أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

فادعوا (١) أنتم ربكم ولكن لا يستجاب لكم إذ ما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلا يستجاب له أبدا

وقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ (٢) رُسُلَنا) تقرير لحقيقة عظمى ، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه ، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن ، أو بإهلاك أممهم المكذبة لهم وإنجائهم والمؤمنين معهم قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وقوله : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي (٣) وينصرهم في الآخرة يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب.

وقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ (٤) مَعْذِرَتُهُمْ) إذا أذن لهم في الاعتذار لا تقبل معذرتهم (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) (٥) أي البعد من الرحمة والجنة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) الآخرة وهو أشد عذابها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تخاصم أهل النار وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين.

٢ ـ التنديد بالكبر والاستكبار إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة.

٣ ـ عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة إلا ما شاء الله.

٤ ـ عدم قبول المعذرة يوم القيامة.

٥ ـ عدم استجابة الدعاء في النار.

٦ ـ بيان وعد الله لرسله والمؤمنين وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين الأول أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن ، والثاني أن يهلك عدوهم وينجيهم.

__________________

(١) أي تولوا أنتم أمر أنفسكم وادعوا والأمر هنا للتسوية أي سواء دعوتم أو تركتم لا يستجاب لكم.

(٢) هذه الآية والتي بعدها جاءتا كالنتيجة لكل ما سبق في السورة من قوله تعالى (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فكل ذلك لتلك المواقف والمشاهد في الدنيا والآخرة عبرتها المستخلصة منها هي هذه (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) الآية وهي تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشرى له ولأتباعه المؤمنين.

(٣) (الْأَشْهادُ) : الملائكة والرسل ومؤمنو هذه الأمة.

(٤) هذه الجملة بدل من جملة ويوم يقوم الأشهاد والظالمون هم المشركون.

(٥) تقديم الجار والمجرور (لَهُمُ) في الجملتين : لهم اللعنة ولهم سوء الدار للاهتمام بالانتقام منهم.

٥٤١

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) : أي أعطينا موسى بني إسرائيل المعجزات والتوراة.

(وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي أبقينا فيهم التوراة كتاب الهداية الإلهية يهتدون به في ظلمات الحياة ويذكرون به الله في تراكم النسيان.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي واصبر يا محمد على ما تلاقي من قومك إن وعد الله بنصرك حق.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : ليقتدي بك في ذلك ولزيادة طهارة لروحك وتزكية لنفسك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) : أي نزه ربك وقدسه بالصلاة والذكر والتسبيح فيها وخارجها.

(بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) : بالمساء وأول النهار أي في أوقات الصلوات الخمس كلها.

(إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) : أي ما في صدورهم إلا كبر حملهم على الجدال في الحق ، لا أن لهم علما يجادلون به ، وإنما حبهم العلو والغلبة حملهم على ذلك

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) : أي استعذ من شرهم بالله السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم.

٥٤٢

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي لخلق السموات والأرض ابتداء ولأول مرة.

(أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) : أي أعظم من خلق الناس مرة أخرى بعد الأولى.

معنى الآيات :

قوله تعالى ولقد آتينا موسى (١) الهدى الآية شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقي من قومه فأعلمه تعالى أنه قد سبق أن أرسل موسى وآتاه الكتاب الذي هو التوراة وأورثه في بني إسرائيل (هُدىً) أي هاديا لهم في ظلمات الحياة إلى الحق والدين الصحيح الذي هو الإسلام (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي يذكر به أولوا العقول ، ولاقى موسى من قومه أشد مما لاقيت إذا (فَاصْبِرْ) على ما تعانيه من قريش وأن العاقبة لك فإن وعد الله حق وقد قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي يوم القيامة.

وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ (٢) وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِ (٣) وَالْإِبْكارِ) أرشده إلى مقومات الصبر والموفرات له وهي ذكر الله تعالى بالاستغفار والدعاء والصلاة والتسبيح فيها وخارجها. فأعظم عون على الصبر الصلاة فلذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي حجة من علم إلهي أتاهم بطريق الوحي إن في صدورهم أي ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أي لا يصلون إليه بحال وهو الرئاسة عليك والتحكم فيك وفي أصحابك. وعليه فاستعذ بالله (٤) من شرهم ومن مكرهم إنه تعالى هو السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم وأعمالهم ، وسوف لا يمكن لهم منك أبدا لقدرته وعلمه وعجزهم وجهلهم.

وقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ (٥) وَالْأَرْضِ) هذا رد على منكري البعث والجزاء الآخر فلما قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ... قال تعالى : وعزتنا وجلالنا لخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق ولا مادة قائمة موجودة أكبر من خلق الناس مرة أخرى بعد خلقهم

__________________

(١) الهدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق ، وما أنزل عليه من الشريعة والكتاب الذي هو التوراة.

(٢) ذكر القرطبي عدة أقوال للسلف في الذنب المطلوب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستغفار منه قيل ذنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان قبل البعثة والعصمة ، وقيل ذنب أمته ، وقيل الصغائر ومخالفة الأول وقيل المراد هو تعبد الله رسوله بالدعاء إذ الاستغفار دعاء بطلب المغفرة وهو وجه وأوجه منه إرشاد الآية إلى الاستغفار.

(٣) هما صلاة الصبح وصلاة العصر ومعنى بحمد ربك أي بالشكر له والثناء عليه.

(٤) جملة إنه هو السميع العليم تعليلية ، ومفعول المستعاذ منه في قوله فاستعذ بالله محذوف لعرض التعميم في كل ما يخاف منه.

(٥) اللام في جواب قسم محذوف كما في التفسير ، وخلق السموات والأرض شامل لكل ما فيهما من مخلوقات وعقيدة البعث الآخر من جملة ما يجادل فيه الذين كفروا.

٥٤٣

المرة الأولى ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) هذه الحقائق العلمية لجهلهم وبعدهم عن العقليات لما عليهم من طابع البداوة وإلا فإعادة الشيء أهون من بدئه عقلا فليس الاختراع كالاصلاح للمخترع إذا فسد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان منة الله تعالى على موسى وبني إسرائيل تتكرر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بإنزال الكتاب وتوريثه فيهم هدى وذكرى لأولى الألباب.

٢ ـ وجوب الصبر والتحمل في ذات الله ، والاستعانة على ذلك بالاستغفار والذكر والصلاة.

٣ ـ أكثر من يجادل بالباطل ليزيل به الحق إنما يجادل من كبر يريد الوصول إليه وهو التعالي والغلبة والقهر للآخرين.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث بالبرهان العقلي ، وهو أن البدء أصعب من الإعادة ومن أبدأ أعاد ، ولا نصب ولا تعب!!

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ

__________________

(١) (لا يَعْلَمُونَ) لانشغالهم بالباطل عن الحق فتركو التفكر والتأمل لذا هم لا يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر عقلا على خلق الناس بعد إماتته إياهم وبعثهم أحياء كما خلقهم أول مرة.

٥٤٤

اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣))

شرح الكلمات :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) : لا يستويان أيضا فكذلك لا يستوى الموقن والشاك

(قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) : أي ما يتذكرون إلا تذكرا قليلا والتذكر الاتعاظ.

(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) : أي إن ساعة نهاية هذه الحياة وإقبال الأخرى جائية لا شك فيها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) : أي عن دعائي.

(سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) : أي صاغرين ذليلين.

(لِتَسْكُنُوا فِيهِ) : أي لتنقطعوا عن الحركة فتستريحوا.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي مضيئا لتتمكنوا فيه من الحركة والعمل.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) : أي الله تعالى بحمده والثناء عليه وطاعته.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) : أي ذلكم الذي أمركم بدعائه ووعدكم بالاستجابة الذي جعل لكم الليل والنهار وأنعم عليكم بجلائل النعم الله ربكم الذي لا إله لكم غيره ولا رب لكم سواه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم وإلهكم الحق إلى أوثان وأصنام لا تسمع ولا تبصر.

(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) : أي كما صرف أولئك عن الإيمان والتوحيد يصرف الذين يجحدون بآيات الله يصرفون عن الحق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد ، فقوله تعالى (وَما يَسْتَوِي) (١) أي في حكم

__________________

(١) (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن والضال والمهتدي.

٥٤٥

العقلاء (الْأَعْمى) الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي يبصر كل شيء يقع عليه بصره فكذلك لا يستوي المؤمن السميع المبصر ، والكافر الأعمى عن الدلائل والبراهين فلا يرى منها شيئا الأصم الذي لا يسمع نداء الحق والخير ، ولا كلمات الهدى والرشاد. كما لا يستوي في حكم العقلاء المحسن المؤمن العامل للصالحات ، والمسيىء الكافر والعامل للسيئات ، وإذا كان الأمر كما قررنا فلم لا يتعظ القوم به ولا يتوبون إنهم لظلمة نفوسهم (قَلِيلاً ما) (١) (تَتَذَكَّرُونَ) أي لا يتعظون إلا نادرا.

وقوله تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ (٢) لَآتِيَةٌ) يخبر تعالى أن الساعة التي كذب بها المكذبون ليستمروا على الباطل والشر فعلا واعتقادا لآتية حتما ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) بها لوجود صارف قوي وهو عدم تذكرهم ، وانكبابهم على قضاء شهواتهم.

وقوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي (٣) أَسْتَجِبْ لَكُمْ). إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم. ثم قال لهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبدا.

وفي الآية (٦١) عرّفهم تعالى بنفسه ليعرفوه فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه ، ويكفروا بما سواه من مخلوقاته فقال : (اللهُ الَّذِي (٤) جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي جعله مظلما لتنقطعوا فيه عن الحركة والعمل فتستريحوا (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل لكم النهار مبصرا أي مضيئا يمكنكم التحرك فيه والعمل والتصرف في قضاء حاجاتكم ، وليس هذا من إفضال الله عليكم بل إفضاله وإنعامه أكثر من أن يذكر وقرر ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الله على إفضاله وإنعامه عليهم فلا يعترفون بإنعامه ولا يحمدونه

__________________

(١) قرأ نافع قليلا ما يتذكرون بالياء وقرأ حفص (تَتَذَكَّرُونَ) بالتاء ولكل وجه بلا غي وكأن تذكرهم قليلا لعدم علمهم فهم كالأموات لجهلهم فهم لا يتذكرون وإن تذكروا قليلا ينقطعون فلا يحصل المراد من التذكر.

(٢) المراد بالساعة ساعة البعث والقيام من القبور. إنه بعد ذكر الأدلة المقررة للبعث كان هذا إعلانا عن تحقق مجيئها وتأكيد الخبر بإن ولام الابتداء لزيادة التحقيق والمراد تحقق وقوعها لا الإخبار عن وقوعها.

(٣) روى الترمذي عن النعمان بن بشير وصححه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الدعاء هو العبادة. ثم قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله.

(٤) (جَعَلَ) إن كانت بمعنى خلق تعدت إلى مفعول واحد كما هي هنا وإن كانت بمعنى صير تنصب مفعولين نحو جعلت الثوب سروالا.

٥٤٦

بألسنتهم ولا يطيعونه بجوارحهم ، وذلك لاستيلاء الشيطان والغفلة عليهم ثم واصل تعريف نفسه لهم ليؤمنوا به بعد معرفته ويكفروا بالآلهة العمياء الصماء التي هم عاكفون عليها صباح مساء فقال جل من قائل : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) (١) الذي عرفكم بنفسه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو. وقوله : (فَأَنَّى) (٢) (تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم والمنعم عليكم ، إلى أوثان وأصنام لا تنفعكم ولا تضركم. فسبحان الله كيف تؤفكون (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي كانصرافكم أنتم عن الإيمان والتوحيد مع وفرة الأدلة وقوة الحجج يصرف أيضا الذين كانوا بآيات الله يجحدون في كل زمان ومكان لأن الآيات الإلهية حجج وبراهين فالمكذب بها سيكذب بكل شيء حتى بنفسه والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة وهي أن الضّدين لا يجتمعان فالكفر والإيمان ، والاحسان والإساءة والعمى والبصر والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة ولا تنبغي.

٢ ـ قرب الساعة مع تحتم مجيئها والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جدا.

٣ ـ فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع (٣) نعله. وللدعاء المستجاب شروط منها : أن يكون القلب متعلقا بالله معرضا عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم ، ولا يعتدي في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يري الجنة يقظة أو أن يعود شابا وهو شيخ كبيرا أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج.

٤ ـ الدعاء (٤) هو العبادة ولذا من دعا غير الله فقد أشرك بالله.

٥ ـ بيان إنعام الله وإفضاله والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.

__________________

(١) الإشارة إلى اسم الجلالة في قوله (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) الخ.

(٢) (فَأَنَّى) اسم استفهام عن الكيفية وأصله استفهام عن المكان ثم نقل إلى الحالة.

(٣) تقدم تخريجه وأنه من سنن الترمذي وأنه صحيح الإسناد وشسع النعل : زمام للنعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها يضرب به المثل في الفاقة يقال لا يملك شسع نعل.

(٤) روي بإسناد لا بأس به من لم يسأل الله يغضب عليه ومن لم يدع الله غضب عليه أيضا حسنهما ابن كثير في تفسيره.

٥٤٧

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

شرح الكلمات :

(قَراراً) : أي قارة بكم لا تتحرك فيفسد ما عليها من إنشاء وتعمير.

(بِناءً) : أي محكمة إحكام البناء فلا تسقط عليكم ولا يسقط منها شيء يؤذيكم.

(وَصَوَّرَكُمْ) : أي في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم.

(مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي الحلال المستلذ غير المستقذر وهي كثيرة.

(فَتَبارَكَ اللهُ) : أي تعاظم وكثرت بركاته.

(فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أي أعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا في عباداته دعاء كان أو غيره.

٥٤٨

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) : أي نهاني ربي أن أعبد الأوثان التي تعبدون.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي وأمرني ربي أن أسلم له وجهي وأخلص له عملي.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم من علقة.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) : أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم.

(وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) : أي فعل ذلك بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان.

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) (١) : أي يخلق الإنسان وقد كان عدما ، ويميته عند نهاية أجله.

(فَإِذا قَضى أَمْراً) : أي حكم بوجوده.

(فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : أي فهو لا يحتاج إلى وسائط وإنما هي الإرادة فقط فإذا أراد شيئا قال له كن فهو يكون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تعريف العباد بربهم سبحانه وتعالى حتى يؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه إذ كمالهم وسعادتهم في الدارين متوقفان على ذلك قال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي (٢) قارة في مكانها ثابتة في مركز دائرتها لا تتحرك بكم ولا تتحول عليكم فتضطرب حياتكم فتهلكوا ، وجعل السماء بناء محكما وسقفا محفوظا من التصدع والانفطار والسقوط كلّا أو بعضا ، وصوركم في أرحام أمهاتكم (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (٣) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) التي خلقها لكم وهي كل ما لذ وطاب من حلال الطعام والشراب واللباس والمراكب ذلكم الفاعل

__________________

(١) في قوله (يُحْيِي وَيُمِيتُ) المحسن البديعى المسمى بالطباق.

(٢) القرار مصدر قر إذا سكن وهو هنا من صفات الأرض لأنه خبر عن الأرض والمعنى أنه جعلها قارة «ساكنة» غير مائدة ولا مضطربة إذ لو لم تكن قارة لكان الناس في عناء شديد من اضطرابها وتزلزلها ، وقد يفضي ذلك بأكثر الناس إلى الهلاك وهذا في معنى قوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته أن تدور الأرض في فلكها دورة منتظمة بدقة فائقة فلا تخرج عن مدارها مقدار شبر بل إصبع فسكنت وقرت وهي متحركة فسبحان الله العلي العظيم.

(٣) (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) الفاء للعطف والتعقيب ورزقكم فهاتان نعمتان عظيمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.

٥٤٩

لكل ذلك الله ربكم الذي لا رب لكم سواه ولا معبود بحق لكم غيره. (فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالق الانس والجن ومالكهما والمدبر لأمرهما ، هو الحي الذي لا يموت والانس والجن يموتون لا إله أي لا معبود للعالمين (إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحدا قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) أي حامدين له بذلك ، هذا ما تضمنته الآيتان (٦٤ ، ٦٥) وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا نبينا لقومك إني نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر وذلك لما (٢) جاءني البينات من ربي وهي الحجج والبراهين على بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادته سبحانه وتعالى ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرني ربي أن أسلم له فأنقاد وأخضع لأمره ونهيه وأطرح بين يديه وأفوض أمري إليه وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) نظرا إلى أصلهم وهو آدم ، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد ، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم ، ثم لتكونوا شيوخا بتجاوزكم (٣) الستين. ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم ، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفوا أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه.

وقوله (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) يحيي النطف الميتة فإذا هي بعد أطوارها بشرا أحياء ويميت الأحياء عند نهاية آجالهم وهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون ومن أعظم مظاهر قدرته أنه يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ولا يتخلف أبدا هذا هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين وجبت محبته وطاعته ولزمت معرفته إذ بها يحبّ ويعبد ويطاع.

__________________

(١) إنشاء الثناء على الله تعالى بعد ذكر موجبات ذلك من نعمة الإيجاد والإمداد والهداية إلى الدين الحق بعبادة الله وحده كما هي السنة في تعقيب الحمد والثناء على الله تعالى بعد كل نعمة ينعم بها على عباده.

(٢) لما هذه يقال فيها التوقيتية أي حصل نهي عن عبادة غير ربي في الوقت الذي جاءتني البينات وفي الآية تعريض بالمشركين إذ لم ينتهوا عن عبادة غير الله وقد جاءتهم البينات من ربهم.

(٣) سن الشيخوخة هو ما بين الخمسين إلى الثمانين.

٥٥٠

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد والإرزاق والإحياء والإماتة وكلها معرفة به تعالى وموجبة له العبادة والمحبة والإنابة والرغبة والرهبة ونافية لها عما سواه من سائر خلقه.

٢ ـ تقرير التوحيد ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

٣ ـ بيان خلق الإنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

شرح الكلمات :

(يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) : أي في القرآن وما حواه من حجج وبراهين دالة على الحق هادية إليه.

(أَنَّى يُصْرَفُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق مع وضوح الأدلة وقوة البراهين.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) : أي بالقرآن

٥٥١

(وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) : من وجوب الاسلام لله بعبادته وحده وطاعته في أمره ونهيه والإيمان بلقائه.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي عقوبة تكذيبهم.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) : أي وقت وجود الأغلال في أعناقهم يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم.

(ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) : أي يوقدون.

ثم يقال لهم أين ما كنتم : أي يسألون هذا السؤال تبكيتا لهم وخزيا.

(تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي تعبدونهم مع الله.

(قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) : أي غابوا عنا فلم نرهم.

(بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) : أي انكروا عبادة الأصنام ، أو لم يعتبروا عبادتها شيئا وهو كذلك.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) : أي مثل اضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين.

(بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي بالشرك والمعاصي.

(وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) : أي بالتوسع في الفرح ، لأن المرح شدة الفرح.

(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) : أي دخول جهنم والخلود فيها بئس ذلك مأوى للمتكبرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالبعث والجزاء ، وتقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) أي يا محمد (إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي (١) آياتِ اللهِ) القرآنية لإبطالها وصرف الناس عن قبولها أو حملهم على إنكارها وتكذيبها والتكذيب بها وهذا تعجيب من حالهم. وقوله تعالى : (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته. وقوله (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) الذي هو القرآن (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من التوحيد والإيمان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة تكذيبهم وقت ما تكون (الْأَغْلالُ (٢) فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) في أرجلهم يسحبون أي تسحبهم الزبانية (فِي الْحَمِيمِ)

__________________

(١) وقيل هذه الآية نزلت في القدرية نفاة القدر وقيل في المشركين والعبرة بعموم اللفظ فهي عامة في المشركين والمكذبين المجادلين في آيات الله وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصرفها عن مراد الله إحقاقا لباطلهم وإثباتا لمذهبهم الفاسد.

(٢) (الْأَغْلالُ) جمع غل بضم الغين : حلقة من قد «جلد» أو حديد محيط بالعنق. سئل ابن عرفة هل يجوز أن يقاد اليوم الأسير والجاني بالغل في عنقه؟ قال لا يجوز وإنما يقاد الجاني من يده لنهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإحراق بالنار وقال إنما يعذب بالنار رب النار.

٥٥٢

هو ماء حار تناهى في الحرارة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (١) أي توقد بهم النار كما توقد بالحطب ، هذا عذاب جسماني ووراءه عذاب روحاني إذ تقول لهم الملائكة توبيخا وتبكيتا وتأنيبا وتقريعا : (أَيْنَ (٢) ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أي أين أوثانكم التي كنتم تعبدونها مع الله؟ فيقولون : ضلوا عنا أي غابوا فلم نرهم ، بل ما كنا ندعو من قبل شيئا هذا إنكار منهم حملهم عليه الخوف أو هو بحسب الواقع أنهم ما كانوا يعبدون شيئا إذ عبادة الأصنام ليست شيئا لبطلانها.

وقوله (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ (٣) فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي حل بكم هذا العذاب بسبب فرحكم بالباطل من شرك وتكذيب وفسق وفجور ، في الدنيا ، وبسبب مرحكم أيضا وهو أشد الفرح وأخيرا يقال لهم (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) بابا بعد باب وهي أبواب الدركات (خالِدِينَ (٤) فِيها) لا تموتون ولا تخرجون (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ساء وقبح مثواكم في جهنم من مثوى أي مأوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التعجيب من حال المكذبين بآيات الله المجادلين فيها كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح أدلته وقوة براهينه.

٢ ـ إبراز صورة واضحة للمكذبين بالآيات المجادلين لإبطال الحق وهم في جهنم يقاسون العذاب بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.

٣ ـ ذم الفرح بغير فضل الله ورحمته ، وذم المرح وهو أشد الفرح.

٤ ـ ذم التكبر وسوء عاقبة المتكبرين الذين يمنعهم الكبر من الاعتراف بالحق ويحملهم على احتقار الناس وازدراء الضعفاء منهم.

__________________

(١) قال مجاهد يطرحون في النار فيكونون وقودا لها : يقال سجرت التنور أي أوقدته وسجرته ملأته ايضا ومنه والبحر المسجور أي المملوء. وشاهد آخر في قوله تعالى (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ).

(٢) الاستفهام بأين يكون عن المكان وأريد به هنا التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف.

(٣) (ما) مصدرية في الموضعين والتقدير أي ذلكم العذاب الذي وقعتم فيه مسبب على فرحكم ومرحكم الذين كانا لكم في الدنيا إذ الأرض المراد بها الدنيا.

(٤) (خالِدِينَ) حال مقدرة أي مقدر خلودكم فيها و (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) متفرع على الخلود والمخصوص بالذم محذوف تقديره جهنم.

٥٥٣

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

شرح الكلمات :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي فاصبر يا رسولنا على دعوتهم متحملا أذاهم فإن وعد ربك بنصرك حق.

(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب في حياتك.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) : أي ذكرنا لك قصصهم وأخبارهم وهم خمسة وعشرون.

(أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي لأنهم عبيد مربوبون لا يفعلون إلا ما يأذن لهم به سيدهم.

(وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) : أي هلك أهل الباطل بعذاب الله فخسروا كل شيء.

(جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) : أي الإبل وإن كان لفظ الأنعام يشمل البقر والغنم أيضا.

(وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) : أي من اللبن والنسل والوبر.

(وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) : أي حمل الأثقال وحمل أنفسكم من بلد إلى بلد ، لأنها كسفن البحر.

٥٥٤

(فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) : أي فأي آية من تلك الآيات تنكرون فإنها لظهورها لا تقبل الانكار.

معنى الآيات :

بعد تلك الدعوة الإلهية للمشركين إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء والتي تلوّن فيها الأسلوب وتنوعت فيها العبارات والمعاني ، والمشركون يزدادون عتوا قال تعالى لرسوله آمرا إياه بالصبر (١) على الاستمرار على دعوته متحملا الأذى في سبيلها (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فيخبره بأن ما وعده به ربّه حق وهو نصره عليهم وإظهار دعوة الحق ولو كره المشركون. وقوله (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ (٢) بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي من العذاب الدنيوي (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) فنعذبهم بأشد أنواع العذاب في جهنم ، وننعم عليك بجوارنا في دار الإنعام والتكريم أنت والمؤمنون معك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٧) وقوله تعالى في الآية الثانية (٧٨) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) يخبر تعالى رسوله مؤكدا له الخبر مسليا له حاملا له على الصبر بأنه أرسل من قبله رسلا كثيرين منهم من قص خبرهم عليه ومنهم من لم يقصص (٣) وهم كثير وذلك بحسب الفائدة من القصص وعدمها وأنه لم يكن لأحدهم أن يأتي بآية كما طالب بذلك قومه ، والمراد من الآية المعجزة الخارقة للعادة ، إلا بإذن الله ، إذ هو الوهاب لما يشاء لمن يشاء ، فإذا جاء أمر الله بإهلاك المطالبين بالآيات تحديا وعنادا ومكابرة قضى بالحق أي حكم الله تعالى بين الرسول وقومه المكذبين له المطالبين بالعذاب تحديا ، فنجىّ رسوله والمؤمنين وخسر هنالك المبطلون من أهل الشرك والتكذيب.

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٧٩) (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ) يعرفهم تعالى بنفسه مقررا ربوبيته الموجبة لألوهيته فيقول الله أي المعبود بحق هو الذي جعل لكم الأنعام على وضعها الحالي الذي ترون (لِتَرْكَبُوا (٤) مِنْها) وهي الإبل ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ومن بعضها تأكلون كالبقر والغنم ولا تركبون ، ولكن (فِيها مَنافِعُ) وهي الدّرّ والوبر والصوف والشعر والجلود (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي

__________________

(١) أمره تعالى رسوله بالصبر في الآية هو تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أخبره أنه ينتقم له من أعدائه في حياته أو في الآخرة وهذا كان لاستبطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين النصر.

(٢) فأما أصلها فإن حرف شرط قرنت بما الزائدة للتأكيد ولذا ألحقت نون التوكيد بفعل الشرط وعطف عليه أو نتوفينك وهو فعل شرط ثان.

(٣) قال ابن كثير وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف وهو كذلك إذ لم يذكر في القرآن إلا خمسة وعشرون نبيا ورسولا.

(٤) اللام متعلقة بجعل لكم الأنعام ومن في الموضعين للتبعيض أي تركبون من بعضها وتأكلون من بعضها.

٥٥٥

(صُدُورِكُمْ) وهي حمل أثقالكم والوصول بها إلى أماكن بعيدة لا يتأتى لكم الوصول إليها بدون الإبل سفائن البر ، وقوله وعليها أي على الإبل وعلى الفلك «السفن» تحملون أي يحملكم الله تعالى حسب تسخيرها لكم.

وأخيرا يقول تعالى بعد عرض هذه الآيات القرآنية والكونية يقول لكم (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في أنفسكم وفي الآفاق حولكم (فَأَيَّ آياتِ (١) اللهِ تُنْكِرُونَ) وكلها واضحة في غاية الظهور والبيان والاستفهام للإنكار عليهم علّهم يرعوون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الصبر على دعوة الحق والعمل في ذلك إلى أن يحكم الله تعالى.

٢ ـ الآيات لا تعطي لأحد إلا بإذن الله تعالى إذ هو المعطي لها فهي تابعة لمشيئته.

٣ ـ من الرسل من لم يقصص الله تعالى أخبارهم ، ومنهم من قص وهم خمسة (٢) وعشرون نبيا ورسولا. وعدم القص لأخبارهم لا ينافي بيان عددهم إجمالا لحديث أبي ذر في مسند أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشرة جما غفيرا.

٤ ـ ذكر منّة الله على الناس في جعل الأنعام صالحة للانتفاع بها أكلا وركوبا لبعضها لعلهم يشكرون بالإيمان والطاعة والتوحيد.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ

__________________

(١) اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركة في ما يضاف إليه أي وهو مستعمل هنا في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فأفاد أن جميع الآيات صالحة للدلالة على وجود الله ووحدانيته في ألوهيته.

(٢) جمع بعضهم من ذكروا في القرآن من الآيات الآتية فقال

حتم على كل ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التفصيل قد علموا

في تلك حجتنا منهم ثمانية

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

الرسل المجمع على أنهم رسل خمسة عشر وهم : نوح ، ابراهيم ، لوط ، إسماعيل ، إسحاق ، يعقوب ، يوسف ، هود ، صالح ، شعيب ، موسى ، هارون ، عيسى يونس ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمختلف في رسالتهم بعد الإجماع على نبوتهم باقي الخمسة والعشرين واختلف في نبوة لقمان وذي القرنين والخضر ومريم عليهم‌السلام.

٥٥٦

(٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

شرح الكلمات :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض شمالا وجنوبا وغربا.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي عاقبة المكذبين من قبلهم قوم عاد وثمود وأصحاب مدين.

(وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : أي وأكثر تأثيرا في الأرض من حيث الإنشاء والتعمير.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي لم يمنع العذاب عنهم كسبهم الطائل وقوتهم المادية

(فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) : أي عذابنا الشديد النازل بهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية قريش بما يذكرهم به وما يعرض عليهم من صور حية لمن كذب ولمن آمن لعلهم يهتدون قال تعالى (أَفَلَمْ (١) يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أرض الجزيرة شمالا ليروا آثار ثمود في مدائنها وجنوبا ليروا آثار عاد ، وغربا ليرو آثار أصحاب الأيكة قوم شعيب والمؤتفكات قرى قوم لوط : فينظروا نظر تفكر واعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض من مصانع وقصور وحدائق وجنات فما أغنى عنهم لما جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من مال ورجال وقوة مادية.

__________________

(١) الفاء للتفريع وهمزة الاستفهام داخلة على محذوف أي أعجزوا فلم يسيروا والاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم النظر في آثار الهالكين ليحصلوا على العبرة المطلوبة لهم ليؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب.

٥٥٧

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨٢) أما الآية الثانية (٨٣) فهي قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة والرسالة (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ) (١) (مِنَ الْعِلْمِ) المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحا ومرحا ، (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم ، فلما رأوا عذاب الله الشديد وقد حاق بهم أعلنوا عن توبتهم (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي قالوا لا إله إلا الله. قال تعالى (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي شديد عذابنا (سُنَّتَ) (٢) (اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) وأخبر تعالى أن هذه سنة من سننه في خلقه وهي أن الايمان لا ينفع عند معاينة العذاب إذ لو كان يقبل الإيمان عند رؤية العذاب وحلوله لما كفر كافر ولما دخل النار أحد. وقول (وَخَسِرَ (٣) هُنالِكَ) أي عند رؤية العذاب وحلوله (الْكافِرُونَ) أي المكذبون المستهزئون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية السير في البلاد للعظة والاعتبار تقوية للإيمان.

٢ ـ القوى المادية لا تغني عن أصحابها شيئا إذا أرادهم الله بسوء.

٣ ـ بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئا عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) قال القرطبي فرحوا بما عندهم من العلم في معناه ثلاثة أقوال قال مجاهد إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا نحن أعلم منهم ولن نعذب ولن نبعث ، وقيل فرحوا بما عندهم من علم الدنيا نحو يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وقيل الذين فرحوا الرسل بما عندهم من العلم بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.

(٢) سنة مصدر سنّ يسن سنا وسنه أي سن الله عزوجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب وجائز أن يكون سنة منصوب والإغراء والتحذير أي احذروا أيها المشركون سنة الله.

(٣) (خَسِرَ هُنالِكَ) هذه الجملة كالفذلكة لقوله فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وهنالك اسم إشارة إلى مكان استعير للإشارة إلى الزمان أي خسروا وقت رؤيتهم بأسنا.

٥٥٨

سورة فصّلت (١)

مكية

وآياتها أربع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم ، ويقرأ هكذا حا ميم.

(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : أي من الله إذ هو الرحمن الرحيم.

(فُصِّلَتْ آياتُهُ) : أي بينت آياته غاية البيان بلسان عربي لقوم يعلمون إذ هم الذين ينتفعون.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : أي مبشرا أهل الإيمان والعمل الصالح بالفوز ، ومنذرا المكذبين الكافرين بالخسران.

(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : أي أعرض عن سماع القرآن أكثر مشركي مكة وكفار قريش.

(فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) : أي سماع تعقل وتدبر لينتفعوا بما يسمعون.

(فِي أَكِنَّةٍ) : أي أغطية جمع كنان : ما فيه يكن الشيء ويستر.

__________________

(١) وتسمى سورة حم السجدة وتسمى سورة المصابيح وسورة الأموات لذكر المصابيح والأموات والسجدة وفصلت فيها.

٥٥٩

(وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) : أي ثقل فلم نطق السمع.

(وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) : أي مانع وفاصل بيننا فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تفعل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (حم) هذا أحد الحروف المقطعة وتفسيره أن يقال فيه وفي أمثاله من الحروف المقطعة الله أعلم بمراده به. وقد ذكرنا ما أثرنا عن أهل العلم فائدتين هامتين لمثل هذه الحروف المقطعة في أول سورة غافر ، وفي العديد من السور المفتتحة بهذه الحروف فليرجع إليها ولتعرف وتحفظ وقوله (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١) أي هو منزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس كما يقول المبطلون. وقوله (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب فخم جليل القدر فصلت آيته أي بينت حال كون ذلك التفصيل (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢) لسان العرب ويفهمون معاني الكلام وأسراره. وقوله (بَشِيراً وَنَذِيراً) وحال كونه أيضا بشيرا لأهل الإيمان وصالح الأعمال بالفوز بالجنة والنجاة من النار؟ ونذيرا للمشركين المكذبين من عذاب النار ، وقوله تعالى : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ (٣) فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) يخبر تعالى أنه مع بيان الكتاب ووضوح ما جاء به ودعا إليه من التوحيد والخير أعرض أكثر كفار قريش عنه ولم يلتفتوا إليه فهم لا يسمعونه ولا يريدون سماعه بحال ، (وَقالُوا) معتذرين بأقبح الأعذار : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي أغطية تسترها من أجل أن لا نفهم ما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء المقتضي لمتابعتك والسير وراءك ، وفي آذاننا وقر أي ثقل فلا تقوى على سماع ما تقول (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٤) ساتر وحائل لنا عنك فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تعمل فاتركنا كما تركناك ، واعمل (٥) على نصرة دينك فإننا عاملون كذلك على نصرة ديننا والحفاظ على معتقداتنا وهذه نهاية المفاصلة التي أبدتها قريش للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) (تَنْزِيلٌ) مبتدأ وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم كأن قيل تنزيل عظيم و (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الخبر و (كِتابٌ) بدل من (تَنْزِيلٌ) و (فُصِّلَتْ) صفة لكتاب.

(٢) في إعراب (قُرْآناً) عدة وجوه أظهرها أن النصب على الحال وجائز أن يكون على الاختصاص بالمدح.

(٣) فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدي فلم يهتدوا ومن البشارة فلم يعنوا بها ومن النذارة فلم يحذروها فكانوا في أشد الحماقة إذ لم يعنوا بالخير ولم يحذروا الشر فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم.

(٤) روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا فقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.

(٥) وقيل اعمل على هلاكنا فإنا عاملون على هلاكك وقيل غير هذا وما في التفسير أولى.

٥٦٠