أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

شرح الكلمات :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) : أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) : أي يوم القيامة.

(لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) : أي إذا أتى لا يرد بحال.

(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) : أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه.

(وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) : أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) : أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.

(إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) : وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ.

(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) : أي نعمة كالغنى والصحة والعافية.

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) : أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك.

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : أي من الذنوب والخطايا.

(فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) : أي للنعمة والمنعم والإنسان هو غير المؤمن التقى.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) : أي يرزق من يشاء من الناس بنات.

(وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) : أي ويعطى من يشاء الأولاد الذكور.

(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) : أي يجعلهم ذكورا وإناثا.

(وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) : أي لا يلد ولا يولد له.

٦٢١

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين فى عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذا لانفسهم من النار فقال : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) (١) بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذى إذا جاء لا مردّ له من الله ، إذ لا يقدر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذا؟ فبادروا بالتوبة الى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير يمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم فى كتاب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة الا أحصاها عدا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٧) وهى قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٢). وقوله تعالى فى الآية الثانية (٤٨) (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والطاعة فما أرسلناك عليهم حفيظا رقيبا تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها. إن عليك إلا البلاغ أى ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على اعراضهم .. وقوله تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ (٣) مِنَّا رَحْمَةً) أي نعمة كسعة رزق وصحة بدن وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر ، وهذا الإنسان هو الكافر أو الجاهل الضعيف الإيمان. وإن تصبهم سيئة أى ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت ايديهم من الذنوب فإن الإنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع فى اليأس والقنوط هذا الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحس فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة. وقوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ (٤) وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إنه بحكم سلطانه على الأرض والسماء فانه يتصرف كيف يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) أو يزوجهم له ذكورا وإناثا ، ويجعل من يشاء من الناس (عَقِيماً) لا يلد ولا يولد له ، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شىء ، وقدرة أخضعت لها كل شىء وهذا معنى قوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥). فالواجب إن يسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطى لحكمة ويمنع لحكمة ، ومن السفه الاعتراض على حكم الله.

__________________

(١) السين والتاء للتوكيد واللام لربكم لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول نحو شكرت له وحمدت له وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين إذ الأصل أجابه واستجابه.

(٢) النكير : اسم مصدر أنكر ينكر إنكارا والنكير اسم المصدر إذ نقصت حروفه والمعنى ما لكم إنكار لما جوزيتم به إذ لا يسعكم إلا الاعتراف.

(٣) الإذاقة كناية عن الإصابة والمراد بالرحمة أثرها وهي النعمة والتقدير وإنا إذا رحمنا الانسان فأصبناه بنعمة.

(٤) الجملة مستأنفة بيانيا إذ لسائل أن يقول لم لا يفطر الله الإنسان على خلق الشكر فكان الجواب لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء.

(٥) الجملة تعليلية فصفتا العلم والقدرة بهما يكون الولد ولا يكون فليسلم الأمر لله في العقم والولادة.

٦٢٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الاستجابة لله تعالى فى كل ما دعا العبد إليه ، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها.

٢ ـ على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده ، ولا يضرهم بعد ذلك شيء.

٣ ـ بيان طبع الانسان وحاله قبل أن يهذب بالإيمان واليقين والطاعات.

٤ ـ لله مطلق التصرف فى الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه فى شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد.

٥ ـ وجود عقم فى الرجال وعقم فى النساء ، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر. اماما ظهر الآن من بنوك المني ، والإنجاب بطريق صبّ ماء فحل فى فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسليم لقضائه ، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له ، وحسبهم قبحا فى سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون انقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسموات.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

٦٢٣

شرح الكلمات :

(إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : أي إعلاما خفيا سريعا فى يقظة أو منام ، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات.

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) : أي أو يرسل ملكا فى صورة إنسان فيكلمه مبلغا عن الله تعالى.

(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) : أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم فى تدبير خلقه.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي كما كنا نوحى إلى سائر رسلنا أوحينا اليك يا محمد هذا القرآن.

(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) : أي وحيا ورحمة من أمرنا الذى نوحيه إليك.

(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) : أي لم تكن قبل تدرى أي شىء هو الكتاب ، ولا الإيمان الذى هو قول وعمل واعتقاد.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ) : أي جعلنا القرآن نورا نهدى به من نشاء من عبادنا الى صراطنا.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي الإسلام.

(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) : أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) (١) يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاما أو مناما فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه فى روعه (٢) جازما أنه كلام الله ألقاه اليه هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه‌السلام غير مرة. وثالثة أن يرسل إليه رسولا كجبريل عليه‌السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ (٣) رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌ) أي ذو علو على خلقه (حَكِيمٌ) فى تدبيره لخلقه.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) أى كما كنا نوحى إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحا وهو القرآن وسمى روحا لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح ، وقوله

__________________

(١) روى غير واحد أن الآية نزلت ردا على قول من قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك وجائز أن يكون اليهود الذين أشاروا بهذا على كفار قريش وجائز أن يكون اليهود هم القائلون له.

(٢) الروع بضم الراء القلب أو العقل ، وبالفتح الفزع. وفي الحديث إن روح القدس نفثت في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب والحديث صحيح. وأدرج بعضهم خذوا ما حل ودعوا ما حرم.

(٣) اختلف الفقهاء فيمن حلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا فهل يحنث؟ أوجه الأقوال أنه إذا اشترط المشافهة في حلفه أنه لا يحنث وإن لم يشترطها يحنث ولا يحنث إن سلم عليه في الصلاة أما في خارجها فإنه يحنث.

٦٢٤

(مِنْ أَمْرِنا) (١) أي الذى نوحيه إليك الشامل للأمر والنهى والوعد والوعيد وقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) أى القرآن (وَلَا الْإِيمانُ) (٢) الذى هو عقيدة وقول وعمل. وقوله : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) أي جعلنا القرآن نورا نهدى به من نشاء من عبادنا إلى الإيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابّنا وترك مساخطنا.

وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وأنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإسلامى وقوله (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أى خلقا وملكا وعبيدا (إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أى وإليه تعالى مصير كل شيء ، ومرد كل شيء إذ هو المالك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها ، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفى كفايته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طرق الوحى وهى ثلاثة الأولى الإلقاء فى الروع يقظة أو مناما والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عزوجل كما كلم موسى فى الطور وكلم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما فى صورته الملائكية أو فى صورة رجل من بنى آدم فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره.

٢ ـ القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح.

٣ ـ القرآن نور يستضاء به فى الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة.

__________________

(١) أي من شأننا العظيم المقتضي الإيحاء إليك بالقرآن الحاوي للشرائع والأحكام وأنواع الهدايات المكملة للإنسان الآخذ بها المسعدة له في الحياتين.

(٢) المنفي من الإيمان هو التفصيلي أما الإجمالي فقد ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنا موحدا ، ولذا لم يقل وما كنت مؤمنا فالمنفي شرائع الإيمان وتفاصيله.

٦٢٥

سورة الزّخرف

مكّية وآياتها تسع وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب حم ويقرأ : حاميم.

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي والقرآن الموضح لطريق الهدى وسبيل السّلام.

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي جعلناه قرانا بلسان العرب يقرأ بلسانهم ويفهم به.

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي رجاء أن تعقلوا أيها العرب ، ما تؤمرون به وما تنهون عنه.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) : أي فى اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلّها عندنا.

(لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) : أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه فى علوه ورفعته حكيم أى ذو حكمة بالغة عاليه لا يرام مثلها.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ننزل القرآن بأمركم ونهيكم ووعدكم ووعيدكم.

(أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) : لأن كنتم قوما مسرفين متجاوزين الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) : أي وكثيرا من الأنبياء أرسلناهم فى القرون الأولى من الأمم الماضية.

(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) : أي فأنزلنا عذابنا بأشدهم قوة وبطشا من قومك فأهلكناهم.

٦٢٦

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) : أي ومضى فى الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين.

معنى الآيات :

(حم) الله أعلم بمراده به ، (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) (١) أى والقرآن الموضح لكل ما ينجى من عذاب الله ويكسب جنته ورضاه وهذا قسم أقسم الله به ، والمقسم عليه قوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أى جعلنا الكتاب المبين الذى هو القرآن عربيا أى بلسان العرب ولغتهم.

وقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بيان للحكمة في جعل القرآن عربيا أي كي تعقلوا معانيه وتفهموا مراد الله منزله منه فيما يدعوكم إليه فيسهل عليكم العمل به فتكملوا وتسعدوا وقوله (وَإِنَّهُ) أى القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أى اللوح المحفوظ لدينا عندنا (لَعَلِيٌ) أي ذو علو وشأن على سائر الكتب قبله (حَكِيمٌ) ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.

وقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ (٢) عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ (٣) قَوْماً مُسْرِفِينَ) أي أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا فلا ننزل القرآن حتى لا تؤمروا ولا تنهوا من أجل أنكم قوم مسرفون فى الشرك والكفر والتكذيب كلا لا نفعل إذا الاستفهام للانكار عليهم وقوله (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ (٤) نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي وكثيرا من الأنبياء أرسلنا فى الأمم السابقة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما أتى أمة من تلك الأمم رسول منا إلا سخروا منه واستهزأوا به ، وبما جاءهم به من الإيمان والتوحيد ودعاهم إليه من فعل الصالحات وترك المحرمات إذا فاصبر على قومك فإنهم سالكون سبيل من سبقهم فى الكفر والتكذيب والسخرية والاستهزاء. وقوله تعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي أهلكنا من هم أشد بطشا فى تلك الأمم الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم. وقوله (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي مضى فى الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود واصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟.

__________________

(١) (الْكِتابِ) هو القرآن أقسم به تعالى للإعلان عن مكانته وعلو شأنه وجعله قرآنا يقرأ بلسان العرب مكتوبا في سطورهم ، ومحفوظا في صدورهم للعلة الحكيمة التي تضمنها قوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

(٢) الفاء للتفريع والاستفهام إنكاري أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن؟ كما لا يجوز أن نضرب عنكم صفحا فلا ننزل القرآن من أجل إسرافكم في الشرك والتكذيب ، والصفح : الإعراض بصفح الوجه أي جانبه وهو أشد الإعراض.

(٣) قرأ نافع إن كنتم بكسر الهمزة وقرأ حفص (أَنْ كُنْتُمْ) بأن المصدرية. وإقحام «قوما» إشارة إلى أن الإسراف صار طبعا لهم لا يفارقهم.

(٤) (كَمْ أَرْسَلْنا) إلى قوله إلى (الْأَوَّلِينَ) تضمن الكلام الإلهي أمرين الأول تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والثاني تهديد المشركين المسرفين بأنهم يتعرضون للهلاك الذي تعرضت له أمم قبلهم أشد منهم بطشا وأكثر منهم قوة فأهلكوا وبقوا أثرا بعد عين.

٦٢٧

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الإقسام بالله تعالى.

٢ ـ بيان شرف القرآن الكريم وعلو مكانته على سائر الكتب السابقة.

٣ ـ كون الناس مسرفين فى الشرك والفساد لا يمنع وعظهم ونصحهم وارشادهم.

٤ ـ بيان سنة بشرية وهى أنهم ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به.

٥ ـ فى إهلاك الأقوى دليل على أن إهلاك من هو دونه أحرى وأولى لا سيما مع شدة كفره.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا.

(مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أي من بدأ خلقهنّ وأوجدهن ليقولن خلقهن الله ذو العزة والعلم.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) (١) : أي الله الذى جعل لكم الأرض فراشا كالمهد للصبى.

__________________

(١) قرأ نافع مهادا وقرأ عاصم (مَهْداً). والمهاد اسم للشيء يمهد أي يوطأ ويسهل لما يحل فيه. والمهد مراد به هنا المهاد.

٦٢٨

(وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) : أي طرقا.

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : أي إلى مقاصدكم فى أسفاركم.

(ماءً بِقَدَرٍ) : أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفانا مغرقا ومهلكا.

(فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : أي فأحيينا به بلدة ميتا أى لا نبات فيها ولا زرع

(كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) : أي مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالماء تحيون أنتم وتخرجون من قبوركم.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) : أي خلق كل شيء إذا الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا الله.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) : أي السفن ، والإبل.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : أي تستقروا على ظهور ما تركبون.

(وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) : أي مطيقين ولا ضابطين.

(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) : أي لصائرون إليه راجعون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى دعوة المشركين إلى التوحيد بقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين من قومك قائلا من خلق السموات والأرض أى من أنشأهن وأوجدهن بعد عدم لبادروك بالجواب قائلين الله ثم هم مع اعترافهم بربوبيته تعالى لكل شيء يشركون فى عبادته أصناما وأوثانا. فى آيات أخرى صرحوا باسم الجلالة الله وفى هذه الآية قالوا : العزيز العليم (١) أى الله ذو العزة التي لا ترام والعلم الذى لا يحاط به. وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أى فراشا وبساطا (٢) كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفا لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي بساطا وفراشا ، (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أى طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم فى البلاد هنا وهناك ، (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) وهو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفانا مغرقا مهلكا ، وقوله

__________________

(١) من الجائز أن يكون العزيز العليم من قول المشركين إذ هم لا ينكرون عزة الله وعلمه وقدرته كما درجنا عليه في التفسير إذ هو الظاهر من اللفظ والسياق وجائز أن يكون من قول الله تعالى وهما صفتان لاسم الجلالة (الله) الذي أجابوا به في غير آية من القرآن ثم ذكر من صفاته الموجبة لعبادته وحده دون من سواه فذكر ست صفات من صفات الجلال والكمال وهي متضمنة إنعامه وإفضاله على عباده بخلقهم ورزقهم.

(٢) كون الأرض مهدا لا ينافي كون جسمها كرويا.

٦٢٩

(فَأَنْشَرْنا) (١) أي أحيينا بذلك المطر بلدة ميتا أي أرضا يابسة لا نبات فيها ولا زرع. وقوله (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٢) أى مثل ذلك الأحياء للأرض الميتة يحييكم تعالى ويخرجكم من قبوركم أحياء. وقوله (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) هذا وصف آخر له تعالى بأنه خلق الأزواج كلها من الذكر والأنثى ، والخير والشر والصحة والمرض ، والعدل والجور ، إذ لا فرد إلا هو سبحانه وتعالى وفى الحديث الصحيح الله وتر يحب الوتر قل هو الله أحد وقوله (جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) هذا وصف آخر بصفاته الفعلية الدالة على وجوده وقدرته وعلمه والموجبة لألوهيته إذ جعل للناس من الفلك أى السفن ما يركبون ومن الأنعام كالإبل ومن البهائم كالخيل والبغال والحمير كذلك وقوله (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) أى تستقروا على ظهوره أى ظهور ما تركبون ، ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استويتم عليه وتقولوا بألسنتكم سبحان الذى سخر لنا هذا أى الله لنا واقدرنا على التحكم فيه ، (وَما كُنَّا لَهُ) أى لذلك الحيوان المركوب بمقرنين أي بمطيقين ولا ضابطين لعجزنا وقوته ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أى لصائرون إليه بعد موتنا راجعون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد يذكر صفات الربوبية المقتضية للألوهية.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣ ـ معجزة القرآن فى الأخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية وحتى فى الذرة فهى زوج موجب وسالب.

٤ ـ مشروعية التسمية والذكر عند ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم ، وإن كان حيوانا قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعدا : سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون (٣).

__________________

(١) أصل النشر البسط لما كان مطويا وأريد به هنا إحياء الأرض بالنبات بعد محلها ويبسها وحسن إطلاق لفظ النشر لانتشار الحياة فيها بالنباتات.

(٢) (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي إن إحياءكم بعد موتكم وخروجكم من الأرض منتثرين فيها كإحياء الأرض بالمطر وانتشار النباتات والزروع فيها فبأي حق تنكرون البعث وتكذبون به؟.

(٣) روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي أن عليا رضي الله عنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى عليها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ثم حمد الله ثلاثا وكبر الله ثلاثا ثم قال سبحانك لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقيل له مما ضحكت؟ فقال رأيت رسول الله فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت مما ضحكت يا رسول الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربي اغفر لي ويقول علم عبدي انه لا يغفر الذنوب غيري.

٦٣٠

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) : أي وجعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض من عباده جزءا إذ قالوا الملائكة بنات الله.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) : أي إن الإنسان المعترف بان الله خلق السموات وجعل من عباده جزءا هذا الإنسان لكفور مبين أي لكثير الكفر بينه.

(وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) : أي خصكم بالبنين وأخلصهم لكم.

(بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) (١) : أي بما جعل للرحمن شبها وهو الولد.

__________________

(١) المراد من المثل : الأنثى بدليل قوله تعالى في سورة النحل (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). وتفسيره بالولد أعم وأولى لأن النصارى كاليهود قبلهم قالوا : عزير ابن الله ، وعيسى ابن الله ؛ وكذبوا ، وقال بعض العرب الملائكة بنات الله ؛ تعالى الله عن الولد / ذكرا أو أنثى / علوا كبيرا.

٦٣١

(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) : أي أقام طوال نهاره مسود الوجه من الحزن وهو ممتلىء غيظا.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : أي أيجترثون على الله ويجعلون له جزءا هو البنت التى تربى فى الزينة.

(وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) : أي غير مظهر للحجة لضعفه بالأنوثة.

(عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) : أي لأنهم قالوا بنات الله.

(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) : أي أحضروا خلقهم عند ما كان الرحمن يخلقهم.

(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) : أي سيكتب قولهم إن الملائكة إناثا.

(وَيُسْئَلُونَ) : أي يوم القيامة عن شهادتهم الباطلة ويعاقبون عليها.

(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي دعواهم أن الله راض عنهم بعبادة الملائكة لا دليل لهم عليه ولا علم.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : أي ما هم إلا يكذبون يتوارثون الجهل عن بعضهم بعضا.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) : أي أم انزلنا عليهم كتابا قبل القرآن.

(فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) : أي متمسكون بما جاء فيه ، والجواب لم يقع ذلك أبدا.

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) : أي إنهم لا حجة لهم إلا التقليد الأعمى لآبائهم.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) : أي علي طريقتهم وملتهم ماشون وهى عبادة غير الله من الملائكة وغيرهم من الأصنام والأوثان.

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي متنعموها.

(إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) : أي ملّة ودين.

(وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) : أي على طريقهم متبعون لهم فيها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد ، والمكذبين إلى التصديق فقال تعالى منكرا عليهم باطلهم موبخا لهم على اعتقاده والقول به ، فقال (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وجعل أولئك المشركون الجاهلون لله جزءا أي نصيبا من خلقه حيث قالوا الملائكة بنات الله ، وهذا من أكذب الكذب وأكفر الكفر إذ كيف عرفوا أن الملائكة إناث ، وأنهم بنات الله ، وأنهم يستحقون العبادة مع الله فعبدوهم؟ حقا (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (١) مُبِينٌ) أي كثير الكفر وكبيره وبينه لا يحتاج فيه إلى دليل وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذَ (٢) مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ (٣) بِالْبَنِينَ) أي أتقولون أيها المشركون المفترون اتخذ الله مما يخلق من

__________________

(١) قال الحسن بعد المصائب وينسى النعم ومبين معناه مظهر للكفر.

(٢) (أَمِ اتَّخَذَ) الميم صلة اي زائدة لتقوية الكلام والاستفهام للتوبيخ والتأنيب.

(٣) (أَصْفاكُمْ) قال القرطبي : اختصكم وأخلصكم بالبنين يقال أصفيته بكذا أي آثرته به وأصفيته الود أخلصته له.

٦٣٢

المخلوقات بنات ، وخصكم بالبنين (١) ، بمعنى أنه فضلكم على نفسه بالذكور الذين تحبون ورضي لنفسه بالإناث اللاتى تبغضون. عجبا منكم هذا الفهم السقيم. وقوله تعالى (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ (٢) مَثَلاً) أي بما جعل لله شبها وهو الولد (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ، أي إن هؤلاء الذين يجعلون لله البنات كذبا وافتراء ، إذا ولد لأحدهم بنت فبشر بها أى أخبر بأن امرأته جاءت ببنت ظل وجهه طوال النهار مسودا من الكآبة والغم وهو كظيم أى ممتلىء غما وحزنا. وقوله تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ (١) غَيْرُ مُبِينٍ) ينكر تعالى عليهم ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول : أيجترئون ويبلغون الغاية فى سوء الأدب ويجعلون لله من يربى فى الزينة لنقصانه وهو البنات ، وهو فى الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة الا كانت عليها لا لها. فقوله (غَيْرُ مُبِينٍ) أي غير مظهر للحجة لضعفه بالخلقة وهى الأنثى والضمير عائد على من فى قوله (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا (٢) فِي الْحِلْيَةِ) أى الزينة.

وقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ (٣) الرَّحْمنِ إِناثاً) أي حيث قالوا الملائكة بنات الله وعبدوهم لذلك طلبا لشفاعتهم والانتفاع بعبادتهم. قال تعالى : موبخا لهم مقيما الحجة على كذبهم أشهدوا خلقهم أى أحضروا خلقهم عند ما كان الله يخلقهم ، والجواب لا ، ومن أين لهم ذلك وهم ما زالوا لم يخلقوا بعد ولا آباؤهم بل ولا آدم أصلهم عليه‌السلام وقوله تعالى (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) هذه وهى قولهم إن الملائكة بنات الله ويسألون عنها ويحاسبون ويعاقبون عليها بأشد أنواع العقاب ، لأنها الكذب والافتراء ، وعلى؟ إنه على الله ، والعياذ بالله وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ (٤) ما عَبَدْناهُمْ). أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليهم عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا : لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم. قال تعالى فى الرد عليهم (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم ، ما هم في قولهم ذلك (إِلَّا يَخْرُصُونَ) أى يقولون بالخرص والكذب إذ العلم يأتى من طريق الكتاب أو النبى ولا كتاب عندهم ولا نبى فيهم قال بقولتهم ، ولذا قال تعالى منكرا

__________________

(١) أي في المجادلة والإدلاء بالحجة قال قتادة ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها.

(٢) في الآية دليل على جواز لبس الذهب والحرير للنساء وهو إجماع إلا أن بعض السلف كان ينزه بناته عنه لقول أبي هريرة إياك يا بنية والتحلي بالذهب فإني أخاف عليك اللهب ، وقرأ نافع ينشأ وقرأ حفص (يُنَشَّؤُا) فالأول بتخفيف الشين والثاني بتشديدها الأول من : أنشأ والثاني من نشأ.

(٣) قرأ نافع عند الرحمن وقرأ حفص (عِبادُ الرَّحْمنِ) ولا منافاة والملائكة عند الرحمن في الملكوت الأعلى في حضرة القدس يتلقون خطاب الله مباشرة بلا واسطة وهم في واقع الأمر عباد الرحمن وجملة (الذين هم عند الرحمن إناثا) صفة للملائكة فهي في محل نصب.

(٤) قولهم منظور فيه إلى أن مشيئة الله وهي إرادته قسمان إرادة كونيّة وإرادة تكليفية شرعية فالإرادة الكونية القدرية هذه لا تتخلف أبدا فما شاء الله كان والإرادة الشرعية التكليفية هي التي قد تتخلّف لأن الله تعالى وهب عبده إرادة واختيارا وبحسب ما يختاره يكون جزاؤه والمشركون لا علم لهم بهذا فلذا نفى عنهم العلم رادا باطلهم بجهلهم.

٦٣٣

عليهم قولتهم الفاجرة (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)؟ لا لا ، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد من نذير إذا فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو ما حكاه تعالى عنهم فى قوله : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أى (١) ملة (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أى ماشون مقتفون آثارهم وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول إلا قال مترفوها أى متنعموها بنضارة العيش وغضارته (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي ملة ودين (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي متبعون لهم فيها. فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضا. وهو معنى قوله تعالى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) إلى آخر الآية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير صفة من صفات الإنسان قبل شفائه بالإيمان والعبادة وهى الكفر الواضح المبين.

٢ ـ وجوب إنكار المنكر ومحاولة تغييره فى حدود ما يسمح به الشرع وتتسع له طاقة الإنسان.

٣ ـ بيان حال المشركين العرب فى الجاهلية من كراهيتهم البنات خوف العار وذلك لشدة غيرتهم.

٤ ـ بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة ، وان النقص فيها فطرى في البدن والعقل معا.

٥ ـ بيان ان من قال قولا وشهد شهادة باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة ويعاقب عليها.

٦ ـ حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن ينسب إلى الله تعالى شىء لم ينسبه هو تعالى لنفسه.

٧ ـ حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع.

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ

__________________

(١) لفظ الأمة هنا يراد به الدين والملة والطريقة أيضا ومن شواهد ذلك :

كنا على أمة آبائنا

ويقتدي الآخر بالأول

وهل يستوي ذو أمة وكفور؟

٦٣٤

مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) : قال لهم رسولهم : أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى أي بخير مما وجدتم عليه آباءكم هداية إلى الحق والسعادة والكمال.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) : أي قال المشركون لرسلهم ردّا عليهم إنا بما ارسلتم به كافرون أى جاحدون منكرون غير معترفين به.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) : أي كانت دمارا وهلاكا إذا فلا تكترث بتكذيب قومك يا رسولنا.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) : أى وأذكر إذ قال إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن

(إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) : أي برىء مما تعبدون من أصنام لا أعبدها ولا اعترف بها.

(إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) : أي لكن الذى خلقنى فإني أعبده وأعترف به فإنه سيهدني أي يرشدنى إلى ما يكملنى ويسعدنى في الحياة الدنيا وفى الآخرة.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (١) : أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد «لا إله إلا الله» باقية دائمة فى ذريته إذ وصاهم بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي رجاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى توحيده كلما ذكروها وهى لا إله إلا الله.

__________________

(١) لفظ العقب الوارد في الآية وفي الحديث الصحيح من أعمر عمرى فهي له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي اعطاها لأنه اعطى عطاء وقعت فيه المواريث قال ابن العربي ترد هذه اللفظة على أحد عشر لفظا وهي الولد والبنون والذرية والعقب والنسل والآل والقرابة والعشيرة والقوم والموالي.

٦٣٥

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) : أي هؤلاء المشركين وآباءهم بالحياة فلم أعاجلهم بالعقوبة.

(حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) : أي إلى أن جاء القرآن يحمل الدين الحق ، ورسول مبين لا شك فى رسالته وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين لهم طريق الهدى والأحكام الشرعية.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) : أي وقال هؤلاء المشركون الذين متعناهم بالحياة فلم نعاقبهم ، هلّا نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي فى الطائف.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟) : أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات. وليس لهم حق فى تنبئة أى أحد إذ هذا من حق الله وحده.

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنفني هذا ونفقر هذا ونملك هذا ونعزل هذا ، فكيف بالنبوة وهى أجل وأغلى من الطعام والشراب فنحن أحق بها منهم فننبىء من نشاء.

(لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) : أي جعلنا هذا غنيا وذاك فقيرا ليتخذ الغنى الفقير خادما يسخره فى خدمته بأجرة مقابل عمله.

(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) : أي والجنة التى أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذى يجمع هؤلاء المشركون الكافرون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى قول المشركين لرسلهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) «ملة» (وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ، قال مخبرا عن قول الرسول لأمته المكذبة المقلدة للآباء الظالمين (قالَ : أَوَلَوْ (١) جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) أي اتتبعون آباءكم ولا تتبعوني ولو جئتكم بأهدى إلى الخير والسعادة مما وجدتم عليه آباءكم ، وهذا إنكار من الرسول عليهم فى صورة استفهام وهو (٢) توبيخ أيضا إذ العاقل يتبع الهدى جاء به من جاء قريبا كان أو بعيدا. وقوله تعالى (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ (٣) بِهِ كافِرُونَ) هذا قول الأمم المكذبة المشركة لرسلهم أى كل أمة قالت هذا لرسولها : إنما بما أرسلتم به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء والشرع وأحكامه كافرون أي منكرون

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور قل بصيغة الأمر وقرأ حفص (قالَ) بصيغة الماضي فيعود الضمير إلى (نَذِيرٍ) الذين قالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا). الخ. وأما على قراءة نافع فهو أمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقول للمشركين ما أمره أن يقوله لهم.

(٢) هذا الاستفهام تقريري إلا أنه مشوب بالإنكار والتوبيخ.

(٣) في قولهم هذا معنى التهكم برسلهم إذ أثبتوا لهم الرسالة وهم مكذبون بها كقول قريش مال هذا الرسول يأكل الطعام.

٦٣٦

مكذبون غير مصدقين ، قال تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١) أي لتكذيبهم فأهلكناهم فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبتهم وهم المكذبون إنها دمار شامل وهلاك تام. وليذكر هذا قومك لعلهم يذكرون.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ (٢) وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي واذكر يا رسولنا لقومك قول إبراهيم الذى ينتسبون إليه باطلا لأبيه وقومه : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي إنى برىء من آلهتكم التى تعبدونها فلا أعبدها ولا اعترف بعبادتها. وقوله (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) أي لكن اعبد الله الذى خلقنى فهو أحق بعبادتى مما لم يخلقني ولم يخلق شيئا وهو مخلوق أيضا. وقوله (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي يرشدنى دائما إلى ما فيه سعادتى وكما لى. وقوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل براءته من الشرك والمشركين ، وعبادته خاصة بالله رب العالمين جعلها كلمة باقية فى ذريته حيث وصاهم بها كما جاء ذلك فى سورة البقرة إذ قال تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) أي بأن لا يعبدوا إلا الله وهى إذا كلمة لا إله إلا الله ورثها إبراهيم فى بنيه لعلهم يرجعون إليها كلما غفلوا ونسوا وتركوا عبادة الله تعالى والإنابة إليه بعوامل الشر والفساد من شياطين الإنس والجن فيذكرون ويتوبون إلى الله تعالى فيوحدونه ويعبدونه فجزى الله إبراهيم عن المؤمنين خيرا. وقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ (٣) هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملا إذا أشرك من بنيه من أشرك ومنهم هؤلاء المشركون المعاصرون لك أيها الرسول وآباءهم ، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق الذى هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين أى الموضح لكل الأحكام والمبين لكل الشرائع. (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) هكذا قالت قريش لما جاءها الحق الذى هو القرآن الحامل للشرائع والأحكام والرسول المبين لذلك والموضح له قالوا هذا سحر يسحرنا به ، وإنا به أى بالقرآن والرسول كافرون أى جاحدون منكرون مكذبون وقالوا أبعد من ذلك فى الشطط والغلط وهو ما حكاه تعالى عنهم فى قوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي هلّا نزل هذا القرآن على رجل شريف ذى مكانه مثل الوليد بن المغيرة (٤) في مكة أو عروة بن مسعود فى الطائف

__________________

(١) الفاء للتفريع وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بأن يحل بهم ما حل بالمكذبين قبلهم.

(٢) لما ادعى المشركون أنهم مقلدون آبائهم في الدين ذكر لهم ما ينبغي أن يقلدوه من آبائهم هو إبراهيم وإسماعيل وإلا فليس الأمر كما يدعون وإنما هم متبعون أهواءهم.

(٣) (بَلْ) للإضراب الإبطالي أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم كاملا بل هناك من لم يرجع إلى التوحيد من ذرية ابراهيم إذ جاء عمرو بن لحيّ بالأصنام وعبدها آباء هؤلاء وهم لها عابدون حتى مجيء الحق ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) هذا المشهور من الأقوال في الرجلين ومنهم من قال هما عمير بن عبد يا ليل الثقفي من الطائف وعتبة بن ربيعة من مكة وهو قول مجاهد ، وقيل عظيم الطائف هو حبيب بن عمرو أما القريتان فلا خلاف في أنهما مكة والطائف لكونهما أكبر مدن تهامة.

٦٣٧

وهذه نظرة مادية بحتة إذ رأوا أن الشرف بالمال ، ولما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا مال له ولا ثراء رأوا أنه ليس أهلا للرسالة ولا للمتابعة عليها ، فرد تعالى عليهم نظريتهم المادية الهابطة هذه بقوله : (أَهُمْ (١) يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟ أما يخجلون عند ما قالوا أهم يقسمون رحمة ربك فيعطون منها من شاءوا ويمنعون من شاءوا أم نحن القاسمون؟ إنا قسمنا بينهم معيشتهم : طعامهم وشرابهم وكساهم وسكنهم ومركوبهم فى الحياة الدنيا فالعاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها كيف لا يستحي أن يعترض على الله فى اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟ وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فى الرزق فهذا غنى وذاك فقير من أجل أن يخدم الفقير الغنى وهو معنى قوله تعالى : (لِيَتَّخِذَ (٢) بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) ، إذ لو كانوا كلهم اغنياء لما خدم أحد أحدا وتعطلت الحياة وقوله تعالى : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أى الجنة دار السّلام خير مما يجمعون من المال الذى فضلوا اهله وإن كانوا من أحط الناس قدرا وأدناهم شرفا. ورأوا أنهم أولى بالنبوة منك لمرض نفوسهم بحب المال والشهوات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من الكمال العقلى ان يتبع المرء الهدى ولو خالفه قومه وأهل بلاده.

٢ ـ وجوب البراءة من الشرك والمشركين وهذا معنى لا إله إلا الله.

٣ ـ فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحا.

٤ ـ لا يعترض على الله أحد فى شرعه وتدبيره إلا كفر والعياذ بالله تعالى.

٥ ـ بيان الحكمة فى الغنى والفقر ، والصحة والمرض والذكاء والغباء.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ

__________________

(١) الاستفهام انكاري متضمن التوبيخ لهؤلاء الزاعمين اختيار من شاءوا للاصطفاء والرسالة فعلموا انه لا حق لهم في هذا الاختيار إذ هم لا خيار لهم حتى في طعامهم وشرابهم فضلا عن اختيار من يرسل ومن لا يرسل.

(٢) الجملة تعليلية للتفاضل في الرزق أي فاضل بينهم في الغنى والفقر ليتخذ بعضهم بعضا سخريا أي يستخدم الغني الفقير في قضاء حاجته وليأخذ الفقير منه ما يسد به حاجته والسخرى هنا بمعنى التسخير للعمل وليس بمعنى السخرية والاستهزاء إذ أجمع السبعة على قراءة ضم السين وعدم كسرها.

٦٣٨

كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على الكفر.

(وَمَعارِجَ) : أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد.

(عَلَيْها يَظْهَرُونَ) : أي يعلون عليها إلى السطوح.

(وَزُخْرُفاً) : أي ذهبا أي لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة وذهب وكذلك الأبواب والمصاعد والسرر بعضها من فضه وبعضها من ذهب.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ) : أي وما كل ذلك المذكور.

(لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي وما كل ذلك الا متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يزول.

(وَالْآخِرَةُ) : أي الجنة ونعيمها خير لأهل الايمان والتقوى من متاع الدنيا.

معنى الآيات :

لما فضل تعالى الجنة على المال والمتاع الدنيوى فى الآيات السابقة قال هنا : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي على الكفر (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ) (يعنى نفسه عزوجل) (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ، وَمَعارِجَ (١) عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٢) أى مراقى ومصاعد عليها يعلون الى الغرف والسطوح من فضه ولجعلنا كذلك (لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) من فضة أيضا ، (وَزُخْرُفاً) أى وذهبا أى بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أجمل وأبهى من الفضة وحدها ، (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أى وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم. (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ) أى الجنة وما فيها من نعيم مقيم (لِلْمُتَّقِينَ) الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصى وما عند الله خير مما عند الناس ، وما يبقى خير مما يفنى ، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف «طين» لاختار العاقل الآخرة على الدنيا ، وهو اختيار ما يبقى على ما يفنى.

__________________

(١) المعارج السلم وجمع السلم سلاليم وواحد المعارج معرج ومعرج بكسر الميم وفتحها وهي المرقاة والجمع مراقي.

(٢) روي ان نابغة بن جعدة أنشد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا :

علونا السماء عزة ومهابة

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

فغضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إلى أين؟ قال إلى الجنة قال «أجل ان شاء الله» وهنا قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟!

٦٣٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطرى فى الإنسان فلذا لو أعطيها الكافر بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر.

٢ ـ هوان الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضه ما سقى كافرا منها شربة ماء رواه الترمذى وصححه وفى صحيح مسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (١).

٣ ـ بيان أن الآخرة خير للمتقين.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) : أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذى هو القرآن متجاهلا له.

(نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) : أي نجعل له شيطانا يلازمه لإضلاله وإغوائه.

(فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) : أي فهو أي من عشا عن ذكر الرحمن قرين للشيطان.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : أي وإن الشياطين المقارنين لهم ليصدونهم عن طريق الهدى.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) : أي ويحسب العاشون عن القرآن وحججه وعن ذكر الرحمن

__________________

(١) أنشد بعضهم في ذم الدنيا فقال :

فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن

إذا لم يكن فيها معاش لظالم

لقد جاع فيها الأنبياء كرامة

وقد شبعت فيها بطون البهائم

٦٤٠