أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

المؤمنين فأنجيناهم بإيمانهم وتوحيدهم وأغرقنا المشركين فهي آية واضحة عن رضا الله تعالى عن المؤمنين الموحدين وسخطه على الكافرين المشركين المكذبين إن في هذا الإنجاء للموحدين والإغراق للمشركين آية وعبرة لو كان مشركو قريش في مكة يفقهون. وقوله تعالى (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) وهذه آية أخرى أيضا وهي أن الله أنجى الموحدين في فلك لم يسبق له مثيل ثم خلق لهم مثله ما يركبون إلى يوم القيامة ولو شاء عدم ذلك لما كان لهم فلك إلى يوم القيامة وآية أخرى (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) وهي قدرته تعالى على إغراق ركاب السفن الكافرين وإن فعلنا لم يجدوا صارخا (١) ولا مغيثا يغيثهم وينجيهم من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) (٢) اللهم إلا رحمتنا فإنها تنالهم فتنجيهم ليتمتعوا في حياتهم بما كانوا يتمتعون به إلى حين حضور آجالهم المحدودة لهم. وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٣) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بآيات الله المعرضين عن دينه المشركين به اتقوا ما بين أيديكم من العذاب حيث موجبه قائم وهو كفركم وعنادكم ، وما خلفكم من عذاب الآخرة إذ مقتضيه موجود وهو الشرك والتكذيب رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أعرضوا كأنهم لم يسمعوا. وقوله (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ) كلام ربهم القرآن الكريم تحمل الحجج والبراهين على صحة ما يدعون إليه من الإيمان والتوحيد إلا كانوا عنها معرضين تمام الإعراض كأن قلوبهم قدت من حجر والعياذ بالله تعالى. (٤)

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل الله على البشرية في إنجاء ذريّة قوم نوح الكافرين ومنهم كان البشر وإلا لو أغرق الله الجميع المؤمنين الذريّة والكافرين الآباء لم يبق في الأرض أحد.

٢ ـ حماية الله تعالى للعباد ورعايته لهم وإلّا لهلكوا أجمعين ولكن أين شكرهم؟

٣ ـ بيان إصرار كفار قريش وعنادهم الأمر الذي لم يسبق له مثيل.

٤ ـ الإشارة بالمثلية في قوله (مِنْ مِثْلِهِ) إلى تنوع السفن من البوارج والغواصات والطربيدات الحربية.

__________________

(١) الصريخ هو الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب جاءهم الصريخ أي المنكوب المستنجد لينقذوه وهو فعيل بمعنى فاعل.

(٢) الاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن لأن الرحمة ليست من جنس المستثنى منه وهو الصريخ.

(٣) جواب (إِذا) محذوف تقديره أعرضوا وقد ذكر في التفسير.

(٤) الجملة واقعة موقع التذيل وتحمل معنى التأكيد لما سبق من معنى وهو أنهم إذا دعوا إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء أعرضوا ولم يستجيبوا.

٣٨١

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

شرح الكلمات :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) : أي وإذا قال فقراء المؤمنين في مكة للأغنياء الكافرين انفقوا علينا.

(مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) : أي من المال.

(أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) : أي قالوا للمؤمنين استهزاء بهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي ما أنتم أيها الفقراء إلا في ضلال مبين في اعتقادكم الذي أنتم عليه.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي البعث الآخر إن كنتم صادقين فيه.

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) : أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهي نفخة إسرافيل.

(تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) : أي تأخذهم الصيحة وهم يتخاصمون في البيع والشراء والأكل

٣٨٢

والشرب إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) : أي فلا يقدر أحدهم أن يوصي وصيّة.

(وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) : بل يهلكون في أماكنهم من الأسواق والمزارع والمصانع أو المقاهي والملاهي.

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي القبور إلى ربهم ينسلون أي يخرجون بسرعة.

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) : أي قال الكفار : من بعثنا من قبورنا؟

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) : أي هذا ما وعد به الرحمن وصدق المرسلون أي فيما أخبروا به.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) (١) أي وإذا قيل لأولئك المشركين المكذبين الملاحدة والقائل هم المؤمنون فقد روي أن أبا بكر الصديق كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال : نعم. قال : فما باله لا يطعمهم؟ قال ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإعطاء ، فقال أبو جهل ، والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال مبين. أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ، وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت هذه الآية وبهذه الرواية اتضح معنى الآية الكريمة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للكفار (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) على المساكين (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الآمرين لهم بالإنفاق (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) قالوا هذا استهزاء وكفرا (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها المسلمون (إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إلا في ذهاب عن الحق وجور عن الرشد مبين لمن تأمله وتدبّر فيه. وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى (٢) هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول أولئك الملاحدة المكذبون بالبعث استهزاء واستعجالا : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به أيها المسلمون إن كنتم صادقين في دعواكم.

__________________

(١) اختلف في من هذه قولته؟ وما في التفسير وأنها قولة أبي جهل لأبي بكر أرجحها وأقربها إلى واقع الحال وألصق بالسياق ولا مانع أن يقولها الزنادقة والملاحدة والمستهزئين في كل زمان ومكان.

(٢) الاستفهام للاستبعاد وهو مشوب بالسخرية والاستخفاف لأنه ناجم عن قلوب مظلمة من جراء الكفر والإلحاد قال الشاعر :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفس إلا قد قضيت قضاءها

والشاهد في الاستخفاف.

٣٨٣

قال تعالى (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي نفخة اسرافيل في الصور وهي نفخة الفناء (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (١) أي يختصمون في أسواقهم يبيعون ويشترون ، وفي مجالسهم العامة والخاصة إذ تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون قال تعالى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) يوصي بها أحدهم لابنه أو أخيه ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ) أي منازلهم وأزواجهم وأولادهم يرجعون بل يصعقون في أماكنهم. وقوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي صور إسرافيل وهو قرن ويقال له البوق أيضا نفخة البعث من القبور أحياء فإذا هم من الأجداث جمع جدث وهو القبر ينسلون (٢) أي ماشين مسرعين إلى ربهم لفصل القضاء والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في هذه الدنيا من إيمان وكفر وإحسان وإساءة وعدل وظلم. (قالُوا يا وَيْلَنا) أي نادوا ويلهم وهلاكهم لما شاهدوا من أهوال الموقف (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٣) وأجابهم المؤمنون بقولهم (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) إذ واعدنا الله بلقائه وأخبرتنا الرسل به وبتفاصيله وقوله تعالى (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما هي إلا صيحة واحدة لإسرافيل فإذا الكل واقف بين يدي الله تعالى ليحاسب ويجزي قال تعالى (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي في هذا اليوم الذي وقفت الخليقة فيه بين يدي ربها لا تظلم نفس شيئا لا بنقص حسنة من حسناتها ولا بزيادة سيئة على سيئاتها. ولا تجزون أيها العباد إلا ما كنتم تعملون من خير وشر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان علو الكافرين وطغيانهم وسخريتهم واستهزائهم ، وذلك لظلمة الكفر على قلوبهم.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مبادئها ونهاياتها.

٣ ـ الساعة لا تأتي إلا بغتة.

٤ ـ الانقلاب الكوني الذي يحدث لعظمه اختلفت آراء أهل العلم في تحديد النفخات فيه

__________________

(١) (يَخِصِّمُونَ) بمعنى يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في أماكنهم وقد أدغمت التاء في الصاد فنتج عن ذلك قراءات أشهرها قراءة نافع يخصّمون بفتح الخاء وكسر الصاد مشددة وقرأ حفص (يَخِصِّمُونَ) بكسر الخاء والصاد المشددة وقرأ قالون يخصمون بسكون الخاء مع الاختلاس.

(٢) قال ابن عباس وقتادة ينسلون يخرجون ومنه قول امرء القيس : فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي ومنه قيل للولد نسل لأنه يخرج من بطن أمه وقيل يسرعون ، والنسلان والقسلان الإسراع في السير ومنه مشية الذئب قال :

عسلان الذئب امسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

(٣) جائز أن يكون هذا ما وعد الرحمن الخ من كلامهم لما يجدون أنفسهم واقفين أحياء قد خرجوا من قبورهم صرحوا بالحقيقة التي كانوا يكذبون بها فاعترفوا قائلين : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وجائز أن يقال لهم كما في التفسير ، فإن قلنا بالقول الأول لا يصح الوقف على من مرقندا ، وإن قلنا بالقول المثبت في التفسير صح الوقف ويصبح هذا ما وعد الرحمن كلاما مستأنفا.

٣٨٤

والظاهر أنها أربع الأولى نفخة الفناء والثانية نفخة البعث والثالثة نفخة الفزع (١) والصعق والرابعة نفخة القيام بين يدي رب العالمين.

٥ ـ تقرير العدل الإلهي يوم الحساب والجزاء ليطمئن كل عامل على أنه يجزى بعمله لا غير.

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

شرح الكلمات :

(فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) : أي أهل الجنة في شغل عما فيه أهل النار من عذاب وشقاء. وشغلهم الشاغل لهم هو النعيم المقيم في دار السّلام.

(فاكِهُونَ) : أي ناعمون بالتلذذ بالنعم وذلك لطيب العيش.

(عَلَى الْأَرائِكِ) : أي الأسرّة ذات الحجلة.

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) : أي ما يتمنون ويطلبون.

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) : أي سلام بالقول من ربّ رحيم أي يسلم عليهم ربهم سبحانه وتعالى.

معنى الآيات :

ما إن حضروا بين يدي الله سبحانه وتعالى للحساب والجزاء حتى أعلن عما يلي : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ) (٢) (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إنهم في شغل عما فيه أصحاب النار إنهم في شغل بالنعيم المقيم فاكهون (٣) أي ناعمون بالتلذذ بألوان المطاعم والمشارب والحور العين إنهم وأزواجهم في ظلال الجنة على الأرائك (٤) أي الأسرة ذات الحجلة متكئون. (لَهُمْ فِيها) أي في دار السّلام فاكهة

__________________

(١) هذه النفخة مختلف فيها ودليلها حديث البخاري إذ فيه يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ولا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى».

(٢) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد : شغلهم افتضاض العذارى وقيل شغلهم زيارة بعضهم بعضا ، والشغل بضم الشين وسكون الغين ويجوز ضم الغين مع الشين.

(٣) فاكهون بالألف وفكهون بدونه كفرحين لغتان وفسر بفرحين ومعجبين وبمسرورين والكل صحيح إذ هو من جملة النعيم الذي هم فيه.

(٤) الأرائك جمع أريكة كسفينة وسفائن قال الشاعر :

كأن احمرار الورد فوق غصونه

بوقت الضحى في روضه المتضاحك

خدود عذارى قد خجلن من الحياء

تهادين بالريحان فوق الأرائك

٣٨٥

من كل زوج ولون ونوع ولهم ما يدعون أي ما يتمنون ويطلبون ، وأعظم من ذاك سلام الربّ تعالى عليهم (١) سلام قولا من ربّ رحيم أي سلام من الله بالقول لا بغيره من أنواع السلامة والسّلام. فقد روى البغوي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ يسطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذ الربّ عزوجل قد أشرف عليهم من فوقهم السّلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله تعالى سلام قولا من ربّ رحيم فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد.

٢ ـ بيان نعيم الجنة.

٣ ـ سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ

__________________

(١) استئناف قطع من أن يعطف على ما قبله للاهتمام بمضمونه وسلام مرفوع بالابتداء وهو نكره وتنكيره للتعظيم ولذا صح الابتداء به وحذف الخبر لدلالة المصدر وهو قولا عليه ، والتقدير سلام يقال لهم قولا من الله تعالى ، ومن ابتدائية ، وتنوين ربّ للتعظيم.

٣٨٦

عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

شرح الكلمات :

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) : أي انفردوا عن المؤمنين وانحازوا على جهة وسيروا أيها الصالحون إلى الجنة.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) : أي ألم أوصكم بترك عبادة الشيطان وهي طاعته.

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) : أي وبأن تعبدوني وحدي وذلك في كتبي وعلى ألسنة رسلي.

(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي بترك عبادة الشيطان والقيام بطاعة الرحمن. هو الإسلام الموصل إلى دار السّلام.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) : أي ولقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا.

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) : أي اطعتموه فلم تكونوا تعقلون عداوته لكم.

هذه جهنم التي كنتم بها تكذبون : أي تقول لهم الملائكة هذه جهنم ... الخ.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) (١) : أي عند ما يقولون : والله ربنا ما كنا مشركين.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) : أي ولو أردنا طمس أعين هؤلاء المشركين المجرمين لفعلنا ، ولكنا لم نشأ ذلك رحمة منّا.

(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) : أي فابتدروا الطريق كعادتهم فكيف يبصرون.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) : أي بدلنا خلقهم حجارة أو قردة أو خنازير في امكنتهم التي هم فيها فلا يستطيعون مضيّا ولا يرجعون.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) : أي ومن نطل عمره ننكسه في الخلق فيكون بعد قوته ضعيفا عاجزا.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ) : أي أن القادر على ما ذكرنا لكم قادر على بعثكم بعد موتكم. : فتؤمنون وتوحدون فتنجون من العذاب وتسعدون.

__________________

(١) روى مسلم عن أنس بن مالك قال كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتدرون مما أضحك؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى فيقول لا أجير عليّ إلا شاهدا من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي بعمله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكنّ كنت أناضل.

٣٨٧

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَامْتازُوا (١) الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يأمر تعالى المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك وارتكاب المعاصي فأفسدوها يأمرهم بأن يتميّزوا عن المؤمنين فينفردوا وحدهم ويسار بأهل الجنة إلى الجنة ، ثم يوبخ تعالى المجرمين أهل النار بقوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) (٢) موصيا إياكم على ألسنة رسلي وفي كتبي بأن (لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وبأن تعبدوني وحدي ، ولا تعبدوا الشيطان معي فتشركوه في عبادتي هذا صراط مستقيم أي ترك عبادة الشيطان والقيام بعبادة الرحمن هذا هو الإسلام الصراط المستقيم الذي لا ينتهي بالسالكين إلا إلى باب دار السّلام. وقوله (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا) أي خلقا كثيرا هذا من كلام الله الموبخ به للمجرمين. وقوله (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٣) وهذا تقريع وتوبيخ أيضا أي اطعتموه وهو عدوكم وعصيتموني وأنا ربكم فلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم ، وواجب عبادتي عليكم لأني خلقتكم ورزقتكم وكلأتكم الليل والنهار إذا فهذه جهنم (٤) التي كنتم بها تكذبون (اصْلَوْهَا) أي احترقوا بها (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بالله وآياته ولقائه وتكذبون رسله. وقوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) هذا يحدث لما يعرضون على ربهم فيعرض عليهم أعمالهم فينكرون فعندئذ يختم الله على أفواههم فلا يستطيعون الكلام وتنطق باقي جوارحهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون قوله تعالى (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) فأعميناهم (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي ابتدروا الطريق كعادتهم فأنى يبصرون الطريق وقد طمس على أعينهم فلا مقلة فيها ولا حاجب ، ولكن الله لم يشأ ذلك لرحمته وحلمه على عباده ، وقوله (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) (٥) أي ولو نشاء مسخ هؤلاء المجرمين من المشركين لمسخناهم في أماكنهم من منازلهم فلا يستطيعون مضيا في الطريق ولا رجوع إلى خلف أي لا ذهابا ولا إيابا ، وقوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ (٦) فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) فنرده رأسا على عقب

__________________

(١) يقال مازه فانماز وامتاز ، وميزه فتميز وامتازوا أمر من امتاز ويمتاز إذ انفرد عما كان مختلطا به ، والمراد بذلك سوقهم إلى النار بعد أن دخل المؤمنون الجنة.

(٢) الاستفهام للتقرير والتوبيخ على إهمالهم وصيته تعالى إليهم بأن لا يعبدوا الشيطان.

(٣) قوله تعالى (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) الاستفهام للتقريع والتأنيب.

(٤) قوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي على ألسنة رسلي فكذبتم بها وواصلتم شرككم وكفركم. (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) أي احترقوا بها بما كنتم تكفرون أي بسبب كفركم الذي دسى نفوسكم وخبثها فحرمتم بذلك دار السّلام.

(٥) المكانة تأنيث المكان على تأويله بالبقعة.

(٦) قرأ الجمهور ننكسه بفتح النون الأولى وسكون الثانية مضارع نكس رأسه وقرأها عاصم (نُنَكِّسْهُ) بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة.

٣٨٨

فكما كان طفلا ينمو شيئا فشيئا في قواه العقلية والبدنية حتى شب واكتهل فكذلك ننكسه في خلقه فيأخذ يضعف (١) في قواه العقلية والبدنيّة يوما فيوما حتى يصبح أضعف عقلا وبدنا منه وهو طفل. وقوله أفلا تعقلون أيها المكذبون المجرمون أن القادر على هذا وغيره وعلى كل شيء يريده قادر على أن يحييكم بعد موتكم ويبعثكم من قبوركم ويحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد وبيان مواقف منه.

٢ ـ تأكيد عداوة الشيطان للإنسان.

٣ ـ عجز الإنسان يوم القيامة عن كتمان شيء من سيء أعماله وفاسدها.

٤ ـ التحذير من عقوبة الله في الدنيا بالمسخ ونحوه.

٥ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في رد الإنسان بعد القوة إلى حالة الضعف الأولى.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

__________________

(١) قال سفيان إذا بلغ المرء ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته قال الشاعر :

من عاش أخلقت الأيام جدته

وخانه ثقتاه السمع والبصر

٣٨٩

شرح الكلمات :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) : أي وما علمنا رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشعر فما هو بشاعر.

(وَما يَنْبَغِي لَهُ) : أي وما يصلح له ولا يصح منه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) : أي ليس كما يقول المشركون من أن القرآن شعر ما هو أي القرآن الذي يقرأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا ذكر أي عظة وقرآن مبين لا يشك من يسمعه أنه ليس بشعر لما يظهر من الحقائق العلميّة.

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) : أي يعقل ما يخاطب به وهم المؤمنون.

(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) : أي ويحق القول بالعذاب على الكافرين لأنهم ميتون لا يقبلون النذارة.

(أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) : الأنعام هي الإبل والبقر والغنم.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) : أي سخرناها لهم وجعلناهم قاهرين لها يتصرفون فيها.

(فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) : أي من بعضها يركبون وهي الإبل ومنها يأكلون أي ومن جميعها يأكلون.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) : المنافع كالصوف والوبر والشعر ، والمشارب الألبان

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) : أي يوبخهم على عدم شكرهم الله تعالى على هذه النعم بالإيمان والطاعة.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) : أي أصناما يعبدونها زعما منهم أنها تنصرهم بشفاعتها لهم عند الله.

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) : أي لا تقدر تلك الأصنام على نصرهم بدفع العذاب عنهم.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) : أي لا يقدرون على نصرتهم والحال أنهم أي المشركين جند محضرون. لتلك الآلهة ينصرونها من أن يمسها أحد بسوء فبدل أن تنصرهم هم ينصرونها كجند معبئون لنصرتها.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) : أي إنك لست مرسلا وإنك شاعر وكاهن ومفتر.

(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) : أي انهم ما يقولون ذلك إلا حسدا وهم يعلمون أنك رسول الله وما جئت به هو الحق وسوف نجزيهم بتكذيبهم لك وكفرهم بنا وبلقائنا وديننا الحق.

٣٩٠

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (١) ردّ على المشركين الذين قالوا في القرآن شعر وفي الرسول شاعر فقال تعالى (وَما عَلَّمْناهُ) أي نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الشِّعْرَ (٢) ، وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي لا يصح منه ولا يصلح له. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي ما هو الذي يتلوه إلا ذكر يذكر به الله وعظة يتعظ به المؤمنون (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) مبين للحق مظهر لمعالم الهدى أنزلناه على عبدنا ورسولنا لينذر به من كان حيا أي القلب والضمير لإيمانه وتقواه لله ويحق أي به القول وهو العذاب على الكافرين لأنهم لا يهتدون به فيعيشون على الضلال ويموتون عليه فيجب لهم العذاب في الدار الآخرة. وقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أعمي أولئك المشركون ولم يروا مظاهر قدرتنا وإحساننا الموجبة لعبادتنا وهي (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ (٣) أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه ، والمراد بالأنعام الماشية من إبل وبقر وغنم وقوله (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي سخرناها لهم بحيث يركبون ويحلبون ويحملون وينحرون ويذبحون ويأكلون ، ولو لا هذا التسخير لما قدروا عليها أبدا. وقوله (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) المنافع كالصوف والوبر والشعر (وَمَشارِبُ) جمع مشرب وهي الألبان في ضروعها يحلبون منها ويشربون. وقوله (أَفَلا يَشْكُرُونَ) يوبخهم على أكل النعم وعدم الشكر عليها ، وشكر الله عليها هو الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي اتخذ أولئك المشركون آلهة هي أصنامهم التي يعبدونها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي رجاء نصرتها لهم وذلك بشفاعتها لهم عند الله تعالى كما يزعمون. قال تعالى في إبطال هذا الرجاء وقطعه عليهم (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر وقوله (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والحال أن المشركين هم جند تلك الأصنام محضرون وعندها يدافعون عنها ويحمونها ويغضبون لها فكيف ينصرك من هو مفتقر إلى نصرتك. وقوله تعالى (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) (٤) أي لا تحزن لما يقول قومك من أنك لست مرسلا ، وأنك شاعر

__________________

(١) انه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصالته في الأدب الرفيع وكيف وهو قرشي مضري لا يحسن إنشاد بيت من الشعر حتى إنه أنشد يوما بيت طرفة فقال :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزوده بالأخبار

فقال أبو بكر والله إنك لرسول الله إذ عجز البيت هكذا ويأتيك بالأنباء من لم تزود.

(٢) (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) أي وما أوحينا إليه شعرا وما علمناه إياه.

(٣) (مِمَّا عَمِلَتْ) (ما) موصولة بمعنى الذي وحذف العائد وهو الضمير لطول الاسم أي عملته. وإن قلناه «ما» مصدرية فلا حاجة إلى مراعاة العائد ولا تقديره.

(٤) قرىء يحزنك بضم الياء من أحزنه يحزنه وقرىء (يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي ، والنهي عن الحزن نهي عن أسبابه الموجبة له ، إذ الحزن لا يملك الإنسان دفعه ولكن يستطيع تجنب مثيراته والمراد من هذا النهي تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يواجهه به المشركون من انه ساحرا أو شاعر وما إلى ذلك.

٣٩١

وساحر وكاهن إلى غير ذلك من أقاويلهم ، (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (١) وسنجزيهم عن قولهم الباطل ونأخذهم بكذبهم وافترائهم عليك كما نحن نعلم أنهم ما قالوا الذي قالوا إلا حسدا لك ، وإلا فهم يعلمون أنك رسول الله وما أنت بالساحر ولا الشاعر ولا المجنون ، ولكن حملهم على ما يقولون الحسد والعناد والكبر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن ذكر وليس شعر كما يقول المبطلون.

٢ ـ الحكمة من نزول القرآن هي أن ينذر به الرسول الأحياء من أهل الإيمان.

٣ ـ بيان خطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون الأحياء لا يقرأونه عليهم وعظا لهم وإرشادا وتعليما وتذكيرا.

٤ ـ وجوب ذكر النعم وشكرها بالاعتراف بها ، وصرفها في مرضاة واهبها وحمده عليها.

٥ ـ بيان سخف المشركين في عبادتهم أصناما يرجون نصرها وهم جند معبأ لنصرتها من أن يمسها أحد بسوء.

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)

__________________

(١) جملة (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) جملة تذييلية المراد منها أمران تطمين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفاية الله تعالى له وان كيدهم لا يضره وتهديد للمشركين بإعلامهم أن الله مطلع على ما يمكرون وسيجزيهم به.

٣٩٢

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

شرح الكلمات :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) : أي المنكر للبعث كالعاصي بن وائل السهمي ، وأبيّ بن خلف.

(أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من منيّ إلى أن صيرناه رجلا قويا.

(فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) : أي شديد الخصومة بيّنها في نفي البعث.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) : أي في ذلك ، إذ أخذ عظما وفته أمام رسول الله وقال أيحيي ربك هذا؟

(وَنَسِيَ خَلْقَهُ) : أي وأنه مخلوق من ماء مهين وأصبح رجلا يخاصم فالقادر على الخلق الأول قادر على الثاني.

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) : أي وقد رمّت وبليت.

(مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) : أي من شجر المرخ والعفار يحك أحدهما على الآخر فتشتعل النار.

(بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) : أي مثل الأناسي.

(بَلى) : أي قادر على ذلك إذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.

(إِذا أَرادَ شَيْئاً) : أي خلق شيء وإيجاده.

(بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) : أي ملك كل شيء ، زيدت التاء للمبالغة في كبر الملك واتساعه.

(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) : أي تردون بعد الموت وذلك في الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء تلك العقيدة التي يتوقف عليها غالبا هداية الإنسان وإصلاحه فقال تعالى ردّا على العاصي بن وائل السهميّ وأبي بن خلف حيث جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده عظم ففته وذراه وقال أتزعم يا محمد أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله

٣٩٣

صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم يميتك ثم يحييك ثم يحشرك إلى جهنم ونزلت هذه الآيات (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) (١) أي أينكر البعث وهو يعلم أنا خلقناه من نطفة أي من ماء مهين وسويناه رجلا فإذا هو خصيم لنا أي مخاصم يرد علينا ويشرك بنا وينكر إحياءنا للأموات وبعثهم يوم القيامة فكيف يعمى هذا العمى ويجهل هذا الجهل القبيح ، إذ القادر على البدء قادر عقلا على الإعادة وهي أهون عليه. وقوله (وَضَرَبَ لَنا) أي هذا المنكر للبعث مثلا أي جعل لنا مثلا وهو انكاره علينا قدرتنا على البعث حيث جعل إعادتنا للخلق أمرا عجبا وغريبا إذ قال (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢) أي قد رمّت وبليت. ونسى خلقه من ماء حقير وكيف جعله الله بشرا سويا يجادل ويخاصم فلو ذكر أصل نشأته لخجل أن ينكر إحياء العظام وهي بالية رميم؟ ولما قال من يحيى العظام وهي رميم؟. وقوله تعالى (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا هو القياس العقلي الجلي الواضح إذ بالبداهة أن من أوجد شيئا من العدم قادر على إيجاد مثله. وقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) أي مخلوق عليم فالعلم والقدرة إذا اجتمعا كان من السهل إيجاد ما أعدم بعد أن كان موجودا فأعدم لا سيما أن الموجد من العدم هو المخبر بالإعادة وبقدرته عليها.

هذا برهان قطعي وثاني برهان في قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ (٣) مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي النار وتشعلونها ، ووجه الاستدلال أن البعث لو كان مستحيلا عقلا وما هو بمستحيل بل هو واجب الوقوع لكان على الله غير مستحيل لأن الله تعالى قد أوجد من المستحيل ممكنا وهو النار من الماء ، إذ الشجر الأخضر (٤) ماء سار في أغصان الشجرة. ومع هذا يوجد منها النار ، فكان هذا برهانا عقليا يسلم به العقلاء ولا ينازعون فيه أبدا ، وبرهان ثالث وهو في قوله (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) ؛؟ ووجه البرهنة فيه أننا ننظر إلى السموات السبع وما فيها من خلق عجيب وإلى الأرض وما فيها كذلك وننظر إلى الإنسان فنجده

__________________

(١) روي أيضا أن العاص بن وائل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم حائل فقال يا محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم ويبعثك الله ويدخلك النار فنزلت هذه الآية.

(٢) يقال رمّ العظم يرم فهو رميم ورمام وقال رميم ولم يقل رميمة لأنها معدولة عن فاعله نحو بغيا لم يقل بغية لأنه معدول عن باغية

(٣) هذا الكلام مستأنف ابتدائيا الغرض إقامة الحجة العقلية على صحة البعث وإمكانه وهو ما أنكره المشركون واستبعدوه فذكر لهم أن الذي يخرج من الماء الرطب البارد النار وهما لا يجتمعان ، قادر على إخراج الضد من الضد وهو على كل شيء قدير.

(٤) قال القرطبي يعني بالآية مع في المرخ والعفار وهي زنادة العرب التي يشعلون بها النار ، ومن ذلك قولهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.

٣٩٤

لا شيء إذا قوبل بالسموات والأرض فنحكم بأن من خلق السموات والأرض على عظمها قادر من باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى بعد موته وبلاه وفنائه. ولذا أجاب تعالى عن سؤاله بنفسه فقال (بَلى وَهُوَ (١) الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي الخلاق لكل ما أراد خلقه العليم بكل مخلوقاته لا يخفى عليه شيء منها ، وبرهان رابع في قوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ووجه الاستدلال أن من كان شأنه في إيجاد ما أراد إيجاده أن يقول له كن فهو يكون. لا يستنكر عليه عقلا أن يحيي الأموات بكلمة كونوا أحياء فيكونون كما طلب منهم.

وأخيرا ختم هذا الرد المقنع بتنزيه نفسه عن العجز فقال (فَسُبْحانَ (٢) الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) أي ملك كل شيء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أحببتم أم كرهتم أيها الآدميون منكرين كنتم للبعث أم مقرين به مؤمنين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أربعة براهين قاطعة.

٢ ـ مشروعية استعمال العقليات في الحجج والمجادلة.

٣ ـ تنزيه الله تعالى عن العجز والنقص وعن الشريك والولد وسائر النقائص.

٤ ـ تقرير أن الله تعالى بيده وفي تصرفه وتحت قهره كل الملكوت فلذا لا يصح طلب شيء من غيره إذ هو المالك الحق وغيره لا ملك له.

__________________

(١) بلى لنقض النفي أي بل هو قادر على أن يخلق مثلهم كقوله أليس الله بأحكم الحاكمين؟ فالجواب بلى أي هو أحكم الحاكمين إبطال لما نفته ليس إذ هي حرف نفي.

(٢) (فَسُبْحانَ) : نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن الشرك والعجز والملكوت ، والملكوتى : بمعنى نحو جبروتى ورحموتى من الجبروت والرحموت والعرب تقول جبروتى خير من رحموتى.

(٣) الملكوت مبالغة في الملك بكسر الميم من ذلك قولهم رهبوت خير من رحموت أي ليرهبك الناس خير من أن يرحموك لأن مع الرهبة العزة ومع الرحمة الضعف والعجز.

٣٩٥

سورة الصّافّات

مكية

وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

شرح الكلمات :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) : أي الملائكة تصف أنفسها في الصلاة وأجنحتها في الهواء.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) : أي الملائكة تزجر السحاب أي تسوقه حيث يأذن الله.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) : أي فالجماعات التاليات (١) للقرآن ذكرا.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) : أي إن إلهكم المعبود الحق لكم أيها الناس لواحد.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) : أي هو ربّ السموات والأرض وما بينهما أي خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما.

(وَرَبُّ الْمَشارِقِ) : أي والمغارب وهي مشارق الشمس ومغاربها إذ للشمس كل يوم مشرق ومغرب.

__________________

(١) جائز أن تكون الجماعات التالية لكلام الله تعالى من الملائكة ومن البشر روى مسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء.

٣٩٦

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) : أي وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد خارج عن الطاعة.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) : أي لا يستمعون إلى الملائكة في السموات العلا.

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً) : يرمون بالشهب من كل جوانب السماء دحورا أي إبعادا لهم.

(عَذابٌ واصِبٌ) : أي دائم لا يفارقهم.

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) : أي اختطف الكلمة من الملائكة بسرعة وهرب.

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) : أي كوكب مضيء ثاقب يثقبه أو يحرقه أو يخلبه أي يفسده.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالصَّافَّاتِ (١) صَفًّا) هذا قسم إلهي يؤكد به تعالى إلهيته على عباده فقد أقسم بالصافات والزاجرات والتاليات ذكرا أي قرآنا ، وسواء قلنا أقسم بهذه المخلوقات إذ لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وإنما الممنوع أن يقسم العبد بغير ربّه تعالى. أو قلنا أقسم تعالى بنفسه أي وربّ الصافات الخ فالقسم حاصل من أجل تقرير التوحيد ، وهذا الإقسام جار على عرف البشر في أنهم إذا أخبروا بشيء يشكون في صحته فيؤكد لهم المخبر الخبر باليمين ليزيل الشك من نفوسهم. وقوله (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) (٢) هو المقسم عليه وهو أن إله البشرية كلها واحد وهو الله خالقها ورازقها وليس لها من إله غيره ، وما عندها من آلهة فهي آلهة باطلة ويكفي في بطلانها أنها أصنام وصور وتماثيل وصلبان لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر. وقوله (رَبُّ السَّماواتِ (٣) وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) تدليل على وحدانية الله تعالى إذ هو خالق السموات والأرض وما بينهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما ، وربّ المشارق أيضا والمغارب أي مشارق الشمس ومغاربها إذ كل يوم تشرق وتغرب في درجة معينة فإلاله الحق هو الخالق للعوالم والمدبر لها لا الذي ينحته الرجل بيده ويقول هو إلهي زورا وباطلا. ألا فليتحرر المشركون من أسر الشيطان ويعبدوا الرحمن. وقوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ (٤) الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٥) هذه مظاهر القدرة والعالم

__________________

(١) روى مسلم وغيره عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف.

(٢) هذا جواب القسم وهو المقسم عليه والصافات الملائكة تصف أجنحتها في السماء أو تصف للصلاة كما يصف المؤمنون للصلاة في الدنيا ، وجائز أن يراد بالصافات صفوف المؤمنين في الصلاة وفي الجهاد.

(٣) رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السموات الخ.

(٤) هذه الجملة بمثابة الدليل على ربوبية الله تعالى الموجبة للألهية له سبحانه وتعالى دون سواه.

(٥) قرأ الجمهور بزينة الكواكب بإضافة زينة إلى الكواكب وقرأ حفص بتنوين زينة وجر الكواكب على البدلية ومنهم من نصب الكواكب على الاختصاص والكواكب جمع كوكب وهي تلك الأجرام الكريّة السماوية ومنها الثوابت ومنها السيارة وهي كل ما يرى في السماء ما عدا الشمس والقمر وتسمى النجوم وهي تختلف في أحجامها.

٣٩٧

والحكمة إنه وحده تعالى زين السماء الدنيا أي القريبة من الأرض بزينة هي الكواكب المشرقة المنيرة. وقوله (وَحِفْظاً (١) مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء حفظا تاما من كل شيطان عاد متمرد عن الطاعة. وقوله (لا يَسَّمَّعُونَ (٢) إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لا يتسمعون إلى الملائكة في السماء حتى لا ينقلوا أخبار الغيب إلى أوليائهم من الكهان في الأرض. وقوله (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي ويرمى أولئك المردة من الشياطين من قبل الملائكة من كل جهة من جهات السماء (دُحُوراً) أي لدحرهم وإبعادهم. وقوله تعالى (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) (٣) لأولئك المردة من الشياطين عذاب واصب موجع دائم وقوله (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي اختطف الكلمة بسرعة (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ (٤) ثاقِبٌ) أي كوكب مضيىء فثقبه فقتله أو أحرقه أو خبله أي أفسده ، وبهذا حميت السماء بالملائكة من دخول الشياطين إليها واستراق السمع. والحمد لله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم ببعض مخلوقاته إما تنويها بعظمتها المقرر ضمنا لعظمة خالقها وإما بيانا لفضلها وإما لفتا لنظر العباد إلى ما فيها من الفوائد.

٢ ـ تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله.

٣ ـ بيان الحكمة من وجود النجوم في السماء الدنيا.

٤ ـ بيان أن الشياطين حرموا من استراق السمع ، ولم يبق مجال لكذب الشياطين على الناس بعد أن منعوا من استراق السمع (٥).

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ

__________________

(١) قال أهل العلم النجوم لثلاثة للاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكزينة للسماء بما فيها من أنوار وللحفظ من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة فمن طلبها لغيرها فقد أساء واعتدى.

(٢) قرأ الجمهور لا يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم وقرأ حفص عن عاصم (لا يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين والميم مفتوحتين الأصل لا يتسمعون من التسمع فقلبت التاء سينا وأدغمت في السين.

(٣) الواصب : الدائم يقال وصب يصب وصوبا إذا دام وهو عذاب الآخرة.

(٤) يقال له في علم الهيئة النيزك وعن ابن عباس الشهاب لا يقتل ولكن يخترق ويخبل.

(٥) صح في الحديث أن من الجائز أن ينجو مسترق السمع من شهب الملائكة ، ويلقي بالكلمة التي استرقها إلى الكاهن أو الساحر بعد ما يضيف إليها تسعا وتسعين كلمة.

٣٩٨

وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

شرح الكلمات :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) : أي استخبر كفار مكة تقريرا وتوبيخا.

(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) : أي خلقهم في ذواتهم وإعادتهم بعد موتهم ، أم من خلق تعالى من الملائكة والسموات والأرض وما فيها من سائر المخلوقات.

(مِنْ طِينٍ لازِبٍ) : أي يلصق باليد.

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) : أي عجبت يا نبي الله من إنكارهم للبعث ، وهم يسخرون من دعوتك إلى الإيمان به.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) : أي وإذا وعظوا لا يتعظون.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) : أي إذا رأوا حجة من الحجج التي تحمل الآيات القرآنية تقرر البعث والتوحيد والنبوة يسخرون أي يستهزئون.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) : أي قل لهم يا رسولنا نعم تبعثون وأنتم صاغرون أذلاء.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) : أي صيحة تزجرهم وهي نفخة إسرافيل في الصور النفخة الثانية.

(هذا يَوْمُ الدِّينِ) : أي يوم الحساب والجزاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء وقوله تعالى فاستفتهم (١) أي استخبرهم واطلب جوابهم أي بقولك آنتم أشد خلقا أي في ذواتكم وفي إحيائكم بعد مماتكم أم من خلقه الله من الملائكة والسموات والأرض وما فيهما وما بينهما؟ والجواب معلوم وهو أن خلق غيرهم

__________________

(١) مأخوذ من استفتاء المفتي والفتيا هي اخبار عن أمر يخفى عن غير الخواص في غرض ما والاستفهام هنا تقريري.

٣٩٩

من العوالم أشد خلقا إذا فكيف ينكرون البعث بدعوى استحالة وجوده لصعوبته قال تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي خلقنا أباهم آدم من طين لازب أي لاصق يلصق باليد ثم خلقناهم بطريق التناسل أفيعجزنا إعادة خلقهم مرة أخرى والجواب لا. لا وقوله تعالى (بَلْ (١) عَجِبْتَ) أي من تكذيبهم بالبعث لوضوح الأدلة على إمكانه ووجوب وجوده (وَيَسْخَرُونَ) أي وهم يسخرون من ذلك أي يستهزئون من قولك بالبعث وإمكانه. وقوله تعالى (وَإِذا ذُكِّرُوا) أي بالآيات لعلهم يذكرون فيؤمنون ويوحدون لا يذكرون لقساوة قلوبهم وظلمة ذنوبهم بالشرك والمعاصي. وقوله (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (٢) أي يسخرون ويستهزئون (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القول والعمل إلا سحر مبين أي بيّن ظاهروهم في ذلك كاذبون قطعا للفرق بين السحر الذي هو تخيل باطل وبين الحق الثابت عقلا ووحيا من دقائق الشرع وأصول الدين من الإيمان بالله واليوم الآخر وقوله (أَإِذا مِتْنا (٣) وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) هذا قول المكذبين من المشركين يقولونه متعجبين مستبعدين للبعث قال تعالى ردّا عليهم قل يا رسولنا لهم (نَعَمْ) تبعثون أحياء (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون ذليليون وأمر إعادتكم لا يتطلب أكثر من أن ينفخ اسرافيل في الصور فإذا أنتم أحياء تخرجون من قبوركم (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ) أي صيحة (واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ) قيام (يَنْظُرُونَ) ويقولوا أي عند قيامهم من قبورهم (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر هذا أوان حضورك أي يدعون على أنفسهم بالهلاك لشدة ما شاهدوا من هول القيامة كقول أحدهم يا ليتها كانت القاضية. وقولهم (هذا يَوْمُ الدِّينِ) اعتراف منهم بالبعث والجزاء ولكن في وقت ما هو بنافع لهم الاعتراف فيه أي هذا يوم الحساب والجزاء فيقال لهم (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) (٤) الذي يفصل الله تعالى فيه بين عباده فيما كانوا فيما يختلفون فيحكم بنيهم بالعدل ، وقوله تعالى (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فيه توبيخ لهم أي هذا يوم البعث الذي كنتم تكذبون به وتقولون مستبعدين له أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أو أباؤنا الأولون أي وآباؤنا الأولون أيضا.

__________________

(١) (بَلْ) للاضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى حالهم العجب قرأ الجمهور عجبت بفتح التاء والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ ابن مسعود بضم التاء ونسبة العجب إلى الله تعالى ليست كنسبته إلى خلقه كسائر صفاته تعالى.

(٢) سخريتهم هذه من محاجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أتاهم بالآيات القرآنية الحاملة للأدلة العقلية وهم لجهلهم وعجزهم يدفعونها بالاستسخار والإنكار وهذا غاية الجهل والضلال.

(٣) الاستفهام إنكاري وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال.

(٤) جائز أن يكون (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) من قول الله تعالى والملائكة لهم وجائز أن يكون من قول بعضهم لبعض.

٤٠٠