أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦))

شرح الكلمات :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ) : أي فالى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله.

(وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) : أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التى بعثت بها فإنها الحق.

(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) : أي ولست كالذين يؤمنون بيعض ويكفرون ببعض.

(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) : أي أمرنى ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذى هو خلاف الجور.

(اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) : أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم.

(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) : وسيجزى كل منا بعمله خيرا كان أو شرا.

(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) : أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق.

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) : أي يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) : أي يجادلون فى دين الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) : أي بالإيمان لظهور معجزته وهم اليهود.

٦٠١

(حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) : أي باطله عند ربهم.

(وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) : أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) (١) أي فإلى ذلك الدين الحق الذى هو الإسلام الذى شرعه الله لكم ووصى به نوحا وأوحاه اليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذى لا يقبل دينا سواه ، ولا يكمل الإنسان في أخلاقه ومعارفه وأدابه ولا يسعد فى الدارين إلا عليه واستقم (٢) عليه (٣) كما أمرك ربك ، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذى لا يزيغ عنه الا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب. وقل فى صراحة ووضوح آمنت بما أنزل الله من كتاب فلا أومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى ، وقل لهم أمرنى ربى أن أعدل (٤) بينكم فى الحكم إذا تحاكمتم إليّ ، كما أنى لا أفرق بينكم إذ اعتبركم على الكفر سواء فكل من لم يكن على الإسلام الذى كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذى عليه انا واصحابى اليوم فهو كافر من أهل النار.

وقوله تعالى (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي أمرنى أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه ، لنا أعمالنا ولكم اعمالكم (٥) وسيجزى كل منا بعمله السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها ، إلا أن الكافر لا تكون له حسنة ما دام قد كفر بأصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه ، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعى إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير فى النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضى لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضى لأهل الباطل بالنار والخلود فيها.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي (٦) اللهِ) أي في دين الله النبى والمؤمنين يريدون أن يردوهم

__________________

(١) قال القرطبي اللام هنا بمعنى إلى وله نظائر مثل بأن ربك أوحى لها أي إليها وأولى أن تكون اللام للتعليل أي لأجل ما ذكر من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه فادع.

(٢) الاستقامة الاعتدال والسين والتاء فيها للمبالغة مثل أجاب استجاب والمراد هنا الاستقامة المعنوية وهي ملازمة الآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة والتمسك بأهداب الشريعة.

(٣) كما أمرت هذه الكاف كالتي في قوله تعالى واذكروه كما هداكم أعطيت معنى التقليل مثل كما صليت على ابراهيم وما في التفسير أولى من هذا فإن المراد على نحو ما أمرك لا تخالفه.

(٤) هذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فقد نصر الله رسوله وحكم اليهود وعدل بينهم وذلك في المدينة وخيبر تيماء والآية نزلت بمكة.

(٥) هذه صور من صور الإنصاف والعدل.

(٦) قال مجاهد في قوله تعالى والذين يحاجون في الله الآية قال هؤلاء رجال طمعوا أن تعود الجاهلية بعد ما دخل الناس في الإسلام. وقيل إنهم اليهود والنصارى والكل جائز ويقع وواقع وما في التفسير أوضح وأصح.

٦٠٢

إلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله أفواجا ، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة ، وعليهم غضب أي من ربهم ولهم عذاب شديد فى الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت فى يهود بالمدينة نصبوا انفسهم خصوما لأصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم فى الإسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم وأسكتهم بهذه الآية متوعدا إياهم بالغضب والعذاب الشديد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الدعوة إلى الإسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإسلام.

٢ ـ حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير (١) معهم وموافقتهم فى باطلهم.

٣ ـ وجوب الاستقامة على الإسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق.

٤ ـ تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا اهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل ، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ

__________________

(١) الأهواء جمع هوى وهو الحب وغلب على حب ما لا نفع فيه إذ هو نابع عن ميل نفساني مناف للخير والعدل ويغلب اطلاق لفظ العشق عليه.

٦٠٣

ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١))

شرح الكلمات :

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) : أي أنزل القرآن متلبسا بالحق والصدق لا يفارقه أبدا.

(وَالْمِيزانَ) : أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق.

(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) : أي أيّ شىء يجعلك تدرى قرب الساعة إلا أن يكون الوحى الإلهى.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : أي يطالب المكذبون بها لأنهم لا يخافون ما فيها لعدم إيمانهم به.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) : أي خائفون وذلك لإيمانهم فهم لا يدرون ما يكون لهم فيها من سعادة أو شقاء ولذا هم مشفقون.

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) : أي ان الساعة حق واجبة الإتيان لا محالة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ) : أي إن الذين يجادلون فى الساعة شاكين فى وقوعها.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) : أي برهم وفاجرهم بدليل أنهم يعصونه وهو يرزقهم ولا يعاقبهم.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) : أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة.

(نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) : أي نضاعف له ثوابه الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.

(وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا) : أي من كان يريد بعمله متاع الحياة الدنيا من طيباتها.

(نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) : أي نعطه منها ما قدر له وليس له فى الآخرة من حظ ولا نصيب.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ) : أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم من الدين.

(ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) : أي ما لم يشرعه الله تعالى وهو الشرك.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي ولو لا كلمة الفصل التى حكم الله بها بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لأهلكهم اليوم على شركهم وأنجى المؤمنين.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) (١) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنه هو

__________________

(١) جائز أن يكون الكتاب اسم جنس يشمل الكتب الإلهية إذ الله تعالى هو منزلها وجائز ان يكون المراد به القرآن. وال فيه للتفخيم من شأنه كأنه الكتاب الفذ في بابه.

٦٠٤

الذى أنزل الكتاب أى القرآن بالحق والصدق وأنزل الميزان (١) وذلك من أجل احقاق الحق فى الأرض وإبطال الباطل فيها ، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم إلا شرع الله وفى ذلك كمال الإنسانية وسعادتها ، وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) (٢) (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي أي شىء جعلك تدري قرب الساعة إنّه الوحى الإلهى لا غير وقوله (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم الذين يطالبون بإتيانها في غير وقتها ويستعجلون الرسول بها بقولهم متى الساعة؟ أما المؤمنون بالبعث والجزاء فإنهم مشفقون أى خائفون من وقوعها لأنهم لا يدرون مصيرهم فيها ولا يعلمون ما هم صائرون اليه من سعادة أو شقاء وقوله (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أى والمؤمنون يعلمون أن الساعة حق واجبة الوقوع ليحكم الله فيها بين عباده ويجزى كل واحد بعمله ، ويقتصّ فيها من المظلوم للظالم فلذا هي واقعة حتما لا تتخلف ابدا.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأن الذين يشككون فى الساعة ويجادلون فى صحة وقوعها فى ضلال عن الهدى والصواب والرشد ، بعيد لا يرجى لهم معه العودة إلى الصواب والهدى فى هذه المسألة من مسائل العقيدة. وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) يخبر تعالى بأنه ذو لطف بعباده مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم يكفر به الكافرون ويعصيه العاصون وهو يطعمهم ويسقيهم ويعفو عنهم ولا يهلكهم بذنوبهم فهذا من دلائل لطفه بهم. يرزق من يشاء أي يوسع الرزق على من يشاء ويقدر على من يشاء حسب ما تقضيه تربيتهم فلا يدل الغنى على الرضاء ولا الفقر على السخط. وهو تعالى القوى القادر الذى لا يعجزه شيء العزيز فى انتقامه ممن أراد الانتقام منه وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ (٣) حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) ، وهذا من مظاهر لطفه بعباده وهو أن من أراد منهم بعمله ثواب الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين المتقين نزد له فى حرثه أي يضاعف له أجر عمله الحسنة بعشر الى سبعمائة ويضاعف لمن يشاء ومن كان يريد بعمله حرث الدنيا أى متاع الحياة الدنيا يؤته على قدر عمله للدنيا وهو ما قدره له أزلا وجعله مقدورا له لا بد نائله ، وما له فى الآخرة من نصيب لأنه لم يعمل لها فلاحظ ولا نصيب له فيها إلا النار وبئس القرار.

وقوله تعالى فى الآية (٢١) (أَمْ لَهُمْ (٤) شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) يقول

__________________

(١) هل المراد من الميزان العدل أو هو الآلة التي يوزن بها والظاهر أنه الآلة التي يوزن بها إذ بها يتم العدل ولقوله تعالى .. (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وإنزاله إلهام وضعه والعمل به.

(٢) (ما) استفهامية أي من جعلك تدري قرب الساعة. قال ابن عباس ما قال تعالى فيه وما أدراك فقد أدراه ، وما قال فيه وما يدريك فإنه لم يدره به.

(٣) المراد بالحرث العمل والكسب قال الشاعر :

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته

ومن يحترث حرثى وحرثك يهزل

بهذه الآية رد على من زعم أن المرء لو دخل ماء للتبرد فيه أن له أن يصلي به لأن الآية نص في إرادة العمل والثواب بحسب الإرادة التي هي النية.

(٤) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام للتقريع والتوبيخ.

٦٠٥

أللمشركين من كفار قريش شركاء من الشياطين شرعوا لهم دينا وهو الشرك لم يأذن به الله ، وهذا إنكار عليهم ، واعلان غضب شديد من أجل شركهم الذى زينته لهم الشياطين فصرفتهم عن الدين الحق إلى الدين الباطل ، ولذا قال : ولو لا كلمة الفصل لقضى بينهم أي ولو لا أنه تعالى قضى بأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لعذبهم فى الدنيا وأهلكهم فيها قبل الآخرة ، وذلك لاتخاذهم دينا لم يشرعه لهم. وقوله تعالى وإن الظالمين أي المشركين لهم عذاب أليم أي موجع وذلك يوم القيامة وهذا وعيد للمشركين الذين اتخذوا الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان دينا وأعرضوا عن دين الله الذى أوصى به نوحا وأوحاه الى محمد خاتم رسله ، كما أوصي به ابراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان بعض الحكمة فى إنزال الكتاب أى القرآن والميزان وهو أن يحكم الناس بالقسط.

٢ ـ بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحى الإلهى مثل اقترب للناس حسابهم.

٣ ـ المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها.

٤ ـ بيان لطف الله بعباده فله الحمد وله المنة والشكر.

٥ ـ بيان وجوب إصلاح النيات فإن مدار العمل قبولا ورفضا بحسبها.

٦ ـ حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ

٦٠٦

كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))

شرح الكلمات :

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) : أي ترى أيها المرء الظالمين يوم القيامة خائفين من جزاء ما عملوا.

(وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) : أي وهو أي جزاء ما كسبوا من الباطل والشرك نازل بهم معذبون به لا محالة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : آمنوا بالله ولقائه وآياته ورسوله وأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم.

(فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) : أي هم في روضات الجنات ، والروضة فى الجنة أنزه مكان فيها.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : أي لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم فى جوار ربهم.

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) : أي قل يا رسولنا لقومك لا أسألكم على التبليغ أجرا أي ثوابا.

(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) : أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي فتمنعوني حتى أبلغ رسالتى.

(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) : أي ومن يكتسب حسنة بقول أو عمل صالح.

(نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) : أي نضاعفها له أضعافا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي أيقول هؤلاء المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فنسب إليه القرآن وهو ليس بكلامه ولا بوحيه.

(فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) : أي إن يشإ الله تعالى يطبع على قلبك وينسيك القرآن أي ان الله قادر على أن يمنعك من الافتراء عليه كما زعم المشركون.

(وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَ) : أي إن من شأن الله تعالى أنه يمحو الباطل.

٦٠٧

(بِكَلِماتِهِ) : أي بالآيات القرآنية وقد محا الباطل وأحق الحق بالقرآن.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) : أي هو تعالى الذي يقبل توبة التائبين من عباده.

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) : أي لا يؤاخذ بها من تاب منها فهذا هو الإله الحق لا الأصنام التى ليس لها شيء مما هو لله ألبتة.

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي ويجيب تعالى عباده الذين آمنوا به وعملوا الصالحات إلى ما دعوه فيه فيعطيهم سؤلهم.

(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : أي يعطيهم ما سألوا ويعطهم ما لم يسألوه من الخير.

(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) : أي والكافرون بالله ورسوله ولقاء الله وآياته لهم عذاب شديد.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله (تَرَى الظَّالِمِينَ) (١) يوم القيامة (مُشْفِقِينَ) أى خائفين (مِمَّا كَسَبُوا) أي من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصى ، وهو أى العذاب واقع بهم نازل عليهم لا محالة وقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي فى الوقت الذي يكون فيه الظالمون مشفقين مما كسبوا يكون الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وعملوا الصالحات من الفرائض والنوافل بعد اجتناب الشرك والكبائر فى روضات الجنات وهى أنزهها وأحسنها لهم ما يشاءون من النعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين كل ذلك فى جوار رب كريم وقوله تعالى (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٢) أي ذاك الذى أخبر تعالى به أنهم فيه من روضات الجنات وغيره هو الفضل الكبير الذى تفضل الله تعالى عليهم به.

وقوله فى الآية الثانية (٢٣) (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ذلك المذكور من روضات الجنات وغيره هو الذي يبشر الله تعالى به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات في كتابه وعلى لسان رسوله.

وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ (٣) عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه من المشركين لا أسألكم على إبلاغى إياكم دعوة ربى الى الإيمان به وتوحيده لتكملوا وتسعدوا أجرا أى مالا لكن أسألكم أن تودوا قرابتى منكم فلا تؤذوني وتمنعوني من الناس حتى

__________________

(١) هذا عرض لما يجري من أحوال في عرصات القيامة وما ينتهي إليه الموقف من إسعاد أهل الإيمان والعمل الصالح وإشقاء أهل الشرك والمعاصي.

(٢) لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة كنه صفته لأن الله تعالى إذا قال كبير كان مما لا يقادر قدره.

(٣) هذا الخطاب خاص بقريش قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن ومعنى الآية قل لا أسألكم عليه أي على البلاغ أجرا أي ثوابا وجزاء إلا أن تودّوني من قرابتي منكم أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني وتنصروني حتى أبلغ رسالتي وذلك أنه ما من بطن من بطون قريش إلا وفيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة رحم وأما توجيه الآية على آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تمحل واضح إلا أن حب آل البيت وتعظيمهم واجب أكيد ووردت فيه أحاديث كثيرة صالحة للاحتجاج بها.

٦٠٨

ابلغ دعوة ربي.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) أي من يعمل حسنة نزد له فيها حسنا بأن نضاعفها له اذ الله غفور للتائبين من عباده شكور للعاملين منهم فلا يضيع أجر من أحسن عملا.

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى (١) عَلَى اللهِ كَذِباً) أي بل يقولون أفترى على الله كذبا أي يقول المشركون إن محمدا افترى على الله كذبا فادعى أن القرآن من كلام الله ووحيه وما هو إلا افتراء افتراه على الله. فأبطل الله تعالى هذه الدعوة وقال : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي يطبع على قلبك فتنسى القرآن ولا تقدر على قوله والنطق به ، فكيف إذا يقال إنه يفترى على الله كذبا والله قادر على منعه والإحالة بينه وبين ما يقوله. وقوله : (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) هذا شأنه تعالى يمحو الباطل ويحق الحق بالقرآن وقد فعل فمحا الباطل وأحق الحق فما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله تعالى. وقوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلواسع علمه وعظيم قدرته محا الباطل وأحق الحق بالقرآن ولو كان القرآن مفترى ما محا باطلا ولا أحق حقا وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) أي إن تابوا إليه وأنابوا ، ويعفوا عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها ، ويعلم ما يفعلون فى السرو العلن ويجزى كلا بما عمل وهو على كل شىء قدير.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا (٢) وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يجيب دعاءهم فيما طلبوه ويزيدهم من فضله فيعطيهم ما لم يطلبوه فما أعظم كرمه وما أوسع رحمته!! هذا للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأما الكافرون فلهم عذاب شديد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حق القرابة ووجوب المودة فيها. واحترام قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقديرها.

٢ ـ تبرئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الافتراء على الله عزوجل.

٣ ـ مضاعفة الحسنات ، وشكر الله للصالحات من أعمال عباده المؤمنين.

٤ ـ وجوب التوبة وقبول الله تعالى لها ، وقد كان رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوب الى الله فى اليوم مائة مرة. وللتوبة ثلاثة شروط : الاقلاع الفورى عن المعصية ، والاستغفار ، والندم على ما فعل من

__________________

(١) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر تعالى على المشركين الذين قالوا إن محمدا يفتري على الله الكذب فيقول أرسلني الله وما أرسله ويقول القرآن من وحي الله ، والله ما أوحى اليه فأنكر تعالى هذا على قائليه ووضح لهم أن دعواهم لا تمت إلى الواقع بصلة.

(٢) فاعل (يَسْتَجِيبُ) هو الله عزوجل و (الَّذِينَ) مفعول به في محل نصب والسين والتاء للتأكيد إذ استجاب هو بمعنى أجاب.

٦٠٩

المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم. وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو التحلل من الآدمي بآداء الحق أو بطلب العفو منه.

٥ ـ وعد الله تعالى باستجابة دعاء المؤمنين العاملين للصالحات وهم أولياء الله تعالى الذين أن سألوا أعطاهم وإن استعاذوه أعاذهم وإن استنصروه نصرهم. اللهم اجعلنا منهم وأحشرنا فى زمرتهم.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) : أي لو وسع الرزق لجميع عباده.

(لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) : أي لطغوا فى الأرض جميعا.

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) : أي ينزل من الأرزاق بقدر ما يشاء فيبسط ويضيق.

(إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) : أي إنه بأحوال عباده خبير إذ منهم من يفسده الغنى ومنهم من يصلحه ومنهم من يصلحة الفقر ومنهم من يفسده.

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) : أي المطر من بعد يأسهم من نزوله.

(وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) : أي بركات المطر ومنافعه فى كل سهل وجبل ونبات وحيوان.

(وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) : أي المتولى لعباده المؤمنين المحسن إليهم المحمود عندهم.

٦١٠

(وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) : أي فرق ونشر من كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم.

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) : أي للحشر والحساب والجزاء يوم القيامة قدير.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) : أي بليه وشدة من الشدائد كالمرض والفقر.

(فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) : أي من الذنوب والآثام.

(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) : أي منها فلا يؤاخذ به ، وما عفا عنه فى الدنيا لا يؤاخذ به فى الآخرة.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي ولستم بفائتي الله ولا سابقيه هربا منه إذا أراد مؤاخذتكم بذنبكم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ (١) اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) هذا شروع في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة لربوبية الله تعالى المستلزمة لألوهيته على عبادته فقال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ) أي رب العباد الرزق فوسعه عليهم لبغوا فى الأرض فطفا بعضهم على بعض وظلم بعضهم بعضا ولزم ذلك فساد كبير (٢) فى الأرض قد تتعطل معه الحياة بكاملها.

(وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) أي ينزل من الأرزاق بمقادير محددة حسب تدبيره لحياة عباده ويدل على هذا قوله (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ (٣) بَصِيرٌ) أي إنه بما تتطلبه حياة عباده ذات الآجال المحدودة ، والأعمال المقدرة الموزونة ، والنتائج المعلومة أزلا. هذا مظهر من مظاهر العلم والقدرة والحكمة ومظهر آخر فى قوله ، (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) ، فإنزال المطر بكميات ومقادير محدودة وفى أماكن محددة ، وفى ظروف محددة هذا التصرف ما قام إلا على مبدأ القدرة القاهرة والخبرة التامة ، انه يمنع عن عباده المطر فيمحلوا ويجدبوا حتى ييأسوا ويظهر عجزهم وعجزا آلهتهم التى يعبدونها ظلما فاضحا إذ لا تستحق العبادة بحال من الأحوال ثم ينزل الغيث وينشر (٤) الرحمة فتعم الأرزاق والخيرات والبركات ، وهو الولي الذى لا تصلح الولاية لغيره الحميد أي المحمود بصنائع بره وعوائد خيره ومظاهر رحمته. هو الولي بحق والمحمود

__________________

(١) روى أن خباب بن الأرت قال هذه الآية نزلت فينا نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وقينقاع فتمنيناها فنزلت (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ) الآية والآية تضمنت ردا على من يقول ما دام الله يستجيب للذين آمنوا الخ لم لا يسألونه سعة الرزق فيغنهم ويثريهم بالأموال فكان الجواب ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض.

(٢) وشاهده من السنة هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم ان تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم.

(٣) القدر بفتحتين : المقدار والتعيين والجمع بين صفتي «خبير» و «بصير» لأن وصف خبير ، دال على العلم بمصالح العباد وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها أي العلم بما سيكون ووصف بصير دال على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت.

(٤) الغيث المطر وسمي غيثا لأن به غيث الناس المضطرين.

٦١١

بحق ، ومظهر آخر فى قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لربوبيته لسائر خلقه والمستلزمة لألوهيته على سائر عباده : (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ايجادهما بما هما عليه من عجائب الصفة ، (وَما بَثَ) أى فرق ونشر (فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) تدب على الأرض ، أو ملك بسبح فى السماء. فهذا الخلق والإبداع ناطق بربوبيته تعالى صارخ بألوهيته لعباده فلم إذا يعبد غيره من مخلوقاته وتترك عبادته وفوق هذا المظهر للخلق والرزق والتدبير مظهر آخر وهو قدرته تعالى على جمع سائر خلقه في صعيد واحد ومتى؟ وإنه بعد إفنائهم وتصييرهم عظاما ورفاتا ، وهو معنى قوله : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (١).

وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ (٢) أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣) ، وهذا مظهر آخر للقدرة والعلم يتجلى فيما يصيب الإنسان من مصيبة فى نفسه وولده وماله إن كل مصاب ينزل بالإنسان فى هذه الحياة ناتج «عن مخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن. وأعظم دلالة أن يعطل القانون الماضى ويوقف مفعوله فيكسب العبد الذنب ولا يؤاخذ به عفوا من الله تعالى عليه ، وهو معنى قوله تعالى (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). فله الحمد وله المنة. ومظهر آخر من مظاهره قدرة الله وعلمه وحكمته هو ان الناس مهما أوتوا من قوة وتدبير وعلم ومعرفة لم ولن يعجزوا الله تعالى (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فالسماء فوقهم والأرض تحتهم إن يشأ يخسف الأرض من تحتهم أو يسقط السماء كسفا من فوقهم. فإلى أين المهرب والجواب الى الله فقط بالاستسلام له والانقياد بالطاعة وفى ذلك نجاتهم وعزهم وكرامتهم زيادة على سعادتهم وكمالهم في الحياتين وقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وليس لكم أيها الناس مع عجزكم من ولي يتولاكم ولا ناصر ينصركم. إذا ففروا إلى الله بالإيمان به والإسلام له تنجوا وتسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحكمة فى تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة.

٢ ـ من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده إنزال الغيث بعد اليأس والقنوط وخلق السموات والأرض وما بث فيها من دابة.

٣ ـ بيان حقيقة علمية ثابتة وهى أن المخالفة للقوانين يترتب عليه ضرر يصيب المخالف.

٤ ـ بيان أنه ما من مصيبة تصيب المرء فى نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه.

__________________

(١) تقرير لعقيدة البعث والجزاء أثناء تقرير عقيدة التوحيد والنبوة المحمدية.

(٢) قرأ نافع بما كسبت وقرأ حفص (فَبِما كَسَبَتْ) بزيادة الفاء.

(٣) قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ، ولما يعفوا الله عنه أكثر. وشاهد آخر من كتاب الله تعالى قوله تعالى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ).

٦١٢

٥ ـ بيان أن من الذنوب ما يعفو (١) الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرما واحسانا.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) : أي ومن علامات ربوبيته للخلق ايجاد السفن كالجبال فى البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.

(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) : أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.

(فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) : أي تقف السفن وتظل راكدة حابسة على ظهر البحر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي فى هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته.

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صبارا عند الشدايد والمحن شكورا عند الآلاء والنعم.

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) : أي وان يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها ، وهو على ذلك قدير.

(وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) : أي وإنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.

(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) : أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عند ما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.

(ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي ليس لهم من مهرب إلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.

__________________

(١) ولذا قال عليّ رضي الله عنه أرجى آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير لما يبقى بعد كفارته وعفوه؟.

٦١٣

معنى الآيات :

ما زال السياق فى ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى : (وَمِنْ (١) آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضا هذه السفن الجوار فى البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهى تجرى بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته ، و (إِنْ يَشَأْ) تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبتّة فتقف السفن وتركد على (٢) سطح الماء فلا تتحرك ، وإن يشأ أيضا يرسل عليها عواصف من الريح فتضطرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ).

وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم ، ولكن هى من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.

وقوله (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) (٣). وقوله (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (٤) أي

ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب. إذ لو عاقب على كل ذنب وآخذ بكل خطيئة لما بقى على الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون ، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!

__________________

(١) (الْجَوارِ) جمع جارية والأعلام جمع علم والعلم الجبل والآيات جمع آية وهي العلامة الدالة على الشيء الهادية إليه المعرفة به. وسميت السفينة جارية لأنها تجري في البحر وسميت الشابة من النساء جارية لأنها يجري فيها ماء الشباب. قال الخليل كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم واستشهد بقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرا.

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

(٢) يقال ركد الماء ركودا سكن وكذلك الريح والسفن والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد والرواكد جمع راكدة مؤنث راكد.

(٣) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن أي يغرقهن بذنوب أهلها إذ الباء سببية.

(٤) (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي من أهلها فلا يغرقهم معها ، كما يتجاوز عن كثير من الذنوب فلا يؤاخذ بها. ويعف مجزوم بحذف آخره لأنه معطوف على إن يشأ يسكن الريح أي وإن يشأ يعف.

٦١٤

وقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ (١) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢) أي وعند ما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذين يخاصمون رسول الله ويجادلونه فى الوحى الإلهى ويكذبون به يعلمون انهم فى هذه الحال ما لهم من محيص أى من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجأرون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.

٢ ـ فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.

٣ ـ تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير.

٤ ـ عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره.

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١))

__________________

(١) قرأ نافع ويعلم بالرفع على أنه كلام مستأنف وقرأ حفص (وَيَعْلَمَ) بالنصب عطفا على فعل مدخول للام التعليل وتضمن (أن) بعده ، والتقدير لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ.

(٢) المحيص مصدر ميمي من حاص يحيص حيصا إذا أخذ في الفرار والهرب مائلا في سيره وفي حديث أبي سفيان :

فحاصوا حيصة حمر الوحش. والمعنى ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله تعالى.

٦١٥

شرح الكلمات :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي فما أعطيتم من شىء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.

(فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي يتمتع به زمنا ثم يزول ولا يبقى.

(وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) : أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير فى نوعه وأبقى فى مدته.

(لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية :

الإيمان ، والتوكل على الله ، واجتناب كبائر الأثم والفواحش ، والتجاوز عمن أساء إليهم ، والاستجابة لربهم فى كل ما دعاهم إليه فعلا أو تركا ، وإقام الصلاة والمشورة (١) بينهم والإنفاق مما رزقهم الله ، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشر صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.

(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) : أي جزاء سيئة المسىء عقوبته بما أوجبه الله عليه.

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) : أي فمن عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) : أي لا يحب البادئين بالظلم ، ومن لم يحبه الله أذن فى عقوبته.

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) : أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.

(فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) : أي لمؤاخذتهم ، لأنهم ما بدأوا بالظلم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ (٢) فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) هذا شروع فى بيان صفات الكمال فى المسلم التى يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى (فَما أُوتِيتُمْ) أيها الناس من مؤمن وكافر من شىء فى هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس ، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما اعده الله لأوليائه فى الدار الآخرة فهو خير وأبقى ولكن لمن أعده؟

__________________

(١) ومما قيل في المشورة نظما قول بشار بن برد :

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي لبيب أو مشورة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة

فإن الخوافي قوة للقوادم

الخوافي ريشات إذا ضم الطير جناحيه خفيت ، والقوادم عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبار الريش.

(٢) قال القرطبي في قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا). يريد من الغنى والسعة في الدنيا.

٦١٦

والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة فى كفايته واعتمادا عليه ، (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) أى يتركون (كَبائِرَ (١) الْإِثْمِ) كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا (٢) يتجاوزون عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته إليهم (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا) (٣) (لِرَبِّهِمْ) عند ما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم ، والذين (أَقامُوا الصَّلاةَ) فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها واركانها وواجباتها وسننها وآدابها ، والذين (أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أى أمرهم الذى يهمهم في حياتهم أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا يجتمعون عليه ويتشاورون (٤) فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة بدن ينفقون شكرا لله على ما رزقهم واستزاده للثواب يوم الحساب. (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) أى إذا بغي عليهم البغاه الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذارا لها وإكراما لأنها انفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شىء لو عاش الدهر كله فقيرا نقيّا محروما من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس ، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى. له خير وأبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا بل هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئا يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون فى جواره.

وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) هذا هو الحكم الشرعى جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له فى كتابه أو على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى فمن عفا عمن أساء إليه ، واصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإخاء فأجره على الله وهو خير له وابقى من شفاء صدره بعقوبة اخيه الذى أساء إليه. وقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ (٥) سَبِيلٍ) أي وللذى ظلم فانتصر لنفسه وردّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفواحش الزنا وأن كبير الاثم الشرك وهو كذلك.

(٢) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي يتجاوزون ويحلمون عمن ظلمهم ، قيل نزلت في عمر حين شتم بمكة وقيل في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاقه ماله كله وحين شتم فحلم.

(٣) قال ابن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنفذ اليهم اثنى عشر نقيبا منهم قبل الهجرة.

(٤) قال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب وما تشاور قوم قط إلا هدوا وفي الحديث ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وما عال من اقتصد. والشورى والمشورة بمعنى واحد.

(٥) لقد مدح الله تعالى المنتصر من الظلم ومدح العفو عن الجرم ، فالانتصار يكون من الظالم المعلن الفجور الوقح في الجمهور المؤذي للصغير والكبير فهذا الانتقام منه أفضل والعفو يكون فى الفلتة ، وفيمن يعترف بالزلة ويطلب العفو.

٦١٧

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئا يذكر ابدا.

٢ ـ بيان أكمل الشخصيات الإسلامية وهى الشخصية التى تتصف بالصفات العشر التى تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم (٣٦ ـ ٣٧ ـ ٣٨ ـ ٣٩).

٣ ـ مشروعية القصاص وعقوبة الظالم.

٤ ـ عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حدا فإن الحدود يقيمها الإمام.

٥ ـ فضيلة العفو على الإخوة المسلمين والإصلاح بينهم.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) : أي بالعقوبة والأذية.

(عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) : أي يعتدون عليهم فى أعراضهم أو أبدانهم وأموالهم.

٦١٨

(وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي ويطلبون فى الأرض الفساد فيها بالشرك والظلم والإجرام.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) : أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه.

(إِنَّ ذلِكَ) : أي إن ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء.

(لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) : أي حسب سنته فى الإضلال.

(فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) : أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها.

(هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) : أي هل إلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود الى الدنيا.

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) : أي على النار خاشعين خائفين متواضعين.

(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) : أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول الى السيف لا يملأ عينه منه

(يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي لخلودهم فى النار ، وعدم وصولهم إلى الحور العين فى دار السّلام.

(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين.

(فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) : أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) : أي طريق إلى الهداية فى الدنيا ، وإلى الجنة يوم القيامة.

معنى الآيات :

لقد تقدم قوله تعالى فى الآية قبل هذه : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم أثبت هنا أن السبيل الى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين (١) يظلمون الناس بالاعتداء عليهم فى أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم ويبغون فى الأرض بغير الحق أى ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصى ، وليس فى الشرك والظلم والمعاصى من حق يبيحها ، وقوله (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي للذين يبغون فى الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم أي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة ان لم يتوبوا من الظلم والفساد فى الأرض.

وقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢) يخبر تعالى مؤكدا الخير بلام الابتدا ان من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فان ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعا.

__________________

(١) هذه الآية تقابل آية التوبة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) حيث نفت السبيل على المحسنين وهو لومهم وعتابهم وهذه أثبتته على المسيئين الظالمين.

(٢) قال العلماء هذا فيمن ظلمه مسلم فإنه مندوب إلى الصبر وعدم المؤاخذة وهو العفو روى أن رجلا سب آخر في مجلس الحسن البصري فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ثم قام فتلا هذه الآية فقال الحسن عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون ، والعزم عقد النية على العمل والثبات عليه.

٦١٩

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ) (١) (بَعْدِهِ) أي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته فى الإضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه. وقوله تعالى : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) أي المشركين لما رأوا العذاب أى عذاب النار يقولون : متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحّدوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الابرار : هل إلى مرد من سبيل؟ أى هل إلى مرد الى الدنيا من طريق؟ قال تعالى (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذّل ينظرون من طرف خفى (٢) يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر الى النار لشدة خوفهم منها. وهنا يقول (الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وذلك لخلودهم فى النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين فى الجنة دار الابرار ، ويعلن معلن فيقول : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بالشرك والمعاصى (فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب. وقوله :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي فما له طريق إلى هدايته فى الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه.

٢ ـ وجوب معاقبه الظالم والضرب على يديه.

٣ ـ فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل.

٤ ـ لا أعظم خسرانا ممن يخلد فى النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا

__________________

(١) (مِنْ وَلِيٍ) (من) زائدة للتوكيد إذ الكلام فما له ولي من بعده وكذلك في قوله الآتي (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ) فمن زائدة للتوكيد.

(٢) الطرف مصدر طرف يطرف طرفا إذا حرك جفنه ولذا هو لا يثنى ولا يجمع قال تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ويطلق الطرف على العين كما في هذه الآية قال الشاعر :

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

٦٢٠