أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وطاعته أنهم مهتدون أى انهم على الحق والصواب وذلك بتزيين القرين لهم.

(بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) : أي كما بين المشرق والمغرب من البعد قال هذا تبرؤا منه.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) : أي ولن ينفعكم اليوم أيها العاشون إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصى.

(أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) : اشتراككم فى العذاب غير نافع لكم.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) : أي إنك يا رسولنا لا تسمع الصم ، ولا تهدى العمى والقوم قد أصمهم الله وأعمى أبصارهم لأنهم عشوا عن ذكره.

(وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي كما انك لا تقدر على هداية من كان فى ضلال مبين عن الحق والهدى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى عرض الهداية على الضاليّن بالكشف عن أحوالهم واضاءة الطريق لهم قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ (١) عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذى هو القرآن وعبادة الرحمن متجاهلا ذلك نقيض (٢) له شيطانا أى نسبب له نتيجة إعراضه شيطانا ونجعله له قرينا لا يفارقه فى الدنيا ولا فى الآخرة. فهو له قرين دائما. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وان القرناء الذين جعلهم تعالى حسب سنته فى الأسباب والمسببات للعاشين عن ذكره يصدونهم بالتزيين والتحسين لكل المعاصى حتى انغمسوا فى كل إثم وولغوا فى كل باطل وشر ، وضلوا عن سبيل الهدى والرشد ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون وغيرهم هم الظالمون.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَنا) (٣) أي يوم القيامة قال العاشى عن ذكر الرحمن يا ليت متمنيا بينى وبينك بعد المشرقين أي يتمنى لو أن بينه وبين قرينه من الشياطين من البعد كما بين المشرق والمغرب. قال تعالى لأولئك العاشين (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) أنفسكم بالشرك والمعاصى فى الدنيا أنكم فى العذاب مشتركون أي إن اشتراككم فى العذاب غير نافع لكم ولا مجد ابدا. وقوله تعالى لرسوله : (أَفَأَنْتَ (٤) تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ

__________________

(١) هذا مضارع عشا يعشوا عشوا كغزا (يغزوا) غزوا إذا نظر إلى الشيء نظرا غير ثابت يشبه نظر الأعشى والعشا بفتح العين والشين اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء. وعشى كرضى إذا كان في بصره آفة العشا.

(٢) قيض يقيض تقييضا فالتقييض : الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة أي القشر المحيط بالمح ، وهو لا يفارقه حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما اتيح له القيض.

(٣) قرأ نافع جاءانا أي من يعش عن ذكر الرحمن والشيطان المقيض له وقرأ حفص بالإفراد (جاءَنا) أي العاشي عن ذكر الرحمن.

(٤) الاستفهام إنكاري وفي الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسجيل أن الكافر أصم أعمى ومقابله المؤمن يسمع ويبصر.

٦٤١

مُبِينٍ) ينكر تعالى على رسوله ظنه أنه يقدر على هدايتهم وحده بدون إرادة الله تعالى ذلك لهم إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد فى دعائهم ، وهم لا يزدادون إلا تعاميا وتجاهلا وكفرا فقال تعالى يخاطب رسوله (أَفَأَنْتَ) والاستفهام للانكار تسمع الصم الذين ذهب الله بأسماعهم ، أو تهدى العمى الذين ذهب الله بأبصارهم ، ومن كان فى ضلال مبين عن الحق وسبيل الرشد والهدى إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك وترفق فى دعوتك فإنك لا تكلف غير البلاغ وقد بلغت.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى فيمن يعرض عن ذكر الله فإنه يسبب له شيطانا يضله ويحرمه الهداية أبدا فيقيم على الذنوب والآثام ضالا الطريق المنجى المسعد وهو يحسب انه مهتد ، وهذا يتعرض له المعرضون عن الكتاب والسنة كالمبتدعة واصحاب الأهواء والشهوات والعياذ بالله تعالى.

٢ ـ الاشتراك في العذاب يوم القيامة لا يخففه.

٣ ـ بيان أن من اعماه الله وأصمه حسب سنته فى ذلك لا هادى له ولا مسمع له ولا مبصر.

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) : أي فإن نذهبن بك أي نميتك (١) قبل تعذيبهم ، وما زائد ادغمت فيها إن الشرطية فصارت إمّا.

(فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) : أي معذبوهم فى الدنيا وفى الآخرة.

وإما نرينك الذى وعدناهم : أي وإن نرينك بعض الذى نعدهم من العذاب.

__________________

(١) أو بالخروج من مكة مكرها عليه من قبل أعدائك ، وهجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كانت إلا بإرادته الحرة ولم يكن فيها مكرها ولا ملجأ ولذا لم ينتقم الله من أهل مكة كما هو في التفسير.

٦٤٢

(فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) : أي لا يعوقنا عائق لأنا عليهم قادرون.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) : أي دم على استمساكك بالقرآن سواء عجلنا لك بالموعود به أو أخرناه.

(إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي إنك على طريق الحق والهدى فواصل سيرك.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) : أي وإن القرآن لشرف لك وشرف لقومك.

(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) : أي عن القرآن أي عن العمل به بتطبيق شرائعه وابلاغه لغيركم

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أي اسأل مؤمنى أهل الكتابين التوراة والانجيل.

(أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) : أي هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والجواب لم نجعل أبدا فليفهم هذا مشركو مكة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى دعوة كفار قريش إلى الإيمان والتوحيد فقوله تعالى (فَإِمَّا نَذْهَبَنَ (١) بِكَ) أي إن نذهب بك أى نخرجك من بين أظهرهم (فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أى فنعذبهم كما عذبنا الأمم من قبلهم عند ما يخرجون رسولهم (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ) من نصرك عليهم وغلبتك لهم فإنا عليهم مقتدرون أى قادرون على أن نفعل بهم ذلك.

وقوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ (٢) بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فتمسك يا رسولنا بما يأمرك به هذا القرآن الذى أوحاه إليك ربك إنك على صراط مستقيم وهو الإسلام الذى لا يشقى من تمسك به فعاش عليه ومات عليه. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي وان القرآن الذى أوحى إليك وأمرت بالتمسك به هو ذكر لك أي شرف وأى شرف (٣) ولقومك من قريش كذلك إذا آمنوا به وعملوا بما جاء فيه وسوف (٤) تسألون عن العمل به وتطبيق أحكامه والالتزام بشرائعه.

__________________

(١) الفاء تفريعية فالجملة متفرعة عما تقدم من قوله أفأنت تسمع الصم الخ والذهاب هنا قابل للموت والإخراج كرها بقرينة الوعيد المترتب عليه.

(٢) (فَاسْتَمْسِكْ) الفاء تفريعية عما قبلها والآية تحض على التمسك بالإسلام تشريعا وعملا.

(٣) هذه الآية كآية الأنبياء وهي : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ومنشأ هذا الشرف هو أن قريشا نزل القرآن بلغتها فكل الناس محتاجون إلى معرفة لغتهم ليعرفوا ما طلب منهم من عقائد وعبادات وآداب فبهذا شرفت قريش.

(٤) من فسر السؤال بالعمل هو حق وكذا من فسره بالشكر فهو حق لأن شكر العلم العمل به وتعليمه.

٦٤٣

وقوله (وَسْئَلْ مَنْ (١) أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)؟ أي وأسأل يا رسولنا مؤمني أهل الكتابين التوراه والانجيل إذ سؤالهما سؤال رسلهم الذين ماتوا من قبلك هل جعل الله تعالى من دونه آلهة يعبدون؟ وسوف يجيبونك بقولهم حاشا لله أن يأذن بعباده غيره من خلقه وهو الله لا إله إلا هو ، وهذا من أجل تنبيه أذهان قريش إلى خطأها الفاحش فى اصرارها على عبادة الأصنام إن القرآن نزل لهدايتهم وهداية غيرهم من بني آدم على الإطلاق إلا أنهم هم أولا وغيرهم ثانيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من سنة الله فى الأمم إذا أخرج الرسول قومه مكرها انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم.

٢ ـ صدق وعد الله تعالى لرسوله فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه.

٣ ـ وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا.

٤ ـ شرف هذه الأمة بالقرآن فإن أضاعته أضاعها الله وأذلّها وقد فعل.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠))

__________________

(١) جائز أن يكون الكلام على ظاهره وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جمع الله تعالى له العديد من الرسل والأنبياء في بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج وسألهم فأجابوا بالحق وهو أن الله تعالى لم يأذن أبدا في عبادة غيره وجائز أن يكون في الكلام حذف دل عليه واقع الحياة إذ لا يسأل الأموات وإنما يسأل الأحياء وتقدير المحذوف واسأل أتباع من أرسلنا من قبلك وهم مؤمنو أهل الكتابين من أتباع موسى وعيسى كما هو في التفسير.

٦٤٤

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) : أي أرسلناه بالمعجزات الدالة على صدق رسالته.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : أي وقومه من القبط.

(إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) : أي سخرية واستهزاء.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) : أي من آيات العذاب كالطوفان.

(إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) : أي من قرينتها التى قبلها من الآيات.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) : أي أيها العالم بالسحر المتبحر فيه.

(بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) : أي من كشف العذاب عنا إن آمنا.

(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) : أي إن كشفت عنا العذاب إنا مؤمنون.

(إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) : أي ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون الرسول من ذوى المال والجاه كالوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود وقال فرعون : أم أنا خير من هذا الذى هو مهين أي حقير يعنى موسى عليه‌السلام. ومن جهة أخرى كان لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر كما صبر موسى وهو أحد أولى العزم الخمسة فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي بحججنا الدالة على صدق موسى فى رسالته إلى فرعون وقومه بأن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره ، وان يرسلوا مع موسى بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى أرض المعاد «فلسطين» فلما جاءهم قال إنى رسول رب العالمين جئتكم لآمركم بعبادة الله وحده وترك عبادة من سواه ، إذ لا يستحق العبادة إلا الله. فطالبوه بالآيات على صدق دعواه فلما جاءهم بالآيات العظام فاجأوه بالضحك منها والسخرية والاستهزاء بها وهو معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) (١).

وقوله تعالى : (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) (٢) أي وما نرى فرعون وملأه من آية إلا هى أكبر دلالة على صدق موسى من الآية التى سبقتها. قال تعالى (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ

__________________

(١) أي استهزاء وسخرية يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخييل وأنهم قادرون على الإتيان بمثلها.

(٢) الأخت هنا بمعنى المشاكلة والمجانسة النوعية كما يقال هذه صاحبة تلك أي قريبة منها في المعنى والكبر المراد به الكبر في الدلالة على صدق موسى وصحة دعوته إذ المعجزات تتفاوت في العظمة كما قال الشاعر :

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسرى بها الساري

٦٤٥

يَرْجِعُونَ) الى الحق فيؤمنون ويوحدون. وقالوا لموسى (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) (١) أى العليم بالسحر المتبحر فيه ظنا منهم أن المعجزات كانت عمل ساحر. (ادْعُ لَنا رَبَّكَ (٢) بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أى سل ربك يرفع عنّا هذا العذاب كالطوفان والجراد والقمل والضفادع إنا مؤمنون وكانوا كلما نزل بهم العذاب سألوا موسى ووعدوه بالإيمان به إن رفع الله عنهم العذاب وفى كل مرة ينكثون عهدهم وهو قوله تعالى (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي ينقضون العهد ولا يؤمنون كما واعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الآيات دليل على صدق من جاء بها ، ولكن لا تستلزم الإيمان ممن شاهدها.

٢ ـ قد يؤاخذ الله الأفراد أو الجماعات بالذنب المرة بعد المرة لعلهم يتوبون إليه.

٣ ـ حرمه خلف الوعد ونكث العهد ، وأنهما من آيات النفاق وعلاماته.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

__________________

(١) هذا النداء في هذا الموقف كان نداء تكريم وتعظيم كعادتهم في توقير وتعظيم علمائهم السحرة لأنهم لما أصابهم من البلاء اعترفوا بمكانة موسى وسيادته وأيه تكتب بدون ألف اتباعا للمصحف وحذفت الألف نظرا إلى سقوطها في النطق للوصل والهاء حرف تنبيه أتي بها للفصل بين أي وبين نعتها في النداء.

(٢) هذا جريا على اعتقاد الأقباط وهو أن لكل أمة أو قبيلة ربا خاصا بها لذا قالوا لموسى أدع لنا ربك.

٦٤٦

شرح الكلمات :

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) : أي نادى فيهم افتخارا وتبجحا بما عنده.

(وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) : أي من النيل تجرى من تحت قصورى.

(أَفَلا تُبْصِرُونَ) : أي عظمتى وما أنا عليه من الجلال والكمال.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ) : أي من موسى الذى هو مهين ولا يكاد يبين أي يفصح للثّغة التى في لسانه.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) : أي هلّا ألقي عليه أسورة من ذهب من قبل الذى أرسله.

(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) : أي أو جاءت الملائكة يتبع بعضها بعضا تشهد له بالرسالة.

فاستخف فرعون قومه : أي استفز فرعون قومه أى قال لهم ما حركهم به فخفوا لطاعته.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) : أي أطاعوه لكونهم قوما فاسقين ففسقهم هو علة طاعتهم.

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) : أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم.

(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) : أي فرعون وقومه سلفا أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم.

(وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) : أي يتمثلون بحالهم فلا يقدمون على مثل فعلهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى قصة موسى مع فرعون قال تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ (١) فِي قَوْمِهِ) لأجل الافتخار والتطاول إرهابا للناس قال يا قوم أليس لى ملك مصر ، وهذه الأنهار أى أنهار النيل (٢) تجرى من تحتى (٣) أى من تحت قصوره ، (أَفَلا تُبْصِرُونَ) فإذا ابصرتم فقولوا (أَنَا خَيْرٌ (٤) مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أى حقير يتولى الخدمة بنفسه ، (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أى يفصح بلسانه لعلة به وهى اللثغة أو هو؟. (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ (٥) مِنْ ذَهَبٍ) أى هلّا ألقى عليه من أرسله أساورة من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة. قال تعالى : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أى استفزهم بقوله هذا وحركهم (فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ، والفاسق جبان خواف يستجيب بسرعة للباطل ان كان ممن يخاف عادة كالحاكم الظالم.

__________________

(١) قيل لما كشف الله عنهم العذاب بدعوة موسى أضمر فرعون وملؤه نكث العهد الذي أعطاه لموسى وهو أنهم يهتدون فخاف فرعون أن يتبع قومه موسى فقام بهذه المناورة الرخيصة فنادى في قومه فجمعهم وقال فيهم ما ذكر تعالى.

(٢) (هذِهِ الْأَنْهارُ) هي فروع النيل وهي أربعة هي نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنّيس.

(٣) جائز أن تكون الأنهار له تسلط على مصابها فلذا هدد قومه بذلك.

(٤) (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) (أم) المنقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي والتقدير بل انا خير والاستفهام تقريري أراد تفضيل نفسه على موسى عليه‌السلام والمهين : الذليل الذي لم يكن من بيوت الشرف والجاه.

(٥) قرأ نافع والجمهور أساورة جمع أسوار لغة في سوار ، وقرأ حفص (أَسْوِرَةٌ) جمع سوار والمراد من قوله ألقى عليه أساوره يريد إن كان ملكا أو رسولا كما يزعم لم لا يلقى إليه من السماء أساورة كالتي يلبسها ملوك فارس ومصر ، أو تأتي معه الملائكة يشهدون له بالرسالة بما يدعى وكل هذا من باب دفع معرة الهزيمة التي لحقته.

٦٤٧

وقوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا) أى أغضبونا بنكثهم وكفرهم وكبريائهم وظلمهم أغرقناهم أجمعين أى فلم نبق منهم أحدا والمراد فرعون وجنوده. وقوله تعالى (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً (١) وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) أي جعلنا فرعون ، ومن أغرقنا معه من ملائه وجيوشيه سلفا أي سابقين ليكنوا عبرة لمن بعدهم ، ومثلا يتمثل به من بعدهم فلا يقدمون على ما أقدموا عليه من الكفر والظلم والعلو والفساد ، وأولى من يعتبر بهذا قريش التى نزل لينبّهها ويحرك كامن نفسها لتنتبه من غفلتها فتؤمن وتوحد فتنجو وتكمل وتسعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الفخر والمباهاة إذ هما من صفات المتكبرين والظالمين. ٢ ـ الاحتقار للفقراء والازدراء بهم من صفات الجبارين الظلمة المتكبرين. ٣ ـ الفسق يجعل صاحبه مطية لكل ظالم أداة يسخره كما يشاء. ٤ ـ التحذير من غضب الرب تبارك وتعالى فإنه متى غضب انتقم فبطش.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً) : أي ولما جعل عيسى بن مريم مثلا ، والضارب ابن الزبعرى.

(إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) : أي إذ المشركون من قومك يصدون أي يضحكون فرحا بما سمعوا.

__________________

(١) السلف : جمع سالف كخدم جمع خادم وحرس جمع لحارس والسالف : من يسبق غيره في الوجود.

٦٤٨

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟) : أي ألهتنا التى نعبدها خير أم هو أي عيسى بن مريم فنرضى أن تكون آلهتنا معه.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) : أي ما جعلوه أي المثل لك إلا خصومة بالباطل لعلمهم أن ما لغير العاقل فلا يتناول اللفظ عيسى عليه‌السلام.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) : أي شديد والخصومة.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) : أي ما هو أي عيسى إلا عبد انعمنا عليه بالنبوة.

(وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي لوجوده من غير أب كان مثلا لبنى إسرائيل لغرابته يستدل به على قدرة الله على ما يشاء.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) : أي ولو شاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة.

(فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) : أي يعمرون الأرض ويعبدون الله فيها يخلفونكم فيها بعد إهلاككم.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) : أي وإن عيسى عليه‌السلام لعلم للساعة تعلم بنزوله إذا نزل.

(فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) : أي لا تشكن فيها أى فى إثباتها ولا فى قربها.

(وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي وقل لهم اتبعون على التوحيد هذا صراط مستقيم وهو الإسلام.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) : أي ولا يصرفنكم الشيطان عن الإسلام.

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) : أي إن الشيطان لكم عدو بيّن العداوة فلا تتبعوه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) روى أن ابن الزبعرى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون قال : أهذا لنا ولألهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، فقال ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرح بها المشركون وضحكوا وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت فى هذه الحادثة الآية : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ (١) مَرْيَمَ مَثَلاً) أى ولما جعل ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا إذ جعله مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلها وعبدوه من دون الله ، وقال فإذا كان عيسى والعزير

__________________

(١) المراد بالمثل هنا الممثل به والمشبه به لأن ابن الزبعري شبه آلهتهم بعيسى في أنها عبدت من دون الله مثله فإذا كانوا في النار فعيسى كذلك.

٦٤٩

والملائكة فى النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها المشركون (١) وصدوا وضجوا بالضحك. (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) أي المسيح؟ قال تعالى لرسوله : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أى ما ضرب لك ابن الزبعرى هذا المثل طلبا للحق وبحثا عنه وانما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) مجبولون على الجدل والخصام.

وقوله (إِنْ هُوَ) أي عيسى (إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) بالنبوة والرسالة ، (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يستدلون به على قدرة الله وانه عزوجل على كل ما يشاء قدير إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من تراب ثم قال له كن فكان.

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لأهلكناكم يا بنى آدم ولم نبق منكم أحدا. وجعلنا بدلكم فى الأرض ملائكة يخلفونكم فيها فيعمرونها ويعبدون الله تعالى فيها ويوحدونه ولا يشركون به سواه.

وقوله (وَإِنَّهُ (٢) لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي وإن عيسى عليه‌السلام لعلامة للساعة أي إن نزول عيسى عليه‌السلام فى آخر الزمان علامة على قرب الساعة. (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أى فلا تشكّن فى إتيانها فانها آتية وقريبة. وقوله (وَاتَّبِعُونِ) أى وقل لهم يا رسولنا واتبعون على التوحيد وما جئتكم به من الهدى (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى الإسلام القائم على التوحيد الذى نزل به القرآن وجاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن الإسلام بوساوسه وإغوائه فيصرفكم عن التوحيد والإسلام (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وليس أدل على عداوته من أنه اخرج آدم بإغوائه من الجنة حسدا له وبغيا عليه. فمثل هذا العدو لا يصح أبدا الاستماع إليه والمشي وراءه واتباع خطواته. ومن يتبع خطواته يهلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن قريشا أوتيت الجدل والقوة فى الخصومة.

٢ ـ ذم الجدل لغير إحقاق حق أو إبطال باطل وفى الحديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.

٣ ـ شرف عيسى وعلو مكانته وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء.

٥ ـ حرمة اتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدى.

__________________

(١) قرأ نافع يصدون من صد يصد عن كذا إذا أعرض فيصدون بمعنى يعرضون عن القرآن ويقولون إن فيه تناقضا من أجل فرية ابن الزبعرى ، وقرأ حفص (يَصِدُّونَ) بكسر الصاد من الصد بمعنى الصخب والضجيج.

(٢) وجائز أن يكون الضمير في (وَإِنَّهُ) عائد إلى القرآن أو إلى المنزّل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى مشيرا إليهما. وما في التفسير مروي عن كبار التابعين مجاهد وقتادة وابن عباس الصاحب الجليل رضي الله عنهما ولذا قدمته في التفسير.

٦٥٠

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) : أي ولما جاء عيسى بن مريم إلى بنى إسرائيل بالمعجزات والشرائع.

(قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) : أي قال لبنى إسرائيل قد جئتكم بالنبوة وشرائع الإنجيل.

(وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أحكام التوراة من أمر الدين وغيره.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) : أي خافوا الله وأطيعون فيما أبلغكموه عن الله من الأمر والنهى.

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) : أي إن الله إلهي والهكم فاعبدوه بحبه وتعظيمه والذلة له.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي تقوى الله وطاعة الرسول وعبادة الله بما شرع هو الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) : أي فى شأن عيسى أهو الله : أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) : أي فويل للذين كفروا بما قالوا فى عيسى من الكذب والباطل.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أي ما ينتظر هؤلاء الأحزاب مع إصرارهم على ما قالوه فى عيسى إلا الساعة أن تأتيهم بغته فجأة وهم لا يشعرون.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى جدل المشركين فى مكة وفرحهم بالباطل الذى قاله ابن الزبعرى فى شأن

٦٥١

الملائكة والعزيز وعيسى عليهم‌السلام من أنهم فى النار مع من عبدوهم ، وبرأ تعالى الملائكة والعزيز وعيسى لأنهم ما أمروا الناس بعبادتهم حتى يؤاخذوا بها ، وانما امر بعبادتهم الشيطان فالشيطان ومن عبدوهم هم الذين فى النار. وذكر تعالى شرف عيسى ومكانته وانه عبد أنعم عليه بالنبوة وجعله مثلا لبنى إسرائيل يستدلون به على قدرة الله تعالى إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وإنما خلقه من تراب ذكر رسالة عيسى عليه‌السلام إلى بنى إسرائيل ليكون ذلك موعظة لكفار مكة فقال تعالى (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) (١) أي جاء بنى إسرائيل مصحوبا بالبينات هى الإنجيل والمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما إلى ذلك ، قال لهم (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ) أى النبوة من عند الله ، (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) من أحكام التوراة وأمور الدين إذا (فَاتَّقُوا اللهَ) (٢) يا بنى إسرائيل أي خافوا عقابه المترتب على معاصيه (وَأَطِيعُونِ) فيما أبلغكموه من أمر ونهى عن الله تعالى ، إن الله ربى وربكم أى إلهى وآلهكم لا إله إلا هو فاعبدوه بفعل محابه وترك مساخطه حبا فيه وتعظيما له ورهبة ورغبة. وقوله (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أى هذا الذى دعوتكم إليه من اتقاء الله ، وطاعة رسوله وعبادته وحده هو الطريق المستقيم الذى يفضى بسالكه إلى سعادة الدارين. قال تعالى : (فَاخْتَلَفَ (٣) الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي من بين بنى إسرائيل من يهود ونصارى فقالت طائفة من اليهود إفتراء أن عيسى ابن مريم ابن زنا وأمه بغي وقالوا ساحر. وقال النصارى : هو الله ، أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة. قال تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم فتوعدهم الرب تعالى بالويل الذى هو واد يسيل فى جهنم بما يتجمع من صديد فروج أهل النار وأبدانهم من دماء وقروح وأوساخ وهو عذاب يوم القيامة الأليم توعد هؤلاء الظالمين بما قالوا فى عيسى عبد الله ورسوله عليه‌السلام وقال تعالى : (هَلْ (٤) يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينظرون إلا الساعة لأنهم ما تابوا إلى الله ولا راجعوا الحق فيما قالوه فى عيسى بل أصروا : اليهود يصفونه بأخس الصفات والنصارى يصفونه بالألوهية التى هى حق الله رب عيسى ورب العالمين أن تأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون لأنهم مشغولون بالذرة والهدرجين والاستعمار والتجارة والانغماس فى الشهوات كما هو واقع ومشاهد اليوم. وصدق الله العظيم.

__________________

(١) قال بن عباس يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام وخلق الطير والمائدة وغيرها والإخبار بكثير من الغيوب.

(٢) أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده ومن قال هذا فكيف يكون إلها يعبد وهو عبد يعبد ويوحد؟.

(٣) ومن اختلافاتهم التي نعيت عليهم اختلاف فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعقوبية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية هو ابن الله وقالت اليعقوبية هو الله وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله قاله الكلبي وغيره.

(٤) الجملة مستأنفة بيانيا لما تقدم مما يثير في النفس تساؤلا فكان الجواب أن العذاب آت وأهله ما ينظرون إلا الساعة وأهل العذاب هم المختلفون من أهل الكتاب والمشركين إذ الجميع ظلموا بالشرك والكفر والتكذيب والآية تدعوهم إلى التوبة لينجوا من العذاب الأليم.

٦٥٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان رسالة عيسى إلى بنى إسرائيل.

٢ ـ وجوب التقوى لله وطاعة الرسول ، وتوحيد الله فى عبادته.

٣ ـ بيان شؤم الخلاف ، وما يجره من التوغل فى الكفر والفساد.

٤ ـ وعيد الله لليهود والنصارى الذين لم يدخلوا فى الإسلام بالويل وهو عذاب يوم أليم.

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))

شرح الكلمات :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : أي الأحباء يوم إذ تأتيهم الساعة بغته.

(إِلَّا الْمُتَّقِينَ) : فإن محبتهم تدوم لهم لأنها كانت في الله وطاعته.

يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون : أي ينادون فيقال لهم لا خوف عليكم ولا انتم تحزنون بل تحبرون أى تسرون وتكرمون.

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) : أي يطوف عليهم الملائكة بقصاع من ذهب وفيها الطعام وأكواب من ذهب فيها الشراب اللذيذ.

(وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) : أي فى الجنة ما تشتهيه الأنفس تلذذا به وتلذه الأعين نظرا إليه.

(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما) : أي يقال لهم وهذه هى الجنة التى أورثكموها الله بأعمالكم

٦٥٣

(كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : الصالحة التى هى ثمرة إيمانكم الصادق وإخلاصكم الكامل.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى ذكر أحداث الساعة قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ (١) بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي إذا جاءت الساعة الأخلاء أى الأحباء فى الدنيا يوم إذ تأتى الساعة (بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فتنقطع تلك الخلة والمودة وتصبح عداء لأنها كانت على معصية الله تعالى وقوله (إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي الله عزوجل بفعل أوامره وترك نواهيه فإن مودتهم وخلتهم لا تنقطع لأنها كانت محبة فى الله وما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل يناديهم ربهم بقوله يا عبادى (٢) (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ (٣) وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ، ويصفهم بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن (وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أى منقادين لله ظاهرا وباطنا ، ويقول لهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي أنتم وزوجاتكم المؤمنات تفرحون وتسرون وقوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) بيان لنعيم الجنة الذى ينعمون به وهو انه يطاف عليهم (بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) (٤) وهى قصاع ، فيها الذ الطعام وأشهاه ، (وَأَكْوابٍ) من ذهب أيضا فيها الذ الشراب والأكواب جمع كوب وهو إناء لا عروة له ولا خرطوم ـ حتى يمكن الشرب منه من أى جهة من جهاته وفيها أي فى الجنّة (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من سائر المستلذات ، (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) من سائر المرئيات ويقال لهم لكم ما تشتهون (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) لا تخرجون منها ولا تموتون فيها.

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) (٥) أي وهذه هى الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون من الصالحات والخيرات ، ووجه الوراثة أن الله تعالى خلق لكل إنسان منزلين أحدهما فى الجنة والثانى فى النار فكل من دخل الجنة ورث منزل أحد دخل النار فهذا أوجه التوارث والباء فى بما

__________________

(١) ذكر القرطبي رواية عن النقاش ان هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين وكان عقبة يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت قد صبأ عقبة فقال أمية وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة عليهما لعائن الله ذلك فنذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتله فقتله يوم بدر صبرا وقتل أمية في المعركة ففيهم نزلت هذه الآية والآية عامة في كل كافر وظالم.

(٢) قرأ نافع والجمهور يا عبادي بالياء بعد الدال وهي ياء المتكلم وقرأ حفص بحذفها تخفيفا لدلالة اللفظ والسياق عليها.

(٣) روي ان المنادي لما يقول يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون يرفع أهل العرصة رؤوسهم فيقول المنادي الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأديان رؤسهم إلا المسلمين.

(٤) في الصحيحين عن حذيفة انه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وفي صحيح مسلم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا فما بال الطعام؟ قال جشأ ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير.

(٥) أشار إليها بلام البعد لعلوها وعظيم منازلها وسمو درجاتها.

٦٥٤

كنتم تعملون سببة أى بسبب اعمالكم الصالحة التى زكت نفوسكم وطهرت أرواحكم فاستوجبتم دخول الجنة وارث منازلها.

وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ (١) مِنْها تَأْكُلُونَ) أي يقال لهم هذا إكراما لهم وإسعادا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كل خلة يوم القيامة تنقطع إلا خلة كانت فى الله ولله سبحانه وتعالى ، ولذا ينبغى أن تكون المودة فى الدنيا لله لا لغيره تعالى.

٢ ـ بيان فضل التقوى وشرف المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصى.

٣ ـ بيان أن الرجل يجمع الله بينه وبين زوجته المسلمة فى الجنة.

٤ ـ بيان نعيم أهل الجنة من طعام وشراب وسائر المستلذات.

٥ ـ الإيمان والعمل الصالح سبب فى دخول الجنة كما أن الشرك والمعاصى سبب فى دخول النار.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) : أي أن الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصى فى جهنم خالدون لا يخرجون ولا يموتون.

(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) : أي لا يخفف عنهم العذاب وهم فيه ساكتون سكوت يأس.

__________________

(١) الفاكهة قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الثمار كلها رطبها ويابسها ، وبائعها يقال له الفاكهاني.

٦٥٥

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) : أي ونادوا مالكا خازن النار قائلين له ليمتنا ربك.

(قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) : أي أجابهم بعد ألف سنة مضت على دعوتهم بقوله إنكم ماكثون أي مقيمون فى عذاب جهنم دائما.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) : أي علة بقائكم أنا جئناكم بالحق على لسان رسولنا والحق التوحيد وعبادة الله بما شرع فكره أكثركم الحق.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) : أي أحكموا فى الكيد للنبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا محكمون كيدنا فى إهلاكهم.

(وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) : أي وملائكتنا من الحفظة يكتبون ما يسرون وما يعلنون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الجنة ونعيمها ذكر فى هذه الآيات النار وعذابها وهذا هو الترغيب والترهيب الذى امتاز به اسلوب القران فى الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الإصلاح قال تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) (١) أى الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصى هؤلاء (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) ، (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) العذاب أى لا يخفف وهم فيه أى فى العذاب مبلسون أى ساكتون آيسون قانطون. وقال تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ) فى تعذيبنا لهم بهذا العذاب (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) ، حيث دسوا أنفسهم بالشرك والمعاصى.

وقوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ (٢) عَلَيْنا رَبُّكَ) يخبر تعالى ان أصحاب ذلك العذاب الدائم الذى لا يفتر فيخفف نادوا مالكا خازن النار وقالوا له ليمتنا ربك فنستريح من العذاب. فأجابهم مالك بعد ألف (٣) سنة قائلا قال أي ربى (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أى فى عذاب جهنم ، وعلل لهذا الحكم بالمكث أبدا فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أى أرسلنا إليكم رسولنا بالحق يدعوكم إليه وهو الإيمان والعمل الصالح المزكى للنفوس فكره أكثركم (٤) ذلك فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا مؤثرين شهوات الدنيا على الآخرة فمتم على الشرك والكفر فهذا جزاء الكافرين.

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن سائلا بعد أن علم بحال أهل الإيمان والتقوى يسأل عن حال أهل الإجرام فأجيب بأن المجرمين الخ.

(٢) قال ابن مسعود وأبو الدرداء قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ونادوا يا مال أي رخم الاسم المنادى بحذف الحرف الأخير منه وهو شائع في كلام العرب فيقال في مالك يا مال وفي حارث يا حار وفي فاطمة يا فاطم قال الشاعر :

يا حار لا أرثينّ منكم بداهية

لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك

وقال آخر :

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

وان كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

(٣) روى هذا الترمذي وهناك رواية أخرى في ذكر المدة التي يجابون بعدها.

(٤) الذين كرهوا الحق هم الرؤساء حفاظا على مراكزهم وأما الاتباع فلم يكرهوا الحق ولكن اتبعوا الرؤساء فماتوا على الشرك والكفر فدخلوا النار معهم.

٦٥٦

وقوله تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا (١) أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي بل أبرم هؤلاء المشركون أمرا يكيدون فيه للرسول ودعوته فإن فعلوا ذلك فإنا مبرمون أي محكمون أمرا مضاف لهم بتعذيبهم وإبطال ما أحكموه من الكيد للرسول ودعوته. وقوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) نسمع ذلك ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ما يقولون سرا وجهرا. روى أن ثلاثة نفر قالوا وهم تحت استار الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم إذا جهرتم سمع ، وإذا اسررتم لم يسمع وقال الثانى ان كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا أسررتم فنزلت (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ (٢) سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى) أي نسمع سرهم ونجواهم

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عقوبة الإجرام على النفس بالشرك والمعاصى.

٢ ـ عذاب الآخرة لا يطاق ولا يقادر قدره يدل عليه طلبهم الموت ليستريحوا منه وما هم بميتين.

٣ ـ أكبر عامل من عوامل كراهية الحق حب الدنيا والشهوات البهيمية فى الأكل والشرب والنكاح هذه التى تكرّه إلى صاحبها الدين وشرائعه التى قد تقيد من الإسراف فى ذلك.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥))

__________________

(١) (أَمْ) المنقطعة تفسر ببل للاضراب الانتقالي والاستفهام محذوف الأداة تخفيفا أي أأبرموا أمرا والاستفهام تقريري والمراد بالأمر ما يبيتونه من مكر بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجمعوا عليه وهو قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في دار الندوة فأبرم الله أمرا فأهلكهم فى بدر.

(٢) السر : ما يسرونه في أنفسهم من وسائل المكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفي.

٦٥٧

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) : أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الزاعمين أن الملائكة بنات الله إن كان للرحمن ولد فرضا.

(فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) : أي فأنا أول من يعبده تعظيما لله واجلالا ولكن لا ولد له فلا عبادة إذا لغيره.

(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ) : أي تنزّه وتقدس

(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي عما يصفون به الله تعالى من ان له ولدا وشركاء.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) : أي اتركهم يا رسولنا يخوضوا فى باطلهم ويلعبوا فى دنياهم.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ) : أي معبود فى السماء.

(وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) : أي ومعبود فى الأرض.

(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) : أي تعاظم وجل جلال الذى له ملك السموات.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : أي عنده علم وقت مجيئها.

معنى الآيات :

سبق أن بكّت تعالى المشركين فى دعواهم أن الملائكة بنات الله وتوعدهم بالعذاب على قولهم الباطل وهنا قال لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لهم إن كان للرحمن (١) ولد كما تفترون فرضا وتقديرا فأنا أول العابدين له (٢) ، ولكن لم يكن للرحمن ولد. فلم أكن لأعبد غير الله تعالى ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ). وقوله : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه تعالى نفسه وقدسها وهو رب السموات والأرض ورب العرش أي مالك ذلك كله وسلطانه عليه جميعه عما يصفه المشركون به من أن له ولدا وشركاء. وهنا قال تعالى لرسوله إذا أصروا على باطلهم من الشرك والعذاب على الله والافتراء عليه فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا فى دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون وهو يوم عذابهم المعد لهم وذلك يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي معبود فى السماء ومعبود فى الأرض أي معظم غاية التعظيم ، ومحبوب غاية الحب ومتذلل له غاية الذل فى الأرض والسماء وهو الحكيم فى صنعه وتدبيره العليم بأحوال خلقه فهل مثله تعالى يفتقر الى زوجة وولد تعالى

__________________

(١) يروى عن ابن عباس والحسن والسدي أن. إن ليست شرطية وهي نافية بمعنى ما وتقدير الكلام ما كان للرحمن ولد. وهنا تم الكلام ثم قال فأنا أول العابدين وهذا الرأي ضعيف ويتنافي مع السياق وما في التفسير هو الصواب.

(٢) له أي لذلك الولد لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد إلا أنه لا ولد له ولا ينبغي له لغناه المطلق.

٦٥٨

الله عن ذلك علوا كبيرا. وقوله (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ (١) مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تعاظم وجل جلاله وعظم سلطانه الذي له (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) والدنيا والآخرة ، وعنده علم الساعة وإليه ترجعون أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ، وهو على كل شىء قدير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية التلطف فى الخطاب والتنزل مع المخاطب لإقامة الحجة عليه كقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وكما هنا قل إن كان للرحمن ولد من باب الفرض والتقدير فأنا أول العابدين له ولكن لا ولد له فلا أعبد غيره سبحانه وتعالى.

٢ ـ تهديد المشركين بعذاب يوم القيامة.

٣ ـ إقامة البراهين على بطلان نسبه الولد إلى الله تعالى.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ) : أي يعبدونهم.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله.

(الشَّفاعَةَ) : أي لأحد.

(إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) : أي لكن الذى شهد بالحق فوحد الله تعالى على علم هذا الذى تناله شفاعة الملائكة والأنبياء.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته.

(وَقِيلِهِ) : أي قول النبى يا رب إن هؤلاء.

__________________

(١) تعاظم وتسامى عما يصفه به المشركون من الشريك والصاحبة والولد وتبارك هو خبر لفظا وإنشاء معنى إذ هو لفظ أريد به المدح العظيم لذي الخير العظيم.

٦٥٩

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) : أي أعرض عنهم.

(وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ) : أي امرى سلام منكم ، فسوف تعلمون عاقبة كفركم.

معنى الآيات :

لما أعلم تعالى فى الآية السابقة أن رجوع الناس إليه يوم القيامة ، وكان المشركون يزعمون ان آلهتهم من الملائكة وغيرها تشفع لهم يوم القيامة واتخذوا هذا ذريعة لعبادتهم فأعلمهم تعالى فى هذه الآية (٨٦) أن من يدعونهم بمعنى يعبدونهم من الأصنام والملائكة وغيرهم (١) من دون الله لا يملكون الشفاعة لأحد ، فالله وحده هو الذى يملك الشفاعة ويعطيها لمن يشاء هذا معنى قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي استثنى الله تعالى أن من شهد بالحق أي بأنه لا إله إلا الله ، وهو يعلم ذلك علما يقينا فهذا قد يشفع له الملائكة أو الأنبياء فقال عزوجل (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فالموحدون تنالهم الشفاعة بإذن الله تعالى. وقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلفهم لأجابوك قائلين الله. فسبحان الله كيف يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد العبادة فلذا قال تعالى : (فَأَنَّى (٣) يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته يعرفون أن الله هو الخالق لهم ويعبدون غيره ويتركون عبادته.

وقوله (وَقِيلِهِ (٤) يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم تعالى قيل رسوله وشكواه وهي يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لما شاهد من عنادهم وتصلبهم شكاهم الى ربه تعالى فأمره ربه عزوجل أن يصفح (٥) عنهم أي يتجاوز عما يلقاه منهم من شدة وعنت وأن يقول لهم سلام وهو سلام متاركة لا سلام تحية وتعظيم أى قل لهم أمرى سلام. فسوف تعلمون (٦) عاقبة : هذا الإصرار على الكفر والتكذيب فكان هذا منه تهديدا لهم بذكر ما ينتظرهم من أليم العذاب إن ماتوا على كفرهم.

__________________

(١) مثل عيسى والعزيز.

(٢) (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الجملة حالية وفي هذا دليل على أن من لم يفهم معنى لا إله إلا الله ويقولها لا تنفعه ولا ينال بها الشفاعة يوم القيامة إذ لا بد من فهمه ما ذا نفى وما ذا أثبت ولذا إيمان المقلد اختلف في صحته أهل العلم.

(٣) (فَأَنَّى) اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية أي إلى أي مكان يصرفون؟ وماضي (يُؤْفَكُونَ) أفك يأفك أفكا على وزن ضرب يضرب ضربا وأفكه كضربه.

(٤) هذا على قراءة نافع وهي نصب قيله أما على قراءة حفص (وَقِيلِهِ) مجرور عطفا على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيل رسوله كذا. وهو (قيل) مصدر قال كالقول ، وأصله قول فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح والضمير في قيله يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو القائل يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لطول ما دعاهم وهو معرضون عن الحق مصرون على الكفر.

(٥) مثل هذا (فاصفح وقل سلام) منسوخ بآيات القتال التي نزلت بالمدينة النبوية بعد الهجرة.

(٦) قرأ نافع تعلمون بالتاء وقرأ حفص والجمهور (يَعْلَمُونَ) بالياء فالأول مما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله للمشركين ، والثاني على أنه وعد من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ينتقم من المكذبين.

٦٦٠