أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٥

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٩

٣ ـ تقرير أن الإيمان والعمل الصالح سبب الفوز ، وأن الشرك والمعاصى سبب الخسران المبين.

٤ ـ الظن فى العقائد كالكفر بها ، والعياذ بالله تعالى.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

شرح الكلمات :

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) : أي ظهر لم فى يوم القيامة جزاء سيئات ما عملوه في الدنيا من الشرك والمعاصى.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : أي نزل وأحاط بهم العذاب الذى كانوا يستهزئون به إذا ذكروا به وخوفوا منه في الدنيا.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) : أي وقال الله تعالى لهم اليوم ننساكم أي نترككم فى النار.

(كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) : أي مثل ما نسيتم يومكم هذا فلم تعملوا له بما ينجى فيه وهو الإيمان والعمل الصالح ، وترك الشرك والمعاصى.

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ) : أي ومحل إقامتكم النار.

(وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) : أي من ناصرين ينصرونكم بإخراجكم من النار.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ) : أي ذلكم العذاب كان لكم بسبب كفركم واتخاذكم آيات الله هزوا

(هُزُواً) : أي شيئا مهزؤا به.

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) : أي طول العمر والتمتع بالشهوات والمستلذات.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يؤذن لهم فى الاستعتاب ليعتبوا فيتوبوا.

٤١

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) : أي فلله وحده الوصف بالجميل لإنجاز وعيده لأعدائه.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي العظمة والحكم النافذ الناجز على من شاء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي وهو العزيز فى انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى عرض مشاهد القيامة وبعض ما يتم فيها من عظائم الأمور لعل السامعين لها يتعظون بها فقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ (١) يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء ظهر لهم وشاهدوا العذاب الذى كانوا إذا ذكروا به أو خوفوا منه استهزأوا به وسخروا منه. وقد حل بهم ونزل بساحتهم وأحاط بهم وقال لهم الرب تعالى (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي نترككم فى عذاب النار كما تركتم العمل المنجى من هذا العذاب وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلى عن الشرك والمعاصى. (وَمَأْواكُمُ (٢) النَّارُ) أي هى مأواكم ودار إقامتكم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لكم من ينصركم فيخلصكم من النار ، وعلة هذا الحكم عليهم بيّنها تعالى بقوله (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) (٣) (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حكم عليكم بالعذاب والخذلان بسبب اتخاذكم آيات الله الحاملة للحجج والبراهين الدالة على وجود الله ووجوب توحيده وطاعته هزوا أي شيئا مهزوا به ، (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخرفها وزينتها ، وطول اعماركم فيها فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا ينجيكم من هذا العذاب الذى حاق بكم اليوم. قال تعالى (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وترك مخاطبتهم إشعارا لهم بأنهم لا كرامة لله لهم اليوم فلم يقل فاليوم لا تخرجون منها ، بل عدل عنها إلى قوله (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لم يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بالتوبة إليه ، إذ لا توبة بعد الموت والرجوع إلى الدنيا غير ممكن في حكم الله وقضائه. وهنا تعظم حسرتهم ويشتد العذاب عليهم ويعظم كربهم.

وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِ (٤) السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي رب كل شىء ومليكه حمد نفسه ، وقصر الحمد عليه بعد أن أنجز ما أوعد به الكافرين ، وذكر موجب الحمد وهو سلطانه القاهر فى السموات وفى الأرض ، وقوله (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) (٥) أي العظمة والسلطان (فِي

__________________

(١) من أنواع الاستهزاء ما روي أن العاص بن وائل قال لخباب بن الأرت وقد طالبه بدين له عليه لئن بعثت كما تقول لأوتين مالا وولدا في الآخرة فاقض منه دينك.

(٢) التعبير بالمأوى إشارة إلى تأييد الخلود فيها إذ المأوى مكان الإيواء والاستقرار ولا مكان غيره.

(٣) الهزء مصدر كالخلق أطلق أريد به اسم المفعول أي مهزؤا به.

(٤) الفاء للتفريع فهذه الجملة (الحمد لله) والثناء عليه متفرع عما ورد في هذه السورة من مظاهر ربوبيته تعالى وألطافه وإحسانه بإحقاق الحق وإبطال الباطل وعدله في قضائه بين عباده.

(٥) تقديم الجار والمجرور في قوله فلله الحمد ، وقوله وله الكبرياء مؤذن بالحصر والاختصاص والكبرياء هي الكبر الحق العظيم وهما الكمال في الذات والكمال في الصفات والوجود.

٤٢

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذى لا يمانع ولا يغالب ، الشديد الانتقام ، الحكيم الذى يضع كل شىء فى موضعه الحكيم فى تدبير خلقه ويتجلى ذلك فى إكرام أوليائه برحمتهم ، وإهانة أعدائهم بتعذيبهم فى دار العذاب النار وبئس المصير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الاستهزاء بآيات الله وشرائعه كفر موجب للعذاب.

٢ ـ تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل ، وكما يدين الفتى يدان.

٣ ـ مشروعية الحمد عند الفراغ من أي عمل صالح أو مباح.

٤٣

الجزء السادس والعشرون

سورة الأحقاف (١)

مكية

وآياتها خمس وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حاميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي تنزيل القرآن.

(مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي من لدن الله العزيز في ملكه الحكيم في صنعه.

(إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي ما خلقنا السموات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق وبأجل مسمى لفنائهما.

__________________

(١) وجه تسميتها بالأحقاف لذكر لفظ الأحقاف فيها ولم يكن لها اسم غيره والأحقاف جمع حقف بكسر الحاء وسكون القاف الرمل المستطيل الكبير.

٤٤

(عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) : أي عن ما خوفوا به من العذاب معرضون عنه غير ملتفتين إليه.

(ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من الأصنام والأوثان.

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) : أي أشيروا إلى شيء خلقوه من الأرض.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) : أي أم لهم شركة.

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : أي منزل من قبل القرآن.

(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : أي بقية من علم يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي في دعواكم أن عبادة الأصنام والأوثان تقربكم من الله تعالى.

(مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي لا أحد أضل ممن يدعو من لا يستجيب له في شيء يطلبه منه أبدا.

(وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) : أي وهم الأصنام أي عن دعاء المشركين إياهم غافلون لا يعرفون عنهم شيئا.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) : أي في يوم القيامة كانت الأصنام أعداء لعابديها.

(وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) : أي وكانت الأصنام بعبادة المشركين لها جاحدة غير معترفة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (حم) الله أعلم بمراده به إذ هذه من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر معناه إلى الله منزله. وقوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي تنزيل القرآن الكريم من لدن الله العزيز الحكيم العزيز في ملكه الحكيم في صنعه وتدبيره. وقوله تعالى (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من العوالم والمخلوقات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلّا لحكم عالية وليس من باب العبث واللعب ، وإلّا بأجل مسمى عنده وهو وقت إفنائهما وانهاء وجودهما لاستكمال الحكمة من وجودهما. وقوله تعالى (وَالَّذِينَ (١) كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٢) يخبر تعالى بأن الذين كفروا بتوحيد الله ولقائه وآياته ورسوله عما خوفوا به من عذاب الله المترتب على كفرهم وشركهم معرضون غير مبالين به ، وذلك لظلمة نفوسهم ، وقساوة قلوبهم. وقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ (٣) ما

__________________

(١) هذه الجملة حالية فهي في موضع نصب حال من الضمير المقدر في متعلق الجار والمجرور في قوله : (بالحق) والمقصود من الإخبار هو التعجيب من إعراض الكافرين عن دعوة الحق التي يدعون إليها وهي : الإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك ، والمعاصي لنجاتهم وسعادتهم.

(٢) (عَمَّا أُنْذِرُوا) جائز أن تكون (ما) موصولة ، والعائد محذوف أي : أنذروه وجائز أن تكون مصدرية أي : عن إنذارهم معرضون.

(٣) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : الاستفهام تقريري هو بمعنى : أخبروني ، وفعل أروني للتعجيز لإبطال دعوى الشرك بالله تعالى ، والعاجز عن خلق شيء كيف يستحق العبادة ، والتأليه ، و (ما ذا خَلَقُوا) هو بمعنى ماذا الذي خلقوا أي : أي شيء خلقوه.

٤٥

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام والأوثان (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي من شيء (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) ولو أدنى شرك وأقله ، وقوله (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقية من علم تشهد (١) بصحة عبادة ودعاء آلهة لم تخلق شيئا من الأرض وليس لها أدنى شرك في السموات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أنها آلهة تستحق أن تعبد. وقوله تعالى (وَمَنْ (٢) أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ينفي تعالى على علم تام أنه لا أضل من أحد يدعو من غير الله تعالى معبودا لا يستجيب له في قضاء حاجة أو قضاء وطر مهما كان صغيرا أبدا وحقا لا أحد أضل ممن يقف أمام جماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق يدعوه ويسأله حاجته وقوله (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ (٣) غافِلُونَ) أي وأولئك الأصنام المدعوون غافلون تماما عن داعيهم لا يعلمون عنه شيئا لعدم الحياة فيهم ، ولو كانوا يوم القيامة ينطقهم الله ويتبرءون ممن عبدوهم ويخبرون أنهم ما عبدوهم ولكن عبدوا الشيطان الذي زين لهم عبادتهم ، وهو ما دل عليه قوله تعالى (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) أي ليوم القيامة كانوا لهم (٤) أعداء وخصوما وكانوا بعبادتهم من دعاء وذبح ونذر وغيره كافرين أي جاحدين غير معترفين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله على رسوله المنزل عليه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢ ـ انتفاء العبث عن الله تعالى في خلقه السموات والأرض وما بينهما وفي كل أفعاله وأقواله.

٣ ـ تقرير حقيقة علمية وهي من لا يخلق لا يعبد.

٤ ـ بيان أنه لا أضل في الحياة من أحد يدعو من لا يستجيب له أبدا كمن يدعون الأصنام والقبور والأشجار بعنوان التوسل والاستشفاع والتبرك.

__________________

(١) (مِنْ عِلْمٍ) أي : من أهل العلم السابقين غير مكتوبة في الكتب ، وهذا التوسيع عليهم في أنواع الحجج ليكون عجزهم بعد ذلك أقطع لحجتهم وإبطال دعواهم في الشرك. ذكر القرطبي عند تفسير : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أن بعضهم فسر الأثارة : بالخط ، وإن نبيا كان يخط ، والمراد التعرف إلى علم الغيب ، وختم القول بكلمة لابن العربي أنهى بها الموضوع ، إذ قال : إن الله تعالى لم يبق في الأسباب الدالة على الغيب إلا الرؤيا إذ هي جزء من النبوة ، والفأل الحسن لا غير وأنشد لبعضهم :

الفال والزجر والكهان كلهم

مضللون ودون الغيب أقفال

(٢) الاستفهام للإنكار والتعجب معا ، والمعنى : لا أحد أشد ضلالا وأعجب حالا ممن يدعون .. الخ.

(٣) الجملة حالية ، وجملة : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) معطوفة عليها.

(٤) فالعابدون كالمعبودين سواء في التبرؤ من بعضهم بعضا يوم القيامة وإعلان العداء لبعضهم بعضا.

٤٦

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي أهل مكة من كفار قريش ، والآيات آيات القرآن والبينات الواضحات.

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : أي من كفار قريش للحق أي القرآن لما قرأه عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) : أي قالوا في القرآن سحر مبين أي ظاهر لما رأوا من تأثيره على النفوس.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه من نفسه.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) : أي قل لهم يا نبينا إن اختلقته من نفسي.

(فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا إن أراد أن يعذبني.

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي هو تعالى أعلم بما تخوضون فيه من القدح والطعن فيّ وفي القرآن.

(كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : أي كفى به تعالى شهيدا بيني وبينكم.

(ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي لم أكن أول رسول فأكون بدعا من الرسل بل سبقني رسل كثيرون.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : أي في هذه الحياة هل أخرج من بلدي ، أو أقتل ، وهل

٤٧

ترجمون بالحجارة أو يخسف بكم.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) : أي ما أتبع إلا ما يوحيه إليّ ربي فأقول وأفعل ما يأمرني به.

(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي وما أنا إلا نذير لكم بين الانذار.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة العرب عامة وقريش خاصة إلى الإيمان والتوحيد فإذا قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن دعوة لهم إلى الإيمان والتوحيد قالوا ردّا عليه ما أخبر به تعالى في قوله (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على كفار قريش (آياتُنا بَيِّناتٍ) أي ظاهرات الدلالة واضحات المعاني (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وبرسوله ولقائه وتوحيده قالوا (لِلْحَقِ) (١) وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) بل قالوا ما هو أشنع في الكذب وأبشع في النظر إذ قالوا ما أخبر به تعالى عنهم في قوله (أَمْ يَقُولُونَ (٢) افْتَراهُ) أي بل أيقولون افتاره أي اختلقه وتخرصه من نفسه وليس هو بكلام الله ووحيه إليه. وقوله تعالى (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي على فرض أنني افتريته على الله وقلت أوحي إليّ ولم يوح إليّ وأراد الانتقام مني بتعذيبي ، فهل أنتم أو غيركم يستطيع دفع العذاب عني ، وعليه فكيف أعرّض نفسي للعذاب بالافتراء على الله تعالى ، فهذا لن يكون مني أبدا. وقوله تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ (٣) فِيهِ) أي الله جل جلاله هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه مندفعين في الكلام تطعنون فيّ وفي القرآن فتقولون فيّ ساحر وفي القرآن سحر مبين وتقولون فيّ مفتر وفي القرآن افتراء إلى غير ذلك من المطاعن والنقائص. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ (٤) بَيْنَكُمْ) أي كفى بالله شهيدا عليّ وعليكم فيما أقول وفيما تقولون وسيجزي كلا بما عمل (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥) لمن تاب فتوبوا إليه يغفر كفركم وخوضكم في الباطل ويرحمكم فإنه تعالى غفور لمن تاب رحيما بمن آمن وأناب. وقوله تعالى في الآية (٩) (قُلْ ما كُنْتُ (٦) بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) يأمر تعالى رسوله أن

__________________

(١) (لِلْحَقِ) اللام تعليلية. وليست للتعدية ، أي : قال الكافرون بعضهم لبعض لأجل رد الحق وإبطاله ، هذا سحر مبين ، والحق : القرآن ، يصفونه بالسحر حتى لا يؤمنوا به.

(٢) (أَمْ) هي المنقطعة المقدرة ببل ، والاستفهام أي : أيقولون افتراه والاستفهام وبل للإضراب الانتقالي من نوع إلى آخر من أنواع ضلالهم ، والاستفهام للنفي والإنكار معا.

(٣) (تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : من قول الباطل والخوض في تكذيب الحق ، إذ الإفاضة في الشيء : الخوض فيه والاندفاع ، ومنه : أفاضوا في الحديث : إذا اندفعوا يقولون ، وأفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة ، أي : اندفعوا.

(٤) إذ هو يعلم صدقي ويعلم أنكم مبطلون.

(٥) الغفور لمن تاب من عباده الرحيم بالمؤمنين.

(٦) البدع : الأول : والبديع كالبدع بكسر الباء مثل : نصف ونصيف ، وأبدع في كذا أتى بالبدع فيه أي بما لم يأت به غيره ، والبديع : صفة مشبّهة ، وهو من أسماء الله تعالى ، ومعناه : خالق الأشياء ومخترعها.

٤٨

يقول لأولئك المشركين المفيضين في الطعن في القرآن والرسول في أغلب أوقاتهم وأكثر مجالسهم (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي ما أنا بأول عبد نبى وأرسل فأكون بدعا في هذا الشأن فينكر عليّ أو يستغرب مني بل سبقتني رسل كثيرة. وقوله (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ (١) بِي وَلا بِكُمْ) أي وقل لهم أيضا أني لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي مستقبلا فهل أخرج من هذه البلاد أو أقتل أو تقبل دعوتي وأنصر ولا ما يفعل بكم من تعذيبكم بحجر أو مسخ أو هدايتكم ونجاتكم. وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما اتبع إلّا الذي أوحى إليّ ربيّ باعتقاده أو قوله أو عمله ، فلا أحدث ولا أبتدع شيئا لم يوح الله به ابدا (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما أنا بالذي يملك شيئا لنفسه أو لغيره من خير أو ضير وإنما أنا نذير من عواقب الكفر والتكذيب والشرك والمعاصي فمن قبل إنذاري فكف عما يسبب العذاب نجا ، ومن رفض إنذاري فأمره إلى ربيّ إن شاء عذبه وإن شاء تاب عليه وهداه ورحمه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

__________________

(١) هذا ردّ على المتعنتين من المشركين الذين يطالبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لم يكن في وسعه من أمور الغيب ، وليس معناه كما قيل : إنه لا يدري هل يكون بعد موته في الجنة أو في النار ، ولا يدري هل يكون المشركون في النار أو الجنة ، إذ هذا قول باطل. وأما حديث عثمان بن مظعون في البخاري (فإنه لما قالت المرأة رحمة الله عليك يا أبا السائب إن الله أكرمك فقال لها : وما يدريك أن الله أكرمه فإني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي) فإن المراد منه عدم الجزم بمصير من مات من المسلمين ووجوب تفويض الأمر إلى الله تعالى.

٤٩

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني ماذا تكون حالكم.

(إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أي إن كان القرآن من عند الله.

(وَكَفَرْتُمْ بِهِ) : أي وكذبتم به أي بالقرآن.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي وشهد عبد الله بن سلام.

(عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ) : أي عليه إنه من عند الله فآمن.

(وَاسْتَكْبَرْتُمْ) : أي واستكبرتم أنتم فلم تؤمنوا ألستم ظالمين.

(لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) : أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والدين خيرا ما سبقنا إليه المؤمنون.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) : أي بالقرآن العظيم.

(فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) : أي هذا القرآن إفك قديم أي هو من كذب الأولين.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) : أي القرآن مصدق للكتب التي سبقته.

(لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي حال كونه بلسان عربي لينذر به الظالمين المشركين.

(وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) : وهو أي القرآن بشرى لأهل الإحسان في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا) : أي فلم يرتدوا واستمروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : أي في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة.

(بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي جزاهم الله بما جزاهم به بنفي الخوف والحزن عليهم بأعمالهم الصالحة وتركهم الأعمال الفاسدة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش الذين ردوا الدعوة وقالوا في كتابها سحر مبين وفي صاحبها مفتر فقال تعالى لرسوله قل يا محمد لأولئك المشركين الذين قالوا في القرآن سحر مبين (أَرَأَيْتُمْ) (١) أي أخبروني ما ذا تكون حالكم إن كان القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو عبد الله بن سلام على (٢) مثله أي على التوراة أنها نزلت من

__________________

(١) الاستفهام تقريري للتوبيخ ، ومفعولا (رَأَيْتُمْ) محذوفان تقديرهما : أنفسكم ظالمين.

(٢) المثل : المماثل أي : المشابه في فعل أو صفة ، وضمير مثله : عائد على القرآن ، وجائز أن يكون المراد بالمثل : التوراة ، والشاهد هو موسى عليه‌السلام أو عبد الله بن سلام كما في التفسير ، وجائز أن يكون لفظ (مثل) مقحما زائدا نحو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : ليس مثله شيء ، ويكون المعنى. وشهد شاهد ـ وهو عبد الله بن سلام ـ على صدق القرآن وكونه وحي الله أوحاه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٠

عند الله وهي مثل القرآن فلا يستنكر أن يكون القرآن نزل من عند الله لا سيّما والكتابان التوراة والقرآن يصدق بعضهما بعضا ، بدلالتهما معا على أصول الدين كالتوحيد والبعث والجزاء بالثواب والعقاب ومكارم الأخلاق والعدل والوفاء بالعهد. (فَآمَنَ) هذا الشاهد (١) (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي وكفرتم أنتم مستكبرين عن الإيمان بالحق ألم تكونوا شر الناس وأظلمهم وتحرمون الهداية (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (٢) الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فحرموها الهداية الإلهية وقوله تعالى في الآية (١١) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) هذا القول جائز أن يقوله يهود المدينة للمؤمنين بها ، وجائز أن يقوله المشركون في مكة وفي غيرها من العرب إذ المقصود هو الاعتذار عن عدم قبول الإسلام بحجة انه لا فائدة منه تعود عليهم في دنياهم ولا خير يرجونه منه إن دخلوا فيه إذ لو كان فيه ما يرجون من الفوائد المادية لاعتنقوه ودخلوا فيه ولم يسبقهم إليه الفقراء والمساكين. وهو معنى ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ (٣) آمَنُوا) أي في شأن الذين قالوا لو كان الإسلام خيرا ما (٤) سبقونا إليه فآمنوا وكفرنا. وقوله تعالى (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي وإن ظهر عنادهم وعظم عتوهم واستكبارهم فعموا فلم يهتدوا بالقرآن فسيقولون (٥) (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) وقد قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ومعنى إفك قديم كذب أفكه غير محمد وعثر عليه فهو يقول به ما أفسد هذا القول وما أقبحه وأقبح قائله.

وقوله تعالى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) أي ومن قبل القرآن الذي أنكر المشركون نزوله كتاب موسى التوراة وقد أنزلناه عليه إماما يؤتم به فيقود المؤتمين به العاملين بهدايته إلى السعادة والكمال وأنزلنا اليوم القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وهو ما دل عليه قوله (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لما قبله من الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه لسانا (٦) عربيا لينذر به رسولنا المنزل عليه

__________________

(١) لا حاجة إلى أن نقول الشاهد هو موسى عليه‌السلام بحجة أن السورة مكية ، وعبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة ، إذ من الجائز أن تكون السورة مكية والآيات مدنية ، وهو الحق في هذه والله أعلم.

(٢) الجملة تعليلية لما هو محذوف في الكلام وهو : ضللتم ضلالا لا يرجى لكم هداية بعده ، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين.

(٣) اللام تعليلية أي : قالوا ما قالوه لأجل الذين آمنوا حتى يردوا دعوتهم ولا يقبلوا الإسلام.

(٤) ضمير (سَبَقُونا) عائد إلى غير مذكور وأرادوا به المستضعفين مثل بلال وعمار ووالده وسميّة وزنيرة على وزن شرّيرة ، وسكيرة : أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام.

(٥) المضارع هنا مراد به سيديمون قولهم هذا كلما أرادوا رد القرآن : قالوا هذا إفك قديم.

(٦) كلمة (لِساناً) فيها إيماء إلى أنه عربي اللغة لا الأخلاق والعادات العربية والأحكام القبلية لأنها فسدت بالشرك وانقطاع الوحي وموت العلماء قرونا عديدة.

٥١

وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُنْذِرَ) (١) به (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك والمعاصي عذاب الله المترتب على تدسية النفوس بأوضار الشرك والمعاصي وهو بشرى للمحسنين من المؤمنين الذين احسنوا النية والعمل بالفوز العظيم يوم القيامة وهو النجاة من النار ودخول الجنة وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَ (٢) اسْتَقامُوا) بعد أن ذكر تعالى المبطلين وباطلهم عقّب على ذلك بذكر المحسنين وأعمالهم على نهج الترهيب والترغيب فأخبر تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي آمنوا وصرحوا بإيمانهم وجاهروا به (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على منهج لا إله إلا الله فعبدوا الله بما شرع وتركوا عبادة غيره حتى ماتوا على ذلك هؤلاء يخبر تعالى عنهم أنهم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة فهم آمنون في الحيوات الثلاث ، وبشرهم بالجنة فأخبر أنهم أصحابها الخالدون فيها ، وأشار إلى أن ذلك الفوز والبشرى كانا نتيجة أعمالهم في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح الذين دل عليها قوله (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ اعتبار الشهادة وانها أداة يتوصل بها إلى احقاق الحق وابطال الباطل فلذا يشترط عدالة صاحبها والعدالة هي اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالبا.

٢ ـ تقرير قاعدة من جهل شيئا عاداه ، إذ المشركون لما لم يهتدوا بالقرآن قالوا هذا إفك قديم.

٣ ـ بيان تآخي وتلاقي الكتابين التوراة والقران فشهادة أحدهما للآخر أثبتت صحته.

٤ ـ وجوب تعلم العربية لمن أراد أن يحمل رسالة الدعوة المحمدية فينذر ويبشر.

٥ ـ فضل الاستقامة (٣) حتى قيل انها خير من ألف كرامة ، والاستقامة هي التمسك بالإيمان والعبادة كما جاء بذلك القرآن وبينت السنة.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ

__________________

(١) قرأ نافع لتنذر بالتاء الفوقية خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ حفص (لِيُنْذِرَ) بالياء أي : القرآن.

(٢) ثم للتراخي الرتبي ، إذ الإيمان يحصل بالنظر والتأمل دفعة واحدة وأما الاستقامة فتحتاج إلى مراقبة النفس وذكر الوعد والوعيد في كل طاعة من فعل أو ترك.

(٣) روى مسلم والترمذي وغيرهما عن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قل آمنت بالله ثم استقم).

٥٢

أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) : أي أمرناه أمرا مؤكدا بالإيصاء.

(إِحْساناً) (١) : أي أن يحسن بهما إحسانا وهو المعاملة بالحسنى.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) : أي حملته أثناء حمله في بطنها على مشقة وولدته كذلك على مشقة.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) : أي مدة حمله في بطنها وفطامه من الرضاع ثلاثون شهرا.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي اكتمال قوته البدنيّة والعقلية وهي من الثلاث والثلاثين فما فوق.

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) : أي ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك بصرفها فيما تحب.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) : أي وبأن أعمل صالحا ترضاه مني أي تتقبله عني.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي فلا نؤاخذهم بها بل نغفرها.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) : أي في جملة أصحاب الجنة وعدادهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) : أي في مثل قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية.

معنى الآيات :

إن الفرد كالجماعة فقد أوصى تعالى الإنسان بالإحسان بوالديه وببرهما في جميع كتبه وعلى ألسنة كافة رسله ، والإنسان بعد ذلك قد يحسن ويبرّ وقد يسيء ويعقّ ، فكذلك الجماعة والأمة من الناس يرسل إليهم الرسول فمنهم من يؤمن ومنهم من يكذب ، ومنهم من يتابع ومنهم من يخالف فلما ذكر تعالى اختلاف قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإيمان بما جاء به ، والكفر به ذكر أن هذه حال

__________________

(١) قرأ نافع حسنا وكرها بفتح الكاف ، وقرأ حفص (إِحْساناً) و (كُرْهاً) بضم الكاف.

٥٣

الإنسان فقال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) (١) أي جنس الإنسان أي أمرناه بما هو آكد من الأمر وهو الوصيّة بوالديه أي أمه وأبيه إحسانا بهما وذلك بكف الأذى عنهما وإيصال الخير بهما وطاعتهما في المعروف وببرهما أيضا بعد موتهما. فمن الناس من ينفذ هذه الوصية ومنهم من يهملها ولا ينفذها وقوله ، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) بيان لوجوب الإحسان بهما وبرهما إذ معاناة الأم وتحملها مشقة الحمل تسعة أشهر ومشقة الوضع وهي مشقة لا يعرفها إلا من قاسى آلامها كالأمهات. وقوله (وَحَمْلُهُ (٢) وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) بيان لمدة تحمل المشقة إنها ثلاثون شهرا بعضها للحمل وبعضها للإرضاع والتربية وقوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغَ) أي عاش حتى إذا بلغ أشده أي اكتمال قواه البدنية والعقلية وذلك من ثلاث وثلاثين سنة إلى الأربعين (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ (٣) سَنَةً) قال أي الإنسان البار بوالديه المنفذ للوصية الإلهية كأبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ بلغ الأربعين من عمره بعد البعثة المحمدية بسنتين. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) (٤) وهي نعمة الإيمان والتوحيد والإسلام عليّ (وَعَلى والِدَيَ) إذ آمن وآمن أبواه أبو قحافة عثمان بن عامر التيمي وآمنت أمه أم الخير سلمى ، وأولاده عامة من بنين وبنات ولم يحصل لأحد من الصحابه أن سأل ربه أن يدفعه دفعا إلهاميا وتوفيقا ربانيا لأن يشكر نعمة الله عليه وعلي والديه بالإسلام ، وأن يدفعه كذلك إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ويتقبله عن صاحبه ، وقد استجاب له ربه فأعتق تسعة أعبد مؤمنين من استرقاق الكافرين لهم منهم بلال رضي الله عنه ، وقوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي حتى يشملهم جميعا وقد استجاب الله تعالى له فآمن أولاده أجمعون ذكورا وإناثا ، وقوله (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هذا توسل منه رضي الله عنه لقبول دعائه فقد توسل إلى ربّه بالتوبة من الشرك والكفر إلى الإيمان والتوحيد ، وبالإسلام إلى الله وهو الخضوع لله والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ (٥) ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا يؤاخذهم بها بعد توبتهم منها في جملة أصحاب الجنة إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بعد مغفرة ذنبه ، وقوله (وَعْدَ الصِّدْقِ) (٦)

__________________

(١) روي من عدة طرق أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه

(٢) وحمله وفصاله ثلاثون شهرا هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى من سورة البقرة : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) دلّتا على أن أقل مدة الحمل : ستة أشهر ، فلا يثبت الحمل بأقل من ستة أشهر ويثبت بالستة والسبعة والثمانية والتسعة ، فمن بنى بامرأة وولدت قبل ستة أشهر من البناء بها فالولد لا يلحق الزوج.

(٣) لم خص الدعاء للوالدين في هذا الوقت بالذات؟ لأنه وقت يصبح فيه الولد مشغولا بزوجة وأولاد وتكاليف فهو في هذه الحال أحوج ما يكون إلى عون الله تعالى على بر والديه.

(٤) من بركة صلاح الذرية أن يدعو الولد لوالده بعد موته ففي صحيح الحديث : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له).

(٥) قرأ نافع : يتقبل ويتجاوز بالبناء للمفعول ، وأحسن مرفوع نائب فاعل ، وقرأ حفص بنون المتكلم فيهما ونصب (أَحْسَنَ) على أنه مفعول به.

(٦) الوعد : مصدر بمعنى المفعول كالرد بمعنى المردود.

٥٤

أي أنجز لهم هذا لأنه وعد صدق وعدهم فأنجزه لهم ، وقوله (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الكتاب مثل قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) الآية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب البر بالوالدين بطاعتهما في المعروف والإحسان بهما بعد كف الأذى عنهما.

٢ ـ الإشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر فأكثر ، وأن الرضاع قد يكون حولين فأقل.

٣ ـ جواز التوسل بالتوبة إلى الله والانقياد له بالطاعة.

٤ ـ فضيلة آل أبي بكر الصديق على غيرهم من سائر الصحابة ما عدا آل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ بشارة الصديق وأسرته بالجنة ، إذ آمنوا كلهم وأسلموا أجمعين وماتوا على ذلك.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) : الذي اسم موصول استعمل استعمال الجنس فدل على متعدد بدليل الخبر عنه وهو أولئك الذين حق عليهم القول.

٥٥

(أُفٍّ لَكُما) : أي نتنا وقبحا لكما.

(أَنْ أُخْرَجَ) : أي من القبر حيا بعد موتي.

(وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) : أي مضت الأمم قبلي ولم يخرج منها أحد من قبره.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) : أي يطلبان الغوث برجوع ولدهما إلى الإيمان بعد الإلحاد والكفر.

(وَيْلَكَ آمِنْ) : أي يقولان له إن لم ترجع ويلك أي هلاكك أي هلكت آمن بالبعث.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : وقد وعد العباد بالرجوع إليه ومحاسبتهم على أعمالهم ومجازاتهم بها.

(فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما القول بوجود بعث للناس أحياء بعد الموت إلا أكاذيب الأولين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي وجب عليهم القول بالعذاب يوم القيامة.

(فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي في جملة أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) : أي ولكل من المؤمنين البارين ، والكافرين الفاجرين درجات مما عملوا درجات المؤمنين في الجنة ودرجات الكفار في النار.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) : أي يقال لهم أذهبتم طيباتكم باشتغالكم بملذاتكم في الدنيا.

(وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) : أي تمتعتم بها في الحياة الدنيا.

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) : أي جزاؤكم عذاب الهوان.

(بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي تتكبرون في الأرض.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي إذ لا حق لكم في الكبر والكبرياء لله ، ولم يأذن لكم فيه.

(وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : أي تخرجون عن طاعة الله ورسوله.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الرجل المؤمن وأعماله الصالحة ومواقفه المشرفة ذكر هنا الرجل الكافر وأعماله الباطلة ومواقفه السيئة وذلك من باب الدعوة إليه تعالى بالترغيب والترهيب فقال تعالى (وَالَّذِي (١)

__________________

(١) قيل : إن هذه الآية نزلت في أحد ابني أبي بكر الصديق عبد الرحمن أو عبد الله وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك ، ومن قال به رد اسم الإشارة (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.). إلى من طالب الولد بإحيائهم ممن ماتوا على الشرك لأن كلا من عبد الله وعبد الرحمن قد أسلم وحسن إسلامه استجابة الله دعوة أبي بكر.

٥٦

قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي (١) أَنْ أُخْرَجَ (٢) وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يخبر تعالى عن أخبث إنسان هو ذاك الملحد العاق لوالديه المنكر للبعث والجزاء إذ قال لوالديه أمه وأبيه أف لكما أي نتنا وقبحا لكما أتعدانني بأن أخرج من قبري حيا بعد ما مت ، وقد مضت أمم وشعوب قبلي ، وما خرج منها أحد من قبره فكيف تعدانني أنتما ذلك إن هذا لتخلف عقلي وتأخر حضاري وقوله تعالى (وَهُما (٣) يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي ووالداه يستغيثان الله ويستصرخانه طلبا إغاثتهما بهداية ولدهما الملحد الشيوعي ، ويقولان للولد ويلك أي هلاكك حضر يا ولد هلكت آمن بالبعث والجزاء وصلّ وصم واترك الزنا والخمر ويلك إن وعد الله حق أي إن ما وعد الله به عباده من إحيائهم للحشر والحساب والجزاء حق فلا يتخلف أبدا فيرد عليهما الولد الملحد الدّهريّ بما أخبر تعالى به عنه في قوله فيقول (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤) أي أكاذيبهم التي كانوا يعيشون عليها ويقصونها في مجالسهم ، وبما أن الذي قال لوالديه لفظه مفرد ولكنه دال على جنس كان الخبر جمعا فقال تعالى في الإخبار عنهم (أُولئِكَ الَّذِينَ (٥) حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي القول بالعذاب الدال عليه قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، وفي قوله (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي في جملة أمم سبقتهم في الإلحاد والكفر من العالمين عالم الجن وعالم الإنس وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٦) وأي خسران أعظم من عبد يخسر نفسه وأهله ويعش في جهنم خالدا فيها أبدا. وقوله تعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ (٧) مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل من المؤمنين البارين والكافرين العاقين درجات مما عملوا من خير أو شر إلا أن درجات المؤمنين في الجنة تذهب في علو متزايد ودرجات الكافرين في النار تذهب في سفل متزايد إلى أسفل سافلين. وقوله تعالى (وَلِيُوَفِّيَهُمْ (٨) أَعْمالَهُمْ) كاملة غير منقوصة الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وهم لا يظلمون بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة. وقوله تعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين يوم يعرضون على النار ويقال لهم في توبيخ وتقريع (أَذْهَبْتُمْ

__________________

(١) (أَتَعِدانِنِي) الاستفهام للإنكار والتعجب.

(٢) (أَنْ أُخْرَجَ) أي : من قبري حيا بعد موتي وفنائي ، إنكارا منه للبعث الآخر.

(٣) وقد أجاب الله دعاء أبي بكر وزوجه أم رمان حيث أسلم ابنهما رضي الله عنهم أجمعين.

(٤) (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له.

(٥) الإشارة هنا إلى أولئك الذين ذكرهم ابن أبي بكر كعبد الله بن جدعان وعثمان بن عمرو ومشايخ قريش فقال أين فلان وأين فلان إنكارا منه للحياة بعد الموت.

(٦) خسروا أعمالهم حيث ضاع سعيهم في الحياة الدنيا وخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

(٧) (وَلِكُلٍ) التنوين عوض أي : لكل من الفريقين المؤمنين والكافرين الأبرار والفجار درجات مما عملوا ، وهي مراتبهم التي لهم في الجنة أو في النار.

(٨) قرأ الجمهور ولنوفيهم بالنون وقرأ حفص (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) بالياء.

٥٧

طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أي باقبالكم على الشهوات والملآذ ناسين الدار الآخرة فاستمتعتم بكل الطيبات ولم تبقوا للآخرة شيئا (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إذ لا حق لكم في الكبر لضعفكم وعجزكم إنما الكبرياء لله الملك الحق أما أنتم فقد ظلمتم باستكباركم عن الإيمان بربكم ولقائه وعن طاعته (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي وبفسقكم عن طاعة ربكم وطاعة رسوله. إذا فادخلوا جهنم داخرين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة عقوق الوالدين وأنها من الكبائر.

٢ ـ بيان حنان الوالدين وحبهما لولدهما وبذل كل ما يقدران عليه من أجل إسعاده وهدايته.

٣ ـ التحذير من الانغماس في الملاذ والشهوات والاستمتاع.

٤ ـ التحذير من الكبر والفسق وأن الكبر من أعمال القلوب والفسق من أعمال الجوارح.

٥ ـ مدى فهم السلف الصالح لهذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها).

١) قرأ يزيد حتى بلغ (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ثم قال تعلمون والله إن أقواما يسترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع ولا قوة إلا بالله.

٢) روي أن عمر بن الخطاب كان يقول لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ، ولكن استبقي طيباتي.

وذكر أنه لمّا قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله ، قال هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال له خالد بن الوليد لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر رضي الله عنه وقال لئن كان حظنا الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)

٥٨

فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) : أي نبي الله هودا عليه‌السلام.

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) : أي خوف قومه عذاب الله بوادي الأحقاف.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) : أي مضت الرسل.

(مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) : أي من قبله ومن بعده إلى أممهم.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) : أي أنذروهم بأن لا يعبدوا إلا الله.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) : أي إن عبدتم غير الله.

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : أي هائل بسبب شرككم بالله وكفركم برسالتي.

(أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) : أي لتصرفنا عن عبادتها.

(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) : أي من العذاب على عبادتها.

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي في انه يأتينا قطعا كما تقول.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم مجيء العذاب ليس لي وإنما هو لله وحده.

وأبلغكم ما أرسلت به إليكم : أي وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلني به ربي إليكم.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) : أي حظوظ أنفسكم وما ينبغي لها من الإسعاد والكمال وإلّا كيف تستعجلون العذاب مطالبين به.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) : أي رأوا العذاب سحابا يعرض في الأفق.

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) : أي متجها نحو أوديتهم التي فيها مزارعهم.

(قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) : أي قالوا مشيرين إلى السّحاب هذا عارض ممطرنا.

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) : أي ليس هو بالعارض الممطر بل العذاب الذي استعجلتموه.

ريح تدمر كل شيء : أي ريح عاتية تهلك كل شيء تمر به.

(بِأَمْرِ رَبِّها) : أي بإذن ربها تعالى.

٥٩

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) : أي أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق إلا مساكنهم.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) : أي كذلك الجزاء الذي جازينا به عادا قوم هود وهو الهلاك الشامل نجزي المجرمين من سائر الأمم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قوم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (وَاذْكُرْ) أي لقومك للعبرة والاتعاظ (أَخا عادٍ) وهو هود عليه‌السلام والأخوة هنا أخوة نسب لا دين. اذكره (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) إذ خوفهم عذاب الله إن لم يتوبوا إلى الله ويوحدوه ، والآحقاف وادي القوم (١) الذي به مزارعهم ومنازلهم وهو ما بين حضرموت ومهرة وعمان جنوب الجزيرة العربية. وقوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ (٢) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده في أممهم. أي لم يكن هود أول نذير ، ولا أمته أول أمة انذرت العذاب وقوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي كل رسول أنذر أمته عاقبة الشرك فأمرهم أن لا يعبدوا إلا الله ، وهو معنى لا إله إلا الله التي دعا إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته فهي أمر بعبادة الله وترك الشرك فيها ، وقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم هائل عظيم وهو يوم القيامة ، فكان رد القوم ما أخبر تعالى به في قوله (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) (٣) أي تصرفنا عن عبادة آلهتنا. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما (٤) توعدنا به وتهددنا ، فأجابهم هود عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه بقوله (قالَ) أي هود (إِنَّمَا (٥) الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي علم مجيء العذاب وتحديد وقته هذا ليس لي وإنما هو لله منزله ، فمهمتي أن أنذركم العذاب قبل حلوله بكم وابلغكم ما أرسلت به إليكم من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والمعاصي ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً (٦) تَجْهَلُونَ) أي بما يضركم وما ينفعكم في الدنيا والآخرة وإلا كيف تستعجلون العذاب وتطالبون به إذ المفروض أن تطلبوا الرحمة والسعادة لا العذاب والشقاء قوله تعالى (٧) (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي فلما رأى قوم هود العذاب متجها

__________________

(١) الأحقاف : جمع حقف بكسر وسكون : الرمل العظيم المستطيل.

(٢) وجائز أن تكون (النُّذُرُ) جمع نذارة ، وكونها الرسل هو الذي عليه المفسرون.

(٣) الاستفهام إنكاري والإفك ، بفتح الهمزة الصرف ، وبالكسر الكذب أو أسوأه.

(٤) جواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدمه وهو : (فأتنا بما تعدنا) ولفظ الصادقين ، أبلغ في الوصف مما لو قالوا ، إن كنت صادقا.

(٥) (ال) في (الْعِلْمُ) للاستغراق العرفي أي : علم كل شيء ، ومنه علم وقت مجيء العذاب.

(٦) أي : تجهلون صفات الله تعالى وحكمة إرسال الرسل ، وتجهلون حتى ما ينفعكم وما يضركم وإلا فكيف تطالبون بالعذاب ، كما في التفسير.

(٧) الفاء هنا : للتفريع فما ذكر بعدها متفرع عما تقدمها من قصة هود مع قومه.

٦٠