

ما زلت يوم الهاشمية معلنا

بالسيف دون خليفة الرحمن

فمنعت حوزته وكنت وقاءه

من وقع كلّ مهنّد وسنان (٣١)

ب ـ في العصر العثماني :

في عصر العثمانيّين استعمل لفظ الخليفة اسما لسلطان المسلمين

__________________

(٢٨) سنن أبي داود ٢ / ٢١٠ ، ح ٤٦٤٥ باب في الخلفاء

(٢٩) تاريخ ابن الأثير ١٠ / ٧ ـ ٨.

(٣٠) شرح شواهد المغني للسيوطي ، ط. منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت ١ / ١٩٧.

(٣١) الكنى والألقاب للقمّي ١ / ٢٥٢.

٢١٨

الأعظم (٣٢). بدون إضافة إلى (الله) أو (الرسول).

ج ـ في عصرنا :

اشتهر في عصرنا أنّ المقصود في قوله تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) أنّ الله تعالى جعل نوع الإنسان خليفته في الأرض (٣٣). وبناء عليه يكون معنى (خليفة الله في الأرض) نوع الإنسان ، ومعنى (استخلف) و (يستخلف) وغيرهما ممّا ورد من مادّة (خلف) استخلاف نوع الإنسان ، واشتهر ـ أيضا ـ أن المقصود في تسمية الحاكم الأعلى للمسلمين بالخليفة إلى آخر عصر الخلافة العثمانية أنّه خليفة رسول الله (ص) في الحكم على المسلمين. وعليه يكون معنى (الخليفة) خليفة رسول الله (ص) ، ويصفون الخلفاء الأربعة بعد رسول الله (ص) بالراشدين دون من جاء بعدهم إلى آخر العثمانيين ، واشتهرت هذه التسمية بين المسلمين حتّى اليوم.

انتقال مصطلح الخليفة من مدرسة الخلفاء إلى أتباع مدرسة أهل البيت (ع)

جرى بعد الرسول (ص) كل ذلك التبديل لمعنى (الخليفة) و (خليفة الله في الأرض) في مدرسة الخلفاء.

__________________

(٣٢) راجع المعجم الوسيط ، ماده. (خلف).

(٣٣) قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

(وإذن فهى المشيئة العليا تريد أن تسلّم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض وتطلق فيها يده ... وإذن فهذه منزلة عظيمة ، منزله هذا الإنسان في نظام هذا الوجود على هذه الارض الفسيحة). تفسير في ظلال القرآن (١ / ٦٥ ـ ٦٦) ويرى مؤلف كتاب (خليفة) وسلطان و. و. پارتولد ، ترجمة ايزدي. ط. طهران ١٣٥٨ ، ص ١٦. أن هذا المعنى قد تسرّب إلى المجتمعات الإسلامية من أفكار أهل الكتاب.

راجع المستدرك في آخر الكتاب.

٢١٩

وفي مدرسة أهل البيت (ع) ورد لفظ (خليفة الله في الأرض) في روايات أئمة أهل البيت (ع) بمعنى المصطلح الاسلامي كما أشرنا إليه.

وانتقل مصطلح (الخليفة) بمعنى : خليفة رسول الله (ص) من مدرسة الخلفاء إلى أتباع مدرسة أهل البيت (ع) منذ القرن الخامس الهجري وحتّى اليوم. واستندت مدرسة الخلفاء إلى عدم ورود (الخليفة) بالمعنى الذي استحدثوه بعد الرسول (ص) في حديث الرسول (ص) ، وقالوا : إنّ الرسول (ص) ترك أمّته هملا ولم يعين المرجع من بعده.

وفي مقام الردّ عليهم استند أتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام إلى ما ورد عن الرسول (ص) في تعيين الإمام علي وصيا من بعده وقالوا : إن الرسول (ص) عيّنه خليفة من بعده بالمعنى الذي استحدث للخليفة بعد الرسول (ص) ولم يترك أمّته هملا (٣٤)

جرى كل ذلك من أتباع المدرستين غفلة منهم عن أن المصطلح الذي أحدثته مدرسة الخلفاء بعد الرسول (ص) لم يكن ليرد في حديث الرسول (ص).

الخلاصة :

أ ـ خليفة الشخص في اللغة : من يقوم بعمله في غيابه ، وقد ورد بالمعنى اللغوي في القرآن وحديث الرسول (ص) ومحاورات الصحابة.

ب ـ خليفة الله في الأرض في المصطلح الإسلامي : من يعيّنه الله تعالى لتبليغ شريعته آخذا من الوحي أو من الرسول (ص) ، وللحكم بين الناس ، ويؤتي بعضهم ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وقد ورد بهذا المعنى في

__________________

(٣٤) نجد بعض تلك الأدلة في كتاب (الألفين) للعلامة الحلي (ره).

٢٢٠