أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) فيه تعزية للرسول أيضا إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعا فيما عنده وخوفا مما لديه. وقوله : (وَيَقُولُونَ) أي أهل مكة من منكري البعث والجزاء (مَتى هذَا الْوَعْدُ) (٢) أي العذاب الذي تهددنا به وتخوفنا بنزوله بنا إن كنتم أيها المؤمنون صادقين فيما تقولون لنا وتعدونا به. وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وتكذيبهم بقوله : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ) (٣) يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم تعجيله إذ الأمر مبرم محكم لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية التلطف مع الخصم فسحا له في مجال التفكير لعله يثوب الى رشده.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوى في ذلك.

٣ ـ تقرير عقيدة النبوة المحمدية ، وعموم رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة.

٤ ـ يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ

__________________

(١) إذ كانوا يوم نزول هذه الآية أكثرية والمؤمنون أقلية وحتى اليوم أكثر الناس لا يعلمون جلال الله وجماله وأسماءه وصفاته وما عنده وما لديه ، ولا محابة ولا مكارهه.

(٢) الاستفهام للاستبعاد مشوبا بالتعجب من كثرة سؤالهم عن هذا الوعد.

(٣) الميعاد مصدر ميمي وهو الوقت المعين لحدوث الشيء وهو هنا إما يوم القيامة أو حضور الموت وجائز أن يكون يوم هلاكهم وهو يوم بدر وإضافته بيانية.

٣٢١

اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتب السابقة وهي التوراة والإنجيل.

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) : أي يقول الاتباع كذا ويرد عليهم المتبوعون بكذا وهو المبيّن في الآيات.

(أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى) : أي ينكر المستكبرون وهم المتبوعون أن يكونوا صدوا التابعين لهم عن الهدى بعد إذ جاءهم بواسطة رسوله.

(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) : أي ظلمة فاسدين مفسدين.

(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ليس الأمر كما ادعيتم بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي جعلنا نكفر بالله

(وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) : أي شركاء نعبدهم معه فننادّه بهم.

(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : أي اخفوها إذ لا فائدة منها أو أظهروها أي أظهر والندم إذ أسر الندامة له معنيان أخفى وأظهر.

(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ) : أي وجعلنا الأغلال جمع غل حديدة تجعل في عنق المجرم.

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي ما يجزون الا ما كانوا يعملون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والبعث والجزاء فيخبر تعالى فيقول : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من مشركي مكة قالوا للرسول والمؤمنين لن نؤمن (١) بهذا القرآن الذي أنزل على محمد ، ولا بالذي أنزل على من تقدمه من الأنبياء كالتوراة والإنجيل ، وذلك لما احتجّ عليهم

__________________

(١) القائل هذا هو أبو جهل بن هشام وذلك أن المشركين سألوا أهل الكتاب من اليهود فلما أعلموهم بما يوافق ما يقول الرسول ويدعو إليه من التوحيد والبعث والجزاء والرسالة قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من التوراة والانجيل.

٣٢٢

بتقرير التوراة والإنجيل للتوحيد والنّبوات والبعث والجزاء قالوا لن نؤمن بالجميع عنادا ومكابرة. وجحودا وظلما. ولازم هذا أنهم ظلمة معاندون ومن باب دعوتهم إلى الهدى ستعرض الآيات لهم حالهم يوم القيامة فيقول تعالى لرسوله وهم يسمعون (وَلَوْ تَرى) (١) يا رسولنا (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتحاورون متلاومين. يقول الذين استضعفوا وهم الفقراء المرءوسون الذين كانوا أتباعا لكبرائهم وأغنيائهم ، يقولون للذين استكبروا عليهم في الدنيا : لو لا أنتم أي صرفتمونا عن الإيمان واتباع الرسول لكنا مؤمنين فيرد عليهم الكبراء بما أخبر تعالى عنهم في قوله : (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ) (٢) (صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) أي ما صددناكم أبدا بل كنتم مجرمين أي أصحاب إجرام وفساد ويرد عليهم المستضعفون قائلين بما أخبر تعالى به عنهم (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ (٣) اللَّيْلِ (٤) وَالنَّهارِ) أي بل مكركم (٥) بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا ان نكفر بالله ونجعل له أندادا. قال تعالى (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) (٦) أي أخفوها لما رأوا العذاب. قال تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي شدت أيديهم إلى أعناقهم بالاغلال وهى جمع غل حديدة يشد بها المجرم ، ثم أدخلوا الجحيم إذ كانوا في موقف خارج جهنم ، وقوله تعالى : (هَلْ يُجْزَوْنَ (٧) إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر ، وكانت أعمالهم كلها شرّا وظلما وباطلا.

هذا وجواب لو لا في أول السياق محذوف يقدر بمثل : لرأيت أمرا فظيعا واكتفي بالعرض لموقفهم عن ذكره فإنه أتم وأشمل.

__________________

(١) جواب (لَوْ) محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا مدهشا ومحيرا.

(٢) الاستفهام إنكاري. أنكروا عليهم قولهم أنهم صدوا عن الإيمان.

(٣) المكر في اللغة الاحتيال والخديعة يقال مكر به يمكر فهو ماكر ومكار.

(٤) (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الاضافة بمعنى في.

(٥) مكر مبتدأ والخبر محذوف تقديره ضدّنا وهو جملة فعلية.

(٦) الضمير في أسروا عائد على الجميع المستضعفين والمستكبرين والمعنى أنهم لما انكشف لهم العذاب المعد والمهيء لهم وذلك عقب المحاورة التي دارت بينهم ، فعلموا أن حوارهم لبعضهم غير نافع لهم أسروا الندامة أي أخفوها لعدم جدواها.

(٧) الاستفهام إنكاري بقرينة الاستثناء بعده أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون أي من الشرك والظلم والشر والفساد إذ الجزاء من جنس العمل هو العدل المطلوب.

٣٢٣

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تشابه حال الظلمة والمجرمين فالعرب المشركون كانوا يركنون إلى أهل الكتاب يحتجون بما عندهم على الرسول والمؤمنين. ولما وجدوا التوراة والإنجيل يقرّران عقيدة البعث والجزاء والنبوة تبرأوا منهما وقالوا لن نؤمن بالقرآن ولا بالتوراة والإنجيل.

واليهود كانوا يحتجون بالتوراة على المسلمين ولما وجدوا التوراة تقرر ما يقرره القرآن تركوا الاحتجاج بالتوراة وأخذوا يحتجون بالسحر كما تقدم في البقرة في قول الله تعالى (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض كامل لموقف من مواقف يوم القيامة ، ومشهد من مشاهده.

٣ ـ بطلان احتجاج الناس بعمل العلماء أو الحكماء وأشراف الناس اذا كان غير موافق لشرع الله تعالى وما جاء به رسله من الحق والدين الصحيح.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩))

٣٢٤

شرح الكلمات :

(إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) : أي رؤساؤها المنعمون فيها من اهل المال والجاه.

(نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) : أي من المؤمنين.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : امتحانا أيشكر العبد أم يكفر.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيق ابتلاء أيصبر المرء أم يسخط.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي الحكمة في التوسعة على البعض والتضييق على البعض.

(تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) : أي قربى بمعنى تقريبا.

(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) : أي لكن من آمن وعمل صالحا هو الذي تقربه تقريبا.

(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) : أي من المرض والموت وكل مكروه.

والذين سعوا في آياتنا : أي عملوا على إبطال القرآن والإيمان به وتحكيمه.

(مُعاجِزِينَ) : أي مقدرين عجزنا وأنهم يفوقوننا فلم نعاقبهم.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي من مال في الخير.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) : أي المعطين الرزق. أما خلق الرزق فهو لله تعالى وحده.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) هذا شروع في تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان حال من سبق من الأمم وما واجهت به رسلها فقال تعالى (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) أي مدينة من المدن (مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ (١) مُتْرَفُوها) أي أهل المال والثروة المتنعمون بألوان المطاعم والمشارب والملابس والمراكب. قالوا لرسل الله (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فردوا بذلك دعوتهم. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فاعتزوا بقوتهم ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كذبوا بالبعث والجزاء كما أن كلامهم مشعر بأنهم مغترون بأن ما أعطاهم الله من مال وولد كان لرضاه عنهم وعدم سخطه عليهم. وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ (٢) الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل يا نبينا لأولئك المغترين بأن ما لديهم من مال وولد ناجم عن رضا الله عنهم قل لهم إن ربي جل جلاله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا له لا لرضى عنه ولا لبغض له ، كما أنه يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء له لا لبغضه ولا لمحبته ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣) ومن بينهم مشركو قريش لا يعلمون أن بسط الرزق

__________________

(١) المترفون الذين أعطاهم الله الترف وهو النعيم وسعة العيش في الدنيا وفي بناء المترفون للمجهول تعريض وتذكير لهم بالمنعم تعالى علهم يذكرون فيشكرون.

(٢) بسط الرزق تيسيره وتكثيره مأخوذ من بسط الثوب وهو نشره ليتسع لصاحبه وتقدير الرزق معناه إعطاؤه مقدّرا ، ويقابله ما يعطى بغير حساب.

(٣) مفعول (لا يَعْلَمُونَ) محذوف وقد ذكر في التفسير وهو أنهم لا يعلمون الحكمة فى بسط الرزق وتضييقه.

٣٢٥

كتضييقه عائد إلى تربية الناس بالسراء والضراء امتحانا وابتلاء. وقوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) يخبر تعالى المشركين المغترين بالمال والولد يقول لهم وما أموالكم ولا أولادكم بالحال التى تقربكم منا وتجعلنا نرضى عنكم وندنيكم منا زلفى أي قربى. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي لكن من فعلوا الواجبات والمندوبات (فَأُولئِكَ) أي المذكورون لهم جزاء الضعف (١) ، أي جزاء تضاعف لهم حسناتهم فيه ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ، وذلك بسبب عملهم الصالحات (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) أي غرفات الجنة آمنون من الموت ومن كل مكروه ومنغص لسعادتهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) يخبر تعالى أن الذين يعملون بجد وحرص في إبطال آياتنا وإطفاء نور هدايتنا في كتابنا وقلوب عبادنا المؤمنين ويظنون أنهم معجزون لنا أي فائتوننا لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.

فقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي) أي قل يا رسولنا مرة أخرى تقريرا لهذه الحقيقة العلمية التي خفيت على الناس وجهلها قومك وهي أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا لا حبا فيه ولا بغضا له. وإنما امتحانا له هل يشكر أو يكفر فإن شكر زدناه وأكرمناه وان كفر سلبناه ما أعطيناه وعذبناه ، (وَيَقْدِرُ لَهُ) أي لمن شاء من عباده ابتلاء له لا بغضا له ولا حبا فيه. وإنما لننظر هل يصبر على الابتلاء أو يسخط ويضجر فنزيد في بلائه وشقائه .. وقوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ (٢) مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) في هذا دعوة إلى الإنفاق في سبيل الله وتشجيع عليه بإعلام الناس أن الإنفاق لا ينقص المال والبخل به لا يزيده فان التوسعة كالتضييق لحكمة فلا البخل يزيد في المال ولا الإنفاق في سبيل الله ينقص منه. وختم هذا بوعده الصادق وهو أن من انفق في سبيل الله شيئا أخلفه الله عليه وهو تعالى خير من قيل إنه يرزق ووصف به.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء.

٢ ـ بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين ان ذلك من رضا الله تعالى عليهم.

__________________

(١) الضعف بمعنى المضاعف المكرر مرة وأكثر حتى يبلغ أضعافا مضاعفة إلى سبعمائة ضعف وهي سنة الانفاق في الجهاد.

(٢) من في قوله (مِنْ شَيْءٍ) بيانية وجملة فهو يخلفه جواب الشرط وجملة وهو خير الرازقين تذييل للكلام يحمل معنى الترغيب في الإنفاق في سبيل الله وفي الحديث الصحيح يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ، وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم اعط ممسكا تلفا «فى الصحيح».

٣٢٦

٣ ـ بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض ، وانها الامتحان والابتلاء فلا تدل على حبّ الله ولا على بغضه للعبد.

٤ ـ بيان ما يقرب الى الله ويدنى منه وهو الإيمان والعمل الصالح ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال والولد كما يظن المغرورون المفتنون بالمال والولد.

٥ ـ بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة.

٦ ـ بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالا.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢))

شرح الكلمات :

ويوم نحشرهم جميعا : أي واذكر يوم نحشرهم جميعا أي جميع المشركين.

(أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟) : أي يقول تعالى هذا للملائكة تقريعا للمشركين وتوبيخا لهم.

(قالُوا سُبْحانَكَ) : أي قالت الملائكة سبحانك أي تقديسا لك عن الشرك وتنزيها.

(أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) : أي لا موالاة بيننا وبينهم أي يتبرأوا منهم.

(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) : أي الشياطين التى كانت تتمثل لهم فيحسبونها ملائكة فيطيعونها فتلك عبادتهم لها.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) : أي لا يملك المعبودون للعابدين.

(نَفْعاً وَلا ضَرًّا) : أي لا يملكون نفعهم فينفعونهم ولا ضرهم فيضرونهم.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي أشركوا غير الله في عبادته من الملائكة والأنبياء أو الأولياء والصالحين.

٣٢٧

(عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) : أي كنتم في الدنيا تكذبون بالبعث والجزاء وهو الجنة أو النار.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء والتوحيد. قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (١) أي المشركين (جَمِيعاً) فلم نبق منهم أحدا ، ثم نقول للملائكة وهم أمامهم تقريرا للمشركين وتأنيبا : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢) فتتبرأ الملائكة من ذلك وينزهون الله تعالى عنه الشرك فيقولون : (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك عن الشرك وتقديسا (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أما هم فلا ولاية بيننا وبينهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) (٣) أي الشياطين (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.

وقوله تعالى (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي يقال لهم هذا القول تيئيسا وإبلاسا أي قطعا لرجائهم في أن يشفعوا لهم. وقوله تعالى (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي كنتم تكذبون بها في الدنيا فذوقوا اليوم عذابها. والعياذ بالله من عذاب النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير لعقيدة البعث والجزاء بذكر بعض أحوالها.

٢ ـ أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين إنما كانوا يعبدون الشياطين إذ هى التى زينت لهم الشرك. أما الملائكة والأنبياء والأولياء فلم يرضوا بذلك منهم فضلا عن أن يأمروهم به.

٣ ـ بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة.

__________________

(١) هذا الكلام متصل بما قبله وهو قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون إذ السياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض أحوال أهل النار وما يجري لهم من أمور.

(٢) هذا كقوله تعالى (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟) وهو سؤال تقريع وتوبيخ لا للمسؤل ولكن لعابديه من الإنس والجن.

(٣) روى أن بني مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أن الجن تتراءى لهم وأنهم الملائكة وأنهم بنات الله ، وهو قوله تعالى في سورة الصافات «وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا».

٣٢٨

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

شرح الكلمات :

(آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي آيات القرآن الكريم واضحات ظاهرة المعنى بيّنة الدلالة.

(قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ) : أي ما محمد الا رجل من الرجال.

(يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) : أي يريد أن يصرفكم عن عبادتكم لآلهتكم التي كان يعبدها آباؤكم من قبل.

(إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) : أي إلا كذب مختلق مزور.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : أي قالوا للقرآن لما جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) : أي ما هذا أي القرآن الا سحر مبين أي محمد ساحر والقرآن سحر.

(مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) : أي يقرأونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.

(وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) : أي ولم نرسل إليهم قبلك من رسول فدعاهم الى الشرك.

(وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) : أي ولم يبلغ أولئك الأمم الذين أهلكناهم معشار ما آتينا هؤلاء من الحجج والبينات.

٣٢٩

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : أي فكيف كان إنكارى عليهم بالعقوبة وإلا هلاك والجواب كان واقعا موقعه لم يخطئه بحال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في عرض مواقف المشركين المخزية والتنديد بهم والوعيد الشديد لهم. قال تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي مشركي قريش وكفارها (آياتُنا بَيِّناتٍ) أي يتلوها رسولنا واضحات الدلالة بينات المعاني فيما تدعو اليه من الحق وتندد به من الباطل. كان جوابهم أن قالوا : ما هذا إلّا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم. أي ما محمد الا رجل أي ليس بملك يريد أن يصدكم أي يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم من الأوثان والأحجار. فسبحان الله أين يذهب بعقول المشركين أما يخجلون لما يقولون عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان ، إنه يصدهم حقا عن عبادة الأوثان ولكن إلى عبادة الرحمن. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (وَقالُوا : ما هذا إِلَّا إِفْكٌ) (١) أو كذب أفتراه أي اختلقه وتخرصه من نفسه أي قالوا في القرآن وما يحمل من تشريع وهدى ونور قالوا فيه إنه كذبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبحان الله ما أشد سخف هؤلاء المشركين. وقالوا أيضا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي قالوا في الرسول وما جاءهم به من الدعوة إلى التوحيد والإصلاح (إِنْ هذا) أي ما هذا إلا سحر مبين ، وذلك لما رأوا من تأثير الرسول والقرآن في نفوسهم إذ كان يحرك نفوسهم ويهزها هزا.

بعد هذا العرض لمواقف المشركين قال تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ) (٢) أي مشركي قريش (مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي اصروا على الشرك وما أعطيناهم من كتب يقرأونها فوجدوا فيها الإذن بالشرك أو مشروعيته فتمسكوا به ، (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي رسول فأجاز لهم الشرك أو سنه لهم فهم على سنته ، اللهم لا ذا ولا ذاك. فكيف إذا هذا الإصرار على الشرك وهو باطل لم ينزل به كتاب ولم يبعث به رسول (٣).

وقوله تعالى : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٤) أي من الأمم البائدة (وَما بَلَغُوا) أي ولم يبلغ

__________________

(١) ما هذا يعنون القرآن الكريم وكذا قولهم إن هذا إلا سحر فإنهم يعنون القرآن الكريم أيضا وإن بمعنى ما النافية والاسناد بعدها دال عليها.

(٢) الجملة حالية من ضمير قالوا ما هذا.

(٣) أي أنه ليس لهم ما يتثبتون به من أقل دليل وأدنى شبهه كما هي الحال عند أهل الكتاب إذ قالوا عندنا كتابنا وجاءتنا رسلنا أما المشركون فليس لهم من ذلك شيء.

(٤) في الآية تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيبهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم. التسلية في قوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والتهديد في (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) والفاء للتفريع أي في قوله فكذبوا رسلي.

٣٣٠

هؤلاء من القوة معشار (١) ما كان لأولئك الأقوام الهالكين ، ومع ذلك أهلكناهم ، فكيف كان نكيرى أي كيف كان إنكارى عليهم الشرك وتكذيب رسلى كان بإبادتهم واستئصالهم. أما يخاف هؤلاء الضعفاء أن تحل بهم عقوبتنا فنهلكهم عن آخرهم كما أهلكنا من قبلهم ولما لم يرد الله إبادتهم بعد أن استوجبوها بالتكذيب لرسوله والإصرار على الشرك والكفر قال لرسوله قل لهم (إِنَّما (٢) أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بخصلة واحدة وهي أن تقوموا لله أي متجردين من الهوى والتعصب (مَثْنى) أي أثنين أثنين ، (وَفُرادى) أي واحدا واحدا ، ثم تتفكروا في حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومواقفه الخيّرة معكم وبعده عن كل أذى وشر وفساد فإنكم تعلمون يقينا أنه ما بصاحبكم محمد من جنّة ولا جنون إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، أي ما هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نذير لكم أمام عذاب شديد قد ينزل بكم وهو مشفق عليكم في ذلك خائف لا يريده لكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناد المشركين وسخف عقولهم وهبوطهم الفكرى.

٢ ـ ضعف كفار قريش وتشددهم وعتوهم إذا قيسوا بالأمم السابقة فإنهم لا يملكون من القوة نسبة واحد إلى ألف إذ المعشار هو عشر عشر العشر. (٣)

٣ ـ تقرير النبوة المحمدية واثباتها وذلك ينفى الجنّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثبات أنه نذير.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ

__________________

(١) المعشار العشر إذ هو الجزء العاشر كالمرباع الذي يعطي لقائد الكتبية من الغنائم وهو ربعها.

(٢) هذا انتقال من حكاية أقوال المشركين والرد عليهم إلى دعوتهم للانصاف في النظر والتأمل في الحقائق ليتضح لهم خطأهم وهذا من باب الإعذار لهم في المجادلة ليهلك من يهلك عن بينة ويحيى من حيء عن بينة.

(٣) قال القرطبي : وقيل المعشار هو عشر العشير ، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء قال الماوردي وهو أظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل وما فسرت به الآية في التفسير أرجح وأوضح ، وإن أريد به ما اتى الله هذه الأمة من العلم والبيان فهذا المعنى صحيح غير أنه لا يتلاءم مع سياق الآيات.

٣٣١

سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) : أي يلقى بالوحي الحق إلى أنبيائه. ويقذف الباطل بالحق أيضا فيدمغه.

(وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) : أي وما يبدى الباطل الذي هو الكفر ، وما يعيد أي إنه لا أثر له.

(فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) : أي إثم ضلالي على نفسي لا يحاسب ولا يعاقب به غيري.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) : أي سميع لما أقول لكم قريب غير بعيد فلا يتعذر عليه مجازاة أحد من خلقه.

(إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) : أي إذ فزعوا للبعث أي خافوا ونفروا فلا فوت لهم منا بل هم في قبضتنا.

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : أي لما شاهدوا العذاب قالوا آمنا بالقرآن وكيف لهم ذلك وهم بعيدون إنهم في الآخرة والإيمان في الدنيا.

(التناوش) التناول من مكان بعيد.

(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) : أي فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم من أمم الكفر والباطل.

(فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) : أي في شك بالغ من نفوسهم فأصبحوا به مضطربين لا يطمئنون الى شيء أبدا.

٣٣٢

معنى الآيات :

لما لج المشركون في الخصومة والعناد ودعاهم الله تعالى الى أمثل حل وهو أن يقوموا متجردين لله تعالى من الهوى والتعصب يقوموا اثنين اثنين أو واحدا واحدا لآن الجماعة من شأنها أن تخلتف مع الآراء ثم يتفكروا في حياة الرسول وما دعاهم إليه من الهدى والحق فإنكم تعلمون انه ليس كما اتهمتموه بالجنون وإنما هو نذير لكم بين يدي عذاب شديد يخاف وقوعه بكم ونزوله عليكم هنا أمره تعالى أن يقول لهم وكوني نذيرا لكم مما أخاف عليكم لا أسألكم على إنذاري لكم أجرا (١) (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي مطلع عليّ عالم بصدقي ويجزيني على إنذاري لكم إذ كلفني به فقمت به طاعة له. وقوله تعالى (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ (٢) بِالْحَقِ) أي قل لهم يا رسولنا إن ربي يقذف بالحق أي يلقى بالوحي على من يشاء من عباده (٣) (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي وهو علام الغيوب يعلم من هو أهل للوحي إليه والإرسال فيوحى إليه ويرسله كما أوحى إليّ وارسلني إليكم نذيرا وبشيرا. وقوله تعالى : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل لهم يا رسولنا جاء الحق وهو الإسلام الدين الحق ، فلم يبق للباطل الذي هو الشرك والكفر مكان ولا مجال ، وما يبدىء الباطل وما يعيد؟ أي أنه كما لا يبدىء لا يعيد فهو ذاهب لا أثر له أبدا وقوله : (قُلْ (٤) إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي أعلمهم بأنك إن ضللت فيما أنت قائم عليه تدعو إليه فإنما عائد ضلالك عليك لا عليهم ، وإن اهتديت فهدايتك بفضل ما يوحى إليك ربك من الهدى والنور (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) سميع لأقوالك وأقوال غيرك غير بعيد فيتعذر عليه مجازاة عباده صاحب الإحسان بالإحسان وصاحب السوء بالسوء. وقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي لرأيت أمرا قطعيا يقول تعالى لرسوله ولو ترى (٥) إذ فزع المشركون في ساحات فصل القضاء يوم القيامة فزعوا من شدة الهول والخوف وقد أخذوا من مكان قريب والقوا في جهنم لرأيت أمرا فظيعا في غاية الفظاعة. وقوله (فَلا فَوْتَ

__________________

(١) أي جعلا على تبليغ الرسالة فإن سألتكموه فهو لكم.

(٢) جائز أن يكون المعنى يقذف الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زهق كذا روي عن ابن عباس وقال قتادة بالحق أي بالوحي وعنه أن الحق القرآن والكل صحيح وما في التفسير أقرب وأوضح.

(٣) (عَلَّامُ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والغيوب جمع غيب وقرأ الجمهور بضم الغين وكسرها بعضهم كبيوت إذ يجوز لها الضم والكسر والآية فيها معنى (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وفيها رد على المعترضين على الوحي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) لما أفحمهم في الآيات السابقة وقطع طريق الاستدلال عليهم وتركهم في غيهم حيارى أمر رسوله أن يقول لهم تاركا جدالهم لعدم الفائدة منه بعد وضوح الحق (إِنْ ضَلَلْتُ) الآية فعل هذا إنهاء لجدل عقيم.

(٥) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل ذي أهلية وجواب لو محذوف كأن اللفظ لا يقدر على تصويره على حقيقته لفظاعته وهو كذلك.

٣٣٣

لهم لا يفوتون الله تعالى ولا يهربون من قبضته. وقوله تعالى : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) (١) أي قالوا بعد ما بعثوا وفزعوا من هول القيامة قالوا آمنا به أي بالله وكتابه ولقائه ورسوله ، قال تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ (٢) التَّناوُشُ) أي التناول للإيمان من مكان بعيد إذ هم في الآخرة والإيمان كان في الدنيا فكيف يتناولونه بهذه السهولة ويقبل منهم وينجون من العذاب هذا بعيد جدا ولن يكون أبدا (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي لا سيما وأنهم قد عرض عليهم الإيمان وهم قادرون عليه فرفضوه فكيف يمكنون منه الآن. وقوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ (٣) مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وها هم اليوم في الدنيا يقذفون بالغيب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقواصم الظهر مرة يقولون كاذب ومرة ساحر ومرة شاعر وأخرى مجنون وكل هذا رجما بالغيب لا شبهة لهم فيه ولا أدنى ريبة تدعوهم إليه وأخيرا قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) وهو الإيمان الموجب للنجاة كما فعل بأشياعهم (٤) أي أشباههم وأنصارهم من أهل الكفر والتكذيب لما جاءهم العذاب قالوا آمنا ولم ينفعهم إيمانهم وأهلكوا فألقوا في الجحيم ، وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) (٥) أي مشركو قريش وكفارها أخبر تعالى أنهم كانوا في الدنيا في شك من توحيدنا ونبينا ولقائنا مريب أي موقع لهم في الريب والاضطراب فلم يؤمنوا فماتوا على الكفر والشرك وهذا جزاء من يموت على الشرك والكفر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الله تعالى ينبغى أن لا يأخذ الداعى عليها أجرا ، ويحتسب أجره على الله عزوجل.

٢ ـ بيان صدق الله تعالى في قوله جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد إذ ما هو إلّا سنيّات والإسلام ضارب بجرانه في الجزيرة فلا دين فيها إلا الإسلام.

٣ ـ الإيمان الاضطرارى لا ينفع صاحبه كإيمان من رأى العذاب.

٤ ـ الشك كفر ولا إيمان مع رؤية العذاب.

__________________

(١) صالح أن يكون الضمير للوعيد أو ليوم البعث أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن إذ الكل واجب الإيمان وقد كفروا بالكل وكذبوا.

(٢) (أَنَّى) استفهام عن المكان وهو مستعمل هنا للإنكار والتناوش التناول السهل وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه قال الشاعر :

باتت تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا

أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه.

(٣) القذف الرمي باليد من بعد ويستعار للقول بدون تروّ ولا دليل وهو كقولهم في الأصنام هم شفعاؤنا عند الله وكتكذيبهم بالبعث والتوحيد والنبوة.

(٤) الأشياع : المتشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين وأصل المشايعة المتابعة في العمل.

(٥) هذه الجملة تعليلية لكل ما سبق في تكذيبهم وعنادهم وجهلهم وضلالهم إذ الشك وعدم اليقين هو الذي يوقع صاحبه في أودية الضلال والباطل.

٣٣٤

سورة فاطر

مكية

وآياتها خمس وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي قولوا الحمد لله فإنه واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد.

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما على غير مثال سابق.

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) : أي جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل عليه‌السلام.

(أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أي ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر.

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : أي يزيد على الثلاثة ما يشاء فإن لجبريل ستمائة جناح.

(وَما يُمْسِكْ) : أي الله من الرحمة فلا أحد يرسلها غيره سبحانه وتعالى.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.

(اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي اذكروا نعمه تعالى عليكم في خلقكم ورزقكم وتأمينكم في حرمكم.

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) : أي لا خالق لكم غير الله ولا رازق لكم يرزقكم.

(مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) : أي بإنزال المطر من السماء وإنبات الزروع في الأرض.

٣٣٥

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا هو إذا فاعبدوه ووحدوه.

(فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) : أي كيف تصرفون عن توحيده مع اعترافكم بأنه وحده الخالق الرازق.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الشكر الكامل والحمد التام لله استحقاقا ، والكلام خرج مخرج الخبر ومعناه الإنشاء أي قولوا الحمد لله. واشكروه كما هو أيضا إخبار منه تعالى بأن الحمد له ولا مستحقه غيره ومقتضى حمده. فطره السموات والأرض أي خلقه لهما على غير مثال سابق ولا نموذج حاكاه في خلقهما. وجعله الملائكة (٢) رسلا إلى الأنبياء وإلى من يشاء من عباده بالإلهام والرؤيا الصالحة. وقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ) صفة للملائكة أي أصحاب أجنحة مثنى أي اثنين اثنين ، وثلاث أي ثلاثة ثلاثة ورباع أي أربعة أربعة. وقوله (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ) أي خلق الأجنحة ما يشاء فقد خلق لجبريل عليه‌السلام ستمائة جناح كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحاح ويزيد في خلق (٣) ما يشاء من مخلوقاته وهو على كل شيء قدير.

وقوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ (٤) فَلا مُمْسِكَ لَها) يخبر تعالى أن مفاتيح كل شيء بيده فما يفتح للناس من أرزاق وخيرات وبركات لا يمكن لأحد من خلقه أن يمسكها دونه وما يمسك من ذلك فلا يستطيع أحد من خلقه أن يرسله ، وهو وحده العزيز الغالب على أمره ومراده فلا مانع لما أعطى ولا راد لما قضى الحكيم في صنعه وتدبير خلقه. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) هذا نداؤه تعالى لأهل مكة من قريش يأمرهم (٥) بعده بأن يذكروا نعمه تعالى عليهم حيث خلقهم ووسع أرزاقهم وجعل لهم حرما آمنا والناس يتخطفون من

__________________

(١) يصح في (فاطِرِ) الجر على النعت والرفع على القطع أي هو فاطر والنصب على المدح أي أمدح فاطر ، والفطر : الشق يقال فطرته فانفطر وتفطر ، وفطر ناب البعير إذا شق اللحم وطلع ، والفاطر : الخالق ، قال ابن عباس كنت لا أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها والمراد بالسموات والأرض العالم كله.

(٢) المراد بالملائكة جبريل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل «ملك الموت» وما شاء الله.

(٣) جائز أن يكون في ملاحة العين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم ، وفي الصوت الحسن والشعر الحسن والحظ الحسن كل هذا مذكور وداخل في العبارة فإنها عامة.

(٤) لفظ الرحمة نكرة دال على الكثرة والشيوع فهو يتناول كل ما هو رحمة من النبوة والعلم إلى المطر والرزق إلى النصر والفوز.

(٥) أي بعد أن ناداهم أمرهم بأن يذكروا نعمه عليهم إذ نداء المأمور يلفت نظره ويحضر حواسه لاستقبال ما يلقى إليه ويؤمر به أو يحذر منه.

٣٣٦

حولهم خائفون يأمرهم بذكر نعمه لأنهم إذا ذكروها شكروها بالإيمان به وتوحيده. وقوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟) والجواب لا أحد إذ لا خالق إلا هو ولا رازق سواه فهو الذي خلقهم ومن السماء والأرض رزقهم. السماء تمطر والأرض تنبت بأمره. إذا فلا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو فكيف إذا تصرفون عن الحق بعد معرفته إن حالكم لعجب. هذا ما دل علي قوله تعالى (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ (١) اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى وشكره على إنعامه.

٢ ـ تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلا.

٣ ـ وجوب اللجوء الى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر فإنه بيده خزائن كل شيء.

٤ ـ وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزا على شكرها بطاعة الله ورسوله.

٥ ـ تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد.

٦ ـ العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

__________________

(١) قرىء غير الله بالجر وقرأ الجمهور (غَيْرُ) بالرفع على محل خالق المرفوع محلا في الآية دليل أن الخير والشر كلاهما من خلق الله تعالى.

٣٣٧

شرح الكلمات :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) : أي يا رسولنا فيما جئت به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء ولم يؤمنوا بك.

(فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) : أي فلست وحدك كذبت إذا فلا تأس ولا تحزن واصبر كما صبر من قبلك.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) : وسوف يجزى المكذبين بتكذيبهم والصابرين بصبرهم.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) : أي ولا يغرنكم بالله أي في حلمه وإمهاله الغرور أي الشيطان.

(فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) : أي فلا تطيعوه ولا تقبلوا ما يغركم به واطيعوا ربكم عزوجل.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) : أي أتباعه في الباطل والكفر والشر والفساد.

(لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) : أي ليؤول أمرهم إلى أن يكونوا من أصحاب النار المستعرة.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي لهم مغفرة لذنوبهم وأجر كبير في الجنة وذلك لإيمانهم وعملهم الصالحات.

معنى الآيات :

لما أقام تعالى الحجة على المشركين في الآيات السابقة قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) (١) بعد ما أقمت عليهم الحجة فلست وحدك المكذّب فقد كذبت قبلك رسل كثيرون جاءوا أقوامهم بالبينات والزبر وصبروا إذا فاصبر كما صبروا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ (٢) الْأُمُورُ) وسوف يقضى بينك وبينهم بالحق فينصرك في الدنيا ويخذلهم ، ويرحمك في الآخرة ويعذبهم.

وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي يا أهل مكة وكل مغرور من الناس بالحياة الدنيا إعلموا أن وعد الله بالبعث والجزاء حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا بطول أعماركم وصحة أبدانكم وسعة أرزاقكم ، فإن ذلك زائل عنكم لا محالة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي حلمه وإمهاله (الْغَرُورُ) (٣) وهو الشيطان حيث يتخذ من حلم الله تعالى عليكم وامهاله لكم طريقا إلى إغوائكم وإفسادكم بما يحملكم عليه من تأخير التوبة والإصرار على المعاصى ، والاستمرار عليها (إِنَّ الشَّيْطانَ

__________________

(١) في هذه الآية تعزية الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته له بالتأسي بمن قبله من الرسل وتكذيب أممهم لهم.

(٢) قرأ الجمهور (تُرْجَعُ) بضم التاء وقرأ بعض بفتحها والكل صحيح ومآل المعنى واحد.

(٣) الغرور بالضم مصدر غره يغره غرورا ، وبالفتح الشيطان وهو المراد هنا وصيغته من صيغ المبالغة «فعول» إذ هو كثير الغرور يأتيهم من حيث حلم الله وإمهاله فيصرفهم عن الحق مغررا إياهم بأنهم لو كانوا على باطل لأهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم ، ويسوّف آخرين بحلم الله فيصرفهم عن التوبة.

٣٣٨

لَكُمْ عَدُوٌّ) (١) بالغ العداوة ظاهرها فاتخذوه أنتم عدوا كذلك فلا تطيعوه ولا تستجيبوا لندائه ، (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة ، إنه يريد أن تكونوا معه في الجحيم. إذ هو محكوم عليه بها أزلا وقوله تعالى : (الَّذِينَ (٢) كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي في الآخرة ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) هو الجنة وما فيها من النعيم المقيم. هذا حكم الله في عباده وقراره فيهم : وهم فريقان مؤمن صالح وكافر فاسد ولكل جزاء عادل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل فيها كل دعاة الحق إذا كذّبوا وأوذوا فعليهم أن يصبروا.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء المتضمن له وعد الله الحق.

٣ ـ التحذير من الاغترار بالدنيا أي من طول العمر وسعة الرزق وسلامة البدن.

٤ ـ التحذير من الشيطان ووجوب الاعتراف بعداوته ومعاملته معاملة العدو فلا يقبل كلامه ولا يستجاب لندائه ولا يخدع بتزيينه للقبيح والشر.

٥ ـ بيان جزاء أولياء الرحمن أعداء الشيطان ، وجزاء أعداء الرحمن أولياء الشيطان.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً

__________________

(١) يكفي في إثبات عداوته أنه أخرج أبوينا من الجنة ، وأنه تعهد بإضلالهم وإغوائهم كقوله لأغوينهم أجمعين وقوله ولأضلنهم ولأمنينهم.

(٢) (الَّذِينَ كَفَرُوا) : الجملة مستأنفة بيانيا لأنه بعد التحذير من طاعة الشيطان يلوح في الأذهان سؤال : ما جزاء من أطاع الشيطان وما جزاء من عصاه؟ فالجواب الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير ويرى بعضهم أنها ابتدائية ذكرت فذلكة لما تقدم من الكلام.

٣٣٩

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) : أي قبيح عمله من الشرك والمعاصى.

(فَرَآهُ حَسَناً) : أي رآه حسنا زينا لا قبح فيه.

(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ) : أي على أولئك الذين زين لهم الشيطان قبيح أعمالهم.

(حَسَراتٍ) : أي لا تهلك نفسك بالتحسر عليهم لكفرهم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) : وسيجزيهم بصنيعهم الباطل.

(فَتُثِيرُ سَحاباً) : أي تزعجه وتحركه بشدة فيجتمع ويسير.

(فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) : أي لا نبات به.

(فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) : أي بالنبات والعشب والكلأ والزرع.

(كَذلِكَ النُّشُورُ) : أي البعث والحياة الثانية.

(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) : أي فليطلب العزة بطاعة الله فإنها لا تنال إلا بذلك.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : أي الى الله تعالى يصعد الكلم الطيب وهو سبحان الله والحمد لله والله أكبر.

(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) : أي أداء الفرائض وفعل النوافل يرفع الى الله الكلم الطيب.

(يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) : أي يعملونها ويكسبونها.

(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) : أي عملهم هو الذي يفسد ويبطل.

(خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) : أي أصلكم وهو آدم.

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من ماء الرجل وماء المرأة وذلك كل ذريّة آدم.

٣٤٠