أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه يعانى شدة من ظلم المشركين وإعراضهم.

٢ ـ بيان تعنت المشركين وعنادهم.

٣ ـ تحقق وعد الله للمشركين حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون.

٤ ـ بيان فضل الله تعالى على الناس مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى.

٥ ـ بيان إحاطة علم الله بكل شىء.

٦ ـ إثبات وتقرير كتاب المقادير ، وهو اللوح المحفوظ.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١))

شرح الكلمات :

(يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي يذكر أثناء آياته كثيرا مما اختلف فيه بنو إسرائيل.

(لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي به تتم هداية المؤمنين ورحمتهم.

(يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) : أي يحكم بين بنى إسرائيل بحكمه العادل.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) : الغالب على أمره ، العليم بخلقه.

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي ثق فيه وفوض أمرك إليه.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) : أي لو أردت أن تسمعهم لأنهم موتى.

٤١

(وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) : أي ولا تقدر على إسماع كلامك الصم الذين فقدوا حاسة السمع.

(إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : أي إذا رجعوا مدبرين عنك غير ملتفتين إليك.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) : أي ما تسمع إلا من يؤمن بآيات الله.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَ (١) هذَا الْقُرْآنَ) الكريم الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) المعاصرين لنزوله (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) كاختلافهم في عيسى عليه‌السلام ووالدته ، إذ غلا فيهما البعض وأفرطوا فألّهوهما وفرط فيهما البعض فقالوا فى عيسى ساحر ، وفي مريم عاهرة لعنهم الله ، وكاختلافهم فى صفات الله تعالى وفي حقيقة المعاد ، وكاختلافهم في مسائل شرعية وأخرى تاريخية. وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَهُدىً (٢) وَرَحْمَةٌ) أي وإن القرآن الكريم لهدى ، أي لهاد لمن آمن به إلى سبيل السّلام ورحمة شاملة (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) به ، العاملين بما فيه من الشرائع والآداب والأخلاق. وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) أي أيها الرسول (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين الناس من وثنيين وأهل كتاب يوم القيامة بحكمه (٤) العادل الرحيم ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي ينفذ حكمه فيمن حكم له أو عليه (الْعَلِيمُ) بالمحقين من المبطلين من عباده فلذا يكون حكمه أعدل وأرحم ولذا (فَتَوَكَّلْ عَلَى (٥) اللهِ) أيها الرسول بالثقة فيه وتفويض أمرك إليه فإنه كافيك. وقوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي إنك يا رسولنا على الدين الحق الذي هو الإسلام وخصومك على الباطل فالعاقبة الحسنى لك ، لا محالة. وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) والكفار موتى بعدم وجود روح الإيمان في أجسامهم والميت

__________________

(١) هذا الكلام مستأنف استئنافا بيانيا إذ هو جواب لكل شاك في توحيد الله وفي البعث الآخر وفي نبوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن قال : كيف يكون لا إله إلا الله وكيف يكون البعث وكيف يكون محمد رسولا؟ فالجواب : أنّ هذا القرآن العظيم أكبر برهان وأعظم دليل على صدق تلك القضايا الثلاث : التوحيد ، والبعث ، والنبوة.

(٢) هذا التوكيد بأنّ في المواطن الثلاثة : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) و (إِنَّهُ لَهُدىً إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي) تطلبه الابتداء من جهة وشأن الاخبار من جهة أخرى. لأنّ عادة الإنسان إذا أخبر بخبر ذي شأن يتساءل في نفسه عن صحته وعدمها فيتعين التأكيد له.

(٣) خصّ المؤمنون بالذكر دون الكافرين لأنهم هم المنتفعون به.

(٤) جائز أن يكون المراد من الحكم : الحكمة ، أي : يحكم بينهم بالحكمة التي تضع كلّ شيء في موضعه فلا يحدث حيف ولا جور. وإطلاق الحكم على الحكمة كثير في القرآن منه : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ويجوز أن يكون الحكم على ظاهره أو يحكم بينهم بحكمه المعروف بالعدل والنزاهة من الحيف والجور والخطأ.

(٥) الفاء تفريعية أي : فبناء على عزّة الله وعلمه فتوكل عليه ولا تخف فإنه لعزته وعلمه لا يضيعك ولا يهمل شأنك.

٤٢

لا يسمع فلذا لا تقدر على إسماع هؤلاء الكافرين الأموات (١) ، كما انك (لا تُسْمِعُ الصُّمَ) أي الفاقدين لحاسة السمع (الدُّعاءَ) أي دعاءك (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إذا رجعوا مدبرين غير ملتفتين إليك. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) التي يعيشون عليها فهوّن على نفسك ولا تكرب ولا تحزن (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي ما تسمع إسماع تفهم وقبول إلا المؤمنين بآيات الله ، (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي فهم من أجل إيمانهم مسلمون أي منقادون خاضعون لشرع الله وأحكامه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ شرف القرآن وفضله.

٢ ـ لن ينتهي خلاف اليهود والنصارى إلا بالإسلام فإذا أسلموا اهتدوا للحق وانتهى كل خلاف بينهم.

٣ ـ كل خلاف بين الناس اليوم سيحكم الله تعالى بين أهله يوم القيامة بحكمه العادل ويوفى كلا ماله أو عليه وهو العزيز العليم.

٤ ـ الكفار أموات لخلو أبدانهم من روح الإيمان فلذا هم لا يسمعون الهدى ولا يبصرون الآيات مهما كانت واضحات.

فعلى داعيهم أن يعرف هذا فيهم وليصبر على دعوتهم ودعاويهم.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

__________________

(١) احتجت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على عدم إسماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موتى بدر لما قيل لها في ذلك وردّ عليها قولها إذ استعملت القياس العقلي مع وجود النص ولا قياس مع النص فقد صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناداهم وهم في القليب وقال لهم (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا. فقيل : يا رسول الله : ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال قتادة : أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما وقد خصصت هذه الآية بسماع أهل القبور. سلام من سلّم عليهم.

٤٣

(٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

شرح الكلمات :

(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي حق عليهم العذاب.

(دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) : حيوان يدب على الأرض لم يرد وصفها في حديث صحيح يعول عليه ويقال به. (١)

تكلم الناس : بلسان يفهمونه لأنها آية من الآيات.

(أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) : أي بسبب أن الناس أصبحوا لا يؤمنون بآيات الله وشرائعه أي كفروا فيبلون بهذه الدابة.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ) : أي اذكر يوم نحشر أي نجمع.

(مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) : أي طائفة وهم الرؤساء المتبوعون في الدنيا.

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : أي يجمعون برد أولهم على آخرهم.

(حَتَّى إِذا جاؤُ) : أي الموقف مكان الحساب.

(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي حق عليهم العذاب.

(بِما ظَلَمُوا) : أي بسبب الظلم الذي هو شركهم بالله تعالى.

(فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) : أي لا حجة لهم.

(وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : أي يبصر فيه من أجل التصرف في الأعمال.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي حق العذاب على الكافرين حيث لم يبق في

__________________

(١) مثل تلك الأحاديث : حديث حذافة ونصه : كما رواه أبو داود الطيالسي قال : (ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدابة فقال لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية ـ مكة ـ ثم تكمن زمانا ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشوا ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بينا الناس في اعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس منها شتى ومعا وثبتت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري ، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إنّ الرجل ليعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق فتميّز الكافر من المؤمن).

٤٤

الأرض من يأمر بمعروف ولا من ينهى عن منكر (أَخْرَجْنا لَهُمْ) لفتنتهم (دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) حيوان أرضى ليس بسماوي (تُكَلِّمُهُمْ) أي بلسان يفهمونه ، (أَنَّ النَّاسَ (١) كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) هذه علة تكليمهم وهي بأن الناس كفروا وما أصبحوا يوقنون بآيات الله وشرائعه فيخرج الله تعالى هذه الدابة لحكم منها : أن بها يتميز المؤمن من الكافر. وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) أي واذكر يا رسولنا (يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم البشرية (فَوْجاً) أي جماعة (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) بأن يرد أولهم على آخرهم لينتظم سيرهم (حَتَّى إِذا جاؤُ) الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) وما اشتملت عليه من أدلة وحجج وشرائع وأحكام (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ،) وهذا تقريع لهم وتوبيخ. إذ كون الانسان لم يحط علما بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه. وقوله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب. قال تعالى (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي وجب العذاب (بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم (٢) (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ). أي بعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم لأنهم ظلمه مشركون.

وقوله تعالى : (أَلَمْ (٣) يَرَوْا) أي ألم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء أن الله تعالى جعل (اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه (وَالنَّهارَ) أي وجعل (النَّهارَ مُبْصِراً) أي يبصر فيه ليتصرفوا فيه بالعمل لحياتهم ، فنوم الليل شبيه بالموت وانبعاث النهار شبيه بالحياة ، فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر وله صورة متكررة طوال الحياة ، ولذا قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة (لَآياتٍ) أي براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة. وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار لأن المؤمنين أحياء يسمعون ويبصرون ويفكرون والكافرين أموات والميت لا يسمع ولا يبصر ولا يعي ولا يفكر.

__________________

(١) قرأ نافع بكسر إنّ ، والجملة تعليلية لما قبلها ، وقرأ حفص بفتحها على تقدير حرف جرّ قبلها بأن أو لأن للسببية أو التعليل.

(٢) أي : بشركهم إذ الشرك أعظم أنواع الظلم وهو الموجب لدخول النار والخلود فيها.

(٣) الاستفهام هنا للتعجب من حالهم كيف لا يبصرون آيات الله في الكون فتهديهم إلى توحيد الله تعالى.

٤٥

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تأكيد آية الدابة والتي تخرج من صدع من الصفا وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو وهي الأنفاق التي فتحت في جبل الصفا وأصبحت طرقا عظيمة للحجاج ، وعما قريب تخرج ، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف ولا من ينهى عن المنكر فيحق العذاب على الكافرين.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها.

٣ ـ ويل لرؤساء الضلالة والشر والشرك والباطل إذ يؤتى بهم ويسألون.

٤ ـ فى آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : أي يوم ينفخ إسرافيل في البوق نفخة الفزع والفناء والقيام من القبور.

(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) : أي وكل من أهل السماء والأرض أتوا الله عزوجل داخرين أي أذلاء صاغرين.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) : أي تظنها في نظر العين جامدة.

(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) : وذلك لسرعة تسييرها.

٤٦

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : وهي الإيمان والتوحيد وسائر الصالحات.

(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي الجنة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي الشرك والمعاصي فله النار يكب وجهه فيها.

(وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) : أي أصحاب حسنات التوحيد والعمل الصالح آمنون من فزع هول يوم القيامة.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ) : أي جاء بالسيئة كالشرك وأكل الربا ، وقتل النفس ، فكبت وجوههم في النار والعياذ بالله أي القوا فيها على وجوههم

(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي ما تجزون إلا بعملكم ، ولا تجزون بعمل غيركم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر أحداث القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الباعث على الاستقامة في الحياة. فقال تعالى (وَيَوْمَ (١) يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي ونفخ إسرافيل بإذن ربه في الصور الذي هو القرن أو البوق (فَفَزِعَ) (٢) (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وهي نفخة الفزع فتفزع لها الخلائق إلا من استثنى الله تعالى وهم الشهداء فلا يفزعون وهي نفخة الفناء أيضا إذ بها يفنى كل شىء ، وقوله تعالى (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) (٣) أي أتوا الله تعالى (داخِرِينَ) أي صاغرين ذليلين أتوه إلى المحشر وساحة فصل القضاء وقوله (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) أي لا تتحرك وهي في نفس الواقع تسير (٤) سير السحاب (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي أوثق صنعه (٥) وأحكمه (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) وسيجزيكم أيها الناس بحسب علمه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) وهي الايمان والعمل الصالح (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ألا وهي الجنة (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي الشرك والمعاصى (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) فذلك

__________________

(١) العامل في الظرف محذوف للعلم به أي : واذكر يوم ينفخ في الصور ، والنافخ هو اسرافيل عليه‌السلام.

(٢) للفزع معنيان ، وكلاهما صالح لدلالة هذا اللفظ عليه ، الأوّل : الفزع بمعنى الإسراع : لنداء الداعي ، والثاني الخوف والهلع.

(٣) قرأ حفص (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) بالفعل الماضي ، وقرأ نافع آتوه باسم الفاعل أي : آتون إليه جمع آت.

(٤) قيل : إنّ قوله تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة أطلعه فيه على سر من أسرار الكون ولم يبح به لعجز الناس عن إدراكه في ذلك الزمن وحقيقته : أن الأرض تدور حول الشمس دورة في كل يوم وليلة ، ودورتها هي تسير معها الجبال فيها قطعا فيرى المرء الجبال يحسبها جامدة وهي تمر مع الأرض مرّ السحاب والمرور غير السير فالسير يوم الفناء أما المرور يقال : مرّ بفلان يحمله معه ولا يقال سار به. ورشح هذا المعنى قوله بعد : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

(٥) الصنع مصدر صنع الشيء يصنعه صنعا.

٤٧

جزاء من جاء بالسيئة.

وقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ (١) إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لا تجزون إلا ما كنتم تعملونه في الدنيا من خير وشر وقد تم الجزاء بمقتضى ذلك فقوم دخلوا الجنة وآخرون كبت وجوههم في النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها مفصلة.

٢ ـ بيان كيفية خراب العوالم وفناء الأكوان.

٣ ـ فضل الشهداء حيث لا يحزنهم الفزع الأكبر وهم آمنون.

٤ ـ تقرير مبدأ الجزاء وهو الحسنة والسيئة ، حسنة التوحيد وسيئة الشرك.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(هذِهِ الْبَلْدَةِ) : أي مكة المكرمة والاضافة للتشريف.

(الَّذِي حَرَّمَها) : أي الله الذي حرم مكة فلا يختلى خلاها ولا ينفّر صيدها ولا يقاتل فيها.

(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : المؤمنين المنقادين له ظاهرا وباطنا وهم أشرف الخلق.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) : أي أمرني أن أقرأ القرآن إنذارا وتعليما وتعبدا.

__________________

(١) الاستفهام للنفي كما في التفسير.

٤٨

(سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : أي مدلول آيات الوعيد فيعرفون ذلك وقد أراهموه في بدر وسيرونه عند الموت.

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أي وما ربك أيها الرسول بغافل عما يعمل الناس وسيجزيهم بعملهم.

معنى الآيات :

إنه بعد ذلك العرض الهائل لأحداث القيامة والذي المفروض فيه أن يؤمن كل من شاهده ولكن القوم ما آمن أكثرهم ومن هنا ناسب بيان موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أنه عبد مأمور بعبادة ربه لا غير ربه الذي هو رب هذه البلدة الذي (١) حرمها فلا يقاتل فيها ولا يصاد صيدها ولا يختلى خلاها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن يعرفها ، وله كل شيء خلقا وملكا وتصرفا فليس لغيره معه شيء في العوالم كلها علويّها وسفليّها وقوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرني ربي أن أكون في جملة المسلمين أي المنقادين لله والخاضعين له وهم صالحو عباده من الأنبياء والمرسلين. وقوله : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) أي وأمرني أن أتلو القرآن تلاوة إنذار وتعليم وتعبدا وتقربا إليه تعالى وبعد تلاوتي فمن اهتدى عليها فعرف طريق الهدى وسلكه فنتائج الهداية وعائدها عائد عليه هو الذى ينتفع بها. ومن ضل فلم يقبل الهدى وأقام على ضلالته فليس علي هدايته لأن ربي قال لي قل لمن ضل (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) لا من واهبى الإيمان والهداية انما يهب الهداية ويمن بها الله الذي بيده كل شيء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وأمرني أن أحمده على كل ما وهبني من نعم لا تعد ولا تحصى ومن أجلّها إكرامه لي بالرسالة التي شرفني بها على سائر الناس فالحمد لله والمنة له وقوله (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ (٢) فَتَعْرِفُونَها) أي وأعلم هؤلاء المشركين أن الله ربي سيريكم آياته في مستقبل أيامكم وقد أراهم أول آية في بدر وثاني آية في الفتح وآخر آية عند الموت يوم تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم وتقول لهم «ذوقوا عذاب الحريق» وقوله تعالى (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٣) أي وما ربك الذي أكرمك وفضلك أيها الرسول (بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها الناس مؤمنين وكافرين وصالحين وفاسدين وسيجزى كلا بعمله وذلك يوم ترجعون إليه ففي الآية وعد ووعيد.

__________________

(١) قرأ ابن عباس رضي الله عنهما : ربّ هذه البلدة التي حرّمها نعتا للبلدة. وقرأ الجمهور الذي وهو في موضع نصب نعت ل ربّ.

(٢) أي : في أنفسكم وفي غيركم كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) من سورة فصلت.

(٣) قرأ نافع وحفص والجمهور بتاء الخطاب ، وقرأ غيرهم بباء الغيبة.

٤٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنها عبادة الله والإسلام له ، وتلاوة القرآن إنذارا وإعذارا وتعليما وتعبّدا به وتقربا إلى منزله عزوجل.

٢ ـ بيان وتقرير حرمة مكة المكرمة والحرم.

٣ ـ الندب إلى حمد الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة ولا سيما عند تجدد النعمة وعند ذكرها.

٤ ـ بيان أن عوائد الكسب عائدة على الكاسب خيرا كانت أو شرا.

٥ ـ بيان معجزة القرآن الكريم إذ ما أعلم به المشركين أنهم سيرونها قد رأوه فعلا وهو غيب ، فظهر كما أخبر.

سورة القصص

مكية

واياتها ثمان وثمانون اية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥)

٥٠

وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

شرح الكلمات :

(طسم) : هذه إحدى الحروف المقطعة تكتب طسم وتقرأ : طا ، سين ، ميم.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هى آيات القرآن الكريم.

(نَتْلُوا عَلَيْكَ) : أي نقرأ عليك قاصين شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبرهما.

(لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : أي لأجل المؤمنين ليزدادوا إيمانا ويوقنوا بالنصر وحسن العاقبة.

(عَلا فِي الْأَرْضِ) : أي تكبر وظلم فادعى الربوبية وظلم بني إسرائيل ظلما فظيعا.

(شِيَعاً) : أي طوائف بعضهم عدوّ لبعض من باب فرّق تسد.

(وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : أي يبقي على النساء لا يذبح البنات لأنه لا يخاف منهن ويذبح الأولاد لخوفه مستقبلا على ملكه منهم.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) : أي ننعم على الذين استضعفوا فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.

(ما كانُوا يَحْذَرُونَ) : من المولود الذي يولد في بني إسرائيل ويذهب بملكهم.

معنى الآيات :

(طسم) : هذا اللفظ الله أعلم بمراده منه ، وقد أفاد فائدتين عظيمتين الأولى هي إعجاز القرآن الموجب للإيمان به وبمنزلة من أنزل عليه القرآن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن هذا القرآن الذي أعجز العرب أن يأتوا بسورة مثله قد تألف من مثل هذه الحروف المقطعة فدل ذلك على أنه كلام الله ووحيه.

والثانية أنه لما خاف المشركون من تأثير القرآن على نفوس السامعين له وأمروا باجتناب سماعه واستعملوا وسائل شتى لمنع الناس في مكة من سماعه كانت هذه الحروف تضطرهم إلى السماع لغرابتها عندهم فإذا قرأ القارىء طسم وجد احدهم نفسه مضطرا إلى السماع ، فإذا ألقى سمعه نفذ القرآن إلى قلبه فاهتدى به إن شاء الله تعالى له الهداية كما حصل لكثيرين منهم.

وقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات الكتاب المبين أي القرآن المبين

٥١

للهدى من الضلال والخير من الشر والحق من الباطل ، وقوله (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ (١) نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) أي نقرأ قاصين عليك أيها الرسول شيئا من نبأ موسى وفرعون أي من خبر موسى (٢) وفرعون وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣) باعتبارهم أنهم هم الذين ينتفعون بما يسمعون في حياتهم ولأنهم في ظرف صعب يحتاجون معه إلى سماع مثل هذا القصص ليثبتوا على إيمانهم حتى ينصرهم الله كما نصر الذين من قبلهم بعد ضعف كان أشد من ضعفهم وقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ ..) إلى آخر الآية هذا بيان لما أخبر أنه يقصه للمؤمنين ، يخبر تعالى فيقول :

(إِنَّ فِرْعَوْنَ ...) إلى آخر الآية إن فرعون الحاكم المصري المسمى بالوليد بن الريان الطاغية المدعى الربوبية والألوهية (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي أرض البلاد المصرية ومعنى علا طغى وتكبر وتسلط (٤) وقوله (وَجَعَلَ أَهْلَها) أي أهل تلك البلاد المصرية (شِيَعاً) أي طوائف فرق بينها إبقاء على ملكه على قاعدة فرّق تسد المذهب السياسي القائم الآن في بلاد الكفر والظلم وقوله (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً) من تلك الطوائف وهي طائفة بني إسرائيل وكيفية استضعافهم أنه يذبح أبناءهم ساعة ولادتهم (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي بناتهم ليكبرن للخدمة وتذبيح الأولاد سببه ان كهانه وسياسييه أعلموه أن ملكه مهدد بوجود بني إسرائيل أقوياء كثر في البلاد فاستعمل طريقة تقليلهم والحد من كثرتهم بذبح الأولاد الذكور منهم وإبقاء الإناث منهم وهي سياسة تشبه تحديد النسل اليوم التي يستعملها الهالكون اليوم وهم لا يشعرون.

وقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) هذا تعليل لعلو فرعون وطغيانه فذكر أن سبب ذلك الذي يرتكبه من السياسة العمياء الظالمة أنه (مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي في الأرض بارتكاب الجرائم العظام التي لا توصف.

وقوله تعالى (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي من بعض خبرهما أنا نريد أي أردنا أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض أرض مصر وهم بنو إسرائيل ، نمن عليهم بإيمانهم وتخليصهم من حكم فرعون وتسلطه ونجعلهم قادة في الخير (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لحكم البلاد وسياستها بعد إهلاك فرعون وجنوده وهو معنى قوله :

__________________

(١) مفعول (نَتْلُوا) محذوف تقديره نتلوا عليك كلاما من نبأ موسى.

(٢) وقارون أيضا حيث ذكر خبره في آخر هذه السورة.

(٣) اللام في (لِقَوْمٍ) للتعليل أي : نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون.

(٤) وحسبه أن ادعي الألوهية والربوبية وأنه ابن الشمس.

٥٢

(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). وقوله (وَنُرِيَ (٢) فِرْعَوْنَ) أي من جملة ما نتلو عليك أنا أردنا أن (نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما (٣) مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل ما كانوا يحذرونه من مولود يولد في بني إسرائيل فيذهب بملك فرعون وذلك بما سيذكر تعالى من أسباب وترتيبات هي عجب!

تبتدىء من قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ...).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير إعجاز القرآن الذي هو آية أنه كتاب الله حقا.

٢ ـ تقرير النبوة المحمدية بهذا الوحي الالهي.

٣ ـ التحذير من الظلم والاستطالة على الناس والفساد في الأرض.

٤ ـ المؤمنون هم الذين ينتفعون بما يتلى عليهم لحياة قلوبهم.

٥ ـ تقرير قاعدة لا حذر مع القدر.

٦ ـ تحريم تحديد النسل بإلزام المواطن بان لا يزيد على عدد معين من الأطفال.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى

__________________

(١) المراد من الأرض أرض الشام حيث ورّثهم أرض الكنعانيين وهم الذين كانوا يعرفون بالجبابرة. أما أرض مصر فإن بني اسرائيل لم يرجعوا إليها بعد أن خرجوا منها هكذا يرى بعضهم وأكثر المفسرين أنّ بني اسرائيل عادوا إلى أرض مصر وملكوها وسادوا أهلها ، والله أعلم.

(٢) قرأ الجمهور (وَنُرِيَ) بنون العظمة والتكلم ، وقرأ بعض ويرى بياء الغيبة أي : ويرى فرعون وجنوده.

(٣) الجنود : جمع جند ، والجند لفظ دال على جمع ولا واحد له ومعناه : الجماعة من الناس تجتمع على أمر تتبعه.

٥٣

أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) : أعلمناها أن ترضع ولدها الرضعات الأولى التي لا بد منها ثم تضعه في تابوت ثم تلقيه في اليم.

(فِي الْيَمِ) : أي في البحر وهو نهر النيل.

(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) : أي لا تخافي أن يهلك ولا تحزني على فراقه ، إنا رادوه إليك.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) : أي أعوانه ورجاله.

(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) : أي في عاقبة الأمر ، فاللام للعاقبة والصيرورة.

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) : أي تقربه عيني وعينك فنفرح به ونسر.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) : أي من كل شىء إلا منه عليه‌السلام أي لا تفكر فى شيء إلا فيه.

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) : أي قاربت بأن تصرخ أنه ولدها وتظهر ذلك.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) : أي اتبعي أثره حتى تعرفي أين هو.

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) : أي لاحظته وهي مختفيه تتبعه من مكان بعيد.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة موسى مع فرعون وهو طفل رضيع إلى نهاية هلاك فرعون في ظرف طويل بلغ عشرات السنين. بدأ تعالى بقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) (١) أي أعلمناها من طريق الإلقاء في القلب (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) آل فرعون الذين يقتلون مواليد بني إسرائيل الذكور في هذه السنة (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) أي بعد أن تجعليه في تابوت أي صندوق

__________________

(١) اختلف هل كان هذا الوحي إلهاما أو كان مناما أو أتاها ملك؟ والأقرب أنها أتاها ملك مع الإجماع أنها لم تكن نبيّة وإنما أرسل إليها الملك فكلمها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى في حديث الصحيحين ، ولم يعرف لها اسم على الصحيح ، وقال السهيلي اسمها يارخت.

٥٤

خشب مطلي بالقار ، (وَلا تَخافِي) عليه الهلاك (وَلا تَحْزَنِي) على فراقك له (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (١) لترضعيه (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ونرسله إلى عدوكم فرعون وملائه. قال تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي فعلت ما أمرها الله تعالى به بأن جعلته في تابوت وألقته في اليم أي النيل (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) حيث وجدوه لقطة فأخذوه وأعطوه لآسية بنت مزاحم عليهاالسّلام امرأة فرعون. وقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ (٢) عَدُوًّا وَحَزَناً) هذا باعتبار ما يؤول إليه الأمر فهم ما التقطوه لذلك ولكن شاء الله ذلك فكان لهم (عَدُوًّا وَحَزَناً) (٣) فعاداهم وأحزنهم.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) أي آثمين بالكفر والظلم ولذا يكون موسى لهم عدوا وحزنا. وقوله تعالى : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) قالت هذا حين هم فرعون بقتله لما نتف موسى لحيته وهو رضيع تعلق به فأخذ شعرات من لحيته فتشاءم فرعون وأمر بقتله فاعتذرت آسية له فقالت هو (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) فقال فرعون قرة عين لك أما أنا فلا وقولها «عسى أن ينفعنا» في حياتنا بالخدمة ونحوها «أو نتخذه ولدا» وذلك بالتبني وهذا الذى حصل ، فكان موسى إلى الثلاثين من عمره يعرف بإبن فرعون وقوله (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي بما سيكون من أمره وأن هلاك فرعون وجنوده سيكون على يده. وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي من أي شيء إلا من موسى وذلك بعد أن ألقته في اليم.

وقوله (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي لتصرخ بأنه ولدها وتظهر ذلك من شدة الحزن لكن الله تعالى ربط على قلبها فصبرت لتكون بذلك من المؤمنين بوعد الله تعالى لها بأن يرده إليها ويجعله من المرسلين.

وقوله تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (٤) أي تتبعي أثره وذلك عند ما ألقته في اليم وقوله

__________________

(١) حكى الأصمعي أنه سمع جارية اعرابية تنشد وتقول :

استغفر الله لذنبي كله

قبلت إنسانا بغير حلّة

مثل الغزال ناعما في دلّه

فانتصف الليل ولم أصله

فقلت لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت : أو يعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) إلى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) أي : جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

(٢) هذه اللام تسمى لام العاقبة والصيرورة على حد قول الشاعر :

وللمنايا تربى كل مرضعة

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

(٣) الحزن : محرّك الوسط كالحزن بإسكانها وضم الحاء مثل الرشد والرشد والعدم والعدم والسقم والسقم لغات.

(٤) اسمها مريم بنت عمران فاتحدت معها مريم أم عيسى في اسمها واسم أبيها عليهم‌السلام وقيل اسمها كندم في رواية مرفوعة ضعيفة.

٥٥

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) (١) أي رأته من بعد فكانت تمشي على شاطىء النهر وتلاحقه النظر من بعد حتى رأته انتهى إلى فرع الماء الذى دخل إلى قصر فرعون فعلمت أنه قد دخل القصر. وقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أنها أخته لما كانت تلاحقه النظر وتتعرف إليه من بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تدبير الله تعالى لأولياء وصالحي عباده وتجلى ذلك فى الوحي إلى أم موسى بارضاعه وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ليتربى في بيت الملك عزيزا مكرما.

٢ ـ بيان سوء الخطيئة وآثارها السيئة وعواقبها المدمرة وتجلى ذلك فيما حل بفرعون وهامان وجنودهما.

٣ ـ فضيلة الرجاء تجلت فى قول آسية «قرة عين لي ولك» فقال فرعون : أمّالي فلا. فكان موسى قرة عين لآسية ولم يكن لفرعون.

٤ ـ بيان عاطفة الأمومة حيث أصبح فؤاد أم موسى فارغا إلا من موسى.

٥ ـ بيان عناية الله بأوليائه حيث ربط على قلب أم موسى فصبرت ولم تبده لهم وتقول هو ولدي ليمضي وعد الله تعالى كما أخبرها. والحمد له رب العالمين.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ

__________________

(١) (عَنْ جُنُبٍ) أي : من مكان جنب أي : جانب وناحية قال قتادة : تنظر إليه بناحية كأنها لا تريده.

٥٦

فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) : أي منعناه من قبول ثدى أيّة مرضعة.

(مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل رده إلى أمه.

(فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى) : أي قالت أخت موسى.

(أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) : يضمونه إليهم ، يرضعونه ويربونه لكم.

(وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) : أي لموسى ناصحون ، فلما قالوا لها إذا كنت أنت تعرفينه ، قالت لا ، إنما أعني أنهم ناصحون للملك لا للولد.

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) : أي رددنا موسى إلى أمه أي قبلوا اقتراح أخته.

(وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : إذ أوحى إليها أنه راده إليها وجاعله من المرسلين.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أكثر الناس لا يعلمون وعد الله لأم موسى ولا يعلمون أن الفتاة أخته وأن أمها أمه.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) : أي ثلاثين سنة من عمره فانتهى شبابه وكمل عقله.

(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) : أي وهبناه الحكمة من القول والعمل والعلم بالدين الإسلامى الذي كان عليه بنو إسرائيل وهذا قبل أن ينبأ ويرسل.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) : مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنها مدة.

(عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) : لأن الوقت كان وقت القيلولة.

(هذا مِنْ شِيعَتِهِ) : أي على دينه الإسلامى.

(وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) : على دين فرعون والأقباط.

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) : أي ضربه بجمع كفه فقضى عليه أي قتله

(هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) : أي هذا الفعل من عمل الشيطان لأنه المهيج غضبي.

(إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) : أي الشيطان عدو لابن آدم مضل له عن الهدى ، مبين ظاهر الإضلال.

٥٧

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون : إنه بعد أن التقط آل فرعون موسى من النيل وهو رضيع قدموا له المراضع فرفضهن مرضعة بعد أخرى ، فاحتار آل فرعون لحبهم لموسى لأن الله تعالى ألقى عليه محبة منه فما رآه أحد إلا أحبه وهذا معنى قوله تعالى في الآية (١٢) (وَحَرَّمْنا (١) عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي قبل رده إلى أمه. وقوله : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) هذه أخته وقد أمرتها أمها أن تقص آثار موسى وتتبع أخباره فلما علمت أن أخاها لم يقبل المراضع وأن القصر في قلق من جراء عدم رضاع موسى تقدمت وقالت ما أخبر الله تعالى به عنها في قوله : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) ويرضعونه ويحفظونه حتى تنتهي مدة رضاعته (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (٢) وهنا ارتابوا في أمرها واستنطقوها واتهموها بأنها تعرفه فقالت : لا أعرفه ، إنما عنيت (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أن أهل هذا البيت ناصحون للملك وهنا استجابوا لها فأتت به أمه فما إن رآها حتى رمى نفسه عليها وأخذ ثديها يمتصه فقالوا لها : ما سر قبوله هذه المرأة فأجابت : بأنها طيبة الريح طيبة اللبن فأذنوا لها في إرضاعه في بيتها فعادت به وهو معنى قوله تعالى (فَرَدَدْناهُ (٣) إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تفرح وتسر ولا تحزن على فراقه ، (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) إذ وعدها بأنه راده إليها. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنها أمه ولا أن الله وعدها بأن يرده إليها. وقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ) أي موسى (أَشُدَّهُ) (٤) أي اكتمال شبابه وهو ثلاثين سنة. (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي حكمة وهي الإصابة في الأمور (وَعِلْماً) فقها في الدين الإسلامي الذي كان عليه بنو إسرائيل. وقوله تعالى (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا (٥) أم موسى وولدها موسى نجزي المحسنين وقوله

__________________

(١) هذا التحريم ليس التحريم الشرعي وإنما هو بمعنى المنع فقط لعدم تكليف الطفل وشاهده قول امرىء القيس :

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إني امرؤ صرعي عليك حرام

والمراضع : جمع مرضع بدون تاء إذ ليس في الذكور من يرضع فيفرّق بينهما بالتاء.

(٢) الجملة في محل نصب حالية.

(٣) الفاء للعطف والتفريع ، إذ قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) متفرع من قوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) إلى قوله (ناصِحُونَ).

(٤) قال مالك وربيعة شيخه : الأشد : الحلم لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وهو أوّل الأشد وأقصاه أربع وثلاثون سنة. واستوى : أي : بلغ أربعين سنة.

(٥) جزاها على استسلامها لأمر ربها وصبرها على فراق ولدها إذ ألقته في اليم وعلى تصديقها بوعد ربها ، ومما جزاها به رده ولدها إليها مصحوبا بالتحف والطرف وهي آمنة ووهب ولدها الحكمة والعلم والنبوة

٥٨

تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) أي موسى دخل مدينة منف (١) التي هي مدينة فرعون وكان غائبا فترة. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) لأن الوقت كان وقت القيلولة. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ) على دين موسى وبني إسرائيل وهو الإسلام (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) لأنه على دين فرعون والأقباط وهو الكفر. (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) أي طلب غوثه على الذي من عدوه (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه بجمع كفه (فَقَضى عَلَيْهِ) أي فقتله ودفنه في الرمال. وقوله تعالى : (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) أي هذا قول موسى عليه‌السلام اعترف بأن ضربه القبطى كان من تهيج الشيطان لغضبه فقال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ) للانسان (مُضِلٌ) له عن طريق الخير والهدى (مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة للإنسان والإضلال.

وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي دعا موسى ربه معترفا بخطئه أولا فقال : (رَبِ) أي يا رب (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي بقتلي القبطي (فَاغْفِرْ لِي) هذا الخطأ ، فاستجاب الله تعالى وغفر له ، إنه تعالى هو الغفور لذنوب عباده التائبين له الرحيم بهم فلا يعذبهم بذنب تابوا منه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حسن تدبير الله تعالى فى منع موسى من سائر المرضعات حتى يرده إلى أمه.

٢ ـ بيان حسن رد الفتاة على التهمة التي وجهت إليها وذلك من ولاية الله لها وتوفيقه.

٣ ـ تقرير أن وعد الله حق ، وأنه تعالى لا يخلف الوعد ولا الميعاد.

٤ ـ بيان إنعام الله على موسى بالحكمة والعلم قبل النبوة والرسالة.

٥ ـ مشروعية إغاثة الملهوف ونصرة (٢) المظلوم.

٦ ـ وجوب التوبة بعد الوقوع في الزلل ، وأول التوبة الاعتراف بالذنب.

__________________

(١) وقيل : منفيس : قاعدة مصر الشمالية ، وقوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) هذا عطف جزء القصة على جزئها السابق وهو من قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وأين كان موسى؟ قطعا كان غائبا عن المدينة لأمر من الأمور اقتضى غيابه.

(٢) لأن نصر المظلوم دين في الملل كلّها ، وفرض في جميع الشرائع.

٥٩

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١))

شرح الكلمات :

(بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) : بإنعامك على بمغفرة ذنبي.

(فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) : أي معينا لأهل الإجرام.

(خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : ما ذا يحدث من خير أو غيره بعد القتل.

(اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) : أي طلب نصرته فنصره.

(يَسْتَصْرِخُهُ) : أي يستغيث به على قبطي آخر.

(إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) : أي لذو غواية وضلال ظاهر.

(أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) : أي أن يأخذ الذي هو عدو لموسى والقبطي معا.

(إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً) : أي ما تريد إلا أن تكون جبارا تضرب وتقتل ولا تبالي بالعواقب.

(مِنَ الْمُصْلِحِينَ) : أي الذين يصلحون بين الناس إذا اختلفوا أو تخاصموا.

٦٠