أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

١

٢

٣

سورة النّمل

مكية

وآياتها ثلاث وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(طس) : هذا أحد الحروف المقطّعة ، يقرأ : طا. سين.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من هذه الحروف آيات القرآن.

(هُدىً وَبُشْرى) : أي أعلام هداية للصراط المستقيم ، وبشارة للمهتدين.

(زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) : أي حببناها إليهم حسب سنتنا فيمن لا يؤمن بالبعث والجزاء.

(فَهُمْ يَعْمَهُونَ) : في ضلال بعيد وحيرة لا تنتهى.

(لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) : أي في الدنيا بالأسر والقتل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (طس) لقد سبق أن ذكرنا أن السلف كانوا يقولون في مثل هذه الحروف المقطعة : الله أعلم بمراده بذلك ، وهذه أسلم ، وذكرنا أن هناك فائدة قد تقتنص من

٤

الاشارة بتلك أو بذلك ، وهي أن القرآن المعجز الذي تحدى به منزله عزوجل الإنس والجن قد تألف من مثل هذه الحروف العربية فألفوا أيها العرب مثله سورة فأكثر فإن عجزتم فآمنوا أنه كلام الله ووحيه واعملوا بما فيه ويدعو إليه.

وقوله (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ) (١) أي المؤلفة من مثل هذه الحروف آيات القرآن (وَكِتابٍ مُبِينٍ) (٢) أي مبين لكل ما يحتاج إلى بيانه من الحق والشرع في كل شؤون الحياة.

وقوله : (هُدىً وَبُشْرى (٣) لِلْمُؤْمِنِينَ) أي هاد إلى الصراط المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى السعادة والكمال في الدارين ، (وَبُشْرى) أي بشارة عظمى للمؤمنين أي بالله ولقائه والرسول وما جاء به ، (الَّذِينَ يُقِيمُونَ (٤) الصَّلاةَ) بأدائها في أوقاتها في بيوت الله تعالى مستوفاة الشروط والأركان والواجبات والسنن والآداب (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عند وجوبها عليهم (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالدار الآخرة (هُمْ يُوقِنُونَ) بوجودها والمصير إليها ، وبما فيها من حساب وجزاء.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي حببناها إليهم حتى يأتوها وهي أعمال شر وفساد ، وذلك حسب سنتنا فيمن أنكر البعث وأصبح لا يرهب حسابا ولا يخاف عقابا انغمس في الرذائل والشهوات وأصبح لا يرعوي عن قبيح (فَهُمْ) لذلك (يَعْمَهُونَ) في سلوكهم يتخبطون لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.

وقوله تعالى : (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي في الدنيا بالأسر والقتل ، وهم في الآخرة (٥) هم الأكثر خسارا من سائر أهل النار أي أشد عذابا.

__________________

(١) عرّف الكتاب ونكّر القرآن وهما في معنى المعرفة كما يقال : فلان رجل عاقل ، وفلان الرجل العاقل ، والكتاب هو القرآن فجمع له صفتان تفخيما وتعظيما فهو قرآن وهو كتاب ، والكتاب : علم على القرآن بالغلبة ، والقرآن علم بالنقل.

(٢) (مُبِينٍ) إن كان من أبان اللازم فهو بمعنى بان أي : فهو ظاهر واضح بيّن في نفسه وفي هذا تنويه وتشريف له ، وإن كان من أبان المتعدي فهو مبيّن لما أريد منه من أركان العقيدة وأنواع العبادات وأحكام الشريعة وآدابها.

(٣) (هُدىً وَبُشْرى) : حال ، والاعراب مقدر اشار إلى القرآن حال كونه هاديا ومبشرا للمؤمنين به العاملين بما فيه من الشرائع والأحكام والآداب والآخلاق.

(٤) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) الموصول وصلته وما عطف عليه نعت للمؤمنين وصف لهم بما تضمنه لفظ الهدى ، وجملة : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) معطوفة على صلة الموصول فهي نعت ثان للمؤمنين الذين هدوا بالقرآن.

(٥) قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة موقع جواب عن سؤال تقديره : إذا كان القرآن هاديا ومبشرا فما للذين لا يؤمنون بالآخرة لم يهتدوا؟ فالجواب : إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّن الله لهم أعمالهم لذا فهم لا يهتدون ، وتزيين الأعمال قائم على سنة من سنن الله تعالى وهي أنّ من رفض الحق وآثر الباطل عليه وأصرّ على اختيار الباطل يحرم الهداية فلا يقبلها ممن جاءه بها كالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إعجاز القرآن إذ آياته مؤلفة من مثل طس ، وحم وعجز العرب عن تأليف مثله.

٢ ـ بيان كون القرآن ، هدى وبشرى للمؤمنين الملتزمين بمتطلبات الإيمان.

٣ ـ إنكار البعث والدار الآخرة يجعل صاحبه شر الخليقة وأسوأ حالا من الكلاب والخنازير

٤ ـ وجوب قتال الملاحدة وأخذهم أسرا وقتلا حتى يؤمنوا بالله ولقائه لأنهم خطر على أنفسهم وعلى البشرية سواء.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

شرح الكلمات :

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى) : أي تلقنه وتحفظه وتعلمه.

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) : أي من عند حكيم عليم هو الله جل جلاله.

(آنَسْتُ ناراً) : أي أبصرت نارا من بعد حصل لي بها بعض الأنس.

(سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) : أي عن الطريق حيث ضلوا طريقهم إلى مصر في الصحراء.

(بِشِهابٍ قَبَسٍ) : أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.

٦

(لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) : أي تستدفئون.

(أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) : أي بارك الله جل جلاله من في النار وهو موسى عليه‌السلام إذ هو في البقعة المباركة التي نادى الله تعالى موسى منها.

(وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي نزه الرب تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله من صفات المحدثين.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ) : أي الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم الذي ناداك وباركك.

(تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) : أي تتحرك بسرعة كأنها حية خفيفة السرعة.

(وَلَمْ يُعَقِّبْ) : أي ولم يرجع إليها خوفا وفزعا منها.

(ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) : أي تاب فعمل صالحا بعد الذي حصل منه من السوء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى (١) الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) يخبر تعالى رسوله بأنّه يلقّن القرآن ويحفظه ويعلمه من لدن حكيم في تدبيره عليم بخلقه وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه.

وقوله تعالى (إِذْ قالَ مُوسى) اذكر لمنكري الوحي والمكذبين بنبوتك إذ قال موسى إلى آخر الحديث ، هل مثل هذا يكون بغير التلقي من الله تعالى. والجواب : لا إذا فأنت رسول الله حقا وصدقا (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) امرأته وأولاده (إِنِّي آنَسْتُ (٢) ناراً) أي أبصرتها مستأنسا بها. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ (٣) بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ (٤) تَصْطَلُونَ) أي تستدفئون إذ كانوا في ليلة شاتية باردة وقد ضلوا طريقهم.

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية بسط وتمهيد لما يريد أن يسوق من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه وهو كما قال.

(٢) (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي : أبصرتها من بعد قال الشاعر :

آنست نبأة وأفرز عنها

القناص عصرا وقد دنا الإمساء

(٣) قرأ عاصم (بِشِهابٍ قَبَسٍ) بتنوين شهاب ، وقرأ نافع بشهاب بلا تنوين مضاف إلى قبس ، والاضافة للنوع كثوب خزّ وخاتم فضة.

(٤) الاصطلاء : الاستدفاء من البرد ، قال الشاعر :

النار فاكهة الشتاء فمن يرد

أكل الفواكه شاتيا فليصطل

٧

وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَها) أي النار (نُودِيَ) (١) أي ناداه ربه تعالى قائلا : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي تقدس من في النار التي هي نور الله جل جلاله. وهو موسى عليه‌السلام ومن حولها من أرض القدس والشام ، والله أعلم بمراده من كلامه وإنا لنستغفره ونتوب إليه إن لم نوفق لمعرفة مراده من كلامه وخطابه فاغفر اللهم ذنبنا وارحم عجزنا وضعفنا إنك غفور رحيم ، وقوله تعالى (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) نزه تعالى نفسه عما لا يليق بجلاله وكماله وقوله (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الذي يناديك هو الله ذو الألوهية على خلقه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في قضائه وتدبير وتصريف ملكه بعد أن عرفه بنفسه وأذهب عنه روع نفسه ، أمره أن يلقي العصا تمرينا له على استعمالها فقال (وَأَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فاهتزت كأنها جان أي حية خفيفة السرعة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى) (٢) (مُدْبِراً) أي رجع القهقرى فزعا وخوفا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يرجع إليها خوفا منها فناداه ربه تعالى (يا مُوسى (٣) لا تَخَفْ) من حية ولا من غيرها (إِنِّي لا يَخافُ (٤) لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (إِلَّا (٥) مَنْ ظَلَمَ) أي نفسه باقتراف ذنب من الذنوب فهذا يخاف لكن إن هو تاب بعد الذنب ففعل حسنات بعد السيئات فإنه لا يخاف لأني غفور رحيم فأغفر له وارحمه. طمأن تعالى نفس موسى بهذا لأن موسى كان شاعرا بأنه أذنب بقتل القبطي قبل نبوته ورسالته ، وإن كان القتل خطأ إلا أنّه تجب فيه الكفارة عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ مشروعية السفر بالأهل والولد وجواز خطأ الطريق حتى على الأنبياء والأذكياء.

٣ ـ قيومية الرجل على النساء والأطفال.

__________________

(١) عن وهب بن منبّه قال : فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها : العليق فعجب منها ... (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها).

(٢) أي : خائفا على عادة البشر.

(٣) الاستثناء منقطع أي : لكن يخاف من ظلم ، ومن ظلم ثم تاب فلا يخاف أيضا فإن الله غفور رحيم.

(٤) هذا مقول قول أي : يا موسى لا تخف.

(٥) الجملة تعليل للنهي في قوله : (يا مُوسى لا تَخَفْ).

٨

٤ ـ تجلي الرب تعالى لموسى في البقعة المباركة ومناجاته وتدريبه على العصا والسلاح الذي يقاوم به فرعون وملأه فيما بعد.

٥ ـ الظلم يسبب الخوف والعقوبة إلا من تاب منه وأصلح فإن الله غفور رحيم.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

شرح الكلمات :

(فِي جَيْبِكَ) : أي جيب ثوبك.

(مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي برص ونحوه بل هو (البياض) شعاع

(فِي تِسْعِ آياتٍ) : أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون.

(مُبْصِرَةً) : مضيئة واضحة مشرقة.

(وَجَحَدُوا بِها) : أي لم يقروا ولم يعترفوا بها.

(وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) : أي أيقنوا أنها من عند الله.

(ظُلْماً وَعُلُوًّا) : أي ردوها لأنهم ظالمون مستكبرون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع موسى في حضرة ربه عزوجل بجانب الطور إنه لما أمره بإلقاء العصا فألقاها فاهتزت وفزع موسى لذلك فولى مدبرا ولم يعقب خائفا فطمأنه ربه تعالى بأنه لا يخاف لديه المرسلون أمره أن يدخل يده في جيبه فقال (وَأَدْخِلْ (١) يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في جيب القميص (تَخْرُجْ (٢) بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص بل هو

__________________

(١) هذا الكلام معطوف على قوله : (وَأَلْقِ عَصاكَ) وما بينهما اعتراض.

(٢) هذه آية أخرى غير الأولى.

٩

بياض إشراق يكاد يذهب بالأبصار في تسع (١) آيات أي ضمن تسع آيات مرسلا بها إلى فرعون وقومه ، وبين تعالى علة ذلك الإرسال فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن الاعتدال إلى الغلو والإسراف في الشر والفساد وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ (٢) آياتُنا) يحملها موسى مبصرة مضيئة واضحة دالة على صدق موسى في دعوته ، رفضوها فلم يؤمنوا بها ، (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، أي الذي جاء به موسى من الآيات هو سحر بين لا شك فيه قال تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أي جحدوا بالآيات وكذبوا وتيقنتها أنفسهم أنها آيات من عند الله دالة على رسالة موسى وصدق دعوته في المطالبة ببني إسرائيل وقوله ظلما وعلوا أي حملهم على التكذيب والإنكار مع العلم هو ظلمهم واستكبارهم فإنهم ظالمون مستكبرون. وقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ (٣) كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر يا رسولنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف كان عاقبة المفسدين وهي إهلاكهم ودمارهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آية اليد هي إحدى الآيات التسع التي أوتي موسى عليه‌السلام دليلا على وجود الآيات التى كان الله تعالى يؤيد بها رسله فمن أنكرها فقد كفر.

٢ ـ التنديد بالفسق واستحقاق أهله العذاب في الدارين.

٣ ـ الكبر والعلو في الأرض صاحبهما يجحد الحق ولا يقربه وهو يعلم أنه حق.

٤ ـ عاقبة الفساد في الأرض بالمعاصي سوءى ، والعياذ بالله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)

__________________

(١) التسع آيات هي : العصا ، واليد ، والطوفان والجراد والقمّل ، والضفادع والدم ، والقحط ، وانفلاق البحر ، وهو من أعظمها.

(٢) (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) الخ أوجز بقية القصة وانتقل إلى العبرة بتكذيب فرعون وقومه بالآيات ليعتبر بذلك كفار قريش المكذبون بآيات الله ورسوله.

(٣) الخطاب لغير معيّن ويجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية له وحملا له على الصبر من تكذيب قومه له وإصرارهم على الكفر به.

١٠

وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

شرح الكلمات :

(عِلْماً) : هو علم ما لم يكن لغيرهم كمعرفة لغة الطير إلى جانب علم الشرع كالقضاء ونحوه.

(وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي شكرا له.

(عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي بالنبوة وتسخير الجن والإنس والشياطين.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) : أي ورث أباه بعد موته في النبوة والملك والعلم دون باقي أولاده.

(عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) : أي فهم أصوات الطير وما تقوله إذا صفرت.

(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : أوتيه غيرنا من الأنبياء والملوك.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ) : أي جمع له جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له.

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : أي يساقون ويرد أولهم إلى آخرهم ليسيروا في نظام.

(لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ) : أي لا يكسرنكم ويقتلنكم.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أي بكم.

١١

(أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ) : أي ألهمني ووفقني لأن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص داوود وسليمان عليهما‌السلام ذكر بعد أن أخبر تعالى أنه يلقن رسوله محمدا ويعلمه من لدنه وهو العليم الحكيم ودلل على ذلك بموجز قصة موسى عليه‌السلام ثم ذكر دليلا آخر وهو قصة داوود وسليمان ، فقال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا داوود وسليمان (عِلْماً) أي الوالد والولد علما خاصا كمعرفة منطق الطير وصنع الدروع وإلانة الحديد زيادة على علم الشرع والقضاء (١) ، وقوله تعالى (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي شكرا ربهما بقولهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي الشكر لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين بما آتاهما من الخصائص والفواضل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٥) وأما الآية الثانية (١٦) فقد أخبر تعالى فيها أنّ سليمان ورث أباه داوود وحده دون باقي أولاده (٢) وذلك في النبوة والملك ، لا في الدرهم والدينار والشاة والبعير ، لأن الأنبياء لا يورثون فما يتركونه هو صدقة (٣). كما أخبر أن سليمان قال في الناس (٤) (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ (٥) الطَّيْرِ) فما يصفر طير الا علم ما يقوله في صفيره ، وأوتينا من كل شيء أوتيه غيرنا من النبوة والملك والعلم والحكمة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي فضل الله تعالى البين الظاهر. وقوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي جمع له جنوده (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) هو إخبار عن مسير كان لسليمان مع جنده (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي جنوده توزع تساق بانتظام. بحيث لا يتقدم بعضها بعضا فيرد دائما أولها إلى آخرها محافظة على النظام في السير ، وما زالوا سائرين كذلك حتى أتوا على واد النمل بالشام فقالت نملة من النمل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قالت هذا

__________________

(١) وآتى داود الزبور وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله وأن نعمة العلم من أجّل النعم وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من المؤمنين.

(٢) قيل : إنّ داود كان له تسعة عشر ولدا فورث سليمان من بينهم نبوّته وملكه ولو كان وارثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء والزمن بين سليمان ونبينا كان قرابة ألف وثمانمائة سنة.

(٣) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة) حديث صحيح.

(٤) أي : في بني اسرائيل قال هذا على جهة الشكر لنعم الله تعالى.

(٥) مما يؤثر عن سليمان عليه‌السلام في معرفة منطق الطير : (لدوا للموت وابنوا للخراب) «لورشان» نوع من الحمام البري أكدر (ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لما ذا خلقوا) «لفاختة» نوع من الحمام البري له طوق (من لا يرحم لا يرحم) «لهدهد» (استغفروا الله يا مذنبين) «لصرد» (قدموا خيرا تجدوه) «لخطافة» (اللهم العن العشار) «للغراب» (كل شيء هالك إلا وجهه) «للحدأة» (من سكت سلم) «للقطاة» (ويل لمن الدنيا همه) «للقطاة» (سبحان ربي القدوس) «للضفدع» (اذكروا الله يا غافلين) «للديك».

١٢

رحمة وشفقة على بنات جنسها تعلم البشر الرحمة والشفقة والنصح لبني جنسهم لو كانوا يعلمون ، واعتذرت لسليمان وجنده بقولها وهم لا يشعرون بكم وإلا لما داسوكم ومشوا عليكم حتى لا يحطمونكم. وما إن سمعها سليمان وفهم كلامها (١) حتى تبسم ضاحكا من قولها (وَقالَ رَبِ) أي يا رب (أَوْزِعْنِي) (٢) ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ (٣) الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي ويسر لي عملا صالحا ترضاه مني ، (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي في جملتهم في دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الشكر على النعم.

٢ ـ وراثة سليمان لداوود لم تكن في المال لأن الأنبياء لا يورثون وإنما كانت في النبوة والملك.

٣ ـ آية تعليم الله تعالى سليمان منطق الطير وتسخير الجن والشياطين له.

٤ ـ فضل النمل على كثير من المخلوقات ظهر في نصح النملة لأخواتها وشفقتها عليهن.

٥ ـ ذكاء النمل وفطنته مما أضحك سليمان متعجبا منه.

٦ ـ وجوب الشكر عند مشاهدة النعمة ورؤية الفضل من الله عزوجل.

٧ ـ تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا الحديث لا يتأتى له إلا بالوحي الإلهي.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ

__________________

(١) قد اختلف في هل كان سليمان يعلم غير منطق الطير من سائر الحيوان ، والذي عليه الأكثر أنه كان يعلم أصوات سائر الحيوانات ومن ذلك النمل ، قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم ، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام من لا يتكلم من النبات فكان الشجر يقول له : أنا شجر كذا أنفع من كذا وأضر من كذا فما ظنك بالحيوان؟

(٢) الوزع : الكف عما لا يراد ، والوازع : الذي يكفّ غيره عما لا ينبغي ، وفعله : وزع يزع وزعا ، فإذا زيدت فيه همزة السلب فقيل : أوزع أي : أزال الوزع الذي هو الكف ، فقوله في الآية : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يكفون أفراد القوات عن التقدم والتأخر حتى يكون السير منتظما. وقوله : (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) أي : أبعد عني ما يمنعني من شكرك على نعمك. فصار أوزعني كألهمني وأغرني.

(٣) قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وقال بعضهم : النعمة وحشيّة قيدوها بالشكر فإنها إذا شكرت قرّت وإذا كفرت فرّت ، وقال آخر : من لم يشكر النعمة فقد عرضها لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها.

١٣

أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) : أي تعهدها ونظر فيها.

(ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) : أعرض لي ما منعني من رؤيته أم كان من الغائبين؟

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) : أي بنتف ريشه ورميه في الشمس فلا يمتنع من الهوام.

(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة واضحة على عذره في غيبته.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) : أي قليلا من الزمن وجاء سليمان متواضعا.

(أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) : أي اطلعت على ما لم تطلع عليه.

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) : سبأ قبيلة من قبائل اليمن.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) : هي بلقيس الملكة.

(وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) : أي سرير كبير.

(فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : أي طريق الحق والهدى.

(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) : أصلها أن يسجدوا أي فهم لا يهتدون ان يسجدوا لله.

وزيدت فيها «لا» وأدغمت فيها النون فصارت ألّا نظيرها لئلا يعلم أهل الكتاب من آخر سورة الحديد.

١٤

(يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ) : أي المخبوء في السموات من الأمطار والأرض من النباتات والأرض

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه‌السلام قوله تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) (١) أي تفقد سليمان جنده من الطير طالبا الهدهد لأمر عنّ له أي ظهر وهو يتهيأ لرحلة هامة ، فلم يجده فقال ما أخبر تعالى به عنه : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (٢) ألعارض عرض لي فلم أره ، (أَمْ (٣) كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أي بل كان من الغائبين ، (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تأكله فلا يمتنع منها (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) بقطع حلقومه ، (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة على سبب غيبته. قوله تعالى الآية (٢٢) (فَمَكَثَ) أي الهدهد (غَيْرَ (٤) بَعِيدٍ) أي زمنا قليلا ، وجاء فقال في تواضع رافعا عنقه مرخيا ذنبه وجناحيه (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه (وَجِئْتُكَ مِنْ (٥) سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وسبأ قبيلة من قبائل اليمن ، والنبأ اليقين الخبر الصادق الذي لا شك فيه. وأخذ يبين محتوى الخبر فقال (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) هي بلقيس (تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) من أسباب القوة ومظاهر الملك ، (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي سرير ملكها الذي تجلس عليه وصفه بالعظمة لأنه مرصع بالجواهر والذهب ، وقوله (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) أخبر أولا عن أحوالهم الدنيوية وأخبر ثانيا عن أحوالهم الدينية وقوله (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي الباطلة الشركية (فَصَدَّهُمْ) بذلك (عَنِ السَّبِيلِ) أي سبيل الهدى والحق فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا (٦) لله الذي يخرج الخبء (٧) أي المخبوء فهو

__________________

(١) (تَفَقَّدَ) بمعنى بحث عن الفقد أي : عدم الوجود أو بحث عن سبب عدم الوجود.

(٢) من خواص الهدهد أنه يرى الماء من بعد ويحس به في باطن الأرض فإذا رفرف على موضع علم أن به ماء ، ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله مع ثلاثة وهي : (الضفدع ، والنحل ، والصرد) أخرجه أبو داود وصححه. ونهى عن قتل النمل إلا أن يضرّ ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل.

(٣) (أَمْ) هي المنقطعة التي بمعنى : بل ، ولا تخلو من معنى الاستفهام إذ التقدير : بل أكان من الغائبين.

(٤) أي : مكث في غيابه زمنا غير بعيد أو في مكان غير بعيد.

(٥) اسم رجل هو : غبشمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، لقب بسبأ لأنه أول من سبى في غزوه ، وأطلق هنا سبأ على ديار قبيلة سبأ لأنّ من ابتدائية أي لابتداء الأمكنة غالبا.

(٦) (أَلَّا يَسْجُدُوا) أصلها أن لا يسجدوا فأدغمت أن في لا النافية فصارت ألا ، والمضارع منصوب بأن المدغمة في لا ، ولذا تعيّن تقدير لام جرّ يتعلق ب (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدهم لأجل أن لا يسجدوا. وما في التفسير من التقدير أوضح أيضا.

(٧) الخبء : مصدر خبأ الشيء : إذا أخفاه ، أطلق على اسم المفعول أي : المخبوء من أجل المبالغة في الإخفاء.

١٥

من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول في السموات من أمطار والأرض من نباتات ، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفوسهم ، وما يعلنون عنه بألسنتهم الله لا إله هو رب العرش العظيم. وصف الرب تعالى بالعرش العظيم ليقابل وصف بلقيس به ، وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية استعراض الجيوش وتفقد أحوال الرعية.

٢ ـ مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي.

٣ ـ مشروعية اتخاذ طائرات الاستشكاف ودراسة جغرافية العالم.

٤ ـ تحقيق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان.

٥ ـ بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس إذ سجودهم لها عبادة.

٦ ـ بيان أن الأحق بالعبادة الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

٧ ـ مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

١٦

شرح الكلمات :

(سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) : أي بعد اختبارنا لك.

(فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) : أي إلى رجال القصر وهم في مجلس الحكم.

(ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي تنح جانبا متواريا مستترا عنهم.

(فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) : أي ما ذا يقوله بعضهم لبعض في شأن الكتاب.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) : أي يا أشراف البلاد وأعيانها وأهل الحل والعقد فيها.

(أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) : أي ألقاه في حجرها الهدهد.

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) : أي لا تتكبروا انقيادا للنفس والهوى.

(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : أي منقادين خاضعين.

معنى الآيات :

(قالَ سَنَنْظُرُ) (١) أي قال سليمان للهدهد بعد أن أدلى الهدهد بحجته (٢) على غيبته سننظر باختبارنا لك (أَصَدَقْتَ) فيما ادعيت وقلت (أَمْ كُنْتَ (٣) مِنَ الْكاذِبِينَ) أي من جملتهم. وبدأ اختباره فكتب كتابا وختمه وقال له (اذْهَبْ بِكِتابِي) (٤) (هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح جانبا مختفيا عنهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) من القول في شأن الكتاب أي ما يقول بعضهم لبعض في شأنه ، وفعلا ذهب الهدهد بالكتاب ودخل القصر من كوة فيه وألقى الكتاب في حجر الملكة بلقيس فارتاعت له وقرأته ثم قالت (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) مخاطبة أشراف قومها (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) وصفته بالكرم لما حواه من عبارات كريمة ، ولأنه مختوم وختم الكتاب كرمه ونصّ الكتاب كالتالي [من عبد الله سليمان بن داوود إلى

__________________

(١) من الجائز أن يكون سليمان قد خشي أن يكون الكلام الذي سمعه من الهدهد ألقى به الشيطان على الهدهد ليضلل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ، فلذا قال عليه‌السلام (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

(٢) في الآية دليل على أن الحاكم يجب عليه أن يقبل عذر المواطن ويدرأ العقوبة عنه بظاهر حاله وباطن عذره ، وفي الصحيح : (ليس أحد أحبّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) وللحاكم أن يمتحن المواطن المعتذر حتى يعرف عذره.

(٣) (أَمْ كُنْتَ) بمعنى : أنت.

(٤) في الآية دليل على وجوب إرسال الكتب إلى المشركين ودعوتهم إلى الإسلام وتبليغهم دعوة الله عزوجل ، وقد كتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر وكسرى والمقوقس وغيرهم.

١٧

بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم السّلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي واتوني مسلمين].

ومضمونه ما ذكرته الملكة بقولها : (إِنَّهُ مِنْ (١) سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ومعنى إنه من سليمان أي صادر منه وأنه مكتوب ومرسل بسم الله الرحمن الرحيم أي بإذنه وشرعه ألا تعلوا علي أي لا تتكبروا على الحق فإني بسم الله أطلبكم وائتوني مسلمين أي خاضعين منقادين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاختبار وإجراء التحقيق مع المتهم.

٢ ـ مشروعية استخدام السلطان أفراد رعيته لكفاية المستخدم.

٣ ـ مشروعية إرسال العيون للتعرف على أحوال العدو وما يدور عنده.

٤ ـ مشروعية كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في الرسائل والكتب الهامة ذات (٢) البال لدلالتها على توحيد الله تعالى وأنه رحمن رحيم ، وأنّ الكاتب يكتب بإذن الله تعالى له بذلك.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

__________________

(١) قال القرطبي : الأحسن اليوم بأن يقدّم في الكتاب اسم المكتوب إليه قبل اسم الكاتب لأن البداية باسمه تعد استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه ، ومراده أن يكتب الكاتب هكذا إلى حضرة فلان ... من فلان ... وتقديم اسم الكاتب هو ما عليه السلف الصالح.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السّلام ولا يسقط إلّا من عذر لا سيما إذا سلّم صاحب الكتاب فإن رد السّلام واجب بلا خلاف.

١٨

شرح الكلمات :

(أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) : بينوا لي فيه وجه الصواب ، وما هو الواجب اتخاذه إزاءه.

(ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) : أي قاضيته.

(حَتَّى تَشْهَدُونِ) : أي تحضروني وتبدوا رأيكم فيه.

(وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أي أصحاب قوة هائلة مادية وأصحاب بأس شديد في الحروب.

(إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) : أي مدينة وعاصمة ملك.

(أَفْسَدُوها) : أي خربوها إذا دخلوها عنوة بدون مصالحة.

(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) : أي وكالذي ذكرت لكم يفعل مرسلو هذا الكتاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم عن حديث قصر الملكة بلقيس وها هي ذي تقول لرجال دولتها ما حكاه تعالى عنها بقوله (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي (١) فِي أَمْرِي) أي أشيروا علي بما ترونه صالحا (ما كُنْتُ قاطِعَةً (٢) أَمْراً) أي قاضية باتّة فيه (حَتَّى (٣) تَشْهَدُونِ) أي تحضرونى وتبدوا فيه وجهة نظركم. فأجابها رجالها بما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) عسكرية من سلاح وعتاد وخبرة (وَأُولُوا بَأْسٍ (٤) شَدِيدٍ) عند خوضنا المعارك (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي (٥) ما ذا تَأْمُرِينَ) به فأمري ننفّذ إنا طوع يديك.

فأجابتهم بما حكاه الله تعالى عنها (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) أي مدينة عنوة بدون صلح. (أَفْسَدُوها) أي خربوا معالمها وبدلوا وغيروا فيها ، (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) بضربهم وإهانتهم وخلعهم من مناصبهم. (وَكَذلِكَ) أصحاب هذا الكتاب (يَفْعَلُونَ) (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ (٦) بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي الذين نرسلهم من

__________________

(١) الإفتاء : الإخبار بالفتوى وهي : إزالة مشكل يعرض ، والأمر : الحال المهم وإضافته إلى نفسها ، لأنها المخاطبة في كتاب سليمان ، ولأنها المضطلعة بشؤون الدولة ولذا يقال للحاكم وعالم الدين : وليّ الأمر.

(٢) (قاطِعَةً أَمْراً) عاملة عملا لا تردد فيه بالعزم على أن تجيب به سليمان.

(٣) حذفت ياء المتكلم منه تخفيفا ، وحذفت نون الرفع للناصب وبقيت نون الوقاية والمراد من شهودهم : موافقتهم لها على ما تعزم عليه إزاء الكتاب.

(٤) البأس : الشدة على العدو ، ومنه (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : في مواقع القتال في جوابهم هذا تصريح بأنهم مستعدون للحرب دفاعا عن مملكتهم.

(٥) فوّضوا الأمر إليها لثقتهم بأصالة رأيها وخبرتها السياسية.

(٦) دبرت أن تتفادى الحرب بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بالهدية مصحوبة بكتاب ووفد ، وعلى ضوء عودة الوفد تتصرف في الأمر.

١٩

قبول الهدية ورفضها وعلى ضوء ذلك نتصرف فإنهم إن قبلوا الهدية المالية فهم أصحاب دنيا ، وإن رفضوها فهم أصحاب دين ، وعندها نتخذ ما يلزم حيالهم ، ولا شك أن هذه الهدية كانت فاخرة وثمينة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ الشورى في الحكم.

٢ ـ مشروعية إبداء الرأي بصدق ونزاهة ثم ترك الأمر لأهله.

٣ ـ مشروعية إعداد العدة وتوفير السلاح وتدرب الرجال على حمله واستعماله.

٤ ـ دخول العدو المحارب الغالب البلاد عنوة ذو خطورة فلذا يتلافى الأمر بالمصالحة.

٥ ـ بيان حسن سياسة الملكة بلقيس وفطنتها وذكائها ولذا ورثت عرش أبيها.

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

شرح الكلمات :

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) : أي رسول الملكة يحمل الهدية ومعه أتباعه.

٢٠