أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

بيّن النذارة. فلم يوح إليّ الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدما لا ، لا. إنما يوحى إليّ لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعدّ لمن كفر به وأشرك في عبادته ، وفسق عن طاعته. وقوله تعالى في الآية (٧١) (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) هو آدم عليه‌السلام (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي أتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فحييى وصار بشرا سويا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحيّة لعبدنا ، (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) سواء من كان منهم في السموات أو في الأرض (إِلَّا إِبْلِيسَ) استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين ، ولحسده أيضا حيث فضله وفضّل عليه ، وكان بذلك الكبر والحسد من الكافرين إذ جحد معلوما من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بأدلته.

٢ ـ تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى.

٣ ـ عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد.

٤ ـ تقرير أن من القياس ما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك ، إذ التراب أفضل النار تحرق والتراب يحيي ، وشتان ما بين الموت والحياة.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ

٤٦١

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

شرح الكلمات :

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) : أي للذي خلقته بيديّ وهو آدم فدل ذلك على شرفه.

(أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) : استكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ. والتقريع لإبليس.

(فَاخْرُجْ مِنْها) : أي من الجنة.

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي مرجوم مطرود.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) : أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) : أي أخر موتي وأبق عليّ حيّا إلى يوم يبعثون أي الناس.

(إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء.

(إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصتهم للإيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : لا أسألكم على البلاغ أجرا تعطونه لي.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) : أي المتقولين القرآن وما أنذركم به من تلقاء نفسي.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) : أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) : أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين.

٤٦٢

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الربّ تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد أن امتنع إبليس من السجود لآدم (يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ (١) أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) أي أيّ شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك (أَسْتَكْبَرْتَ) أي الآن (أَمْ كُنْتَ) من قبل (مِنَ (٣) الْعالِينَ) أي المستكبرين ، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإبليس وتقريع له. وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول ، إذ النار لم تكن أبدا خيرا من الطين ، النار تحرق ونهايتها رماد ، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإنسان ومادة خلقته. فأيّ شرف للنّار أعظم لو كان اللعين يعقل. وهنا قال تعالى له (فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) لا تفارقك على مدى الحياة وهي بعد من رحمتي طوال الحياة.

وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) أي ابق عليّ حيّا لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حتى يتمكن من إغواء بني آدم ، ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي الممهلين المبقى على حياتهم (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسما بعزة الله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته. وهنا قال تعالى ردا على اللعين (قالَ (٤) فَالْحَقُ) أي أنا الحق (وَالْحَقَّ أَقُولُ) (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من الإنس والجن أجمعين. وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى ، وكيف عرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وأخبر به لو لا انه

__________________

(١) ذكر صاحب تفسير التحرير أن خطاب الله تعالى لإبليس بعد إبلاسه كان بواسطة ملك من الملائكة معللا ذلك بعدم أهلية إبليس بعد إبلاسه لذلك لما فيه من الشرف والكمال ولم أقف على من رأى هذا الرأي غيره والله أعلم بصحته أو خطأه.

(٢) في قوله بيدي إثبات صفة اليدين لله تعالى وقد وردت أحاديث صحيحة تقرر ذلك وتثبته فوجب الإيمان بهذه الصفة الذاتية لله تعالى مع تنزيهه تعالى أن يكون يداه تشبه يدي من له يدان من خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.

(٣) العلو الشرف فمعنى قوله تعالى من العالين أي من أهل علو المراتب وشرف المنازل فلذا امتنعت من السجود لآدم عليه‌السلام.

(٤) قرأ الجمهور قال فالحق بنصب الحق على أنه مفعول مطلق تقديره أحق الحق ، وقرأ حفص بالرفع على تقدير فالحق قولي ، أو أنا الحق أي على الابتداء ، وأما الحق الثاني فهو منصوب إجماعا لفعل أقول.

٤٦٣

وحيّ يوحى إليه. وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على البلاغ (مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل (إِنْ هُوَ) أي القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) من الإنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين ، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر ، ويوم الفتح ، ويوم موته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما.

٢ ـ مشروعية القياس إن كان قياسا صحيحا ، وبيان اخطار القياس الفاسد.

٣ ـ مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه.

٤ ـ بيان أن من كتب إلله سعادتهم لا يقوى الشيطان على اغوائهم وإضلالهم.

٥ ـ لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين.

٦ ـ ذم التكلّف (١) المفضي إلى الكذب والتقول على الله وعلى الرسول والمؤمنين.

٧ ـ ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل.

__________________

(١) التكلف : معالجة الكلفة وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله لعدم قدرته على ذلك روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من سئل عما لا يعلم فليقل لا أعلم ، ولا يتكلف ، فإن قوله لا أعلم علم وقد قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). روى أن للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم. وروى الدارقطني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر في بعض أسفاره على رجل جالس على مقراة له. وقال له عمر يا صاحب المقراة أو لغت السباع الليلة في مقراتك*؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا صاحب المقراة لا تخبره ، هذا متكلف ، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور ، كما روى مالك في الموطأ أن عمر خرج في ركب معهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد السباع حوضك؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.

(*) المقراة : الحوض يجمع فيه الماء.

٤٦٤

سورة الزّمر(١)

مكية

وآياتها خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

شرح الكلمات :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن من الله.

(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي العزيز في ملكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.

(مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أي مفردا إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحدا.

(لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك أحد سواه.

(أَوْلِياءَ) : أي شركاء وهي الأصنام.

(لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) : أي تقريبا وتشفع لنا عند الله.

(مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) : أي كاذب أي على الله كفار بعبادته غير الله تعالى.

(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له عن الولد والشريك.

__________________

(١) سميت بالزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يذكر في غيرها قط والزمر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر.

٤٦٥

(هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه.

معنى الآيات :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ (١) مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يخبر تعالى ان تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه. ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) (٢) يخبر تعالى رسوله بقوله (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (٣) أي القرآن العظيم (بِالْحَقِ) في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه (فَاعْبُدِ (٤) اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإن العبادة لا تصلح لغيره أبدا (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) (٥) أي شركاء يعبدونهم ويقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفا لازما لهم ، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفا ثابتا لهم ، إذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله باشقائه وتعذيبه يوم القيامة. وقوله تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله ، وكما قال النصارى المسيح ابن الله ، وكما قال اليهود عزيز بن الله ، ولو أراد الله أن يكون له ولد لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء ، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذبا ، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.

__________________

(١) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، أي القرآن ـ جائز أن يكون تنزيل الكتاب مبتدأ والخبر من الله وجائز أن يكون تنزيل خبر والمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل.

(٢) (بِالْحَقِ) الباء للملابسة أي ملابسا للحق فلا باطل معه.

(٣) فيه تقرير نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعلان عن شرفه بإنزال الكتاب عليه.

(٤) الفاء للتفريع ، أي فبناء على إنزالنا عليك الكتاب فاعبد الله ، ومخلصا حال ، والدين العبادة ، وإخلاص العبادة تجريدها من الالتفات إلى غير الله تعالى لطلب مدح أو نفع أو دفع مكروه أو اتقاء ذم.

(٥) (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) افتتاح الجملة بالا للتنبيه على شرف ما دخلت عليه والتنويه به اللام في لله للملك والاستحقاق وفي الآية دليل على وجوب الإخلاص في العبادة ووجوب النية فيها ولا عبادة بدون نية صحيحة ولا يضر النية الخاطر يخطر بالقلب لا يملك المرء دفعه.

٤٦٦

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ تقرير التوحيد.

٣ ـ بطلان الشرك والتنديد بالمشركين.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء يوم القيامة.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

شرح الكلمات :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) : أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو العبث.

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) : أي يدخل أحدهما في الآخر فإذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك.

٤٦٧

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) : هي آدم عليه‌السلام.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) : هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) : أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإنزالها.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) : أي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : أي أطوارا طورا بعد طور نطفة فعلقة فمضغة.

(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) : أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي لا تحمل نفس ذات وزر وزر نفس أخرى.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره.

معنى الآيات :

هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالا في نفوس العقلاء فقال تعالى في الآية (٥) (خَلَقَ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضَ) أي أوجدهما خلقا على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر. وقوله (يُكَوِّرُ (٢) اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفّه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسموات والأرض وبرهان ثالث في قوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ (٣) مُسَمًّى) يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد ما لا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب. وقوله (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٤) إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفّار لعباده التائبين إليه. وقوله تعالى في الآية (٦) (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) هي آدم عليه‌السلام فقد صح أنه

__________________

(١) هذه الجملة بيان لجملة هو الله الواحد القهار.

(٢) وهذه الجملة بيان ثان أيضا وحقيقة التكوير أنه اللف واللي يقال كور العمامة على رأسه إذا لفها ولوّاها وهذا تمثيل بديع لتعاقب الليل والنهار.

(٣) كل التنوين للعوض أي كل واحد منهما يجري لأجل مسمى هو أجل فنائهما.

(٤) استئناف ابتدائي وجملة فإنكم الخ استدلال على صفة العزة والمغفرة في العزيز الغفار.

٤٦٨

لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم ، ولهذا جاء العطف بثم إذ قال (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر ، وهذا برهان وآخر في قوله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وما عز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء ، و (١) جائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض. وبرهان رابع في قوله (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ) (٢) (خَلْقٍ) أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسو العظام لحما فإذا هو إنسان كامل وقوله (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي ظلمة بطن الأم ، ثم ظلمة الرحم ، ثم ظلمة المشيمة ، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال (ذلِكُمُ اللهُ (٣)رَبُّكُمْ) أي خالقكم ومعبودكم الحق (لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود إلا هو إذ لا تصلح العبادة إلّا له (فَأَنَّى (٤) تُصْرَفُونَ) أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل ، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجب. وقوله في الآية (٧) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي بعد أن بيّن بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته ، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبدا لأنه غني عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران ، كما انهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء. وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ

__________________

(١) ووجه ثالث وهو جائز أن يكون الانزال بمعنى التسخير نحو وأنزلنا الحديد أي ذللناه لكم تصنعون منه السيوف والرماح وهذا كقولك نزل فلان على رأي فلان قال الشاعر :

أنزلني الدهر على حكمه

من شاهق عال إلى خفض

(٢) أي طورا بعد طور لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فيفخ فيه الروح ويأمر يكتب أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» الحديث «مسلم».

(٣) هذه الجملة كالفذلكة والنتيجة لما سبق من ذكر آيات العلم والقدرة والرحمة الموجبة للألوهية الحقة للرب الحق سبحانه وتعالى.

(٤) فأنى تصرفون الاستفهام للانكار مشوبا بالتعجب من حال انصرافهم عن الحق بعد ظهور أدلته وسطوع براهينه ، عجبا لكم كيف صرفتم وبناء الفعل للمجهول إشارة واضحة إلى أنهم يصرفون بقوى غير قواهم وهي قوى الشياطين التي تزين لهم الباطل وتبغض لهم الحق.

٤٦٩

بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فضلا عما كان عملا ظاهرا غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله. فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم.

٣ ـ بيان أن الكفر أعجب من الإيمان إذ أدلة الإيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون.

٤ ـ بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه.

٥ ـ بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها.

٦ ـ بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهرا وباطنا.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) : الإنسان أي المشرك.

(ضُرٌّ) : أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه.

٤٧٠

(دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) : أي سأل ربّه كشف ما أصابه من ضر راجعا إليه معرضا عمن سواه.

(إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) : أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر.

(نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) : أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى.

(وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) : أي شركاء.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) : أي ليضل نفسه وغيره عن الإسلام.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) : أي قل يا نبيّنا لهذا الكافر الضال المضل تهديدا تمتع بكفرك بقية أجلك.

(إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) : أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.

(قانِتٌ آناءَ) (١) (اللَّيْلِ) : أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجدا وقائما في الصلاة.

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيّرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد ، فقال تعالى مخبرا عن حال المشرك بربه المتخذ له أندادا يعبدها معه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ (٢) ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه يا رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ (٣) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) حتى إذا فرّج الله كربه ونجاه ، ترك دعاء الله ، وأقبل على عبادة غير الله ، (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) أي شركاء (لِيُضِلَ) (٤) نفسه وغيره. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلا أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار ، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعا حسنا

__________________

(١) الآناء جمع أنى مثل أمعاء ومعى وأقفاء وقفى والأنى الساعة.

(٢) (الْإِنْسانَ) هنا اسم جنس دال على غير معين بل هو عام في كل مشرك بالله تعالى كافر به.

(٣) قوله اعطاه إذ التخويل الإعطاء والتمليك دون قصد عوض مأخوذ من الخول وهو اسم للعبد والخدم وفي الحديث إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم «الحديث».

(٤) اللام لام العاقبة ، أي هو لم يقصد إضلال نفسه.

٤٧١

جميلا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨) أما الآية الثانية (٩) فيقول تعالى (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) (١) أي مطيع لله ورسلوه في أمرهما ونهيهما (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعات الليل تراه ساجدا في صلاته أو قائما يتلو آيات الله في صلاته ، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى أن يقيه منه ، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها أهذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، والجواب معلوم للعقلاء (٢) وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإتيان بمحابّ الله تقربا إليه ، وعلى ترك مكارهه تحببا إليه ، هل يستوى هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التوجيه الإلهي والإرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.

٢ ـ الكشف عن داخلية الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له ، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإيمان والتوحيد.

٣ ـ بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار.

٤ ـ مقارنة بين القانت المطيع ، والعاصي المضل المبين ، وبين العالم والجاهل ، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي. وأفضلية العالم بالله وبمحابه ومكارهه والجاهل بذلك.

٥ ـ فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه ولو لا العمل بالعلم لاستويا في الخسّة والانحطاط.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)

__________________

(١) قرأ نافع أمن هو قانت بتخفيف الميم ـ وقرأ حفص (أَمَّنْ) بتشديدها وجائز أن تكون الهمزة همزة استفهام ومن مبتدأ والخبر مقدر نحو أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر وعلى قراءة التشديد فالهمزة للاستفهام وآمن كلمتان أم المعادلة أدغمت في من المبتدأ وجائز أن تكون أم منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.

(٢) وهو أنهما لا يستويان بحال من الأحوال.

٤٧٢

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

شرح الكلمات :

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان والتقوى.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) : أي أحسنوا العبادة.

(حَسَنَةٌ) : أي الجنة.

(أَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) : أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتم منها في دياركم.

(أُمِرْتُ) : أي أمرني ربّي عزوجل.

(مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أي مفردا إياه بالعباده.

(أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) : أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله بعبادته والإخلاص له فيها

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : أي عذاب يوم القيامة.

(قُلِ) : أي يا رسولنا للمشركين.

(اللهَ أَعْبُدُ) : أي لا أعبد معه سواه.

(مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) : أي مفردا إياه بطاعتي وانقيادي.

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) : أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإنكم خاسرون.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار.

(وَأَهْلِيهِمْ) : أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات

(ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) : أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم.

٤٧٣

(ذلِكَ) : أي المذكور من عذاب النار.

(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) : أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإيمان والتقوى.

معنى الآيات :

لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربّانيّة للمؤمنين والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي الآية الأولى (١٠) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله ، ويعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة ، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لآجل الطاعة فيقول (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) (١) أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بلا كيل ولا وزن ولا عد وذلك لأنه فوق ذلك. وفي الآية الثانية (١١) والثالثة (١٢) يأمر تعالى رسوله موجها له بأن يقول للناس (إِنِّي أُمِرْتُ) أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه من ذلك مخلصا له الدين ، فلا اشرك في دين الله أحدا أي في عبادته أحدا ، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أوّل من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة (١٣) والخامسة (١٤) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها (عَذابَ (٢) يَوْمٍ عَظِيمٍ) كما يأمره أن يقول الله أعبد أي الله وحده لا شريك له أعبد حال كوني مخلصا له ديني. وأما انتم أيها المشركون إن أبيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم (٣) من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا أولئك الذين يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المال والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم (٤) القيامة ، وذلك

__________________

(١) وفسر بعضهم الصبر بالصوم وحقا الصوم من الصبر وحسب الصوم أجرا أن يقول الله تعالى «الصوم لي وأنا أجزي به». الا أن الآية عامة في الصبر في مواطنه الثلاث وهي صبر على الطاعات وصبر دون المعاصي وصبر على البلاء. ومن ذلك الهجرة إلى دار الإسلام.

(٢) ذهب بعضهم إلى أن الآية منسوخة بقوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ولا معنى لهذا النسخ إذ النسخ لا يكون في الأخبار. وانما الآية من باب الفرض والتقدير إذ الرسول معصوم ولا يعصي وإذا لا خوف عليه وإنما من باب طلب الهداية للآخرين قال له قل هذا.

(٣) الأمر هنا للتهديد والوعيد والتوبيخ وليس للإذن بعبادة غير الله إذ القرآن كله نزل ليعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه سواه فكيف يأذن بعبادة ما شاءوا من آلهة.

(٤) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. وهو كذلك لقوله تعالى أولئك هم الوارثون أي يرث المسلم الكافر يرثه في أهله ومكانه في الجنة وسبب الإرث الإيمان والتقوى بإذن الله تعالى.

٤٧٤

بتخليدهم في النار ، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا. ألا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيرا قوله تعالى (ذلِكَ) أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه ، والله رءوف بالعباد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.

٢ ـ وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك.

٣ ـ تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده.

٤ ـ فضل الإسلام وشرف المسلمين.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء بيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها.

٦ ـ كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسرانا أبدا.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

٤٧٥

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ (١) أَنْ يَعْبُدُوها) : أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله.

(وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) : أي بالايمان به وعبادته وتوحيده فيها.

(لَهُمُ الْبُشْرى) : أي بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور.

(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى.

(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي العقول السليمة.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم.

(أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) : أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) : أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي من خلال قصورها وأشجارها.

(وَعْدَ اللهِ) : أي وعدهم الله تعالى وعدا فهو منجزه لهم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الأوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعال حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها ، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عزوجل (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل مازين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته وأضافوا إلى اجتناب الطاغوت الإنابة إلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله (٢) وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وفي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفا من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا

__________________

(١) (الطَّاغُوتَ) مصدر أو اسم مصدر فعله طغا وهل هو واوي أو يائي خلاف والأشهر أنه واوي نحو طغا طغوا كعلا يعلو علوا وقولهم الطغيان دال على أنه يائيّ وتاؤه زائدة كما زيدت في رحموت وملكوت وقيل هو اسم أعجمي كجالوت وطالوت.

(٢) شاهده قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خالدين فيها أبدا (البقرة) ومن السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له في بيان قوله تعالى (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) من سورة يونس ومن القرآن (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فهذه عند الموت.

٤٧٦

إلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يسمعون ، ويتركون حسنه (١) وسيئه معا فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثناء الجميل من ربّ العالمين إذ قال تعالى فيهم (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فحسبهم كمالا أن اثنى تعالى عليهم. اللهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك. وقوله (أَفَمَنْ (٢) حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي وجب له العذاب قضاء وقدرا فأسرف في الكفر والظلم والإجرام والعدوان كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من أصحاب النار فهل تستطيع أيها الرسول انقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا. إذا فهون على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم. وقوله تعالى (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجرى من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار انهار الماء واللبن والعسل والخمر. وقوله (وَعْدَ اللهِ) أي وعدهم الله تعالى بها وعدا حقا فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم.

٢ ـ فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء.

٣ ـ إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلا لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل.

٤ ـ بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها.

__________________

(١) جائز أن يراد بكلمة أحسن حسنه فهم يستمعون القول من قائله ويفهمونه فإن كان حقا وهدى أخذوا به وإن كان باطلا وضلالا تركوه وابتعدوا عنه. فقد روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص جاءوا إلى أبي بكر حين أسلم فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.

(٢) الاستفهام الأول والثاني كلاهما إنكاري ينكر الله تعالى على رسوله حزنه وألمه على عدم إيمان عمه أبي لهب وولده ومن لم يؤمن من قرابته ممن وجبت لهم النار في سابق علم الله فهم لا يؤمنون ، ولذا فرع عنه قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك.

٤٧٧

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣))

شرح الكلمات :

(فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) : أي أدخله في الأرض فصار جاريا تحتها ينبع منها فكان بذلك ينابيع.

(مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : أي ما بين أخضر وأبيض وأحمر وأصفر وأنواعه من بر وشعير وذرة.

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفرا.

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) : أي فتاتا متكسرا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) : أي إن في ذلك المذكور من إنزال الماء إلى أن يكون حطاما تذكيرا.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : أي فاهتدى به كمن لم يشرح الله صدره فلم يهتد؟.

(فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي فهو يعيش في حياته على نور من ربّه وهو معرفة الله وشرائعه.

٤٧٨

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) : ويل كلمة عذاب للقاسية قلوبهم عن قبول القرآن فلم تؤمن به ولم تعمل بما فيه.

(أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) : هو القرآن الكريم.

(مُتَشابِهاً) : أي يشبه بعضه بعضا في النظم والحسن وصحة المعاني.

(مَثانِيَ) : أي ثنّى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : أي ترتعد منه جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر وعيده.

(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) : أي تطمئن وتلين.

(إِلى ذِكْرِ اللهِ) : أي عند ذكر وعده لأهل الإيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) هذه الآية الكريمة تقرر التوحيد والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم الإلهيين ، وهما مقتضيان لوجود الله أولا ثم وجوب الإيمان به وبلقائه فقال تعالى مخاطبا رسوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (١) وهو المطر (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) أي أدخله فيها وأخرجه منها ينابيع بواسطة حفر وبدونه ، ثم يخرج به زرعا من قمح وشعير وذرة وغيرها مختلفا ألوانه من أحمر وأبيض وأصفر (ثُمَّ يَهِيجُ) حسب سنة الله تعالى في ذلك فيجف (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي فتاتا متكسرا كالتبن كل هذا يتم بقدرة الله وعلمه وتدبيره ففيه موعظة وذكرى لأولى القلوب الحيّة تهديهم إلى الإيمان بالله وبآياته ولقائه ، وما يستتبع ذلك من الطاعة والتوحيد وقوله تعالى (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) أي وسع صدره وفسحه فقبل الإسلام دينا فاعتقد عقائده وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو يعيش على نور من ربه ومقابل هذا محذوف اكتفى بالأول عنه وتقديره كمن طبع الله على قلبه وجعل صدره حرجا ضيقا فلم يقبل الإسلام ولم يدخل فيه ، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودخن الذنوب

__________________

(١) تضمنت هذه الآية الكريمة مثالين زيادة على ما دلت عليه بظاهر كلماتها المثال الأول هو أن القرآن الكريم ينزل من عند الله فيحيى الله تعالى به القلوب الميتة فتحيى وتشرق وتبلغ الكمال في الطهر والإشراق. والثاني هو أن حياة الإنسان تبتدىء بنطفة المني فتستقر في الرحم ثم تخرج طفلا ثم يكبر فيصبح شابا فكهلا ثم يهرم ويهلك. والخطاب صالح لكل من له أهلية النظر.

(٢) شرح الصدر عبارة عن قبول الهدى والاستنارة به ، والاستفهام إنكاري ومن مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ضاق صدره بالكفر وغشيته ظلمته فهو لا يعي ولا يفهم ما يقال له وما يدعى إليه من الهدي والخير أي هل حالهما واحدة والجواب لا.

٤٧٩

وعفن الفساد والشر. وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ) (١) يتوعد الله تعالى بالعذاب أصحاب القلوب القاسية من سماع القرآن وهذه أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة فإذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة سماع القرآن زادها موتا وقسوة ، ويدل على هذا قوله (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) فهدايتهم متعذرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم. وقوله تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٣) وهو القرآن (كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا في حسن اللفظ وصحة المعاني (مَثانِيَ) أي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص ، (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي عند سماع آيات الوعيد فيه (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ) إذا سمعوا آيات الوعد وتطمئن (قُلُوبُهُمْ) إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد (أَلا بِذِكْرِ (٤) اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وقوله تعالى (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي انزله وجعله هاديا يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي. وقوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لما سبق في علم الله ولوجود مانع منع من هدايته كالإصرار والعناد والتقليد. فهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبدا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر العلم والقدرة الإلهية الموجبة للإيمان به وبرسوله ولقائه.

__________________

(١) من بمعنى عن لتضمين القساوة في الإعراض والنفور إذ يقال أعرض عن كذا ونفر عنه وذكر الله هنا القرآن كما في التفسير.

(٢) (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا إذ هو جواب لمن سأل عن قساوة قلوب المتوعدين بالويل فقيل له إنه ضلالهم الواضح المبين.

(٣) روي أن سعد بن أبي وقاص قال قال اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لو حدثتنا فأنزل الله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) وهذا كما قالوا يوما لو قصصت علينا فنزل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، وقولهم لو ذكرتنا فنزل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) ، وفي هذا دليل على أنه لا يليق بأمة القرآن أن تلهو بالتمثيليات والروايات وأندية اللهو اللعب.

(٤) تقشعر أي تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد وتلين قلوبهم عند سماع آيات الرحمة وتطمئن إلى ذكر الله تعالى يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنا أعلم متى يستجاب لي ، وذلك إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي وفاضت عيناي وهو مروي عن ثابت البناني وأم الدرداء أن الوجل في القلب كاحتراق السعفة.

٤٨٠