أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) : أي ذكرا وأنثى.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) : أي ما تحمل من جنين ولا تضعه إلا بإذنه.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) : أي وما يطول من عمر ذي عمر طويل إلا في كتاب.

(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) : أي بأن يجعل أقل وأقصر من العمر الطويل الا في كتاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقوية روح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشد من عزمه أمام تقلبات المشركين وعنادهم ومكرهم فقال تعالى : (أَفَمَنْ (١) زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) (٢) أي أفمن زين له الشيطان ونفسه وهواه قبيح عمله وهو الشرك والمعاصى فرآه حسنا كمن هداه الله فهو على نور من ربّه يرى الحسنة حسنة والسيئة سيئة والجواب : لا ، لا. وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يضل بعدله وحسب سننه في الإضلال من يشاء من عباده ، ويهدى بفضله من يشاء هدايته إذا فلا تذهب (٣) نفسك أيها الرسول على عدم هدايتهم حسرات فتهلك نفسك تحسّرا على عدم هدايتهم. وقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فلذا لا داعى إلى الحزن والغمّ ما دام الله تعالى وهو ربهم قد أحصى أعمالهم وسيجزيهم بها وقوله تعالى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تزعجه وتحركه. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) (٤) أي لا نبات ولا زرع به (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي كما أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها كذلك يحيي الموتى إذ بعد فناء العالم ينزل الله تعالى من تحت العرش ماء فينبت الإنسان من عظم يقال له عجب الذّنب فيتم خلقه ، ثم يرسل الله تعالى الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فلا تخطىء روح جسدها. وهكذا كما تتم عملية إحياء الأرض بالنبات تتم عملية إحياء الأموات ويساقون إلى المحشر ويجزى كل نفس بما كسبت والله سريع الحساب.

__________________

(١) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) والمزين الشيطان والمزين له سوء عمله (من) الموصولية وهي من ألفاظ العموم تتناول من قيل ان الآية نزلت فيه وهو أبو جهل ثم هي صادقه على كل من زين له الشيطان الشرك والشر والفساد فرآها حسنة ، (ومن) مبتدأ والخبر محذوف قد يقدر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وقد يقدر كمن هداه الله كما في التفسير وقد يقدر بغير ما ذكر.

(٢) ذكر القرطبي لأهل العلم أقوالا فيمن زين له سوء عمله وفي عمله الذي زين له قيل إنهم اليهود والنصارى والمجوس وسوء عمله معاداة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل إنهم الخوارج وسوء عمله تحريف التأويل وقيل الشيطان وعمله الإغراء وقيل كفار قريش وهو الظاهر.

(٣) قرأ الجمهور فلا تذهب نفسك بفتح التاء ورفع السين من نفسك وقرىء بضم التاء ونصب نفسك على أنها مفعول به.

(٤) الراجح من الأقوال لغة أن ميت مشددة وميت مخفف لا فرق بينهما وشاهده قول الشاعر :

ليس من مات واستراح بميت

إنما الميت ميّت الأحياء

٣٤١

وقوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) فليطلبها من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله فإن العزة لله جميعا فالعزيز من أعزه الله والذليل من أذله ، إنهم كانوا يطلبون العزة بالأصنام فاعلموا أن من يريد العزة فليطلبها من مالكها أما الذي لا يملك العزة فكيف يعطيها لغيره إن فاقد الشيء لا يعطيه. وقوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إلى الله يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه الى الله تعالى فإذا كان قول بدون عمل فإنه لا يرفع الى الله تعالى ولا يثيب عليه ، وقد ندد الله تعالى بالذين يقولون ولا يعملون فقال (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). وقوله (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي يعملونها وهي الشرك والمعاصى (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هذا جزاؤهم ، (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ (١) يَبُورُ) أي ومكر الذين يعملون السيئات (هُوَ يَبُورُ) أي يفسد ويبطل.

وقوله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أصلنا من تراب وهو آدم ، ثم خلقنا نحن ذريته من نطفة وهي ماء الرجل وماء المرأة ، (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي ذكرا وأنثى. هذه مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وتوحيده والمقتضية للبعث والجزاء ، وقوله (وَما تَحْمِلُ مِنْ (٢) أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي يزاد في عمره ، ولا ينقص من عمره فلا يزاد فيه إلا في كتاب وهو كتاب المقادير. هذا مظهر من مظاهر العلم ، وبالعلم والقدرة هو قادر على إحياء الموتى وبعث الناس للحساب والجزاء. ولذا قال تعالى (إِنَّ ذلِكَ) أي المذكور من الخلق والتدبير ووجوده في كتاب المقادير على الله يسير أي سهل لا صعوبة فيه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من اتباع الهوى والاستجابة للشيطان فان ذلك يؤدى بالعبد الى أن يصبح يرى الأعمال القبيحة حسنة ويومها يحرم هداية الله فلا يهتدى أبدا وهذا ينتج عن الإدمان على المعاصى والذنوب.

٢ ـ عملية إحياء الأرض بعد موتها دليل واضح على بعث الناس أحياء بعد موتهم.

__________________

(١) المكر : تدبير الحاق الضرر بالغير في خفية. والمراد هنا أن الذين يمكرون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين مكرهم يذهب سدى ولا يفلحون فيه كما أن الآية تشير إلى أن كل من يمكر مكر السوء فإن عاقبة مكره تعود عليه وبالا وخسرانا كقوله تعالى ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

(٢) فما يكون حمل ولا وضع أي ولادة إلا بعلمه ، فلا يخرج شيء عن تدبيره وحكمته وما يعمر سماه معمرا باعتبار ما هو صائر إليه وفي الحديث الصحيح : من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره أي أجله فليصل رحمه.

٣٤٢

٣ ـ مطلب العزة مطلب غال ، وهو طاعة الله ورسوله ولا يعز أحد عزا حقيقيا بدون طاعة الله ورسوله.

٤ ـ علم الله المتجلى في الخلق والتدبير يضاف إليه قدرته تعالى التى لا يعجزها شيء بهما يتم الخلق والبعث والجزاء.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء وتقرير كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

شرح الكلمات :

(عَذْبٌ فُراتٌ) : أي شديد العذوبة.

(وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) : أي شديد الملوحة.

(وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) : أي ومن كل منهما.

(لَحْماً طَرِيًّا) : أي السمك.

(حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : أي اللؤلؤ والمرجان.

٣٤٣

(مَواخِرَ) : أي تمخر الماء وتشقه عند جريانها في البحر.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتطلبوا الرزق بالتجارة من فضل الله تعالى.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي رجاء أن تشكروا الله تعالى على ما رزقكم.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل الليل في النهار فيزيد.

(وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : أي يدخل النهار في الليل فيزيد.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما.

(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي في فلكه إلى يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) : أي تعبدون بالدعاء وغيره من العبادات وهم الأصنام.

(ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) : أي من لفافة النواة التي تكون عليه وهى بيضاء رقيقة.

(وَلَوْ سَمِعُوا) : أي فرضا ما استجابوا لكم.

(يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) : أي يتبرأون منكم ومن عبادتكم إياهم.

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) : أي لا ينبئك أي بأحوال الدارين مثلى فإني خبير بذلك عليم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمة تدبيره لخلقه وهي مظاهر موجبة لله العبادة وحده دون غيره ، ومقتضية للبعث الذي أنكره المشركون قال تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) أي لا يتعادلان. (هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ (١) شَرابُهُ) أي ماؤه عذب شديد العذوبة (وَهذا مِلْحٌ (٢) أُجاجٌ) أي ماؤه شديد الملوحة لمرارته مع ملوحته ، فهل يستوي الحق والباطل هل تستوي عبادة الأصنام مع عبادة الرحمن؟ والجواب لا. وقوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ) أي ومن كل من البحرين العذب والملح تأكلون لحما طريا وهو السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي اللؤلؤ والمرجان. وهي حلية يتحلى بها النساء للرجال ، وقوله (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي وترى أيها السامع لهذا الخطاب (الْفُلْكَ) أي السفن مواخر في البحر تمخر عباب البحر وتشق ماءه غادية رائحة تحمل الرجال والأموال ، سخرها وسخر البحر (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي الرزق بالتجارة ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي سخر لكم البحر لتبتغوا من فضله ورجاء أن تشكروا. لم يقل لتشكروا كما قال

__________________

(١) معنى سائغ شرابه أن شربه لا يكلف النفس كراهة وهو مشتق من الإساغة وهو استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة قال الشاعر :

فساغ لى الشراب وكنت قبلا

أكاد أغص بالماء الفرات

(٢) المالح من الطعام والشراب : هو الذي يجعل فيه الملح والملح بكسر الميم وسكون اللام الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء الملح فيه والأجاج الشديد الملوحة.

٣٤٤

لتبتغوا لأن الابتغاء حاصل من كل راكب ، وأما الشكر فليس كذلك بل من الناس من يشكر ومنهم من لا يشكر ، ولذا جاء بأداة الرجاء وهي لعل وقوله (يُولِجُ اللَّيْلَ (١) فِي النَّهارِ) أي يدخل جزءا من الليل في النهار فيطول ، ويقصر الليل (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل جزءا منه في الليل فيطول كما أنه يدخل النهار في الليل ، والليل في لنهار بالكلية فإنه إذا جاء أحدهما ذهب الآخر ويشهد له قوله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) ولازمه والنهار نسلخ منه الليل ، فإذا الليل ليل والنهار نهار.

وقوله (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما فما يسيران الدهر كله بلا كلل ولا ملل لصالح العباد إذ بهما كان الليل والنهار ، وبهما تعرف السنون والحساب وقوله (كُلٌّ يَجْرِي) أي كل منهما يجرى (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت محدد وهو يوم القيامة. ولما عرف تعالى نفسه بمظاهر القدرة قدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته قال للناس (ذلِكُمُ (٢) اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي بعد أن أقام الحجة وأظهر الدليل لم يبق الا الإعلان عن الحقيقة التي يتنكر لها الكافرون فأعلنها بقوله (ذلِكُمُ) ذو الصفات العظام والجلال والإكرام هو الله ربكم الذي لا رب لكم سواه له الملك ، وليس لغيره فلا يصح طلب شيء من غيره ، إذ الملك كله لله وحده ، وأما الذين تدعون من دونه أي تعبدونهم من دونه وهي الأصنام والأوثان وغيرها من الملائكة والأنبياء والأولياء فإنهم لا يملكون من قطمير فضلا عن غيره تمرة فما فوقها لأن الذي لا يملك قطميرا ـ وهو القشرة الرقيقة على النواة (٣) ـ لا يملك بعيرا.

وقوله (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) نعم لا يسمعون لأنهم جمادات وأصنام من حجارة فكيف يسمعون وعلى فرض لو أنهم سمعوا ما استجابوا لداعيهم لعدم قدرتهم على الاستجابة. وقوله تعالى (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) فهم إذا محنة لكم في الدنيا تنحتونهم وتحمونهم وتعبدونهم ويوم القيامة يكونون أعداء لكم وخصوما فيتبرءون من شرككم إياهم في عبادة الله ، فتقوم عليكم الحجة بسببهم فما الحاجة إذا إلى الإصرار على عبادتهم وحمايتهم والدفاع عنهم. وقوله تعالى (وَلا يُنَبِّئُكَ) أيها السامع (مِثْلُ خَبِيرٍ) (٤) وهو الله تعالى فالخبير أصدق من ينبىء

__________________

(١) هذا استدلال بمظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة بما في العالم العلوي بعد الاستدلال بما في العالم السفلي من ذلك.

(٢) هذا استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة السابقة وهي أدلة مفصلة في غاية القوة والوضوح.

(٣) جاء في القرآن ذكر النقير والقطمير والفتيل واضطربت أقوال أهل اللغة في تحديدها والصحيح : ان النقير النقرة في وسط النواة ، وأن الفتيل الخيط الأبيض في وسط النواة ، وأن القطمير اللفافة البيضاء على النواة.

(٤) خبير صفة مشبهة مشتقة من خبر بضم الياء فلان الأمر إذا علمه علما لا شك فيه وأجريت هذه الجملة مجرى المثل يقال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).

٣٤٥

وأصح من يقول فالله هو العليم الخبير وما أخبر به عن الآلهة في الدنيا والآخرة في الدنيا عن عجزها وعدم غناها وفي الآخرة عن براءتها وكفرها بعبادة عابديها. فهو الحق الذي لا مرية فيه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله المستلزمة لألوهيته.

٢ ـ بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها.

٤ ـ بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة.

٥ ـ تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم ، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

شرح الكلمات :

(أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) : أي المحتاجون إليه في كل حال.

(وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) : أي الغني عنكم أيها الناس وعن سائر خلقه ، المحمود بأفعاله وأقواله وحسن تدبيره فكل الخلائق تحمده لحاجتها إليه وغناه عنها.

(وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي بدلا عنكم.

٣٤٦

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) : أي بشديد ممتنع بل هو سهل جائز الوقوع.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي في حكم الله وقضائه بين عباده أنّ النفس المذنبة الحاملة لذنبها لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) : أي بأوزارها حتى لم تقدر على المشي أو الحركة.

(لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) : أي لا تجد من يستجيب لها ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم ، بهذا حكم الله سبحانه وتعالى.

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي لأنهم ما رأواه بأعينهم.

(وَمَنْ تَزَكَّى) : أي طهّر نفسه من الشرك والمعاصي.

(فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) : أي صلاحه واستقامته على دين الله ثمرتهما عائدة عليه.

معنى الآيات :

بعد تلك الأدلة والحجج التي سبقت في الآيات السابقة وكلها مقررة ربوبية الله تعالى وألوهيته وموجبة توحيده وعبادته نادى تعالى الناس بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ليعلمهم بأنه وان خلقهم لعبادته وأمرهم بها وتوعد بأليم العذاب لمن تركها ولم يكن ذلك لفقر منه إليها ولا لحاجة به إليهم فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى) (١) (اللهِ ، وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) إن عبادة الناس لربّهم تعود عليهم فيكملون عليها في أخلاقهم وأرواحهم ويسعدون عليها في دنياهم وآخرتهم أما الله جل جلاله فلا تنفعه طاعة ولا تضره معصية. وهو الغنى عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أي المحمود بنعمه فكل نعمة بالعباد موجبة له الحمد والشكر. وقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ (٢) بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وهذا دليل غناه ؛ وافتقارهم كما هو دليل قدرته وعلمه ، وقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي إذهابهم والإتيان بخلق جديد غيرهم ليس بالأمر العزيز الممتنع ولا بالصعب المتعذر بل هو اليسير السهل عليه تعالى.

__________________

(١) في قوله تعالى (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ) قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الفقر على الناس وهو قصر إضافي بالنسبة إلى الله تعالى أي انتم المفتقرون إلى الله وليس هو بمفتقر إليكم ووصفه تعالى نفسه بالحميد إشعار بأن غناه مقترن بجوده فهو يحمد لما يسديه من المعروف إلى عباده.

(٢) الجملة بيانية فهي مبنية لغناه وموجب حمده والثناء عليه ببيان قدرته على إعلام الموجود من عباده والإتيان بخلق جديد غيرهم ومن كان هكذا هو الغني الحق والمحمود الحق فلله الحمد وله المنة.

٣٤٧

وقوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) هذا مظهر عدالته تعالى فهو مع قدرته وقهره لعباده ذو عدل فيهم فلا يؤاخذ بغير جرم ، ولا يحمل وزر نفس نفسا أخرى لم تذنب ولم تزر بل كل نفس تؤخذ بذنبها إن كانت مذنبة هذه عدالته تتجلى لعباده يوم يعرضون عليه في يوم كله هول وفزع يدل عليه قوله (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) (٢) أي بذنوبها (إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ) (٣) من تدعوه (ذا قُرْبى) كالولد (٤) والبنت. وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ (٥) يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي انما تنذر يا رسولنا ويقبل إنذارك وينتفع به من يخشون ربهم ويخافون عذابه بالغيب وأقاموا الصلاة ، أما غيرهم من أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم لا يقبلون إنذارك ولا ينتفعون به لظلمة جهلهم وكفرهم وقساوة قلوبهم ، ومع هذا فأنذر ولا عليك في ذلك شيء فإن من تزكّى بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي فإنما يتزكّى لنفسه لا لك ولا لنا ، ومن أبى فعليه إباؤه ، وإلينا مصير الكل وسنجزى كلا بما كسب من خير وشر. هذا ما دل عليه قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٦)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فقر العباد الى ربهم وحاجتهم إليه وإزالة فقرهم وسد حاجتهم يكون باللجوء إليه والاطراح بين يديه يعبدونه ويسألونه.

٢ ـ بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة.

٣ ـ بيان صعوبة الموقف في عرصات القيامة لا سيما عند وضع الميزان ووزن الأعمال.

__________________

(١) (وازِرَةٌ) صفة لمحذوف أي نفس وازرة وكذا وإن تدع مثقلة أي نفس مثقلة وتزر أصلها توزر فحذفت الواو تخفيفا إذ الفعل وزر يوزر فحذفت الواو كما حذفت في وعد يعد ووزن يزن.

(٢) (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي أحدا إلى حملها.

(٣) أي المدعو ذا قربى.

(٤) قال الفضيل بن عياض هي المرأة تلقى ولدها فتقول يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء ، ألم يكن ثدي لك سقاء ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول بلى يا أماه فتقول يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا ، فيقول إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول.

(٥) الجملة مستأنفة بيانيا لأن الحال تستدعي سؤالا وهو لم لم يتأثر المشركون بالإنذار فالجواب إنما يقبل النذارة ويستجيب للمنذر أهل الإيمان والخشية لله تعالى لأنهم أحياء وأما الكافرون فهم أموات وهل يستجيب غير الحي؟ وفي الآية دليل على قوة تأثير الصلاة في تزكية النفوس وتطهير الأرواح.

(٦) هذه الجملة تذييل للجملة المذيل بها قبلها وهي قوله تعالى : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) وهي تفيد تقرير البعث والجزاء وهما مما ينكر المشركون كما تفيد التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتهديد للكافرين أيضا فإن من صار إلى الله أخذه بذنبه.

٣٤٨

٤ ـ بيان أن الإنذار والتخويف من عذاب الله لا ينتفع به غير المؤمنين الصالحين.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.

٦ ـ تقرير حقيقة وهي أن من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

شرح الكلمات :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) : أي لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) : أي لا يستويان فكذلك الكفر والإيمان لا يستويان.

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) : أي لا يستويان فكذلك الجنة والنار لا يستويان.

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) : فكذلك لا يستوى المؤمنون والكافرون.

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) : أي فكذلك لا تسمع الكفار فإنهم كالأموات.

٣٤٩

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) : ما أنت إلا منذر فلا تملك أكثر من الإنذار.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) : أي بالدين الحق والهدى والكتاب.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) : أي سلف فيها نبيّ ينذرها.

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والأدلة الواضحة.

(وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : أي وبالصحف كصحف ابراهيم وبالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل.

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة والإهلاك والجواب هو واقع موقعه والحمد لله.

معنى الآيات :

لمّا تقدم في السياق الكريم أن إنذار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينتفع به إلا المؤمن المقيم للصلاة وإن الكافر المكذب الجاحد لا ينتفع به ذكر تعالى هنا مثلا للكافر والمؤمن وانهما لا يستويان فقال (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١) فالأعمى الكافر والبصير المؤمن وهما لا يستويان في عقل ولا شرع (وَلَا الظُّلُماتُ (٢) وَلَا النُّورُ) أي ولا تستوى الظلمات ولا النور كما لا يستوى الكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٣) ، فبرودة الجو ، لا تستوى مع حرارته فكذلك الجنّة لا تستوى مع النار ، وقوله (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي ولا المؤمنون مع الكافرين كذلك وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٤) هذا شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل ما يجد في نفسه من إعراض قومه وعدم استجابتهم لدعوته ، فأخبره ربه بأنه تعالى قادر على أن يسمع من يشاء إسماعه وذلك لقدرته على خلقه أما أنت أيها الرسول فإنك لا تسمع الأموات وانما تسمع الأحياء ، والكفار شأنهم شأن الأموات في القبور فلا تقدر على اسماعهم. ولا يحزنك ذلك فإنك ما أنت إلا نذير ، والنذير ينذر ولا يسأل عمن أجابه ومن لم يجبه.

وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) بهذا الخبر يقرر تعالى رسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا لمن آمن به واتبع هداه بالجنة ، ونذيرا لمن كفر به وعصاه

__________________

(١) قال القرطبي الكافر والمؤمن والعالم والجاهل.

(٢) قيل لا زائدة في كل من قوله تعالى ولا الظل ولا الحرور ولا الأموات واختلف في أيهما يكون بالليل وأيهما يكون بالنهار الحرور أو السموم وفي حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيان ذلك وأن كلاهما يقع في النهار كما يقع في الليل إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما تجدون من الحر فمن سمومها وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها.

(٣) قال قطرب أحد أعلام اللغة : الحرور : الحر والظل البرد.

(٤) قرأ الجمهور بتنوين بمسمع وقرىء بمسمع بكسرة واحدة والمراد بمن في القبور الكفار حيث أمات الكفر قلوبهم أي كما لا تسمع من مات فإنك لا تسمع من مات قلبه بالجهل وظلمة الكفر.

٣٥٠

بالنار. وقوله (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) ، يخبر تعالى أن رسوله محمدا ليس الرسول الوحيد الذي أرسل في أمة بل إنه ما من أمة من الأمم الا مضى فيها نذير ، فلا يكون إرساله عجبا لكفار قريش إذ هذه سنة الله تعالى في عباده يرسل إليهم من يهديهم إلى نجاتهم وسعادتهم ثم قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معزيا له مسليا (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) فلم (٢) يكونوا أول من كذب فقد كذب الذين من قبلهم (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي جاءتهم رسلهم بالحجج القواطع والبراهين السواطع ، والمعجزات الخوارق ، وبالصحف والكتب المنيرة لسبيل الهداية وطريق النجاة والفلاح. ومنهم من آمن ومنهم من كذب وكفر وبعد إمهال وإنظار دلّ عليه العطف بثم أخذ الذين كفروا بعذاب ملائم لكفر الكافرين. (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٣) أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة الشديدة والإهلاك التام إنه كان واقعا موقعه ، موافيا لطالبه بكفره وعناده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال للكشف عن الحال وزيادة البيان.

٢ ـ الكفار عمى لا بصيرة لهم ، وأموات لا حياة فيهم ، والدليل عدم انتفاعهم بحياتهم ولا بأسماعهم ولا أبصارهم.

٣ ـ تقرير نبوّة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكيد رسالته.

٤ ـ تسلية الدعاة ليتدرّعوا بالصبر ويلتزموا الثبات.

٥ ـ بيان سنة الله في المكذبين الكافرين وهي أخذهم عند حلول أجلهم.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ

__________________

(١) أي سلف فيها نبي قال ابن جريج إلا العرب إذ أراد أنه لم يخل فيهم نذير مطلقا فهذا غير صحيح إذ بعث فيهم إسماعيل وتبع وغيرهما وإن أراد في الزمن القريب فهذا صحيح.

(٢) في الآيات تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرة تطلبها المقام حيث أصر المشركون على تكذيبه وعدم الإيمان بما جاءهم به من الهدى والدين الحق.

(٣) استفهام مستعمل في التعجب من حالهم مفرع بالفاء على قوله أخذت الذين كفروا والنكير اسم لشدة الإنكار وهو هنا كناية عن شدة العقاب لأن الإنكار يستلزم الجزاء على الفعل المنكر بالعقاب وحذفت ياء المتكلم في نكيري تخفيفا ولرعاية الفواصل في الوقف.

٣٥١

إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

شرح الكلمات :

(ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) : أي كأحمر وأخضر وأصفر وأزرق وغيره.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) : أي طرق في الجبال إذ الجدة الطريق ومنه جادة الطريق.

بيض وحمر مختلف ألوانه : أي طرق وخطط في الجبال ذات ألوان كالجبال أيضا.

(وَغَرابِيبُ سُودٌ) (١) : منها الأبيض والأصفر والأسود الغربيب.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) : فمنها أبيض وهذا أحمر وهذا أسود.

(مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) : أي كاختلاف الثمار والجبال والطرق فيها.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : أي العالمين بجلاله وكماله ، إذ الخشية متوقفة على معرفة المخشيّ.

(يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) : أي يقرأونه تعبدا به.

(تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) : أي لن تهلك ولن تضيع بدون ثواب عليها.

(غَفُورٌ شَكُورٌ) : أي غفور لذنوب عباده التائبين شكور لأعمالهم الصالحة.

معنى الآيات :

هذا السياق الكريم (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) (٢) في بيان تفاوت المخلوقات واختلافاتها فمن مؤمن إلى كافر ، ومن صالح إلى فاسد ومن أبيض إلى أحمر أو أسود وابتدأه تعالى بخطاب رسوله مقررا له بقوله (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تبصر بعينك أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ما بين تمر أصفر وآخر أحمر ، وآخر أسود وهذا واضح في التمر

__________________

(١) الغربيب : الشديد السواد ففي الكلام تقديم وتأخير إذ المعنى ومن الجبال سود غرابيب إذ العرب تقول للأسود شديد السواد كلون الغراب أسود غربيب.

(٢) من هداية هذه الآية الإشارة الواضحة إلى وجود اختلاف بشرى جبلّي فطري كما هو في سائر الكائنات الأرضية ، وفي النباتات والحيوانات وحتى الجبال والمعادن ومن عرف هذا هان عليه اختلاف الناس ولم يحزن له ولم يهتم ويكرب.

٣٥٢

والعنب والفواكه والخضر ، ومن الجبال كذلك. فإن فيها جدد (١) أي خطط حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء والجبال نفسها كذلك ، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ) ففي جميعها الأبيض والأسود والأحمر والأصفر كما في جدد الجبال نفسها وكما في الثمار. ولما كان هذا لا يدركه إلا المفكرون ولا يجنى منه العبرة إلا العالمون قال تعالى (إِنَّما يَخْشَى) (٢) (اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وأهل مكة جهال لا يفكرون ولا يهتدون فلا غرابة إذا لم يخشوا الله تعالى ولم يوحدوه وذلك لجهلهم وعدم تفكيرهم.

وقوله تعالى في ختام السياق : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٣) كشف عن حقيقة ينبغى أن يعرفها أهل مكة المصرون على الكفر والتكذيب وهي أن الله قادر على أخذهم والبطش بهم فإنه عزيز لا يمانع فيما يريده وغفور لذنوب التائبين من عباده ومهما كانت ذنوبهم الا فليتب أهل مكة فإن توبتهم خير لهم من إصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب إذ في التوبة نجاة ، وفى الإصرار هلاك.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) (٤) وهم المؤمنون (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أدوها أداء وافيا لا نقص فيه (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) الزكاة والصدقات بحسب الأحوال والظروف سرا أحيانا وعلانية أحيانا أخرى. يخبر تعالى عنهم بعد ما وصفهم بما شرفهم به من صفات أنهم (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي لن تهلك ولن تخسر وذلك يوم القيامة وقوله (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ (٥) وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي هداهم لذلك ووفقهم إليه تعالى ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وعلة ذلك أنه غفور لعباده المؤمنين التائبين فيغفر ذنوبهم ويدخلهم جنته شكور لطاعاتهم وصالح أعمالهم فلذا يضاعف لهم أجورهم ويزيدهم من فضله وله الحمد والمنة.

__________________

(١) الجدد جمع جدّة وهي الطريقة والخطة في الشيء تكون واضحة فيه.

(٢) في الجملة قصر صفة على موصوف أي قصر صفة الخشية على العلماء دون الجهلة وبهذا علا شأن العلماء وعظم قدرهم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ثم تلا إنما يخشى الله من عباده العلماء والمراد بالعلماء العالمون بالله أي بأسمائه وصفاته ومحابه ومكارهه وما عنده من نعيم لأوليائه وما لديه من عذاب لأعدائه ، وآية العالم الخشية لله والمحبه له تعالى فمن لم يخش الله تعالى فليس بعالم.

(٣) الجملة تذييلية مشعرة بغنى الله تعالى عن عباده قدير على أخذهم متى أراد بهم ذلك ، ذو مغفرة لهم متى تابوا إليه وطلبوا مرضاته ولو عرف المشركون هذا ما أصروا على الشرك ولكنهم لا يعلمون.

(٤) لما أثنى على العلماء بما وصفهم به من الخشية وكان في الكلام ايجاز أوضحه بهذه الجملة فقال إن الذين يتلون كتاب الله ، وما تلا كتاب الله غير مؤمن عالم ولا أقام الصلاة وأنفق سرا وعلانية إلا ذو خشية ومحبة بعد ما وصفهم وحددهم بشرهم بقوله يرجون تجارة لن تبور.

(٥) التوفية جعل الشيء وافيا أي تاما لا نقيصة فيه ولا غبن.

٣٥٣

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر القدرة والعلم الإلهي في اختلاف الألوان والطباع والذوات.

٢ ـ العلم سبيل الخشية فمن لا علم له بالله فلا خشية له إنما يخشى الله من عباده العلماء.

٣ ـ فضل تلاوة القرآن الكريم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات.

٤ ـ في وصف الله تعالى بالغفور والشكور ترغيب للمذنبين أن يتوبوا ، وللعاملين أن يزيدوا.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

شرح الكلمات :

(مِنَ الْكِتابِ) : أي القرآن الكريم.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) : أي الكتب التى سبقت القرآن إذ محصلها في القرآن الكريم.

(الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) : أي اخترنا المؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٥٤

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) : بارتكاب الذنوب.

(وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) : مؤد للفرائض مجتنب للكبائر.

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) : مؤد للفرائض والنوافل مجتنب للكبائر والصغائر.

(بِإِذْنِ اللهِ) : أي بتوفيقه وهدايته.

(ذلِكَ) : أي إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير.

(وَلُؤْلُؤاً) : إي أساور من لؤلؤ مرصع بالذهب.

(أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) : أي الإقامة وهي جنات عدن.

(لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) : أي تعب.

(وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) : أي إعياء من التعب ، وذلك لعدم التكليف فيها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) (١) أي القرآن الكريم هو (الْحَقُ) أي الواجب عليك وعلى أمتك العمل به لا ما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أمامه من الكتب السابقة ، وقوله (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢) فهو تعالى يعلم أن الكتب السابقة لم تصبح تحمل هداية الله لعباده لما داخلها من التحريف والتغيير فلذا مع علمه بحاجة البشرية إلى وحي سليم يقدم إليها فتكمل وتسعد عليه متى آمنت به وأخذته نورا تمشى به في حياتها المادية هذه أرسلك وأوحى إليك هذا الكتاب الكريم وأوجب عليك وعلى أمتك العمل به.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ (٣) الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) يخبر تعالى أنه أورث أمة الإسلام الكتاب السابق إذ كل ما في التوراة والإنجيل من حق وهدى قد حواه القرآن الكريم فأمة القرآن قد ورّثها الله تعالى كل الكتاب الأول. وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) (٤) بالتقصير في العمل وارتكاب بعض الكبائر ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو المؤدى للفرائض المجتنب للكبائر ،

__________________

(١) في الآية الإشادة بالكتاب الذي يتلوه المؤمنون فيثابون ويزادون لأنه الكتاب الحق الخالي من الزيادة والنقص المصدق لما تقدمه من الكتب الإلهية السابقة وضمن هذا يقرر النبوة المحمدية واثباتها والإشادة بصاحبها.

(٢) الخبير : العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية وصاحب هذه الصفة هو الذي يجب أن يعبد ويتقى.

(٣) حاول كثير من المفسرين البعد عن الحقيقة التي تضمنتها هذه الآية وهي أن الآية في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن هي التي قال الله تعالى فيها هو اجتباكم والاجتباء كالاصطفاء والظالم لنفسه لا يكون الكافر ولا المنافق وانما هو المؤمن يغشى بعض الكبائر وما في التفسير هو الحق فتأمله.

(٤) (فَمِنْهُمْ) : هذه الفاء التفريعيّة التفصيلية حيث فصل بها مجمل الذين أوتوا الكتاب والبداية بالظالمين لأنفسهم إيماء إلى أنهم غير محرومين من جنات عدن دفعا لمن يتوهم أنهم لما كانوا ظالمين لا يدخلون الجنة.

٣٥٥

(وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) وهو المؤدى للفرائض والنوافل المجتنب للكبائر والصغائر. وقوله : (ذلِكَ) أي الإيراث للكتاب هو الفضل الإلهي الكبير وهو (جَنَّاتُ) (١) (عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) يوم القيامة (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ) جمع سوار ما يجعل في اليد (مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي أساور من لؤلؤ ، ولباسهم فيها حرير.

وقوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ (٢) الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي كل الحزن فلا حزن يصيبهم إذ لا موت في الجنة ولا فراق ولا خوف ولا همّ ولا كرب فمن أين يأتي الحزن. وقولهم (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) قالوا هذا لأنه تعالى غفر للظالم وشكر للمقتصد عمله فأدخل الجميع الجنة فهو الغفور الشكور حقا حقا.

وقولهم : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي الإقامة من فضله هذا ثناء منهم على الله تعالى بإفضاله عليهم ، وقولهم (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إعياء من التعب وصف لدار السّلام وهي الجنة الخالية من النصب واللغوب جعلنا الله من أهلها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب العمل بالقرآن الكريم عقائد وعبادات وآدابا وأخلاقا وقضاء وحكما.

٢ ـ بيان شرف هذه الأمة ، وأنها الأمة المرحومة فكل من دخل الإسلام بصدق وأدى الفرائض واجتنب المحارم فهو ناج فائز ومن قصر وظلم نفسه بارتكاب الكبائر ومات ولم يشرك بالله شيئا فهو آئيل الى دخول الجنة راجع إليها بإذن الله.

٣ ـ بيان نعيم أهل الجنة وحلية أهلها وهي الأساور (٣) من الذهب واللؤلؤ.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ

__________________

(١) (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل اشتمال من قوله (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

(٢) لما دخلوا جنات عدن حمدوا الله تعالى وأثنوا عليه وإن قيل كيف دخل الظالم لنفسه الجنة وهو ظالم قلنا هذا الظلم هو ليس ظلما لربه بأن عبد غير الله ولا هو ظلم لغيره وإنما هو ظلم لنفسه بارتكاب بعض الذنوب وهذا غير مانع من دخول الجنة إذ هو وارث بوصفه مؤمنا والجنة تورث والورثة يستوي فيهم البار مع العاق فلا يمنع من الإرث العاق بل يرث كالبار سواء بسواء.

(٣) ثبت في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء.

٣٥٦

عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

شرح الكلمات :

(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) : أي بالموت فيموتوا ويستريحوا.

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) : أي كذلك الجزاء نجزى كل كفور بنا وبآياتنا ولقائنا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) : أي يصيحون بأعلى أصواتهم يطلبون الخروج منها.

يقولون : أي في عويلهم وصراخهم ربنا أخرجنا أي منها نعمل صالحا.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ) : أي وقتا يتذكر فيه من تذكر.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) : أي الرسول فلم تجيبوا وأصررتم على الشرك والمعاصى.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي بما في القلوب من إصرار على الكفر ولو عاش الكافر طوال الحياة.

(خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) : يخلف بعضكم بعضا. والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره.

(فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) : أي وبال كفره.

(إِلَّا مَقْتاً) : أي الا غضبا شديدا عليهم من الله عزوجل.

(إِلَّا خَساراً) : أي في الآخرة إذ يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

معنى الآيات :

بعد ما ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح ذكر جزاء أهل الكفر والمعاصى فقال :

٣٥٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) (١) أي بالله وآياته ولقائه (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) أي جزاء لهم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) (٢) أي بالموت فيموتوا حتى يستريحوا ولا يخفف عنهم من عذابها ولا طرفة عين. وقوله تعالى (كَذلِكَ) أي الجزاء (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي مبالغ في الكفر مكثر منه. وقوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ (٣) فِيها) أي في جهنم أي يصرخون بأعلى أصواتهم في بكاء وعويل يقولون : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي من النار وردنا إلى الحياة الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي من الشرك والمعاصى. فيقال لهم : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) (٤) أي أتطلبون الخروج من النار لتعملوا صالحا ولم نعمركم أي نطل أعماركم بحيث يتذكر فيها من يريد أن يتذكر وجاءكم النذير (٥) فلم تجيبوه وأصررتم على الشرك والمعاصى ، إذا فذوقوا عذاب النار (فَما لِلظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصى من نصير ينصرهم فيخرجهم من النار. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما غاب في السموات والأرض (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومن ذلك أنه عليم بما في قلوبكم وما كنتم مصرين عليه من الشرك والشر والفساد ولو عشتم الدهر كله.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) (٦) أي يخلف بعضكم بعضا وفي ذلك ما يمكّن من العظة والاعتبار إذ العاقل من اعتبر بغيره فقد هلكت قبلكم أمم بذنوبهم فلم لا تتعظون بهم وقد خلفتموهم وجئتم بعدهم إذا فلا عذر لكم أبدا.

وبعد هذا البيان فمن كفر فعليه كفره هو الذي يتحمل جزاءه ، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم (إِلَّا مَقْتاً) أي بعدا عن الرحمة وبغضا شديدا ، (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ) أي المصرين على الكفر كفرهم (إِلَّا خَساراً) أي هلاكا في الآخرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مرّ العذاب وأليمه الذي هو جزاء الكافرين.

٢ ـ الإعذار لمن بلّغه الله من العمر أربعين سنة.

__________________

(١) قال القرطبي لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم.

(٢) هذا كقوله تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) من سورة الأعلى.

(٣) يصطرخون مبالغة في يصرخون افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد أي يصيحون من شدة ما أصابهم.

(٤) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والواو عاطفة قولا محذوفا تقديره يقولون ربنا اخرجنا ونقول ألم نعمركم والتعمير تطويل العمر.

(٥) هل النذير القرآن أو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الشيب قال الشاعر :

رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير

. وما في التفسير أصح.

(٦) أي خلفا بعد خلف وقرنا بعد قرن ، والخلف هو التالى للتقدم.

٣٥٨

٣ ـ الكافر يعذب أبدا لعلم الله تعالى به وأنه لو عاش آلاف السنين ما أقلع عن كفره ولا حاول أن يتوب منه فلذا يعذب أبدا.

٤ ـ في كون البشرية أجيالا جيلا يذهب وآخر يأتي مجال للعظة والعبرة والعاقل من اعتبر بغيره.

٥ ـ الاستمرار على الكفر لا يزيد صاحبه إلا بعدا عن الرحمة ومقتا عند الله تعالى والمقت أشد الغضب.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي تعبدون من غير الله وهى الأصنام.

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا) : أي أخبروني ما ذا خلقوا من الأرض أي أيّ جزء منها خلقوه.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) : أي أم لهم شركة في خلق السموات.

(إِلَّا غُرُوراً) : أي باطلا إذ قالوا إنها آلهتنا تشفع لنا عند الله يوم القيامة وتقربنا

٣٥٩

إلى الله زلفى.

(يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) : أي يمنعها من الزوال.

(إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) : أي ولو زالتا ما أمسكهما أحد من بعده لعجزه عن ذلك.

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) : أي حليما لا يعجل بالعقوبة غفورا لمن ندم واستغفر.

(لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) : أي رسول.

(مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) : أي اليهود والنصارى.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) : أي مجيئه إلا تباعدا عن الهدى ونفرة منه.

(وَمَكْرَ السَّيِّئِ) : أي الشرك والمعاصى.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ) : أي ولا يحيط إلا بأهله العاملين له.

(سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) : أي سنة الله فيهم وهي تعذيبهم بكفرهم وإصرارهم عليه.

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) : أي فلا يبدل العذاب بغيره.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) : أي تحويل العذاب عن مستحقه إلى غير مستحقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل للمشركين من قومك : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ (١) الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون من دون الله أخبروني : ما ذا خلقوا من الأرض حتي استحقوا العبادة مع الله فعبدتموهم معه؟ أم لهم شرك في (٢) السموات بأن خلقوا جزءا وملكوه بالشركة. والجواب قطعا لم يخلقوا شيئا من الأرض وليس لهم في خلق السموات شركة أيضا إذا فكيف عبدتموهم مع الله؟ وقوله تعالى : (أَمْ آتَيْناهُمْ) أي أم آتينا هؤلاء المشركين كتابا يبيح لهم الشرك ويأذن لهم فيه فهم لذلك على بينة بصحة الشرك. والجواب ومن أين لهم هذا الكتاب الذي يبيح الشرك؟ بل إن يعد (٣) الظالمون بعضهم بعضا (إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا إذ الحقيقة أن المشركين لم يكن لهم كتاب يحتجون به على صحة الشرك ،

__________________

(١) هذا شروع في بطلان الشرك وتحقيق التوحيد بالأسلوب الجدلي العقلي والاستفهام تقريري في قوله أرأيتم شركاءكم أروني أي أروني شيئا خلقوه من الأرض.

(٢) الشرك اسم للنصيب المشترك به في ملك الشيء ، والمعنى ألهم شرك مع الله في ملك السموات وتصريف أحوالها كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وانزال المطر.

(٣) (إِنْ) نافية بمعنى «ما» بقرينة الاستثناء والغرور الأباطيل تغرو وهي قول السادة للسفلة إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم وتشفع لكم كما أن الشياطين توحي لهم بذلك من طريق الوسوسة.

٣٦٠