أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين اللازب أي اللاصق باليد.

٢ ـ بيان موقفين متضادين الرسول يعجب من كفر المشركين وتكذيبهم والمشركون يسخرون من دعوته إياهم إلى الإيمان وعدم التكذيب بالله ولقائه.

٣ ـ تقرير البعث وبيان طريقة وقوعه.

٤ ـ عدم الانتفاع بالإيمان عند معاينة العذاب.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أنفسهم بالشرك والمعاصي.

(وَأَزْواجَهُمْ) : أي قرناءهم من الشياطين.

(مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من غير الله من الأوثان والأصنام.

(فَاهْدُوهُمْ) : أي دلوهم وسوقوهم.

(إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) : أي إلى طريق النار.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) : أي احبسوهم عند الصراط إنهم مسؤولون عن جميع أقوالهم وأفعالهم.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) : أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا توبيخا لهم.

٤٠١

(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) : أي عن يمين أحدنا تزينون له الباطل وتحسّنون له الشر فتأمرونه بالشرك وتنهونه عن التوحيد.

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) : أي قال قرناؤهم من الجن ردّا عليهم بل لم تكونوا أساسا مؤمنين.

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي من حجة ولا قوة على حملكم على الشرك والشر والباطل.

(بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) : أي بل كنتم طغاة ظلمة تعبدون غير الله تعالى وتجبرون الناس على ذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في موقف عرصات القيامة إنهم بعد اعترافهم بأن هذا يوم الدين وردّ الله تعالى عليهم بقوله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) يقول الجبار عزوجل (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) أي احشروا الذين ظلموا بالشرك والمعاصي (١) ، وقوله (وَأَزْواجَهُمْ) أي قرناءهم (٢) من الجن (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والأوثان. وقوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ (٣) إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) يقول الله عزوجل فاهدوهم أي دلوهم إلى طريق النار. ويقول (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ثم يسألون (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) (٤) أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا. كيف ينصر بعضهم بعضا في مثل هذا الموقف الرهيب (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون ذليلون وقوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبل الأتباع على المتبوعين يتساءلون أي يتلاومون كلّ يلقي بالمسؤولية على الآخر. فقال الأتباع من الإنس لقرنائهم من الجن ما أخبر تعالى به عنهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) (٥) أي والشمال أي توسوسون لنا فتحسّنون لنا الشرك والشر بلى تأمروننا به وتحضوننا عليه. فرد عليهم قرناؤهم بما أخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي ما كنتم مؤمنين فكفرناكم ولا

__________________

(١) ظلموا بمعنى اشركوا لأن الشرك اقبح أنواع الظلم شاهده قوله تعالى إن الشرك لظلم عظيم والآمر في قوله (احْشُرُوا) الله عزوجل والمأمور الملائكة والمأمور بحشرهم المشركون.

(٢) وفسر أزواجهم أيضا بأشياعهم وقرناؤهم وهم من الجن وما في التفسير أولى.

(٣) أي سوقوهم إلى النار والمأمور الملائكة كما تقدم.

(٤) ما لكم لا تناصرون أي ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا والاستفهام للتقريع والتوبيخ.

(٥) اضطرب أهل التفسير في تفسير تأتوننا عن اليمين وأقوالهم متضاربة فمنهم من قال تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها قاله قتادة ، ومنهم من قال اليمين بمعنى القوة أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر وهذا ينسجم مع السياق وما في التفسير شامل لهذه الأقوال إذ معناه انكم تأتوننا من كل جهة تحاولون اغواءنا واضلالنا.

٤٠٢

صالحين فأفسدناكم ، ولا موحدين فحملناكم على الشرك. هذا أولا وثانيا (ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجج قوية أقنعناكم بها ، ولا قدرة لنا أرهقناكم بها فاتبعتمونا ، بل كنتم أنتم قوما طاغين أي ظلمة متجاوزين الحد في الإسراف والظلم والشر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان صورة لموقف من مواقف عرصات القيامة.

٢ ـ بيان أن الأشباه في الكفر أو في الفجور أو في الفسق تحشر مع بعضها بعضا.

٣ ـ عدم جدوى براءة العابدين من المعبودين واحتجاج التابعين على المتبوعين.

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) : أي وجب علينا العذاب.

(إِنَّا لَذائِقُونَ) : أي العذاب نحن وأنتم.

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) : أي أضللناكم إنا كنّا ضالين.

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم القيامة.

(فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) : لأنهم كانوا في الغواية مشتركين.

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) : كما عذبنا هؤلاء التابعين والمتبوعين نعذب التابعين والمتبوعين في كل ضلال وكفر وفسّاد.

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ) : أي إن أولئك المشركين من عبدة الأوثان إذا قال لهم الرسول.

٤٠٣

(لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) : أي قولوا لا إله إلا الله ولا تعبدوا إلا الله يستكبرون ولا يقولون ولا يوحدون.

(لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) : يعنون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) : أي بل جاء بلا إله إلا الله وهو الحق الذي جاءت به الرسل وقد صدّقهم فيما جاءوا به من قبله وهو التوحيد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما ذكر تعالى من تساؤلات الظالمين وما قاله الأتباع للمتبوعين وما قاله المتبوعون للاتباع فقوله تعالى (فَحَقَّ عَلَيْنا (١) قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) هذا قول المتبوعين لأتباعهم قالوا لهم فبسبب غوايتنا وضلالنا وجب علينا العذاب إنا وأنتم لذائقوه لا محالة. وقالوا لهم أيضا معترفين بإغوائهم لهم (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) هذا قول الجن للإنس قال تعالى (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) وذلك لاشتراكهم في الشرك والشر والفساد. وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) من سائر الأصناف كالزناة وأكلة الربا وسافكي الدماء فنعذب الصنف مع صنفه وهذا عائد إلى قوله احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي أشياعهم وأضرابهم وقوله تعالى (إِنَّهُمْ (٢) كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) يخبر تعالى عن مشركي قريش أنهم كانوا في الدنيا إذا قال لهم رسول الله أو أحد المؤمنين قولوا لا إله إلا الله يستكبرون (٣) ويشمئزون ولا يقولونها بل (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ (٤) مَجْنُونٍ) يعنون النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصفون القرآن بالشعر ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاليه وقارئه بالشعر ولما يدعوهم إليه من الإيمان بالبعث والجزاء بالجنون والرسول في نظرهم مجنون. فرد تعالى عليهم بقوله (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) (٥) أي لم يمكن رسولنا بشاعر ولا مجنون بل جاء بالحق فأنكرتموه وكذبتم به تقليدا وعنادا فقلتم ما قلتم. وإنما هو قد جاء بالحق الذي هو لا إله إلا الله (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين جاءوا قبله بكلمة لا إله إلا الله والدعوة إليها والحياة والموت عليها.

__________________

(١) أي وجب علينا قول ربنا فكلنا ذائقوا العذاب شاهده قوله تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عزوجل كتب للنار أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم.

(٢) (إِنَّهُمْ كانُوا) : هذه الجملة تعليلية للحكم السابق وهو بيان العلة منه وفي الكلام حذف تقديره أنهم كانوا إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله فحذف القول للعلم به.

(٣) شاهده حديث ابن أبي حاتم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه إلى الله» وهو في الصحيح بأوسع منه.

(٤) أي لقول شاعر فحذف القول لظهوره.

(٥) (بَلْ) للاضراب الانتقالي أي اضرب عن قولهم : شاعر مجنون الباطل وقد سبق الحق المبين وهو شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله.

٤٠٤

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان هلاك الضال ومن أضله والغاوي ومن أغواه.

٢ ـ بيان ما كان يوجهه المشركون لرسول الله من التّهم الباطلة وردّ الله تعالى عليها.

٣ ـ التعظيم من شأن لا إله إلا الله وانها دعوة كل الرسل التي سبقت النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ تقرير التوحيد والبعث والجزاء والنبوة المحمدية.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي إلّا جزاء ما كنتم تعملونه من الشرك والمعاصي.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : أي لكن عباد الله المخلصين أي العبادة لله وحده فإنهم يجزون بأكثر أعمالهم إذ الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.

(لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) : أي في الجنة بكرة وعشيا.

(فَواكِهُ) : أي طعامهم وشرابهم فيها للتلذذ به كما يتلذذ بالفواكه فليس هو لحفظ أجسامهم حية كما في الدنيا.

وهم فيها مكرمون : أي لا تلحقهم فيها إهانة بل يقال لهم هنيئا بخلاف أهل النار يقال لهم ذوقوا عذاب النار بما كنتم تعملون.

٤٠٥

(مِنْ مَعِينٍ) : أي يجري على وجه الأرض كعيون الماء الجارية على الأرض.

(لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) : أي الخمرة موصوفة بأنها لذة للشاربين.

(لا فِيها غَوْلٌ) : أي ما يغتال عقولهم وأجسامهم فيهلكهم.

(وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) : أي لا يسكرون عنها أي بسببها كما هي خمر الدنيا.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن لحسنهم وجمالهم عندهن.

(عِينٌ) : أي واسعات الأعين الواحدة عيناء.

(بَيْضٌ مَكْنُونٌ) : أي كأنهن بيض مكنون أي مستور لا يصله غبار ولا غيره.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا (١) الْعَذابِ الْأَلِيمِ ، وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا يقال لأهل النار وهم موقوفون يتساءلون ومن جملة ما يقال لهم عندئذ هذا القول فيخبرون بأنهم ذائقوا العذاب الأليم الموجع ، وأنهم ما يجزون إلا بما كانوا يعملون فلا يظلمون بالجزاء بل هو جزاء عادل السيئة بمثلها. وهنا استثنى تعالى جزاء عباده المؤمنين الذي استخلصهم لعبادته فعبدوه ووحدوه فإنهم يجزون بأكثر من أعمالهم فضلا منه عليهم وإحسانا إليهم فالحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إلى سبعمائة وأكثر ، فقال (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وبيّن تعالى بعض جزائهم فقال (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي يأكلونه بكرة وعشيا (٢) ، وقوله (فَواكِهُ) (٣) فيه إشارة إلى أنهم لا يأكلون ولا يشربون لحفظ أجسادهم من الموت والفناء ، وإنما يأكلون ما يأكلون ويشربون ما يشربون تلذذا بذلك لا لدفع غائلة الجوع كما في الدنيا. (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي في الجنة حيث لا تلحقهم إهانة أبدا ، وقوله (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أضاف الجنة إلى النعيم مبالغة في وصفها بالنعيم حتى جعل الجنة جنّة النعيم فجعل للنعيم وهو النعيم جنة ، وأخبر أنهم متكئون فيها (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم إلى بعض وهم في جلسات تنعم ، وأخبر عنهم أنهم في حال جلوسهم متقابلين يسقون بواسطة خدم من الملائكة خاص فقال (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر تجرى بها الأنهار كأنها عيون الماء ، ووصف

__________________

(١) الأصل لذائقون العذاب فحذفت النون تخفيفا وأضيف لذائقوا إلى العذاب فخفض ولو نصب لجاز كقول الشاعر :

فألفيته غير مستعتب

ولا ذاكر الله إلا قليلا

(٢) (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : الاستثناء منقطع في معنى الاستدراك وهو تعقيب الكلام بما يضاده أو يرفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه وهو الغالب في الاستدراك قرأ الجمهور المخلصين باسم المفعول وقرأها غيرهم باسم الفاعل بكسر اللام والمراد بهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما روي عن الشافعي قوله :

ومما زادني شرفا وفخرا

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي

وأن أرسلت أحمد لي نبيا

(٣) عطف بيان من (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) والمعنى أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل للشبع.

٤٠٦

الخمر بأنها بيضاء وأنها لذة عظيمة للشاربين لها ، وأنها لا فيها غول وهو ما يغتال أبدانهم كالصداع ووجع البطن فقال (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (١) أي لا يسكرون بها فتذهب بعقولهم. وقوله (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) يعني أن لهم نساء هنّ أزواج لهم ومعنى قاصرات الطرف أي على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم وذلك لحسنهم وجمالهم فلا تنظر الواحدة منهن إلا إلى زوجها. وقوله (عِينٌ) أي واسعات الأعين (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ (٢) مَكْنُونٌ) هذا وصف لنساء الجنة وأنهن بيض الأجسام بياضا كبياض بيض النعام إذ هو أبيض مشرب بصفرة وهو من أحسن أنواع الجمال في النساء ومعنى (مَكْنُونٌ) مستور لا يناله غبار ولا أي أذى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عدالة الحق تبارك وتعالى في أنه يجزي السيئة بمثلها ولا يؤاخذ أحدا بغير كسبه في الحياة الدنيا.

٢ ـ بيان فضل الله تعالى إذ يجزي المؤمنين الحسنة بعشر أمثالها إلى أكثر من سبعمائة.

٣ ـ تقرير البعث وبيان بعض ما يجري فيه من قول وعمل.

٤ ـ وصف نعيم أهل الجنة طعاما وشرابا وجلوسا واستمتاعا.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي

__________________

(١) ينزفون بالبناء للمجهول قراءة الجمهور من نزف الشارب فهو منزوف ونزيف شبهوا عقل الشارب بالدم يقال نزف دم الجريح أي أفرغ وأصله من نزف الرجل ماء البئر إذا نزحه ولم يبعد منه شيئا. وقرأ البعض ينزفون من أنزف الرباعي الشارب إذا ذهب عقله بالسكر أي صار ذا نزف فالهمزة للصيرورة لا للتعدية.

(٢) العرب تشبه النساء بالبيض لصفائهن وبياضهن قال امرؤ القيس الشاعر الجاهلي :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

أطلق لفظ البيضة على المرأة.

٤٠٧

لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

شرح الكلمات :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي أقبل أهل الجنة.

(يَتَساءَلُونَ) : أي عما مرّ بهم في الدنيا وما جرى لهم فيها.

(إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) : أي كان لي صاحب ينكر البعث الآخر.

يقول لي أئنك لمن المصدقين : أي يقول تبكيتا لي وتوبيخا أي بالبعث والجزاء.

(أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) : أي محاسبون ومجزيون بأعمالنا في الدنيا إنكارا وتكذيبا.

(هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) : أي معي إلى النار لننظر حاله وما هو فيه من العذاب.

(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) : أي في وسط النار.

(تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) : أي قال هذا تشميتا به ، ومعنى تردين تهلكني.

(لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) : أي المسوقين إلى جهنم المحضرين فيها.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) : أمخلدون فما نحن بميتين ، والاستفهام للتقرير أي نعم.

(إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) : التي ماتوها في الدنيا.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) : أي لمثل هذا النعيم من الخلود في الجنة والنعم فيها فليعمل العاملون وذلك بكثرة الصالحات واجتناب السيئآت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان نعيم أهل الجنة فقد قال بعضهم لبعض بعد أن جلسوا على السرر متقابلين يتجاذبون أطراف الحديث متذكرين ما مرّ بهم من أحداث في الحياة الدنيا فقال أحدهم إنّي كان لي في الدنيا قرين أي صاحب يقول لي استهزاء وانكارا للبعث الآخر (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي بالبعث والجزاء على الأعمال في الدنيا. ويقول أيضا مستبعدا منكرا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي محاسبون ومجزيون. ثم قال ذلك القائل لبعض

٤٠٨

أهل مجلسه (هَلْ أَنْتُمْ (١) مُطَّلِعُونَ) أي معي على أهل النار لنرى صاحبي فيها ونسأله عن حاله فكأنهم أبوا عليه ذلك وأبوا أن يطلعوا أما هو فقد (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في (٢) وسطها ، وقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله (قالَ تَاللهِ) أي والله (إِنْ كِدْتَ (٣) لَتُرْدِينِ) أي تهلكني لما كنت تنكر عليّ الإيمان بالبعث وتسخر مني وتشمت بي لإيماني وعملي الصالح الذي كنت ارجو ثوابه وهو حاصل الآن وقال أيضا (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) عليّ بالعصمة والحفظ لكنت من المحضرين الآن في جهنم معك. ثم قال له (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) والاستفهام تقريري فهو يقرره ليقول نعم (٤) مخلدون نحن في الجنة وأنتم في النار. ثم قال (إِنَّ هذا) أي الخلود في دار النعيم (لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ كان نجاة من النار وهي أعظم مرهوب مخوف ، ودخولا للجنة دار السّلام والنعيم المقيم. قال تعالى (لِمِثْلِ هذا) أي هذا الفوز العظيم بالنجاة من النار والخلود في دار الأبرار (فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي فليواصلوا عملهم وليخلصوا فيه لله ربّ العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظمة الله تعالى في إقدار المؤمن على أن يتكلم مع من هو في وسط الجحيم ويرى صورته ويتخاطب معه ويفهم بعضهم بعضا ، والعرض التلفازي اليوم قد سهل إدراك هذه الحقيقة.

٢ ـ التحذير من قرناء السوء كالشباب الملحد وغيره.

٣ ـ بيان كيف كان المكذبون يسخرون من المؤمنين ويعدونهم متخلفين عقليّا.

٤ ـ لا موت في الآخرة (٥) وإنما حياة أبدية في النعيم أو في الجحيم.

٥ ـ الحث على كثرة الأعمال الصالحة ، والبعد عن الأعمال الفاسدة.

__________________

(١) أورد البخاري ايرادات لا حاجة إليها منها قيل القرين هو من الشياطين وقرىء من المصدقين بتشديد الصاد والدال من التصدق بالمال ، وجعل أنتم مطلعون أنه من قول الله تعالى أو قول ملك. وما في التفسير هو الصواب ولا داعي لإيراد ما بخلافه إذ لا فائدة منه إلا تذبذب الرأي واضطراب الفكر.

(٢) قال ابن مسعود رضي الله عنه يقال تعبت حتى انقطع سوائي أي وسطي وقال بعض العلماء ، لو لا أن الله عرفه اياه لما عرفه إذ تغير حبره وسبره أي اللون والهيئة.

(٣) (إِنْ كِدْتَ) إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير ثان محذوف واللام في لتردين هي الدالة على أن إن ليست نافية ولذا تسمّى باللام الفارقة.

(٤) وجائز أن يكون هذا القول موجها إلى أصحاب الأرائك أهل النعيم بعد أن فرغ المؤمن من الحديث مع قرينه في سواء الجحيم قال لرفاقه في النعيم مقررا أفما نحن بميتين ... الآية.

والسياق يساعد على جوار هذا.

(٥) قيل لأحد الحكماء : ما شر من الموت؟ قال الذي يتمنى فيه الموت وقال الشعر :

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وكون لا موت في الآخرة صح فيه الحديث إذ يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح بين الجنة والنار وينادي مناد يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت.

٤٠٩

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

شرح الكلمات :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً) : أي ذلك المذكور لأهل الجنة خير نزلا وهو ما يعد للنازل من ضيف وغيره.

(أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) : المعدة لأهل النار وهي من أخبث الشجر طعما ومرارة.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) : أي امتحانا واختبارا لهم في الدنيا وعذابا لهم في الآخرة.

(تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) : أي في قعر الجحيم وأغصانها في دركاتها.

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) : أي ما يطلع من ثمرها أولا كالحيات القبيحة المنظر.

(إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) : أي بعد أكلها يسقون ماء حميما فذلك الشوب أي الخلط.

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ) : أي وجدوا آباءهم.

(فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) : أي يسرعون مندفعين إلى اتباعهم بدون فكر ولا رويّة

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) : أي رسلا منذرين لهم من العذاب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) : إنها كانت عذابا أليما لإصرارهم على الكفر.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) : فإنهم نجوا من العذاب ولم يهلكوا.

٤١٠

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما أعده لأهل الإيمان به وطاعته وطاعة رسوله من النعيم المقيم في الجنة دار الأبرار قال أذلك (١) المذكور من النعيم في الجنة خير نزلا والنزل ما يعد (٢) من قرى للضيف النازل وغيره أم شجرة الزقوم ، أي ثمرها وهو ثمر سمج مرّ قبيح المنظر. ثم أخبر تعالى أنه جعلها فتنة للظالمين من كفار قريش إذ قالوا لما سمعوا بها كيف تنبت الشجرة في النار والنار تحرق الشجر ، فكذبوا بها فكان ذلك فتنة لهم. ثم وصفها تعالى بقوله (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي في قعرها وتمتد فروعها في دركات النار. وقوله (طَلْعُها) أي ما يطلع من ثمرها في قبح منظره (كَأَنَّهُ رُؤُسُ (٣) الشَّياطِينِ) لأنّ العرب تضرب المثل بالشيطان في القبح كما أن هناك حيات يسمونها بالشيطان قبيحة المنظر وقوله (فَإِنَّهُمْ) أي الظلمة المشركين (لَآكِلُونَ مِنْها) أي من شجرة (٤) الزقوم لشدة جوعهم (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي بطونهم (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) وذلك أنهم لما يأكلون يعطشون فيسقون من حميم فذلك الشوب من الحميم إذ الشوب الخلط والمزج يقال شاب اللبن بالماء أي خلطه به وقوله (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي مردهم إلى الجحيم بعد ما يأكلون ويشربون في مجالس خاصة بالأكل والشرب يردون إلى نار الجحيم.

وقوله تعالى (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) أي وجدوا آباءهم ضالين عن طريق الهدى والرشاد (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٥) أي يهرولون مسرعين وراءهم يتبعونهم في الشرك والكفر والضلال وقوله تعالى (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي فليس هؤلاء أول من ضل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي في أولئك الضالين من الأقوام السالفين منذرين أي رسلا ينذرونهم فلم يؤمنوا فأهلكناهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) إنها كانت هلاكا ودمارا للكافرين. وقوله تعالى (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٦) استثناء منه تعالى لعباده المؤمنين الصالحين وهم الذين استخلصهم لعبادته بذكره وشكره فآمنوا وأطاعوا فإنه تعالى نجاهم وأهلك أعداءهم الكافرين المكذبين وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) (أَذلِكَ خَيْرٌ) : مبتدأ وخبر ونزلا تمييز ، والمعنى أنعيم الجنة خير نزلا أم شجرة الزقوم خير نزلا؟

(٢) قرى الضيف هو ما يعدّ له من طعام وشراب وفراش ويسمى النزل بضم النون والزاي ويجوز تسكين الزاي.

(٣) مما تعارف عليه العرب أنهم يصورون كل قبيح (بصورة الشياطين) قال امرؤ القيس :

أيقتلونني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوالي

انظر كيف صور سهامه المحددة بصوره أنياب الأغوال ولا يوجد أغوال في الواقع وإنما مجرد تصور وتقدير لا غير.

(٤) هذا الطعام والشراب مقابل ما لأهل الجنة من رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم.

(٥) الإهراع الإسراع من شخص يستحثه بشيء على الإسراع والهرولة.

(٦) الاستثناء متصل لأن المخلصين كانوا من جملة المنذرين فصدقوا المنذرين واتبعوهم وذلك باستخلاص الله تعالى لهم لعبادته والدعوة إليه.

٤١١

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أحسن الأساليب في الدعوة وهو الترهيب والترغيب.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء بأسلوب العرض للأحداث التي تتم في القيامة.

٣ ـ التنديد بالاتباع في الضلال للآباء والأجداد وأهل البلاد.

٤ ـ إهلاك الله تعالى للظالمين وانجاؤه للمؤمنين عند الأخذ بالذنوب في الدنيا والآخرة.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) : أي قال إني مغلوب فانتصر «من سورة القمر».

(فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) : أي له إذ نجيناه وأهلكنا الكافرين من قومه.

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : أي عذاب الغرق بالطوفان.

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) : إذ عامة الناس كانوا من ذريّته سام ، وحام ويافث.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه ثناء حسنا عند سائر الأمم والشعوب.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) : أي سلام منّا على نوح في العالمين أي في الناس أجمعين.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : أي كما جزينا نوحا بالذكر الحسن والسّلام في العالمين نجزي المحسنين.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) : أي كفار قومه المشركين بعد إنجاء المؤمنين في السفينة.

٤١٢

معنى الآيات :

على إثر ذكره تعالى إهلاك المنذرين وإنجائه المؤمنين من عباده المخلصين ذكر قصة تاريخية لذلك وهي نوح وقومه حيث أنذر نوح قومه ولما جاء العذاب أنجى الله عباده المخلصين وأهلك المكذبين المنذرين فقال تعالى في ذكر هذه القصة الموجزة (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي دعانا لنصرته من قومه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) وقال (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) نحن له (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) باستثناء امرأته وولده كنعان (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو عذاب الغرق. وقوله (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) إلى يوم القيامة وهذا جزاء له على صبره في دعوته وإخلاصه وصدقه فيها إذ كل الناس اليوم من أولاده الثلاثة وهم (١) سام وهو أبو العرب والروم وفارس ، وحام وهو أبو السودان ويافث وهو أبو الترك والخزر وهم التتار ضيقوا العيون ولهذا سموا الخزر من خزر العين وهو ضيقها وصغرها ، ويأجوج ومأجوج ، وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (٢) أي في أجيال البشرية التي أتت بعده وهو الذكر الحسن والثناء العطر المعبر عنه بقوله تعالى (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزينا نوحا لإيمانه وصبره وتقواه وصدقه ونصحه وإخلاصه نجزي المحسنين في إيمانهم وتقواهم وهذه بشرى للمؤمنين وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) ثناء عليه وبيان لعلة الإكرام والإنعام عليه. ودعوة إلى الإيمان بالترغيب فيه ، وقوله (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أغرقناهم بالطوفان بكفرهم وشركهم وتكذيبهم بعد أن أنجينا المؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته لإعدائه.

٢ ـ إجابة دعاء الصالحين لا سيما عند ما يظلمون.

٣ ـ فضل الإحسان وحسن عاقبة أهله.

٤ ـ فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله في الدنيا والآخرة.

٥ ـ قول سلام على نوح في العالمين إذا قاله المؤمن حين يمسي (٣) أو يصبح يحفظه الله تعالى من

__________________

(١) عن سعيد بن المسيب قال ولد نوح عليه‌السلام ثلاثة : سام ويافث وحام وولد كل واحد من هؤلاء الثلاث ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم : وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير ، قال مجاهد لسان صدق في الأنباء.

(٣) وقال سعيد بن المسيب وبلغني أنه من قال حين يمسي «سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب» ذكره أبو عمرو ابن عبد البر في التمهيد ونقله عنه القرطبي.

٤١٣

لسعة العقرب. وأصح منه قول : أعوذ بكلمات الله التامة (١) من شر ما خلق لصحة الحديث في ذلك.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) : وإن من أشياع نوح على ملته ومنهاجه إبراهيم الخليل عليهما‌السلام.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : أي أتى ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الرب سبحانه وتعالى.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ؟) : أي حين قال لأبيه وقومه المشركين أي شيء تعبدون؟

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ؟) : أي كذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله؟

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي شيء هو؟ أترون أنه لا يسخط عليكم ولا يعاقبكم فتعبدون

__________________

(١) روى مالك في الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل.

٤١٤

غيره وهو ربكم ورب العالمين.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) : أي إيهاما لهم إذ كانوا يؤلهون النجوم.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) : أي عليل أي ذو سقم وهو المرض والعلة.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) : أي رجعوا إلى ما هم فيه وتركوه قابلين عذره.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) : أي مال إليها خفية.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) : أي بقوة يمينه فكسرها بفأس وحطمها.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) : أي يمشون بقوة وسرعة.

(ما تَنْحِتُونَ) : من الحجارة والأخشاب والمعادن كالذهب والفضة.

(وَما تَعْمَلُونَ) : أي وخلق ما تعبدون من أصنام وكواكب.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) : واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار فإذا التهب ألقوه فيه.

(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) : أي المقهورين الخائبين في كيدهم إذ نجّى الله ابراهيم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى قصة نوح مقررا بها نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ذكر قصة أخرى هي قصة ابراهيم وهي أكبر موعظة لكفار قريش لأنهم ينتمون إلى إبراهيم ويدّعون أنهم على ملته وملة ولده اسماعيل فلذا أطال الحديث فيها فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّ مِنْ (١) شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن من أشياع نوح الذين هم على ملته ومنهجه ابراهيم خليل الرحمن (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أتى (٢) ربّه بقلب سليم من الشرك والشك والالتفات إلى غير الربّ تعالى في الوقت الذي (قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) ، منكرا عليهم عبادة الأصنام فلو كان في قلبه أدنى التفاتة إلى غيره طمعا أو خوفا ما أمكنه أن يقول الذي قال بل كان في تلك الساعة سليم القلب ليس فيه نظر لغير الله تعالى وقوله (أَإِفْكاً (٣) آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي أكذبا هو أسوأ الكذب تريدون آلهة غير الله حيث جعلتموها بكذبكم بألسنتكم آلهة وهي أحجار وأصنام. وقوله (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وقد عبدتم الكذب دونه إذ آلهتكم ما هي إلا كذب بحت. أترون أن الله لا يسخط عليكم ولا

__________________

(١) وقيل هاء الضمير عائدة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون المعنى وإن من شيعة محمد إبراهيم وهو حقا من شيعته ولكن السياق يأباه بل المراد نوح عليه‌السلام.

(٢) قيل في مجيئه ربه (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إما أن يكون عند دعائه إلى توحيده ، أو عند إلقائه في النار.

(٣) الاستفهام إنكاري إذ هو أنكر على قومه عبادة وتأليه غير الله تعالى ، وقوله (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) استفهام متفرغ عما قبله وهما للإنكار الأول والثاني. فالأول انكر عليهم اتخاذهم آلهة دونه تعالى والثاني انكر عليهم سوء ظنهم بالله حتى عبدوا آلهة غيره.

٤١٥

يعاقبكم؟ وقوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) هنا كلام محذوف دل عليه المقام وهو أن أهل البلد قد عزموا على الخروج إلى عيد لهم يقضونه خارج البلد ، فعرضوا عليه الخروج معهم فاعتذر بقوله إني سقيم أي ذو سقم بعد أن نظر في النجوم موهما لهم أنه رأى ما دله على أنه سيصاب بسقم وهو مرض الطاعون وكان القوم منجمين ينظرون إلى النجوم فيدعون أنهم يعرفون بذلك الخير والشرك الذي ينزل إلى الأرض بواسطة الكواكب فأوهمهم بذلك فتركوه خوفا من عدوى الطاعون ، أو تركوه قبولا لعذره (١) هذا ما دل عليه قوله تعالى (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ) أي لذلك ورجعوا إلى أمورهم وما هم عازمون عليه من الخروج إلى العيد خارج البلد وهو معنى فتولوا عنه مدبرين وهنا وقد خلا له المكان الذي فيه الآلهة من الحراس والعباد والزوار للآلهة في بهوها الخاص فنفذ ما حلف على تنفيذه في مناظرة كانت بينه وبين بعضهم إذ قال (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وبدأ المهمة فقال للآلهة وأنواع الأطعمة أمامها تلك الأطعمة من الحلويات وغيرها التي يتركها المشركون لتباركها الآلهة ثم يأكلونها رجاء بركتها (أَلا تَأْكُلُونَ) عارضا عليها الأكل سخريّة بها فلم تجبه ولم تأكل فقال لها (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) ثم انهال عليها ضربا بفأس بيده اليمني فكسرها وجعلها جذاذا أي قطعا متناثرة. فلما رجعوا من عيدهم مساء وجاءوا بهو الآلهة ليأخذوا الأطعمة وجدوا الآلهة مكسرة. (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي مسرعين بأن طلبوا من رجالهم إحضاره على الفور فأحضروه وأخذوا يحاكمونه فقال في دفاعه (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي بأيديكم من أصنام بعضها من حجر وبعض من خشب ومن فضة ومن ذهب أيضا ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) من كل عمل من أعمالكم فلم لا تعبدونه ، وتعبدون أصناما لا تنفع ولا تضر ، ولما غلبهم في الحجة وانهزموا أمامه أصدروا أمرهم بإحراقه بالنار فقالوا (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) أي فرنا عظيما واملأوه حطبا وأضرموا فيه النار حتى إذا التهب فألقوه في جحيمه وهو معنى قوله تعالى (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وقوله تعالى (فَأَرادُوا) أي بإبراهيم (كَيْداً) أي شرا وذلك بعزمهم على إحراقه وتنفيذهم ما عزموا عليه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي المتهورين المغلوبين إذ قال تعالى للنار (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت فخرج منها إبراهيم ولم يحرق سوى كتافيه الذي في يديه ورجليه وخيب الله سعي المشركين وأذلهم أمام إبراهيم وأخزاهم

__________________

(١) شاهد هذا حديث الصحيح : لم يكذب ابراهيم إلا ثلاثا اثنتين منهن في ذات الله عزوجل قوله : إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا. وبينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال هي أختي الحديث.

٤١٦

وهو معنى قوله تعالى (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (١) وقد جمع الله تعالى لهم بين الخسران في كل ما أملوه من عملهم والذل الذي ما فارقهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أصل الدين واحد فالإسلام هو دين الله الذي تعبد به آدم فمن بعده إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ كمال ابراهيم في سلامة قلبه من الالتفات إلى غير الله تعالى حتى إن جبريل قد عرض له وهو في طريقه إلى الجحيم الذي أعده له قومه فقال [هل لك حاجة يا إبراهيم فقال أما إليك فلا].

٣ ـ من أقبح الكذب ادعاء أن غير الله يعبد مع الله تبركا به أو طلبا لشفاعته.

٤ ـ وجوب تغيير المنكر عند القدرة عليه.

٥ ـ بيان ابتلاء ابراهيم وأنه ألقي في النار فصبر ، ولذا أكرمه ربّه بما سيأتي في السياق بيانه.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ

__________________

(١) هذه الجملة من سورة الأنبياء ذكرت هنا شاهدا مبينا لغاية كيدهم وهو خسرانهم فيما دبروا وفعلوا.

٤١٧

الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

شرح الكلمات :

(إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) : أي إني مهاجر إلى ربي سيهدين إلى مكان أعبده فيه فلا أمنع فيه من عبادته.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي ولدا من الصالحين.

(بِغُلامٍ حَلِيمٍ) : أي ذي حلم وصبر كثير يولد له.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) : أي بلغ من العمر ما أصبح يقدر فيه على العمل كسبع سنين فأكثر.

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) : أي من الرأي الرشد.

(مِنَ الصَّابِرِينَ) : أي على الذبح الذي أمرت به.

(فَلَمَّا أَسْلَما) : أي خضعا لأمر الله الولد والوالد وانقادا له.

(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض ولكل انسان جبينان أيمن وأيسر والجبهة بينهما.

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) : أي بما عزمت عليه وفعلته من الخروج بالولد إلى منى وصرعه على الأرض وإمرار السكين على حلقه.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) : أي الأمر بالذبح اختبار عظيم.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) : أي كبش كبير.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) : أي أبقينا عليه ثناء وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الناس.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) : أي وباركنا عليه بتكثير ذريته وذرية اسحق حتى إن عامة الأنبياء من ذريتهما.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة ابراهيم الخليل إنه بعد أن ألقي به في النار وخرج بحمد الله سالما

٤١٨

قرر الهجرة وترك البلاد ، وقال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي إني ذاهب إلى حيث أذن لي ربي بالهجرة إليه حيث أتمكن من عبادته فذهب إلى بلاد الشام ونزل أولا بحران من الشام ، وقوله سيهدين أي يثبتني بدوام هدايته لي. ودعا ربّه قائلا (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ارزقني أولادا صالحين. فاستجاب الله تعالى له وذلك انه سافر في أرض القدس مع زوجته سارة وانتهى إلى مصر ، وحدث أن وهب طاغية مصر جارية لسارة تسمى هاجر فوهبتها سارة لزوجها ابراهيم فتسراها فولدت له غلاما هو اسماعيل وهو استجابة الله تعالى لابراهيم في دعائه عند هجرته (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) وهو قوله تعالى (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ). وقد أخذ سارة ما يأخذ النساء من الغيرة لما رأت جارية ابراهيم أنجبت له اسماعيل فأمر الله ابراهيم بأن يأخذها وطفلها إلى مكة إبعادا لها عن سارة ليقل تألمها. وهناك بمكة رأى ابراهيم رؤيته ورؤيا الأنبياء وحي وقال لاسماعيل ما أخبر تعالى به في قوله ، (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) كابن سبع سنين (١) فأكثر بمعنى أصبح قادرا على العمل معه (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي استشاره ليرى رأيه في القبول أو الرفض فأجاب اسماعيل قائلا (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي ما يأمرك به ربك (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وفعلا خرج به ابراهيم من حول البيت إلى منى (٢) وانتهى إلى مكان تجاوز به مكان الجمرات الثلاث وتله للجبين أي صرعه على جبينه بأن وضع جبينه على الأرض وأخذ المدية ووضعها على رقبته والتفت لأمر ما وإذا بكبش أملح والهاتف يقول اترك ذاك وخذ هذا فترك الولد وذبح الكبش وكانت آية. وهو قوله تعالى (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، وقوله تعالى (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار البيّن وبذلك تأهل للخلة وأصبح خليل الرحمن ، وقوله تعالى (وَفَدَيْناهُ) أي اسماعيل (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٣) أي بكبش عظيم. وهو الذي

__________________

(١) روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغ الثالثة عشرة من عمره وفي هذا أقوال ولهذا في التفسير قلنا سبع سنين فأكثر إذ بداية السعي من السابعة والبلوغ ينتهي إلى الخامسة عشر.

(٢) قيل إن إبراهيم لما رأى الرؤيا كانت ليلة يوم التروية وهو ثامن الحجة فسمى اليوم يوم التروية إذ تروّى فيه ويوم التاسع عرف أن الرؤيا حق لذا سمّي يوم عرفة ويوم العاشر خرج بإسماعيل ليذبحه فسمي يوم النحر لذلك والله أعلم.

(٣) اختلف في أيهما الذبيح أهو اسماعيل أم إسحق والراجح انه اسماعيل لأن الذبح كان في مكة ولم يكن في الشام لأن إسماعيل عاش بمكة ولم يعش بالشام ولأن هاجر كانت في مكة وسارة كانت بالشام وبلغ الخلاف حتى قال بعضهم نفوض فكان التفويض مذهبا ثالثا والذي أثار هذا الخلاف هم أهل الكتاب يريدون سلب هذا الفضل عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الأبيات الآتية إشارة إلى ذلك :

إن الذبيح هديت إسماعيل

نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا

وأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمته فلا تنكر له

شرفا به قد خصه التفضيل

٤١٩

ذبحه ابراهيم وترك اسماعيل (١) وقوله (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا عليه ثناء عاطرا وذكرا حسنا فيمن جاء بعده من الأمم والشعوب. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي سلام من الله على ابراهيم (كَذلِكَ) أي كذلك الجزاء الذي جزى به الله تعالى ابراهيم على إيمانه وهجرته وصبره وطاعته يجزي المحسنين وقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) وفي هذا ثناء عاطر على المؤمنين ، وقوله (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا يوم جاءه الضيف من الملائكة وهم في طريقهم إلى المؤتفكات قرى قوم لوط ، وذلك بعد أن بلغ من العمر عتيا وامرأته سارة كذلك إذ قالت ساعة البشرى (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وعجبا لمن يقول إن الذبيح اسحق وليس اسماعيل ، وقوله تعالى (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وباركنا عليه بتكثير ذريّته وذريّة اسحاق حتى إن عامة الأنبياء من بعدهما من ذريّتهما. وقوله تعالى (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) أي ابراهيم واسحق (مُحْسِنٌ) أي مؤمن صالح (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الهجرة في سبيل الله وأن أول هجرة كانت في الأرض هي هجرة ابراهيم من العراق إلى الشام.

٢ ـ بيان أن الذبيح هو اسماعيل وليس هو اسحق كما يقول البعض وكما يدعي اليهود.

٣ ـ وجوب بر الوالدين وطاعتهما في المعروف.

٤ ـ فضل ابراهيم وعلو مقامه وكرامته عند ربّه.

٥ ـ فضل الإحسان وجزاء المحسنين.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا

__________________

(١) ضعّف القرطبي رواية الرجل الذي نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا يا ابن الذبيحين فضحك صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أرى وجها صحيحا لتضعيفها إذ صح أن الذبيح الأول هو اسماعيل والثاني عبد الله الوالد إذ كل منهما أريد ذبحه والله فداه ولله الحمد والمنة.

٤٢٠