أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

بالغيث ، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء ومضي أربعين عاما عليها ينزل من السماء ماء فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب كما ينبت النبات ، بالبذرة الكامنة في التربة.

٥ ـ تقرير قدرة الله على كل شيء أراده ، وهذه الصفة خاصة به تعالى موجبة لعبادته وطاعته. بعد الإيمان به وتأليهه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

شرح الكلمات :

(يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) : أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤلونها على غير تأويلها لا بطال حق أو إحقاق باطل.

(لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) : أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم.

(أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي نعم الذي يأتي آمنا يوم القيامة خير ممن يلقى في النار.

(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) : هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذنا لهم في العمل كما شاءوا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) : أي جحدوا بالقرآن أو الحدوا فيه فكفروا بذلك.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) : أي القرآن لكتاب عزيز أي منيع لا يقدر على الزيادة فيه ولا النقص منه.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) : أي لا يقدر شيطان من الجن والإنس أن يزيد فيه شيئا وهذا معنى من بين يديه.

(وَلا مِنْ خَلْفِهِ) : أي ولا يقدر شيطان من الجن ولا من الإنس أن ينقص منه شيئا

٥٨١

وهذا معنى من خلفه ، كما أنه ليس قبله كتاب ينتقصه ، ولا بعده كتاب ينسخه ، فهو كله حق وصدق ليس فيه ما لا يطابق الواقع.

معنى الآيات :

يتوعد الجبار عزوجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه ، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم.

وقوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى في النار خير ممن يأتي آمنا يوم القيامة فالإلقاء في النار سببه الكفر والإلحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار ، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من أراد الأمن يوم القيامة بعلمه انه خير من الإلقاء في النار. هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم.

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ (١) إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ (٢) بَصِيرٌ) هذا الكلام يقال للمستهترين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذنا وإباحة لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر ، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير.

ومثله قوله (إِنَّ الَّذِينَ (٣) كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي القرآن ، (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤) أي منيع بعيد المنال (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ) بالزيادة والنقصان أو التبديل والتغيير.

ولما كان المراد من هذا الكلام التهديد سكت عن الخبر إذ هو أظهر من أن يذكر والعبارة قد تقصر عن أدائه بالصورة الواقعة له. وقد يقدر لنفعلن بهم كذا وكذا ...

وقوله تنزيل من حكيم حميد أي القرآن المنيع كما له وشرفه ومناعته أتته أنه تنزيل من حكيم في أفعاله وسائر تصرفاته حميد بذلك وبغيره من فواضله وآلائه ونعمه.

__________________

(١) الأمر هنا ليس للإباحة وإنما هو للتهديد كما في التفسير.

(٢) قوله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الجملة تعليلية متضمنة الوعيد والتهديد فهي مؤكدة لما تضمنه قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) من التهديد.

(٣) الخبر مقدر تقديره : هالكون أو معذبون وما ذكر في التفسير في تقدير الخبر حسن.

(٤) معنى عزيز ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله.

٥٨٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الإلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل.

٢ ـ التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله أو يؤوّلها على غير مراد الله منها.

٣ ـ تقرير مناعة القرآن وحفظ الله تعالى له ، وأنه لا يدخله النقص (١) ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه إذ منه بدأ وإليه يعود.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

__________________

(١) تضمنت الآية ست صفات للقرآن العظيم هي كالتالي : أنه ذكر يذكر الناس بما يغفلون عنه. أنه ذكر للعرب أي شرف لهم كقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أنه كتاب عزيز والعزيز النفيس والمنيع أيضا إذ أعجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله أنه لا يتطرق إليه الباطل ولا يخالطه بحال انه مشتمل على الحكمة وهو حكيم وذو حكمة وحاكم أيضا وأنه تنزيل من حميد والحميد المحمود حمدا كثيرا.

٥٨٣

شرح الكلمات :

(ما يُقالُ لَكَ) : أي من التكذيب أيها الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) : أي من التكذيب لهم والكذب عليهم.

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) : أي ذو مغفرة واسعة تشمل كل تائب إليه صادق في توبته.

(وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) : أي معاقبة شديدة ذات ألم موجع للمصرين على الكفر والباطل.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) : أي القرآن كما اقترحوا إذ قالوا : هلا أنزل القرآن بلغة العجم.

(لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي بينت حتى نفهمها.

(ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) : أي أقرآن اعجمي والمنزل عليه وهو النبي عربي يستنكرون ذلك تعنتا منهم وعنادا ومجاحدة.

(هُدىً وَشِفاءٌ) : أي هدى من الضلالة ، وشفاء من داء الجهل وما يسببه من أمراض.

(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) : أي ثقل فهم لا يسمعونه وهو عليهم عمى فلا يفهمونه.

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : والمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادي له.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.

(فَاخْتُلِفَ فِيهِ) : أي بالتصديق والتكذيب وفي العمل ببعض ما فيه وترك البعض الآخر كما هي الحال في القرآن الكريم.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : أي ولو لا الوعد بجمع الناس ليوم القيامة وحسابهم ومجازاتهم هناك.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لحكم بين المختلفين اليوم وأكرم الصادقون وأهين الكاذبون.

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : أي وليس ربك يا رسولنا بذي ظلم للعبيد.

معنى الآيات :

بعد توالي الآيات الهادية من الضلالة الموجبة للإيمان كفار قريش لا يزيدهم ذلك إلا عنادا واصرارا على تكذيب الرسول والكفر به وبما جاء به من عند ربه ، ولما كان الرسول بشرا يحتاج إلى عون حتى يصبر أنزل تعالى هذه الآيات في تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الثبات والصبر فقال

٥٨٤

تعالى : (ما يُقالُ لَكَ) (١) يا رسولنا من الكذب عليك والتكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لمن تاب فلذا لا يتعجل بإهلاك المكذبين رجاء أن يتوبوا ويؤمنوا ويوحدوا ، (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي موجع شديد لمن مات على كفره.

وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي كما اقترح بعض المشركين ، (لَقالُوا : لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هلّا بينت لنا حتى نفهمها ، ثم قالوا : (ءَ أَعْجَمِيٌ) (٢) (وَعَرَبِيٌ) أي أقراآنا عجمي (٣) ونبي عربي مستنكرين ذلك متعجبين منه وكل هذا من أجل الإصرار على عدم الإيمان بالقرآن الكريم والنبي الكريم وتوحيد الرب الكريم.

ولما علم تعالى ذلك منهم أمر رسوله أن يقول لهم قل هو أي القرآن الكريم هدى وشفاء (٤) هدى يهتدي به إلى سبل السعادة والكمال والنجاح ، وشفاء من أمراض الشك والشرك والنفاق والعجب والرياء والحسد والكبر ، والذين لا يؤمنون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا هو أي القرآن في آذانهم وقر أي حمل ثقيل أولئك ينادون من مكان بعيد ولذا فهم لا يسمعون ولا يفهمون.

هذه تسلية وأخرى في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة فاختلفوا فيه فمنهم المصدق ومنهم المكذب ، ومنهم العامل بما فيه المطبق ومنهم المعرض عنه المتبع لهواه وشيطانه الذي أغواه وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) (٥) (سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فيما اختلفوا فيه لحكم لأهل الصدق بالنجاة وأهل الكذب بالهلاك والخسران وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن مريب أي موقع في الريبة وذلك من جراء محادته والمعاندة والمجاحدة ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) وهذه تسلية أعظم فإن من عمل صالحا في حياته بعد الإيمان فإن جزاءه قاصر عليه ينتفع به دون سواه ، (وَمَنْ أَساءَ) أي عمل السوء وهو ما يسوء النفس من الذنوب والآثام فعلى نفسه عائد. سوءه الذي عمله ولا يعود على غيره ، وأخرى في قوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٦) أي ليس هو تعالى بذي ظلم لعباده. فقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) عائد ذلك (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي عائد الإساءة إن فيه لتسلية لكل من أراد أن يتسلى ويصبر.

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فهي جواب لسؤال يثيره قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) الخ.

(٢) في الآية إشارة واضحة إلى عموم رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) معنى (قُرْآناً) كتابا مقروءا إذ ورد في الحديث الصحيح تسمية الزبور قرآنا بمعنى يقرأ ويكتب إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن داود يسر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله «الزبور» في حين يسرج له فرسه.

(٤) حقيقة الشفاء زوال المرض وهو هنا مستعار للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء.

(٥) فيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي موسى الكتاب فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب والعمل والترك.

(٦) المراد بنفي الظلم من الله للعبيد أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم ، لأنه تعالى لما وضع الشرائع وأرسل الرسل صار ذلك قانونا فمن تعداه مهملا له معرضا عنه فقد استوجب العذاب وتعذيبه عدل وليس بظلم.

٥٨٥

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول أي حمله على الصبر والسلوان ليواصل دعوته إلى نهايتها.

٢ ـ بيان مدى ما كان عليه المشركون من التكذيب للرسول والمعاندة والمجاحدة.

٣ ـ القرآن دواء وشفاء لأهل الإيمان ، وأهل الكفر فهم على العكس من أهل الإيمان.

٤ ـ بيان سنة الله في الأمم السابقة في اختلافها على أنبيائها وما جاءتها به من الهدى والنور.

٥ ـ قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أجرى مجرى المثل عند العالمين.

٦ ـ نفي الظلم عن الله مطلقا (١).

__________________

(١) فقد روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. وأيضا فالله هو الملك وهل ما يفعله الملك العليم الرحيم العادل في ملكه وعبيده يقال له ظلم؟ والجواب لا.

٥٨٦

الجزء الخامس والعشرون

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

شرح الكلمات :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) : أي إلى الله يرد علم الساعة أي متى تقوم إذ لا يعلمها إلا هو.

(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها) : أي من أوعيتها واحد الإكمام كمّ وكم الثوب مخرج اليد.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) : أي من أي جنس كان إنسانا أو حيوانا.

(وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) : أي ولا تضع حملها إلا ملابسا بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء.

(قالُوا آذَنَّاكَ) : أي أعلمناك الآن.

(ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) : أي ليس منا من يشهد بان لك شريكا أبدا.

(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي أيقنوا ما لهم من مهرب من العذاب.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى ان علم الغيب قد انحصر فيه فليس لأحد من خلقه علم الغيب وخاصة علم الساعة أى علم قيامها متى تقوم؟ كما أخبر عن واسع علمه وانه محيط بكل الكائنات فما تخرج من ثمرة من كمها (٢) وعائها وتظهر منه إلا يعلمها على كثرة الثمار والأشجار ذات الأكمام ، (وَما تَحْمِلُ (٣) مِنْ أُنْثى) بجنين ولا تضعه يوم ولادته أو إسقاطه إلا يعلمه أي يتم ذلك بحسب علمه تعالى وإذنه ، وهذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه ، ومع هذا فالجاهلون يتخذون له شركاء أندادا من أحجار وأوثان يعبدونها معه ظلما وسفها. ويوم (٤) يناديهم وذلك فى يوم القيامة أين شركائي؟ أي الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لى ، فيتبرءون منهم ويقولون : (آذَنَّاكَ)

__________________

(١) روي أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى قيام الساعة فنزلت (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) والرد الإرجاع.

(٢) الأكمام جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم والكمة بضم الكاف والتأنيث مثله وهو الجف وكفرى الطلع يقال له كفه.

(٣) فهذه ثلاثة أمور وجب رد علمها إلى الله تعالى الأول علم ما تخرجه أكمام النخل من الثمر بقدره وجودته وثباته وسقوطه والثاني حمل الأنثى من الناس والحيوان والتي تلقح والتي لا تلقح ، والثالث وقت وضع الأجنة فهذه وجب رد علمها إلى الله تعالى إذ لا يعلمها إلا هو كسائر الغيوب.

(٤) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) : متعلق بمحذوف تقديره اذكر يوم يناديهم ، لما سألوا عن الساعة أعلمهم أن أمر علم وقتها مرده إلى الله وحده فناسب ذكر بعض أحداثها فذكر لهم ذلك.

٥٨٧

أعلمناك الآن أنه (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يشهد بأن لك شريكا إنه لا شريك لك (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب عنهم (ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) فى الدنيا ، (وَظَنُّوا) أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي مهرب من عذاب الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استئثار الله تعالى بعلم الغيب وخاصة علم متى تقوم الساعة.

٢ ـ إحاطة علم الله تعالى بكل شىء فما تخرج من ثمرة من أوعيتها ولا تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله تعالى وإذنه.

٣ ـ براءة المشركين يوم القيامة من شركهم ، وغياب شركائهم عنهم.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١))

شرح الكلمات :

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) : أي لا يمل ولا يكل من سؤال طلب المال والصحة والعافية.

(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) : أي المرض والفقر وغيرهما فيئوس من رحمة الله قنوط ظاهر عليه اليأس.

(مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) : أي من بعد شدة أصابته وبلاء نزل به.

(لَيَقُولَنَّ هذا لِي) : أي استحققته بعملى ومما لى من مكانة.

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) : أي ينكر البعث ويقول : ما أظن الساعة قائمة.

(إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) : أي وعلى فرض صحة ما قالت الرسل من البعث ان لى عند الله الجنة.

٥٨٨

(أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) : أي أعرض عن الشكر ونأى بجانبه متبخترا مختالا فى مشيته.

(فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) : أى فهو ذو دعاء لربه طويل عريض يا رباه يا رباه.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن الإنسان (١) الكافر الذى لم تزك نفسه ولم تطهر روحه بالإيمان وصالح الأعمال انه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير (٢) أي المال والولد والصحة والعافية فلا يشبع من ذلك بحال. ولئن مسه الشر من ضر وفقر ونحوهما فهو يئوس (٣) قنوط يؤوس من الفرج وتبدل الحال من عسر إلى يسر قنوط ظاهر عليه آثار اليأس فى منطقة وفى حاله كله هذا ما تضمنته الآية الأولى (٤٩) (لا يَسْأَمُ (٤) الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) وأما الآية (٥٠) فإن الله تعالى يخبر ايضا عن الإنسان الكافر إذا أذاقه الله رحمة منه من مال وصحة واجتماع شمل مثلا ، وذلك من بعد ضراء مسته من مرض وفقر ونحوهم ليقولون لجهله وسفهه : هذا لى أي استحققته بمالى من جهد ومكانه وعلم وإذا ذكر بالساعة من أجل أن يرفق أو يتصدق يقول ما أظن الساعة قائمة كما تقولون وإن قامت على فرض صحة قولكم إن لى عنده أي عند الله للحسنى أي للحالة الحسنى من غنى وغيره (٥) وجنة إن كانت كما تقولون.

وقوله تعالى (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا) أي يوم القيامة عند عرضهم علينا ، ولنذيقهم من عذاب غليظ يخلدون فيه لا يخرجون منه أبدا.

وقوله تعالى فى الآية الأخيرة (٥١) وإذا انعمنا على الإنسان بنعمة المال والولد والصحة أعرض عن ذكرنا وشكرنا وتخلى عن طاعتنا ونأى (٦) بجانبه متباعدا متبخترا مختالا يكاد يضاهى الطاووس فى مشيته. وإذا سلبناه ذلك ومسه الشر من مرض وفقر وجهد وبلاء فهو ذو دعاء عريض لنا يا رب يا رب يا رب. هذا ليس الرجل الأول الذى ييأس ويقنط ، ذاك كافر ، وهذا مؤمن ضعيف الإيمان جاهل لا أدب عنده ولا خلق. وما أكثر هذا النوع من الرجال فى المسلمين اليوم والعياذ

__________________

(١) قيل المراد بالإنسان الكافر هنا الوليد بن المغيرة ، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف. والآية تحمل وصفا للإنسان الكافر أيا كان والمراد من الدعاء الطلب والرغبة الملحة.

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لتمنى الثالث ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب».

(٣) اليأس كالقنوط من رحمة الله كفر بالمؤمن لقوله تعالى (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

(٤) اشتملت الآية على خلقين عجيبين الأول خلق البطر بالنعمة والغفلة عن الشكر لله تعالى والثاني اليأس والقنوط من رجوع النعمة بعد فقدها.

(٥) يروى عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم للكافر أمنيتان أما في الدنيا فيقول لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ، وأما في الآخرة فيقول يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.

(٦) النأي البعد وهو كناية عن عدم التفكر في المنعم عليه ليشكره فعبر عن هذا بالبعد.

٥٨٩

بالله تعالى قالأول عائد إلى ظلمة نفسه بالكفر ، وهذا عائد الى سوء تربيته وسوء خلقه وظلمة جهله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حال الإنسان قبل الإيمان والاستقامة فإنه يكون أحط المخلوقات قدرا وأضعفها شأنا.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض الأحداث فيها.

٣ ـ ذم اليأس والقنوط والكبر والاختيال ، والكفر للنعم ونسيان المنعم وعدم شكره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أي أخبروني إن كان القرآن من عند الله كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) : أي ثم كفرتم به بعد العلم أنه من عند الله.

(مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) : أي من يكون أضل منكم وأنتم فى شقاق بعيد؟ لا أحد.

(فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أي في أقطار السموات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها وفى أنفسهم من لطائف الصنعة وعجائب وبدائع الحكمة.

(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) : أي أن القرآن كلام الله ووحيه إلى رسوله حقا ، وأن الإسلام حق.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) : أي فى شك من البعث الآخر حيث يعرضون على الله تعالى.

(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) : أى علما وقدرة وعزة وسلطانا.

معنى الآيات :

يأمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للمكذبين بالوحي الإلهي الذي يمثله القرآن الكريم حيث قالوا فيه شعر وسحر وأساطير الأولين يأمره أن يقول لهم مستفهما لهم أرأيتم أي أخبرونى إن كان أى القرآن الذى كذبتم به من عند الله وكفرتم به أى كذبتم؟ من يكون أضل منكم وأنتم تعيشون فى

٥٩٠

شقاق (١) بعيد اللهم لا أحد يكون أضل منكم عن طريق الهدى إذا فلم لا تثوبون إلى رشدكم وتؤمنون بآيات ربكم فتكملوا عليها وتسعدوا.

ثم قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ (٢) آياتِنا) الدالة على صدقنا وصدق رسولنا فيما أخبرناهم به ودعوناهم إليه من الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء وذلك في (٣) الآفاق أي من أقطار السموات والأرض مما ستكشف عنه الأيام من عجائب تدبير الله ولطائف صنعه ، وفى انفسهم (٤) أيضا أي فى ذواتهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، من ذلك فتح القرى والأمصار وانتصار الإسلام كما أخبر به القرآن ، ووقعة بدر وفتح مكة من ذلك وما ظهر لحدّ الآن من كشوفات فى الآفاق وفى الأنفس مما أشار إليه القرآن ما هو أعجب من ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فنظام الزوجية السارى فى كل جزئيات الكون شاهد قوى على صدق القرآن وأنه الحق من عند الله ، وان الله حق وأن الساعة حق وقوله تعالى : (أَوَلَمْ (٥) يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟) هذا توبيخ لهؤلاء المكذبين بإعلامهم أن شهادة الله كافية فى صدق محمد وما جاء به إن الله هو المخبر بذلك والآمر بالإيمان به فكيف يطالبون بالآيات على صدق القرآن ومن نزل عليه والله المرسل للرسول والمنزل للكتاب وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) إعلام منه تعالى بما عليه القوم من الشك فى البعث والجزاء وهو الذى سبب لهم كثيرا من أنواع الشر والفساد. وقوله : (أَلا إِنَّهُ (٦) بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) علما وقدرة وعزة وسلطانا فما أخبر به عنهم من علمه وما سيجزيهم به من عذاب إن أصروا على كفرهم من قدرته وعزته. ألا فليتق الله امرؤ مصاب بالشك فى البعث وكل الظواهر دالة على حتميته ووقوعه فى وقته المحدد له.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالكفر بالقرآن والتكذيب بما جاء فيه من الهدى والنور.

٢ ـ لا أضل ممن يكذب بالقرآن لأنه يعيش فى خلاف وشقاق لا أبعد منه.

٣ ـ صدق وعد الله تعالى حيث أرى المشركين وغيرهم آياتيه الدالة على وحدانيته وصحة دينه وصدق أخباره ما آمن عليه البشر الذين لا يعدون كثرة.

__________________

(١) الشقاق العداء والمراد به العداء لله والرسول والمؤمنين الناجم عن ردهم القرآن وتكذيبهم بالوحي المثبت للنبوة المحمدية.

(٢) الآيات تشمل آيات القرآن والآيات الخارجة عن القرآن.

(٣) الآفاق جمع أفق الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها والناحية من قبة السماء.

(٤) قال القرطبي (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين ، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما ، وفي أذنيه وكيف يفرق بين الأصوات المختلفة إلى غير ذلك.

(٥) المعنى : تكفيك شهادة ربك بصدقك فلا تلتفت إلى تكذيبهم.

(٦) وصف الله بالمحيط هو كذلك محيط بعلمه وقدرته وقهره لكل خلقه.

٥٩١

٤ ـ ما من اكتشاف ظهر ويظهر إلا والقرآن أدخله فى هذه الآية سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم

٥ ـ الإشارة إلى أن الإسلام سيعلم صحته وسيدين به البشر أجمعون فى يوم ما من الأيام.

٦ ـ تقرير البعث والجزاء. ومظاهر قدرة الله تعالى المقررة له.

سورة الشورى

مكية وآياتها ثلاث وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

شرح الكلمات :

(حم عسق) (١) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا : حم عسق وتقرأ هكذا. حاميم عين سين قاف.

(كَذلِكَ يُوحِي (٢) إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : أي مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك وإلى الذين من قبلك. الذى يوحى إليك.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

وهو العزيز الحكيم : أي العزيز فى انتقامه من أعدائه الحكيم فى تدبيره لأوليائه.

(يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) : أي يتشققن من عظمة الرحمن وجلاله.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) : أي آلهة يعبدونها.

__________________

(١) ان قيل لم ما وصلت حم عسق ببعضهما كما وصلت في المص ، المر فالجواب أن عسق ثلاثة أحرف فلم توصل ب حم بخلاف المص المر فإن الموصول حرف واحد وهو الصاد والراء.

(٢) العدول عن صيغة الماضي إلى المضارع إيذان بأن إيحاء الرسول متجدد لا ينقطع مدة حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٩٢

(اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) : أي يحصي لهم اعمالهم ويجزيهم بها.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) : أي ولست موكلا بحفظ أعمالهم وإنما عليك البلاغ.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (حم عسق) الله أعلم بمراده به وقد تقدم التنبيه إلى أن هذا من المتشابه الذى يجب الإيمان به وتفويض أمر فهم معناه إلى منزله وهو الله سبحانه وتعالى وقد ذكرنا ان له فائدتين جليلتين تقدمتا فى كثير من فواتح السور المبدوءة بمثل هذه الحروف المقطعة فليرجع إليها.

وقوله (كَذلِكَ يُوحِي (١) إِلَيْكَ) أي مثل ذلك الإيحاء بأصول الدين الثلاثة وهى التوحيد والنبوة والبعث يوحى إليك بمعنى أوحى إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل الله العزيز (٢) فى انتقامه من اعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه وقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ (٣) وَما فِي الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وهو العلى أى ذو العلو المطلق على خلقه العظيم فى ذاته وشأنه وحكمه وتدبيره سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقوله تعالى (تَكادُ (٤) السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتصدعن ويتشققن من فوقهن من عظمة الرب تبارك وتعالى والملائكة يسبحون (٥) بحمد ربهم أي يصلون له ويستغفرون لمن فى الأرض أي يطلبون المغفرة للمؤمنين فهذا من العام الخاص بما في صورة المؤمن إذ فيها ويستغفرون للذين آمنوا وقوله تعالى (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إخبار بعظيم صفاته عزوجل وهما المغفرة والرحمة يغفر لمن تاب من عباده ويرحم بالرحمة العامة سائر مخلوقاته فى هذه الحياة ويرحم بالرحمة الخاصة عباده الرحماء وسائر عباده المؤمنين فى دار السّلام وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ (٦) دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء آلهة يعبدونهم هؤلاء الله حفيظ عليهم فيحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم بها يوم القيامة ، وليس على الرسول من ذلك شىء إن عليه إلّا البلاغ وقد بلغ وهو معنى قوله : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) تحفظ عليهم أعمالهم وتجزيهم بها وفى الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه لأنه كان يشق عليه إعراض المشركين واصرارهم على الشرك بالله تعالى.

__________________

(١) المعنى الإجمالي لهذه الجملة هو كما في قوله (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) فهو تشبيه إيحاء بإيحاء.

(٢) (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : وصفان لاسم الجلالة هما مقتضى الوحي الإلهي إذ الوحي يكون من عزيز لا يحال بين إرادته وحكيم يضع الأمور في مواضعها فلا يعاب عليه اختياره للوحي إليك.

(٣) هذه الجملة مقررة لما تقدم من جلال الله وكماله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده ولقائه وبعثه رسوله.

(٤) قرأ نافع وحده يكاد بالياء وقرأ باقي القراء حفص وغيره بالتاء وسبب تفطرهن هو الخوف من عظمة الرب قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما «فرقا» أي خوفا.

(٥) أي ينزهونه عما لا يجوز وصفه به وعمّا لا يليق بجلاله ، وقيل يتعجبون من جرأة المشركين فيسبحون.

(٦) لما أقام تعالى الحجج والبراهين على توحيده ونبوة رسوله فسبحت له الملائكة واستغفرت للمؤمنين الموحدين وبقي المشركين على اتخاذهم أولياء كأنما قال لرسوله لا يهمك أمرهم فإن الله يحصي أعمالهم ويحفظها لهم ويجزيهم بها.

٥٩٣

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة الوحى بين سائر الأنبياء إذ هى تدور على التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والترغيب فى العمل الصالح ، والترهيب من العمل الفاسد.

٢ ـ بيان عظمة الله تعالى وجلاله وكماله حتى إن السموات تكاد يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمده تعالى ويستغفرون للمؤمنين (١).

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه بانه غير موكل بحفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها انما هو الله تعالى ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

شرح الكلمات :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي ومثل ذلك الإيحاء إليك وإلى من قبلك أوحينا إليك.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي بلسان عربى.

(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) : أي علة الإيحاء هى إنذارك أهل أم القرى مكة ومن حولها من القرى أي تخوفهم عذاب الله إن بقوا على الشرك.

(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) : أي وتنذر الناس من يوم القيامة إذ هو يوم يجمع الله فيه الخلائق.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك فى مجيئه وجمع الناس فيه.

__________________

(١) جائز أن يكون المستغفرين للمؤمنين حملة العرش وقد ورد هذا في السنة وأن يكن غيرهم يستغفرون لمن في الأرض عند ما يرون كفرهم وباطلهم وجرأتهم على ربهم يطلبون لهم عدم المؤاخذة إذ لو آخذهم بذنوبهم لأهلكهم.

٥٩٤

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) : أي المؤمنون المتقون.

(وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) : أي الكافرون.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين الإسلام وبذلك يكون الجميع في الجنة.

(وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) : أي فى الإسلام أولا ثم في الجنة ثانيا.

(وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : أي المشركون ليس لهم من ولي يتولاهم ولا نصير ينصرهم فهم في النار.

أم اتخذوا من دون الله أولياء : أي بل اتخذوا من دونه تعالى شركاء ألهّوهم من دون الله.

(فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) : أي الولي الحق ومن عداه فلا تنفع ولايته ولا تضر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) أي ومثل ذلك الإيحاء الذى أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك أوحينا إليك قرآنا عربيا أي بلسان عربى يفهمه قومك لأنه بلسانهم لتنذر به أي تخوف أم القرى (٢) ومن حولها من الناس عاقبة الشرك والكفر والظلم والفساد وتنذر أيضا الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة فإنه يوم هول عظيم وشر مستطير ليتوقوه بالإيمان والتقوى. إنه يوم يكون فيه الناس والجن فريقين لا ثالث لهما : فريق فى الجنة (٣) بإيمانه وتقواه لله بفعل أوامره وترك نواهيه ، وفريق في السعير بشركه وكفره بالله وعدم تقواه فلا امتثل أمرا ولا اجتنب نهيا.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ (٤) أُمَّةً واحِدَةً) أي في الدنيا على دين الإسلام الذى هو دين آدم فنوح فإبراهيم فسائر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إذ هو عبارة عن الإيمان بالله وبما أمر الله بالإيمان به ، والانقياد لله ظاهرا وباطنا بفعل محابه تعالى وترك مكارهه ولو كانوا في الدنيا على ملة الإسلام لكانوا في الآخرة فريقا واحدا وهو فريق الجنة ولكن لم يشأ ذلك لحكم عالية فهو تعالى يدخل من يشاء فى رحمته فى الدنيا وهي الإسلام وفى الآخرة هي الجنة ، والظالمون أي المشركون الذين رفضوا التوحيد والإسلام لله (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فهم إذا فى عذاب السعير. وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) (٥) أي الظالمون من دون الله أولياء من دون الله ليشفعوا

__________________

(١) القرآن مصدر نحو غفران وأطلق على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارثون لحسنه وفوائده وعظيم مثوبته.

(٢) كنيت مكة بأم القرى لأنها أقدم المدن العربية وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها.

(٣) جملة فريق الخ ابتدائية لأنها جواب لمن سأل عن حال الناس وهم مجتمعون في عرصات القيامة فأجيب بأنهم فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.

(٤) سبق هذا الكلام مستأنفا استئنافا ابتدائيا لغرض تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين لما ينالهم من هم وكرب من عدم إيمان من يدعونهم إلى الإيمان ولم يؤمنوا.

(٥) (أَمِ) للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر على المشركين اتخاذهم أولياء من دون الله لا تنفعهم أي نفع ويتركون الله الولي الحميد فهو أحق بأن يتخذ وليا في الدنيا والآخرة.

٥٩٥

لهم جهلا منهم بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ورضاه فعلوا ذلك وما كان لهم ذلك لأن الولي الحق هو الله فلم لا يتخذونه وليا ، وهو الولي الحميد وهو يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير فمن أحق بأن يتولىّ من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير أم من لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، والجواب معلوم ، ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحى الإلهى.

٢ ـ شرف مكة بتسميتها أم القرى أي أم المدن والحواضر.

٣ ـ مشروعية التعليل للأفعال والأحكام.

٤ ـ إنقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير.

٥ ـ لم يشأ الله ان يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى.

٦ ـ من طلب ولاية غير الله هلك؟ ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمه في دنياه وأخراه.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))

شرح الكلمات :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي من أمور الدين والدنيا مع الكفار أو مع المؤمنين.

(فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) : هو الذي يقضي فيه في الدنيا بما ينزل من وحى على رسوله وفى الآخرة إذ الحكم له دون غيره.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ) : أي قل لهم يا رسولنا ذلكم الحاكم العدل العظيم الله ربي عليه

٥٩٦

(أُنِيبُ) : توكلت أي فوضت أمرى إليه ، وإليه لا إلى غيره أرجع فى أمورى كلها.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق.

(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) : أي بأن جعلكم ذكرا وأنثى ، ومن الأنعام كذلك.

(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) : أي يخلقكم فى هذا التدبير وهو من الذكر والانثى يخرجكم.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : أي ليس مثل الله شيء إذ هو الخالق لكل شيء فلا يكون مخلوق مثله بحال من الأحوال.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم.

معنى الآيات :

يقول تعالى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ (١) فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) من أمور الدين والدنيا أيها الناس فحكمه إلى الله تعالى هو الذي يحكم فيه بالعدل فردوه إليه سبحانه وتعالى فإنه يقضى بينكم بالحق. وهنا أمر رسوله أن يقول للمشركين ذلكم المذكور بصفات الجلال والكمال الحكم العدل الذى يقضى ولا يقضى عليه الله ربي الذى ليس لى رب سواه عليه توكلت ففوضت أمرى إليه واثقا فى كفايته وإليه وحده أنيب أي أرجع فى أمورى كلها ، ثم واصل ذكر صفاته الفعلية فقال (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى خالق السموات السبع والأرض مبدعهما من غير مثال سابق (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (٢) أَزْواجاً) إذ خلق حواء من ضلع آدم ثم جعلكم تتناسلون من ذكر وانثى ومن الأنعام ازواجا أيضا وهما الذكر والأنثى وقوله (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي (٣) يخلقكم فيه أي في هذا النظام نظام الذكر والأنثى كأن الذكورة والأنوثة معمل من المعامل يتم فيه خلق الإنسان والحيوان فسبحان الخلاق العليم.

وقوله : (لَيْسَ (٤) كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥) هذا تعريف عرف تعالى به نفسه ليعرف بين عباده وهو أنه عزوجل ليس مثله شيء أي فلا شيء مثله فعرف بالتفرد بالوحدانية فالذي ليس له

__________________

(١) قول القرطبي هذا حكاية قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمؤمنين ما هو بظاهر ، بل هو إرشاد الله لرسوله والمؤمنين أن يقولوا لمن خالفهم من المشركين وأهل الكتاب إن الله قد حكم بصحة الإسلام فهو الدين الذي يجب أن يدين به الإنسان لربه عزوجل لا غيره من الأديان الباطلة.

(٢) الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير فاطر.

(٣) الذرء : بث الخلق وتكثيره والمضارع يذرؤكم لإفادة الحدوث والتجدد المستمرين.

(٤) ومعنى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) : ليس مثله شيء فالكاف مقحمة لا غير ، ولما كانت للتشبيه ومثله كذلك فهي إذا لتأكيد نفي الشبيه لله تعالى.

(٥) لما كانت جملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) صفة سلبية أعقب عليها بصفات ايجابية وهي كونه تعالى سميعا بصيرا ، وهكذا الحكم في صفات الله تعالى فيثبت له ما أثبته هو لنفسه وأثبته له رسوله من الصفات العلى وينفى عنه من صفات النقص كالمثلية والتشبيه ما نفاه تعالى هو عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٩٧

مثل ولا مثله شيء هو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو السميع لكل الأصوات العليم بكل الكائنات.

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) أي له مفاتيح خزائن السموات والأرض ، وله مغاليقها فهو تعالى يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويضيق ابتلاء ، لأنه بكل شيء عليم فلا يطلب الرزق إلّا منه ، ولا يلجأ فيه إلا إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب ردّ ما اختلف فيه إلى الله تعالى ليحكم (٢) فيه وهو الرد إلي الكتاب والسنة.

٢ ـ وجوب التوكل عليه والإنابة إليه فى كل الأمور.

٣ ـ تنزيه الله تعالى عن مشابهته لخلقه مع وجوب الإيمان باسمائه الحسنى وصفاته العليا.

٤ ـ وجوب الإيمان بأن الله هو الرزاق بيده مفاتح خزائن الأرزاق فمن شاء وسع عليه ، ومن شاء ضيق ، وأنه يوسع لحكمه ويضيق لأخرى.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

__________________

(١) المقاليد جمع إقليد أو مقلاد على غير قياس وهو المفتاح ، والمقاليد للخزائن وهي ما أودع الله تعالى من أرزاق السموات والأرض لعباده ، فلذا هو يبسط الرزق ويقدر حسب علمه وحكمته.

(٢) شاهده قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) «الآية من سورة النساء».

٥٩٨

شرح الكلمات :

(ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي شرع لكم من الدين الذى وصى به نوحا والذى أوحينا به إليك.

(وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) : أي والذى وصينا باقى أولى العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات.

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) : أي بأن اقيموا الدين الذى شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه.

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) : أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) : أي يختار الى الإيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك.

(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : أي ويوفق لطاعته من ينيب اليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه ، بخلاف المعرضين المستكبرين.

(بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي حملهم البغي على التفرق في دين الله.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) : أي ولو لا ما قضى الله به من تأخير العذاب على هذه الأمة إلى يوم القيامة.

(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي لحكم الله بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي وان الذين أورثوا الكتاب من بعد الأولين وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب.

(لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) : أي لفى شك مما جئتهم به من الدين الحق وهو الإسلام.

معنى الآيات :

يخاطب تعالى رسوله والمؤمنين فيقول وقوله الحق : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) (١) إذ هو أول حامل شريعة من الرسل والذي أوحينا إليك يا محمد (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) من أولى العزم من الرسل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (٢) وهو دين واحد قائم على الإيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه ، وعدم التفرق فيه ، لأن التفرق فيه بسبب تضيعه كلا أو بعضا.

__________________

(١) المراد مما شرع لنا هو الإيمان به تعالى ربا وإلها وعبادته وحده وترك عبادة ما سواه ، أما الأحكام فتختلف بحسب الأمم والأزمان فهذه الآية هي كقوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

(٢) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) في محل رفع خبر. أي هو إقامة الدين وعدم التفرق فيه أي الموصى به هو إقامة الدين ، وإقامته جعله قائما تعتقد عقائده وتؤدى عبادته وتقام أحكامه لا يسقط منه شيء.

٥٩٩

وقوله تعالى : (كَبُرَ عَلَى (١) الْمُشْرِكِينَ) من كفار قريش (ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام ، إذا فادعهم واصبر على اذاهم والله يجتبى اليه أي يختار للإيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل ، ولا يستكبرون عن الحق إذا عرفوه ، ويهدى إليه أي ويوفق لطاعته من من شأنه الإنابة والرجوع إلى ربّه فى أموره كلها.

وقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقُوا) (٢) أي وما تفرق العرب واليهود والنصارى في دين الله فآمن بعض وكفر بعض الأمن بعد ما جاءهم العلم الصحيح يحمله القرآن الكريم ونبيّه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. والحامل لهم على ذلك هو البغي والحسد. وقوله ولو لا كلمة سبقت من ربك وهو عدم معالجة هذه الأمة المحمدية بعذاب الإبادة والاستئصال ، وترك عذابهم إلى يوم القيامة لو لا هذا لعجل لهم العذاب من أجل اختلافهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين. وهو معنى قوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ (٣) سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي فرغ منهم بالفصل بينهم بإهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) (٤) أي من بعد اليهود والنصارى وهم العرب إذ أنزل الله فيهم كتابه القرآن الكريم لفى شك منه أي من القرآن والنبى والدين الإسلامي مريب أي بالغ الغاية في الريبة والاضطراب النفسى ، كما ان اللفظ يشمل اليهود والنصارى إذ هم أيضا ورثوا الكتابين عمن سبقهم وأنهم فعلا في شك من القرآن ونبيّه والإسلام وشرائعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دين الله واحد وهو الإيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ حرمة الاختلاف فى دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضا.

٣ ـ مرد التفرق في الدين إلى الحسد والبغى بين الناس ، فلو لم يحسد بعضهم بعضا ولم يبغ بعضهم على بعض لما تفرقوا فى دين الله ولأقاموه متجمعين فيه.

__________________

(١) قال قتادة كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وضاق بها إبليس وجنوده فأبى الله عزوجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من ناوأها.

(٢) قال ابن عباس يعني قريشا وهو صحيح إذ كانوا يقولون : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم إلا أن دخول أهل الكتاب في هذا الخطاب وارد وله شواهد. إذ الآية مبينة لسنة من سنن الله تعالى وهي كون الأمة متحدة على الباطل فإذا جاءها الحق قبله أناس ورفضه آخرون فيكون التفرق.

(٣) أي في تأخير العذاب على مستحقيه إلى الموعد الذي حدده لهم في الدنيا أو في الآخرة لكان عزوجل حكم بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.

(٤) ال في الكتاب للجنس ليشمل التوراة والإنجيل معا.

٦٠٠