أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وقوله تعالى : (وَأَنِيبُوا) (١) (إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (٢) أي أيها المذنبون المسرفون أنيبوا إلى ربكم أي ارجعوا إلى طاعته بفعل المأمور وترك المنهي وأسلموا له أي أخلصوا أعمالكم ظاهرا وباطنا له مبادرين بذلك حلول العذاب قبل أن يحل بكم ثم لا تنصرون أي لا تقدرون على منعه منكم ولا دفعه عنكم.

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) في هذا القرآن العظيم فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي وخذوا بالعزائم واتركوا الرخص مبادرين بذلك أيضا حلول العذاب قبل أن يحل بكم بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به ،

بادروا بالتوبة والإنابة والإسلام الصادق ظرفا تقول فيه النفس (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي يا حسرتى (٣) يا ندامتى الحاملة لي الغم والحزن احضري هذا وقت حضورك على تفريطي في جانب (٤) حق الله تعالى حيث ما عبدته حق عبادته فلا ذكرته ولا شكرت له (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين بدينه وعباده المؤمنين يا له من اعتراف يودي بصاحبه في سواء الجحيم ، بادروا يا عباد الله هذا وذاك (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي (٥) لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي (٦) كَرَّةً) أي رجعة إلى الحياة الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي المؤمنين الذين أحسنوا النية والقصد والعمل. قال تعالى : رادا على تمنياتهم الكاذبة (بَلى) أي ليس الأمر كما زعمت أيها المتمني بقولك (لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) للشرك والمعاصي التي وقعت بها في جهنم بل جاءتك آياتي هادية لك مرشدة فكذبت بها واستكبرت عن العمل بما جاء فيها وكنت من الكافرين بذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه.

٢ ـ دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين ـ بالانابة إليه والإسلام الخالص له.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجرى في ساحته من أهوال.

__________________

(١) الإنابة التوبة ولما في التوبة من معنى الرجوع عدي الفعل بإلى.

(٢) النصر : الإعانة على الغلبة بحيث يتخلص المغلوب من يد غالبه ولا نصير لأحد على الله تعالى.

(٣) الحسرة : الندامة الشديدة والألف في (يا حَسْرَتى) عوض عن ياء المتكلم.

(٤) قال الحسن في طاعة الله وقال الضحاك في ذكر الله يعني القرآن والعمل به ، وقال أبو عبيدة أي في ثواب الله وما في التفسير جامع شامل والجنب والجانب بمعنى واحد.

(٥) هذه كلمة حق أريد بها باطل كما قال علي للخوارج لما قالوا لا حكم إلا لله.

(٦) الكرة : الرجعة ولو للتمني فهي وليت سواء.

٥٠١

٤ ـ وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قيل حلول العذاب في الدنيا أو الموت والموت أدهى وأمر حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبدا.

٥ ـ الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة.

٦ ـ إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب ، كقول أحدهم لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا.

٧ ـ فضل التقوى والإحسان وفضل المتقين والمحسنين.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي بأن يبعث الناس من قبورهم.

(تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) : أي باتخاذ أولياء من دونه وبالقول الكاذب عليه سبحانه وتعالى.

٥٠٢

(وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) : أي سوداء من الكرب والحزن وعلامة على أنهم من أهل النار وأنهم ممن كذبوا على ربهم.

(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) : أي أليس في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين؟ بلى إن لهم فيها لمثوى بئس هو من مثوى للمتكبرين عن عبادة الله تعالى.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي ينجيهم من النار بسبب تقواهم للشرك والمعاصي.

(بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : أي بفوزهم بالجنة ونزولهم فيها لا يمسهم السوء أي العذاب ولا هم يحزنون لما نالهم من النعيم.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي مفاتيح خزائن السموات والأرض.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي الخاسرون لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) : قل يا رسولنا للذين طلبوا منك أن تعبد معهم آلهتهم أتأمروني بعبادة غير الله ، فهل تصلح العبادة لغيره وهو رب كل شيء وإلهه فما أسوأ فهمكم أيها الجاهلون.

(لَئِنْ أَشْرَكْتَ) : أي من باب الفرض لو أشركت بالله غيره في عبادته لحبط عملك ولكنت من الخاسرين.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) : أي بل أعبد الله وحده ، إذ لا يستحق العبادة إلّا هو وكن من الشاكرين له على إنعامه عليك بالنبوة والرسالة والعصمة والهداية.

معنى الآيات :

لقد تقدم في السياق الأمر بتعجيل التوبة قبل الموت فيحصل الفوت ، وذلك لأن يوم القيامة يوم أهوال وتغير أحوال وفي الآيتين الآتيتين بيان ذلك قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) (١) بأن نسبوا إليه الولد والشريك والتحليل والتحريم وهو من ذلك براء هؤلاء (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (٢) علامة أنهم كفروا وكذبوا وأنهم من أهل النار.

__________________

(١) هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه كالشريك والصاحبة والولد ، ويدخل في هذا كل من نسب إلى الله تعالى صفة لا دليل له فيها ، وكذا من شرع شيئا ونسبه إلى الله تعالى ليقبل منه ويروج ، ولا يدخل أهل الاجتهاد إذا اخطأوا في الأدلة والحكم المقيس الذي لا نص فيه ولا يجوز أن يقال فيه قال الله أو أمر أو شرع تحاشيا من النسبة إلى الله تعالى بغير نص من كتاب أو سنة.

(٢) جملة (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال ، لأن الرؤيا بصرية وليست قلبية.

٥٠٣

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ (١) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٢) أي بلى في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين الذين تكبروا عن الإيمان والعبادة. وقوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ) أي تلك حال وهذه أخرى وهي أن الله تعالى ينجي يوم القيامة الذين اتقوا الشرك والمعاصي بالإيمان والطاعة هؤلاء بفوزهم بالجنة لا يمسّهم السوء في عرصات القيامة ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم في الدنيا لأن ما نالهم من نعيم الجنة أنساهم ما تركوا وراءهم وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما من كائن سوى الله تعالى إلا وهو مخلوق والله خالقه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قيم حافظ ، فسبحانه ما أعظم قدرته وما أوسع علمه فلذا وجبت له العبادة ولم تجز فضلا عن أن تجب لسواه.

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) أي له ملكا حقا مفاتيح خزائن الرحمات والخيرات والبركات فهو يفتح ما يشاء ويمسك ما يشاء فلا يصح الطلب إلا منه ولا تجوز الرغبة إلا فيه وما عبد الناس الأوثان والأصنام إلا رغبة ورهبة فلو علموا أن رهبتهم لا تكون إلا من الذي يقدر على كل شيء وأن رغبتهم لا تكون إلا في الذي بيده كل شيء لو علموا هذا ما عبدوا غير الله تعالى بحال.

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) الحاوية لإيمانه وصفاته وبيان محابه ومكارهه وحدوده وشرائعه ولذا من كفر بآيات الله فلم يؤمن بها ولم يعمل بما فيها خسر خسرانا مبينا بحيث يخسر يوم القيامة نفسه وأهله ، وذلك هو الخسران المبين.

وقوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ) الآية هذا ردّ على المشركين الذين طلبوا من الرسول أن يعترف بآلهتهم ويرضى بها مقابل أن يعترفوا له بما جاء به ويدعو إليه فأمر تعالى أن يفاصلهم بقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ (٤) تَأْمُرُونِّي (٥) أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) لن يكون هذا مني أبدا كيف أعبد غير الله وهو

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا والاستفهام للتقرير.

(٢) التكبر شدة الكبر وهو إظهار المرء التعاظم علي غيره لأنه يعد نفسه عظيما وفي التنديد به من حديث مسلم «إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر».

(٣) المقاليد جمع إقليد وجمع على غير قياس والمراد مفاتيح خزائن السماء والأرض حيث أرزاق العباد وما به تقوم حياتهم ، من أمطار وزروع وضروع ومعادن وغيرها.

(٤) غير منصوب بأعبد ، وأعبد مرفوع لحذف أن مع حرف الجر إذ الأصل بأن أعبد فلما حذف الناصب ارتفع الفعل. هذا على رأي كثير من النحاة والجمهور يقولون لا حذف وأعبد هو المستفهم عنه ، وتأمروني اعتراض أو حال وتقدير الكلام أأعبد غير الله لكونكم تأمروني بذلك.

(٥) قرأ نافع تأمرون بنون واحدة مخففة بحذف إحدى النونين ، وقرأ حفص والجمهور (تَأْمُرُونِّي) بتشديد النون إدغاما لإحدى النونين في الأخرى وفي جملة أيها الجاهلون تقريع لهم ووصف لهم بالجهل وهو وصف مذموم.

٥٠٤

ربي ومالك أمري وهو الذي كرمني بالعلم به وأوحى إليّ شرائعه. فلتيأسوا فإن مثل هذا لن يكون أبدا ، ووصفهم بالجهل لأن جهلهم (١) بالله وعظمته هو الذي سول لهم عبادة غيره والتعصب لها.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي أوحى الله إليك كما أوحى إلى الأنبياء من قبلك بالتالي وهو وعزة الله وجلاله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) بنا غير نافي عبادتنا ليحبطن (٢) عملك أي يبطل كله ولا تثاب على شيء منه وإن قل ، ولتكونن بعد ذلك من جملة الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. ثم أمر تعالى رسوله مقررا التوحيد مبطلا الشرك بقوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ (٣) وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي الله وحده فاعبده وكن من الشاكرين له على إنعامه وأفضاله عليك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم.

٢ ـ ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإيمان (٤) والخلود في الجنة.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه.

٤ ـ بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره أبدا ، ومن طلب شيئا من غير الله فهو من أجهل الخلق.

٥ ـ التنديد بالشرك وبيان خطورته إذ هو محبط للأعمال بالكلية.

٦ ـ وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ووجوب حمده وشكره إذ كل إنعام منه وكل إفضال له. فلله الحمد والمنة.

__________________

(١) العرب مع انهم أميون يعترفون بفضل العالم على الجاهل قال شاعرهم :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليس سواء عالم وجهول

(٢) حبوط العمل بطلانه حيث لا يثاب عليه والخسران مقيد بأن يموت على الردة أما إن راجع الإسلام فلا يخسر لآية (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) فالآية مقيدة لإطلاق آية الزمر.

(٣) (بَلِ) للإبطال أي إبطال عبادة ما دعاه إليه المشركون وقصره على عبادة الله وحده وأمره أن يكون في جملة الشاكرين لله إنعامه عليهم بنعمة الإسلام.

(٤) شاهده آية آل عمران (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الآية.

٥٠٥

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

شرح الكلمات :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) : أي والأرض بجميع أجزائها قبضته.

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) : أي والسموات السبع مطويات بيمينه.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) : أي نفخ اسرافيل نفخة الصعق.

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) : أي مرة أخرى وهي نفخة القيام لرب العالمين.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) : أي أضاءت الأرض بنور الله تعالى حين يتجلى لفصل القضاء.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : أي كتاب الأعمال للحساب.

(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) : أي بالنبيين ليشهدوا على أممهم ، والشهداء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) : أي بالعدل وهم لا يظلمون لا بنقص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم.

(وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) : أي أعلم حتى من العالمين أنفسهم.

٥٠٦

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١) إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعيا على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك ، وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً (٢) قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (٣) فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده ، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان. ولذا نزه تعالى نفسه بقوله (سُبْحانَهُ) أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين ، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه.

وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٤) الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلا وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى ، والنافخ في الصور أي البوق اسرافيل قطعا إذ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من (٥) في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فهذا استثناء دال على أن بعضا من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة ، (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ) أي في الصور نفخة (أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) (٦) أي كتاب الأعمال للحساب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة

__________________

(١) (حَقَّ قَدْرِهِ) فيه إضافة الصفة إلى الموصوف فحق صفة ، والقدر موصوف إذ الأصل (ما قدروا الله قدره الحق) فالحق منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.

(٢) جرد جميع من التاء إذ لم يقل والأرض جميعة جريا على الغالب وقد أثبتت في قول الشاعر :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا

ونصب جميعا على الحال.

(٣) شاهده في البخاري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض»؟ وفي الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) قالت قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على جسر جهنم ، وفي رواية على الصراط يا عائشة».

(٤) الصور البوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، والمراد هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحياء للحساب والجزاء.

(٥) بالتتبع للآيات القرآنية المتضمنة لأحوال الدار الآخرة نجد أن النفخات للصور أربع نفخات : وهي نفخة الفناء ، ونفخة البعث ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين. وفي هذه الآيات ذكر نفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين سميت هذه نفخة صعق لأن الخلائق يصعقون ولا يموتون بدليل حديث البخاري «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى» لفظ مسلم. قال القرطبي والإفاقة إنما تكون من غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة والله أعلم.

(٦) (الْكِتابُ) اسم جنس والمراد صحائف أعمال العباد الحاوي للحسنات والسيئات.

٥٠٧

محمد يشهدون على الأمم السابقة بأن رسلها قد بلغتهم دعوة الله ، وشهادة أمة محمد قائمة على ما أخبرهم تعالى في كتابه القرآن الكريم أن الرسل قد بلغت رسالات ربها لأممها ، ويدل لهذا قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدولا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). وقوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وحكم الله تعالى بين العباد بالعدل ، ووفي كل نفس ما عملت من خير أو شر ، وهو تعالى أعلم بما يفعلون حتى من العاملين أنفسهم ولذا سيكون الحساب عادلا لا حيف فيه لخلوه من الخطأ والغلط والجهل والنسيان لتنزه البارىء عزوجل عن ذلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عزوجل في عباداته.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء بيان أحواله وما يجرى.

٣ ـ بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة.

٤ ـ فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ

٥٠٨

نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

شرح الكلمات :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي وساق الملائكة بعنف الذين كفروا.

(إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) : أي جماعات ، جماعة المشركين ، وجماعة المجرمين وجماعة الظالمين.

(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) : أي الموكلون بالنار من الملائكة الواحد خازن.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ) : هذا الاستفهام للتقرير والتوبيخ.

(حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : أي وجب العذاب للكافرين.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي وساقت الملائكة بلطف على النجائب الذين اتقوا ربهم أي أطاعوه ولم يشركوا به.

(وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) : أي والحال أن أبواب الجنة قد فتحت لاستقبالهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) : أي أنجز لنا وعده بالجنة.

(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) : أي أرض الجنة وصورة الإرث نظرا إلى قوله تعالى في وعده لهم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (١)

(نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) : أي ننزل من حيث نشاء.

(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) : أي الجنة.

(حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) : أي محدقين بالعرش من كل جانب.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي يقولون سبحان الله وبحمده.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) : أي وقضي الله بمعنى حكم بين جميع الخلائق بالعدل.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي وقالت الملائكة والمؤمنون الحمد لله رب العالمين على استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.

__________________

(١) وجه الورث ان الله تعالى خلق لكل انسان منزلا في النار وآخر في الجنة ثم هم يتوارثون فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار في الجنة وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة في النار.

٥٠٩

معنى الآيات :

بعد الفراغ من الحكم على أهل الموقف وذلك بأن حكم تعالى فيهم بحسب عملهم فوفّى كل عامل بعمله من كفر ومعاص ، أو إيمان وطاعة قال تعالى مخبرا عن مصير الفريقين (وَسِيقَ (١) الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ساقتهم الملائكة بشدة وعنف لأنهم لا يريدون الذهاب (إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي جماعات ولفظ الزمرة مشتق من الزمر الذي هو الصوت إذ الغالب في الجماعة أن يكون لها صوت. وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) إذ كانت مغلقة كأبواب السجون لا تفتح إلا عند المجيء بالسجناء ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) (٢) قبل الوصول إليها موبخين لهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) (٣) (رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي المبينة لكم الهدى من الضلال والحق من الباطل ، وما يحب ربكم من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات وما يكره من ذلك ، ويدعوكم إلى فعل المحاب لتنجوا وترك المكاره لتنجوا وتسعدوا. فأجابوا قائلين بلى أي جاءتنا بالذي قلتم (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ونحن منهم فوجب لنا العذاب ، وعندئذ تقول لهم الملائكة (ادْخُلُوا (٤) أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ، فَبِئْسَ) أي جهنم مثوى المتكبرين أي قبح مأوى المتكبرين في جهنم من مأوى.

وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ (٥) اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) وسوقهم هو سوق النجائب التي يركبونها فهو سوق لطف وتكريم إلى الجنة دار السّلام زمرا زمرة الجهاد وزمرة الصدقات وزمرة العلماء وزمرة الصلوات .... (حَتَّى إِذا جاؤُها) وقد فتحت (٦) أبوابها من قبل لاستقبالهم معززين مكرمين ، فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة فطاب مقامكم في دار السّلام فنعم التحية حيوا بها مقابل تأنيب وتوبيخ الزبانية لأهل النار. وقوله لهم فادخلوها أي الجنة حال كون خلودكم مقدرا لكم فيها. فقالوا بعد دخولهم الجنة ونزولها في

__________________

(١) هذا بيان توفية كل نفس عملها فيساق الذين كفروا إلى النار والذين آمنوا إلى الجنان والزمر جمع زمرة كظلمة وظلم وغرفة وغرف ، وهي جماعة بعد جماعة قال الشاعر :

وترى الناس إلى منزله

زمرا تنتابه بعد زمرة

(٢) الخزنة جمع خازن كسدنة وسادن.

(٣) الاستفهام للتقرير مع التوبيخ والتقريع.

(٤) قال وهب : تستقبلهم الزبانية بمقامع من حديد فيدفعونهم بمقامعهم فإنه ليقع في الدفعة الأولى بعدد ربيعة ومضر. قال تعالى (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ).

(٥) سوق أهل النار طردهم إلى النار بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان وسوق أهل الجنة سوق مراكبهم إلى دار السّلام إنهم لا يذهب بهم إلا راكبين وشتان ما بين السوقين.

(٦) قرأ نافع والجمهور فتحت بتشديد التاء في الأولى والثانية وقرأ حفص بالتخفيف ، والواو في قوله وفتحت واو الحال والجملة حالية في محل نصب.

٥١٠

قصورها الحمد لله الذي صدقنا وعده يعنون قوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ،) وقولهم (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الجنة نتبوأ منها حيث نشاء أي ننزل منها حيث نريد النزول ، وفي قولهم أورثنا الأرض إشارة إلى أنهم ورثوها من أبويهم آدم وحواء إذ كانت لهم قبل نزولهما منها. وقولهم (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي الجنة والمراد من العمل الإيمان والتقوى في الدنيا ، بأداء الفرائض واجتناب النواهي وقوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ) أيها الرائي (حَافِّينَ مِنْ (١) حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين بعرش الرحمن أي سريره (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي قائلين : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. قال تعالى مخبرا عن نهاية الموقف : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي وقضى الله بين الخلائق بالعدل ، ولما استقر أهل النار وأهل الجنة حمد الله على الاستقرار التام والحكم العادل الرحيم وقيل الحمد لله رب (٢) العالمين أي حمدت الملائكة ربها وحمده معهم المؤمنون وهم في دار النعيم المقيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم.

٢ ـ التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى ، وعباده المؤمنين به ، المتقين له.

٣ ـ بيان اكرام الله تعالى لأوليائه إذ يحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة ، ويلقون فيها تحية وسلاما. تحية احترام وإكرام ، وسلام أمان من كل مكروه.

٤ ـ بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار ، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الاتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار.

٥ ـ ختم كل عمل بالحمد فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وختم بالحمد ، وقيل الحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) (مِنْ) زائدة لتقوية الكلام نحو ما جاءني من أحد.

(٢) قال قتادة في هذه الآية افتتح الله أول الخلق بالحمد فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وختم بالحمد فقال (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فحسن الاقتداء به فيبدأ العبد قوله بالحمد ويختمه بالحمد.

٥١١

سورة غافر (١)

مكية

وآياتها خمس وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

__________________

(١) وتسمى أيضا سورة المؤمن وسورة الطول وهي أول آل حم التي يقال لها ديباج القرآن وعرائس القرآن ويقال ذوات حم وذكر القرطبي أن رجلا من أهل الشام كان ذا بأس شديد فقيل لعمر وقد سأل عنه أنه تتابع في هذا الشراب فقال عمر لكاتبه اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم ختم الكتاب وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله يغفر لي وحذّرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته فلما بلغ عمر أمره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا عونا للشيطان عليه.

٥١٢

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حا ميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) : أي تنزيل القرآن كائن من الله.

(الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : أي الغالب على مراده ، العليم بعباده ظاهرا وباطنا حالا ومآلا.

(غافِرِ الذَّنْبِ) : أي ذنب من تاب إلى الله فرجع إلى طاعته بعد معصيته

(شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) : أي مشدد العقوبة على من كفر به ، ذي الطول أي الإنعام الواسع على من آمن به وأطاعه.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : أي لا معبود بحق إلا هو إليه مرجع الخلائق كلهم.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي في القرآن لإبطالها إلا الكافرون.

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) : أي فلا تغتر بمعاشهم سالمين فإن عاقبتهم النار.

(وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح ، وهم عاد وثمود وقوم لوط.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) : أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل.

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) : أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه.

(فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) : أي كان واقعا موقعه حيث أهلكم ولم يبق منهم أحدا.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : حم : الله أعلم بمراده به

وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف أفادت فائدتين الأولى أن العرب المشركين في مكة كانوا قد منعوا المواطنين من سماع القرآن حتى لا يتأثروا به فيكفروا بآلهتهم فقد أخبر تعالى عنهم في قوله من سورة فصلت فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فكانت هذه الحروف المقطعة بنغمها الخاص تستهويهم فيسمعوا فكانت فائدة عظيمة. والثانية أن المشركين لما أصروا على أن القرآن لم يكن وحيا وإنما هو من جنس ما يقوله الشعراء والكهان. وأصحاب الأساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله وهو مركب ومؤلف من هذه الحروف الم طس حم والذي قوى هذه النظرية أنه غالبا ما يذكر القرآن بعد

٥١٣

ذكر هذه الحروف مثل الم تلك آيات الكتاب ، حم تنزيل الكتاب ، حم والكتاب المبين فهاتان الفائدتان من أحسن ما استنبطه ذو الشأن في تفسير القرآن ، وما عدا ذلك فلا يحسن روايته لخلوه من فائدة معقولة ، ولا رواية عن الرسول وأصحابه منقولة.

وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يخبر تعالى أنه عزوجل هو مصدر هذا القرآن إذ هو الذي نزله تنزيلا على عبده ورسوله ، ووصف نفسه بالعزة والعلم فقال العزيز أي في انتقامه من أعدائه الغالب على أمره ومراده فلا يحال بينه وبين ما يريده العليم بخلقه وحاجاتهم ومتطلباتهم ، فأنزل الكتاب لهدايتهم وإصلاحهم. وقوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) (١) أعلم أنه تعالى يغفر ذنب المستغفرين ويقبل توبة التائبين وأنه شدد العقوبة على من كفر به وعصاه. وقوله ذي الطول أي الإنعام الواسع والفضل العظيم (لا إِلهَ (٢) إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبير خلقه.

لما أثنى تبارك وتعالى على نفسه بما هو أهله أخبر رسوله بأنه (ما يُجادِلُ فِي (٣) آياتِ اللهِ) القرآنية الحاوية للحجج القواطع والبراهين السواطع على توحيد الله ولقائه وعلى نبوة رسول الله ما يجادل فيها (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك لظلمة نفوسهم وفساد قلوبهم ، وعليه فاصبر ولا تغتر بظاهر ما هم عليه من سعة الرزق وسلامة البدن ، وهو معنى قوله : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي (٤) الْبِلادِ) أي آمنين معافين في أبدانهم وأرزاقهم فإنهم ممهلون لا مهملون ، والدليل فقد (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ) (٥) من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون ، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به. وقد جادلوا بالباطل كما جادل قومك من قريش ليدحضوا به الحق أي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم. (فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي كان واقعا موقعه والحمد لله إذ قطع الله دابرهم وأنهى وجودهم وخصومتهم.

__________________

(١) يطلق (الطَّوْلِ) على سعة الفضل وسعة المال كما يطلق مطلق القدرة وهو مأخوذ من الطول ضد القصر.

(٢) (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في موضع الصفة لله عزوجل فتكون الصفة السابقة في هذه الآية الكريمة.

(٣) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن سؤال من قال ما دام هذا القرآن تنزيلا من العزيز الحكيم وهو أمر لا ريب فيه فلم يجادل فيه هؤلاء المشركون فأجابهم بقوله (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

(٤) الغرور ظن المرء شيئا حسنا وهو بضده يقال غرك إذا جعلك تظن الشيء حسنا ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.

(٥) الأحزاب هم الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب والعناد كعاد وثمود ومن بعدهم.

٥١٤

وقوله (وَكَذلِكَ حَقَّتْ (١) كَلِمَةُ رَبِّكَ (٢) عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ (٣) النَّارِ) أي كما وجب حكمه بإهلاك تلك الأمم المكذبة لرسلها الهامة بقتلها وقد أهلكهم الله فعلا حقت كلمة ربك على الذين كفروا لأنّهم أصحاب النار والمراد من كلمة ربك قوله لأملأن جهنم الآية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن القرآن الكريم مصدر تنزيله هو الله تعالى إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ذي الطول غافر الذنب قابل التوب لا إله إلا هو.

٣ ـ تقرير التوحيد والبعث والجزاء.

٤ ـ تقرير مبدأ أن الله تعالى يمهل ولا يهمل ، وأن بطشه شديد.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

__________________

(١) (حَقَّتْ) أي وجبت ولزمت مأخوذ من الحق لأنه لازم.

(٢) قرأ نافع كلمات بالجمع وقرأ حفص بالإفراد وهي اسم جنس بمعنى الجمع.

(٣) الإجماع على وجوب الوقف على قوله تعالى (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ثم يستأنف القراءة قائلا الذين يحملون العرش ... الخ إذ يقبح أن يتبادر إلى ذهن السامع أن أصحاب النار هم الذين يحملون العرش.

٥١٥

شرح الكلمات :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) : أي الملائكة حملة العرش.

(وَمَنْ حَوْلَهُ) : أي والملائكة الذين يحفون بالعرش من جميع جوانبه.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.

(وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) : كيف لا وهم عنده ، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) : أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإيمان بالله التي تربطهم بهم.

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) : أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام.

(وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) : أي احفظهم من النار فلا تعذّبهم بها.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) : أي بساتين فيها قصور وأنهار للإقامة الدائمة.

(الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) : أي بقوله تعالى : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتهم الأنهار.

(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) : أي ومن صلح بالإيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) : أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) : أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.

(فَقَدْ رَحِمْتَهُ) : أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تعذبه.

(وَذلِكَ) : أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة هو الفوز العظيم.

٥١٦

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الَّذِينَ (١) يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (٢) يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذين يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) تسبيحا مقرونا بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإشراك في عبادته (وَيَسْتَغْفِرُونَ (٣) لِلَّذِينَ آمَنُوا) لرابطة الإيمان التي ربطتهم بهم ولعل هذا السرّ في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي يقولون متوسلين إليه سبحانه وتعالى بصفاته (رَبَّنا وَسِعْتَ (٤) كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي إليك فتركوا الشرك (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) الذي هو الإسلام فانقادوا لأمرك ونهيك ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّتهم أي وادخل كذلك من صلح بالإيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) توسل أيضا إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات. وقولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) (٥) أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهّلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بهم ، (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ (٦) ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). ومعنى ومن تق السئيآت أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم

__________________

(١) حملة العرش أفضل الملائكة وهم أربعة ويوم القيامة يضاف إليهم أربعة فيصبحون ثمانية لقوله تعالى من سورة الحاقة (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ).

(٢) قال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة.

(٣) قبل هذا معطوف على محذوف تقديره وينزهونه عما يقول الكافرون ويستغفرون الخ.

(٤) (رَحْمَةً) منصوب على التمييز (وَعِلْماً) معطوف عليه ، والتمييز محول عن فاعل إذ التقدير وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.

(٥) قد لا يحتاج الأمر إلى تقدير محذوف فيقال وقهم جزاء السيئات إذ السيئات جمع سيئة «فيعلة» من السوء وهو ما يضر ولا يسر فالسيئة كل ما يسوء من عذاب وخوف ، وهلع فدعاء الملائكة دعاء بالنجاة مما يسوء المؤمنين يوم القيامة ولذا قالوا ومن تق السيئات أي ما يسوءه من العذاب فقد رحمته بدخول الجنة وما في التفسير هو رأي الجمهور من المفسرين.

(٦) قال مطرف بن عبد الله : وجدنا أنصح عباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين وتلا هذه الآية الذين يحملون العرش إلى قوله فقد رحمته.

٥١٧

فلا يؤاخذهم بها ، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظم الرب تعالى.

٢ ـ بيان فضل الإيمان وأهله (١).

٣ ـ فضل التسبيح بقول : سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة (٢) حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.

٤ ـ بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة ، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣)

__________________

(١) في الصحيحين.

(٢) يكفي كرامة للمؤمن أنه نائم على فراشه والملائكة تستغفر الله له ، وتدعو له بالنجاة من النار وبدخول الجنة كما في قوله الذين يحملون العرش الآية.

٥١٨

فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

شرح الكلمات :

(يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ) : أي تناديهم الملائكة لتقول لهم لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنتم لأنفسكم ، والمقت أشد البغض.

(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) : أي مقت الله تعالى لكم عند ما كنتم في الدنيا تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم لما رأيتم العذاب.

(أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) : أي أمتنا مرتين الأولى عند ما كنا عدما فخلقتنا ، والثانية عند ما أمتنا في الدنيا بقبض أرواحنا ، وأحييتنا مرتين الأولى لما أخرجتنا من بطون أمهاتنا أحياء فهذه مرة والثانية بعد أن بعثتنا من قبورنا أحياء.

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) : أي بذنوبنا التي هي التكذيب بآياتك ولقائك والشرك بك.

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) : أي فهل من طريق إلى العودة إلى الحياة الدنيا مرة ثانية لنؤمن بك ونوحدك ونطيعك ولا نعصيك.

(ذلِكُمْ) : أي العذاب الذي أنتم فيه.

(بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) : أي بسبب أنه إذا دعي الله وحده كفرتم بالتوحيد.

(يُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي دلائل توحيده وقدرته على بعثكم ومجازاتكم.

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) : أي وما يتعظ إلا من ينيب إلى الله ويرجع إليه بتوحيده.

٥١٩

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) : أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده.

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) : أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة.

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) : أي لا يسترهم شيء لا جبل ولا شجر ولا حجر.

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) : أي لمن السلطان اليوم.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى حال المؤمنين وأنهم هم وأزواجهم وذرياتهم في دار النعيم يبين في هذه الآيات الثلاث حال الكافرين في النار جريا على أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب فقال تعالى مخبرا عن أهل النار : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بربهم ولقائه وتوحيده ينادون أي تناديهم الملائكة فتقول لهم ـ بعد أن يأخذوا في مقت أنفسهم ولعن بعضهم بعضا ـ (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ (١) مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وذلك لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فتكفرون وتجحدون متكبرين.

وهنا في الآية الثانية (١١) يقولون وهم في جهنم (رَبَّنا) أي يا ربنا (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) يعنون بالموتتين الأولى وهم نطف (٢) ميتة والثانية بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم ، ويعنون بالحياتين الأولى التي كانت لهم في الدنيا قبل موتهم والثانية التي بعد البعث ، وقولهم : (فَاعْتَرَفْنا (٣) بِذُنُوبِنا) أي التي قارفناها في الحياة الدنيا وهي الكفر والشرك والمعاصي. وقولهم بعد هذا الاعتذار (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل من طريق إلى الخروج من النار والعودة إلى الحياة الدنيا لنصلح ما أفسدنا ، ونطيع من عصينا؟ والجواب قطعا لا سبيل إلى ذلك أبدا ، وبقاؤكم في العذاب ليس ظلما لكم وإنما هو جزاء وفاق لكم ثم ذكر تعالى علة عذابهم بقوله (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) بالله وتوحيده (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي وإن يشرك بالله تؤمنوا كقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملك وما ملك وقوله فالحكم

__________________

(١) اللام في جواب قسم أي والله لمقت الله الخ والخاطب هم الملائكة وجائز إن لم يكن راجحا أن يكون المعنى لمقت الله إياكم لمّا كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا على أيدي رسلكم فتكفرون مقت الله ذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم.

(٢) جائز أن تكون الموتة الأولى لما كانوا في الرحم قبل نفخ الروح ، وجائز أن يكون العدم السابق للوجود في الرحم شاهده آية البقرة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

(٣) سر اعتراضهم هذا أنهم يرجون من ورائه الخروج من النار ظنا منهم أنه نافع لهم شاهده قولهم مستعطفين : «فهل إلى خروج من سبيل».

٥٢٠