أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) : إنه أعطاني النبوة والملك وذلك خير مما أعطاكم من المال فقط.

(بِهَدِيَّتِكُمْ (١) تَفْرَحُونَ) : لحبكم للدنيا ورغبتكم في زخارفها.

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) : أي بما أتيت به من الهدية.

(بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) : أي لا طاقة لهم بقتالها.

(وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) : أي من مدينتهم سبأ المسماة باسم رجل يقال له سبأ.

(أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) : أي إن لم يأتوني مسلمين أي منقادين خاضعين.

(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : فإنّ لي أخذه قبل مجئيهم مسلمين لا بعده.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) : أي جني قوي إذ القوي الشديد من الجن يقال له عفريت.

(قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) : أي من مجلس قضائك وهو من الصبح إلى الظهر.

(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) : أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجواهر وغيرها.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) : أي سليمان عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع سليمان وملكة سبأ إنه لما بعثت بهديتها تختبر بها سليمان هل هو رجل دنيا يقبل المال أو رجل دين ، لتتصرف على ضوء ما تعرف من اتجاه سليمان عليه‌السلام ، فلما جاء سليمان ، جاءه سفير الملكة ومعه رجال يحملون الهدية قال لهم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (قالَ أَتُمِدُّونَنِ (٢) بِمالٍ؟ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) آتاني النبوة والعلم والحكم والملك فهو خير مما آتاكم من المال (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ (٣) تَفْرَحُونَ) وذلك لحبكم الدنيا ورغبتكم في زخارفها. وقال لرسول الملكة (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) أي بما أتيت به من الهدية ، وعلمهم أنهم إن لم يأتوا إلي مسلمين (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) (٤) أي لا قدرة لهم على قتالهم ، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي من مدينتهم سبأ (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أي خاضعون منقادون. ثم قال سليمان عليه‌السلام لأشراف دولته

__________________

(١) الهدية : منها ما هو حرام ومنها ما هو مكروه ومنها ما هو مباح أو مندوب ، فالهدية الحرام : التي تهدى للحكام والقضاة ليحكموا لصاحبها والهدية المكروهة : هدية الكافر والهدية المباحة أو المندوب إليها : هدية المؤمن لأخيه المؤمن للمودة والحب ، لحديث مالك وفيه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) الشحناء العداوة والبغضاء.

(٢) أي : أتزيدونني إلى ما تشاهدونه من أموالي ، والاستفهام للإنكار وقرأ الجمهور : (أَتُمِدُّونَنِ) بنونين. وقرأ بعض بنون واحدة مشددة.

(٣) (بَلْ) للاضراب الانتقالي من الإنكار عليهم إلى ردّ هديتهم إليهم.

(٤) الضمير في (بِها) عائد على الجنود والضمير في (مِنْها) عائد إلى مدينتهم وهي مأرب أو سبأ على مراحل قليلة من صنعاء.

٢١

وأعيان بلاده (يا أَيُّهَا (١) الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فإني لا آخذه إلا قبل مجئيهم مسلمين لا بعده. فنطق (عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) قائلا بما أخبر تعالى عنه به (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي مجلس قضائك والذي ينتهي عادة بنصف النهار ، (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قادر على حمله والإتيان به في هذا الوقت الذي حددت لكم وأمين على ما فيه من جواهر وذهب لا يضيع منه شيء. وهنا (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) (٢) وهو سليمان عليه‌السلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فافتح عينيك وانظر فلا يعود إليك طرفك إلا والعرش بين يديك ، وسأل ربه باسمه الأعظم الذي ما دعي به إلا أجاب وإذا العرش بين يديه (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا) بين يديه لهج قائلا (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي علي فلم يكن لي به يد أبدا (لِيَبْلُوَنِي) بذلك (أَأَشْكُرُ) نعمته علي (أَمْ أَكْفُرُ) ها (وَمَنْ شَكَرَ) (٣) فلنفسه أي عائد الشكر يعود عليه بحفظ النعمة ونمائها ومن كفر أي النعمة (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) أي عن شكره وليس مفتقرا إليه ، كريم قد يكرم الكافر للنعمة فلا يسلبها كلها منه أو يبقيها له على كفره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أهل الآخرة لا يفرحون بالدنيا ، وأهل الدنيا لا يفرحون بالآخرة.

٢ ـ استعمال أسلوب الإرهاب والتخويف مع القدرة على إنفاذه مع العدو أليق.

٣ ـ تقرير أن سليمان كان يستخدم الجن وأنهم يخدمونه في أصعب الأمور.

٤ ـ استجابة الله تعالى لسليمان فأحضر له العرش من مسافة شهرين أي من اليمن إلى الشام قبل ارتداد طرف الناظر إذا فتح عينه ينظر.

٥ ـ وجوب رد الفضل إلى أهله فسليمان قال (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) والجهال يقولون بثورتنا الخلاقة ، وأبطالنا البواسل.

٦ ـ وجوب الشكر ، وعائدته تعود على الشاكر فقط ، ولكرم الله تعالى قد لا يسلب النعمة فور عدم شكرها وذلك لحلمه تعالى وكرمه.

__________________

(١) هذا استئناف ابتدائي أي : كلام غير مرتبط بما سبقه بنوع من الارتباط قريب.

(٢) قال القرطبي : جمهور المفسرين : أن الذي عنده علم من الكتاب هو آصف بن بريخا وقيل : هو سليمان عليه‌السلام ، بقرينة قوله : هذا من فضل ربي ، قال ابن عطية وقالت فرقة وهو سليمان عليه‌السلام. والمخاطبة في هذا التأويل للعفريت لما قال أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، وكأن سليمان استبطأ ذلك فقال له على وجه التحقير أنا آتيك به ... الخ. قيل : يا حي يا قيوم : هو الاسم الأعظم.

(٣) الشكر : قيد النعمة الموجودة وبه تنال النعمة المفقودة.

٢٢

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) : أي غيروا هيأته وشكله حتى لا يعرف إلا بصعوبة.

(أَتَهْتَدِي) : أي إلى معرفته

(أَهكَذا عَرْشُكِ) : شبهوا عليها إذ لو قالوا هذا عرشك لقالت نعم.

(قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) : فشبّهت عليه فقالت كأنه هو.

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي صرفها عن عبادة الله مع علمها وذكائها ما كانت تعبد من دون الله.

(ادْخُلِي الصَّرْحَ) : أي بهو الصرح إذ الصرح القصر العالي وفي بهوه بركة ماء كبيرة مغطاة بسقف زجاجي يرى وكأنه ماء.

(وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) : ظانة أنها تدخل ماء تمشي عليه فرفعت ثيابها.

(حَسِبَتْهُ لُجَّةً) : أي من ماء غمر يجري.

(صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) : أي مملّس من زجاج.

٢٣

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليه‌السلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيّما احتياط. إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب ، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف (١) فأمر رجاله أن يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف إلا بصعوبة كما قال عليه‌السلام (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفته (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) لضعف عقولهم. فلما جاءت قيل لها (أَهكَذا (٢) عَرْشُكِ) فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير ، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم (قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) إذ لو قالت : هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ (٣) مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التى قالها.

وقوله (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) اتباعا لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها ، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها أسماك كثيرة وللماء موج ، وسقف البركة مملس من زجاج ، ومع سليمان جنوده من الإنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح (٤) لأن سليمان الملك يدعوها (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء (وَكَشَفَتْ عَنْ (٥) ساقَيْها) فقال لها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئا

__________________

(١) قيل : إن الجن قالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل فلذا أمر بتنكير عرشها ليختبر عقلها ، وقالوا له : إن رجلها كرجل حمار فلذا امتحنها بدخول بهو الصرح لتكشف عن ساقها فيعرف ما قالت الجن عنها.

(٢) الاستفهام للتقرير مع الاختبار وهو المقصود.

(٣) اختلف هل قول : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من قول سليمان أو أحد رجالاته أو هو من قول بلقيس ، والراجح أنه من قول سليمان عليه‌السلام.

(٤) (الصرح) البناء العالي : تقدم أن الجن هم الذين قالوا لسليمان إن رجل بلقيس رجل حمار وطلبوا اختبارها وهم الذين صنعوا بركة الماء في بهو الصرح.

(٥) ذكر القرطبي هنا حكايات أكثرها منقول عن أهل الكتاب منها : أن الجن أول من صنعوا النورة لإزالة شعر الجسم ، وأن سليمان عليه‌السلام أول من صنع الحمامات ، وهذا يرفع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر قولين أحدهما أن سليمان تزوج بلقيس وآخر : لم يتزوجها.

٢٤

فلنسكت عما سكت عنه القرآن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز اختبار الأفراد إذا أريد إسناد أمر لهم لمعرفة قدرتهم العقلية والبدنية.

٢ ـ بيان حصافة عقل بلقيس ولذا أسلمت ظهر ذلك في قولها (كَأَنَّهُ هُوَ).

٣ ـ مضار التقليد وما يترتب عليه من التنكر للعقل والمنطق.

حرمة كشف المرأة ساقيها حتى ولو كانت كافرة فكيف بها إذا كانت مسلمة.

٥ ـ فضيلة الإئتساء بالصالحين كما ائتست بلقيس بسليمان في قولها (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : أي بأن اعبدوا الله.

(فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) : أي طائفتان مؤمنة موحدة وكافرة مشركة يختصمون.

(تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي تطالبون بالعذاب قبل الرحمة.

٢٥

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) : أي هلا تطلبون المغفرة من ربكم بتوبتكم إليه.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ) : أي تشاءمنا بك وبمن معك من المؤمنين.

(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) : أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) : أي تختبرون بالخير والشر.

(تِسْعَةُ رَهْطٍ) : أي تسعة رجال ظلمة.

(تَقاسَمُوا بِاللهِ) : أي تحالفوا بالله أي طلب كل واحد من الثاني أن يحلف له.

(لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) : أي لنقتلنه والمؤمنين به ليلا.

(ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) : أي ما حضرنا قتله ولا قتل أهله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) هذا بداية قصص صالح عليه‌السلام مع قومه ثمود لما ذكر تعالى قصص سليمان مع بلقيس ذكر قصص صالح مع ثمود وذلك تقريرا لنبوة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضع المشركين من قريش أمام أحداث تاريخية تمثل حالهم مع نبيهم لعلهم يذكرون فيؤمنوا قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ) أي قبيلة ثمود (أَخاهُمْ) أي في النسب (صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا) أي قال لهم اعبدوا الله أي وحدوه (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) موحدون ومشركون (يَخْتَصِمُونَ) (١) فريق يدعو إلى عبادة الله وحده وفريق يدعو إلى عبادة الأوثان مع الله وشأن التعارض أن يحدث التخاصم كل فريق يريد أن يخصم الفريق الآخر. وطالبوا صالحا بالآيات (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في أنك رسول إلينا مثل الرسل فرد عليهم وقال (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ (٢) بِالسَّيِّئَةِ) أي تطالبونني بعذابكم (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) فالمفروض أن تطالبوا بالحسنة التي هي الرحمة لا السيئة التي هي العذاب. إن كفركم ومعاصيكم هي سبيل عذابكم ، كما أن إيمانكم وطاعتكم هي سبيل نجاتكم وسعادتكم فبادروا بالإيمان والطاعة طلبا لحسنة الدنيا والآخرة. إنكم بكفركم ومعاصيكم تستعجلون عذابكم (لَوْ لا) (٣) أي هلا

__________________

(١) من الخصومة ما قصه الله تعالى في سورة الأعراف في قوله : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

(٢) الاستفهام إنكاري ، و (السيئة كالحسنة) صفة لمحذوف ، والتقدير لم تستعجلون بالحال السيئة قبل الحال الحسنة؟

(٣) (هلا) أداة تحضيض حضهم نبيهم على التوبة بالاستغفار والاقلاع عن الشرك والمعاصي رجاء أن يرحمهم‌الله تعالى فلا يعذبهم في الدنيا ولا في الآخرة.

٢٦

(تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) بترككم الشرك والمعاصي (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي كي ترحموا بعد هذا الوعظ والإرشاد. كان جواب القوم ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (قالُوا اطَّيَّرْنا (١) بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي تشاءمنا بك وبأتباعك المؤمنين لك ، فرد عليهم بقوله (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه وهو كائن لا محالة ، وليست القضية تشاؤما ولا تيامنا (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) وقوله تعالى (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي مدينة الحجر حجر ثمود تسعة رجال (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) (٢) بالكفر والمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) وهم الذين تمالؤوا على عقر الناقة ومن بينهم قدار بن سالف الذي تولى عقر الناقة. هؤلاء التسعة نفر قالوا لبعضهم بعضا في اجتماع خاص (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي ليقسم كل واحد منكم قائلا والله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي صالحا (وَأَهْلَهُ) أي أتباعه ، أي لنأتينهم ليلا فنقتلهم ، ثم في الصباح (لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) أي لولي دم صالح من أقربائه ، والله (ما شَهِدْنا (٣) مَهْلِكَ أَهْلِهِ) ولا مهلكه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نقسم عليه من أنا لم نشهد مهلك صالح ولا مهلك أصحابه.

هداية الآيات

هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل.

٣ ـ حرمة التشاؤم والتيامن كذلك ، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير.

٤ ـ العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض ، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض.

٥ ـ تقرير أن المشركين يؤمنون بالله ولذا يحلفون به ، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته.

__________________

(١) كانت العرب أكثر الناس تطيرا و (اطَّيَّرْنا) في الآية أصلها : تطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجها من الطاء وأدغمت في الطاء ، وجيء بهمزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ، والتطير معناه : التشاؤم وهو مأخود من الطير تطير يمينا أو شمالا فيتيمنون بذلك أو يتشاءمون.

(٢) الأرض : أرض ثمود وأل فيها : للعهد والرهط : العدد من الثلاثة إلى العشر كالنفر ومن بين هؤلاء : قدار بن سالف : عاقر الناقة.

(٣) قرأ الجمهور مهلك بضم الميم ، وقرأ حفص (مَهْلِكَ) بفتحها ، والمهلك : مصدر ميميّ من الرباعي أهلك ، أي : ما شهدنا إهلاك من أهلكهم والمراد من وليّه : ولىّ الدم من عصبته. قرأ الجمهور : لنبيّتنه وأهله ثم لنقولن ، وقرأ خلاف الجمهور : لتبيتنه ولتقولنّ بتاء الخطاب وهو قول الماكرين لبعضهم البعض ، والمعنى لا يختلف.

٢٧

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(وَمَكَرُوا مَكْراً) : أي دبروا طريقة خفية لقتل صالح والمؤمنين.

(وَمَكَرْنا مَكْراً) : أي ودبرنا طريقة خفية لنجاة صالح والمؤمنين وإهلاك الظالمين.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : بأنا ندبر لهم طريق هلاكهم.

(بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) : أي فارغة ليس فيها أحد.

(بِما ظَلَمُوا) : أي بسبب ظلمهم وهو الشرك والمعاصي.

(لَآيَةً) : أي عبرة.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي صالحا والمؤمنين.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَمَكَرُوا مَكْراً) (١) هذا نهاية قصص صالح مع ثمود تقدم أن تسعة رهط من قوم صالح تقاسموا على تبييت صالح والمؤمنين وقتلهم ليلا ليحولوا في نظرهم دون وقوع العذاب الذي واعدهم به صالح وأنه نازل بهم بعد ثلاثة أيام ، وهذا مكرهم وطريقة تنفيذه أنهم أتوا صالحا وهو يصلي في مسجد له تحت الجبل فسقطت عليهم صخرة من الجبل فأهلكتهم أجمعين وهكذا مكر الله بهم وهم لا يشعرون به ، ثم أهلك الله القوم كلهم

__________________

(١) أكد كلّ من مكر الله تعالى ومكرهم بالمصدر إشارة إلى تعظيم كل من المكرين والمكر : التبيّيت الخفي لإرادة السوء بالممكور به فعاملهم الله تعالى بما عزموا على فعله مع صالح وأهله.

٢٨

بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهو معنى قوله تعالى (فَانْظُرْ (١) كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) أي انظر يا رسولنا كيف كانت نهاية ذلك المكر وعاقبته (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ (٢) وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ (٣) خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي بسبب ظلمهم أنفسهم بالشرك وظلمهم صالحا والمؤمنين. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي الإهلاك للرهط التسعة ولثمود قاطبة (لَآيَةً) أي علامة على قدرة الله وعلمه وحسن تدبيره (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إذ هم الذين يرون الآية ويدركونها.

وقوله تعالى : (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٤) يريد صالحا والمؤمنين الذين آمنوا بالله ربا وإلها وبصالح نبيا ورسولا. وكانوا طوال حياتهم يتقون عقاب الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

٢ ـ تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب فالظلم يذر الديار بلاقع.

٣ ـ تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة لأن ولاية الله للعبدتتم بهما.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

شرح الكلمات :

(وَلُوطاً) : أي واذكر لقومك لوطا إذ قال لقومه.

__________________

(١) النظر هنا : قلبي ليس بصريا لعدم وجود الهلكى بين يدي الناظر.

(٢) قرىء إنا بكسر الهمزة على الاستئناف البياني ، وقرىء : (أَنَّا) بفتح الهمزة ، فمن فتح الهمزة لا يحسن له الوقف على مكرهم ، ومن كسر الهمزة جاز له الوقف على مكرهم.

(٣) بيوتهم المنحوتة من الجبال ما زالت إلى اليوم ، وقد وقفنا عليها وهي عجب في فن البناء والنحت.

(٤) زيادة كان في قوله : (وَكانُوا يَتَّقُونَ) للدلالة على أنهم كانوا متمكّنين من التقوى التي هي فعل المأمور واجتناب الشرك والمنهي عنه من اعتقاد وقول وعمل وصفة.

٢٩

(لِقَوْمِهِ) : هم سكان مدن عمورية وسدوم.

(الْفاحِشَةَ) : أي الخصلة القبيحة الشديدة القبح وهي اللواط.

(وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : إذ كانوا يأتونها في أنديتهم عيانا بلا ستر ولا حجاب.

(قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) : أي قبح ما تأتون وما يترتب عليه من خزي وعذاب.

معنى الآيتين :

هذا بداية قصص لوط عليه‌السلام مع قومه اللوطيين فقال تعالى (وَلُوطاً) (١) أي واذكر كما ذكرت صالحا وقومه اذكر لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) (٢) منكرا عليهم موبخا مؤنبا لهم على فعلتهم الشنعاء (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي قبحها وشناعتها ببصائركم وبأبصاركم حيث كانوا يأتونها علنا وعيانا وهم ينظرون وقوله (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ (٣) الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) أي لا للعفة والإحصان ولا للولد والإنجاب بل لقضاء الشهوة البهيمية فشأنكم شأن البهائم لا غير. وفي نفس الوقت آذيتم نساءكم حيث تركتم إتيانهن فهضمتم حقوقهن. وقوله تعالى (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (٤) أي قال لهم لوط عليه‌السلام أي ما كان ذلك الشر والفساد منكم إلا لأنكم قوم سوء جهلة بما يجب عليكم لربكم من الإيمان والطاعة وما يترتب على الكفر والعصيان من العقاب والعذاب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه قوم لوط من الفساد والهبوط العقلي والخلقي.

٢ ـ تحريم فاحشة اللواط وأنها أقبح شيء وأن فاعلها أحط من البهائم.

٣ ـ بيان أن الجهل بالله تعالى وما يجب له من الطاعة ، وبما لديه من عذاب وما عنده من نعيم مقيم هو سبب كل شر في الأرض وفساد. ولذا كان الطريق إلى إصلاح البشر هو

__________________

(١) أي : اذكر لوطا أو : أرسلنا لوطا ، الكل محتمل وجائز.

(٢) هم أهل سدوم وعمورية.

(٣) أعاد ذكرها لفرط قبحها وشناعتها ، والاستفهام للإنكار والتقبيح لفعلتهم الشنعاء.

(٤) (تَجْهَلُونَ) : إمّا أمر التحريم أو العقوبة ، ووصفهم بالجهل ، وهو اسم جامع لأحوال أفن الرأي وقساوة القلب وعماه ، ووصفهم في الأعراف بالإسراف وذلك نظرا إلى تعدد مواقف الوعظ والإرشاد.

٣٠

تعريفهم بالله تعالى حتى إذا عرفوه وآمنوا به أمكنهم أن يستقيموا في الحياة على منهج الإصلاح المهيء للسعادة والكمال.

٣١

الجزء العشرون

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي لم يكن لهم من جواب إلا قولهم أخرجوا.

(آلَ لُوطٍ) : هم لوط عليه‌السلام وامرأته المؤمنه وابنتاه.

(مِنْ قَرْيَتِكُمْ) : أي مدينتكم سدوم.

(يَتَطَهَّرُونَ) : أي يتنزهون عن الأقذار والأوساخ.

(قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) : أي حكمنا عليها أن تكون من الهالكين.

(فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) : أي قبح مطر المنذرين من أهل الجرائم أنه حجارة من سجيل.

معنى الآيات :

هذه بقية قصص لوط عليه‌السلام إنه بعد أن أنكر لوط عليه‌السلام على قومه فاحشة اللواط وأنّبهم عليها ، وقبّح فعلهم لها أجابوه مهددين له بالطرد والإبعاد من القرية كما أخبر تعالى عن ذلك بقوله : فما كان جواب قومه أى لم يكن لهم من جواب يردون به على لوط عليه‌السلام (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) أي إلا قولهم (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ). وعللوا لقولهم هذا بقولهم (إِنَّهُمْ أُناسٌ (١) يَتَطَهَّرُونَ). أي يتنزهون عن الفواحش. قالوا هذا تهكما ، لا إقرارا منهم على أن الفاحشة قذر يجب التنزه عنه. ولما بلغ بهم الحد إلى تهديد نبي الله لوط عليه‌السلام بالطرد والسخرية منه أهلكهم الله تعالى وأنجى لوطا وأهله إلا إحدى امرأتيه وكانت عجوزا كافرة وهو معنى قوله تعالى في الآية (٥٧) (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) (٢) حكمنا ببقائها مع الكافرين لتهلك معهم. وقوله تعالى في الآية (٥٨) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) هو بيان لكيفية إهلاك قوم لوط بأن

__________________

(١) أي : عن أدبار الرجال استهزاء منهم : قاله مجاهد ، وقال قتادة : عابوهم والله بغير عيب بأنهم يتطهرون من أعمال السوء.

(٢) (مِنَ الْغابِرِينَ) قال ابن كثير : أي من الهالكين مع قومها لأنها كانت ردءا لهم على دينهم وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم.

٣٢

أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود فأهلكهم. (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (١) أي قبح هذا المطر من مطر المنذرين الذين كذبوا بما أنذروا به وأصروا على الكفر والمعاصي. وهذا المطر كان بعد أن جعل الله عالي بلادهم سافلها ، أردف خسفها بمطر من حجارة لتصيب من كان بعيدا عن المدن.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة أن الظلمة إذا أعيتهم الحجج والبراهين يفزعون إلى القوة.

٢ ـ بيان سنة أن المرء إذا أدمن على قبح قول أو عمل يصبح غير قبيح عنده.

٣ ـ سنة إنجاء الله أولياءه وإهلاكه أعداءه بعد إصرار المنذرين على الكفر والمعاصي.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ

__________________

(١) الذين قامت عليهم الحجة ووصل إليهم الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهمّوا بإخراجه من بينهم.

٣٣

رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

شرح الكلمات :

(اصْطَفى) : أي اختارهم لحمل رسالته وإبلاغ دعوته.

(آللهُ خَيْرٌ) : أي لمن يعبده.

(حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) : أي بساتين ذات منظر حسن لخضرتها وأزهارها.

(يَعْدِلُونَ) : أي بربهم غيره من الأصنام والأوثان.

(جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) : أي قارة ثابتة لا تتحرك ولا تضطرب بسكانها.

(وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) : أي جعل الأنهار العذبة تتخللها للشرب والسقي.

(وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي جبالا أرساها بها حتى لا تتحرك ولا تميل.

(بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) : أي فاصلا لا يختلط أحدهما بالآخر.

(وَيَكْشِفُ السُّوءَ) : أي الضر ، المرض وغيره.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) : أي ما تتعظون إلا قليلا.

(بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : أي مبشرة بين يدي المطر إذ الرياح تتقدم ثم باقي المطر.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي يبدؤه في الأرحام ، ثم يعيده يوم القيامة.

(هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي حجتكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر فعل ما ذكر.

معنى الآيات :

لما أخبر الله تعالى رسوله بإهلاك المجرمين ونجاة المؤمنين أمر تعالى رسوله أن يحمده على ذلك تعليما له ولأمته إذا تجددت لهم نعمة أن يحمدوا الله تعالى عليها ليكون ذلك من شكرها قال تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ (١) لِلَّهِ) أي الوصف بالجميل لله استحقاقا.

__________________

(١) قال بعضهم : المأمور بالحمد هنا : لوط عليه‌السلام ورد وهو الحق أن المأمور به هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٤

(وَسَلامٌ (١) عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢) الله لرسالته وإبلاغ دعوته إلى عباده ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا على ذلك في الحياتين.

وقوله تعالى : (آللهُ (٣) خَيْرٌ أَمَّا (٤) يُشْرِكُونَ) أي آ الله الخالق الرازق المدبر القوى المنتقم من أعدائه المكرم لأوليائه ؛ عبادته خير لمن يعبده بها أم عبادة من يشركون. فقوله (أَمَّنْ (٥) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي لحاجتكم إليه غسلا وشربا وسقيا (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) أي بساتين محدقة بالجدران والحواجز (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي حسن وجمال ، (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي لم يكن فى استطاعتكم أن تنبتوا شجرها (أَ(٦) إِلهٌ مَعَ اللهِ) لا والله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يشركون بربهم أصناما ويسوّونها به في العبادات. وقوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) (٧) أي قارة ثابتة لا تتحرك بسكانها ولا تضطرب بهم فيهلكوا. (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) أي فيما بينها. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي جبالا تثبتها ، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والملح (حاجِزاً) (٨) حتى لا يختلط الملح بالعذب فيفسده.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟) والجواب : لا والله. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا لما أشركوا

__________________

(١) أصل السّلام : السلامة والأمن ثابتان لمن يسلم عليه عند ملاقاته إذ قد يكون بينهما إحن فكان لفظ السّلام كالعهد بالأمان ، وقيل : السّلام عليكم : كانت تحية البشر في عهد آدم عليه‌السلام.

(٢) قال بعضهم : الذين اصطفوا هم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : هم الصحابة وردّ هذا بما هو الحق وهو (أن الذين اصطفوا) هم : رسل الله عليهم‌السلام وفي الآية تعليم أدب رفيع وهو أن من افتتح كلامه مذكرا أو واعظا أو معلما دارسا يفتتح كلامه بحمد الله والصلاة والسّلام على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) (آللهُ) الاستفهام تقريري وهو إلجاء المخاطب إلى الإقرار ، وخير هنا : ليست بمعنى أفضل ، إذ لا خير البتة في آلهة المشركين وإنما من باب إيهام الخصم بأنه يعترف له بما يعتقده من خير في إلهه ، حتى يصغي ويسمع ويتأمل علّه يهتدي أو هو مثل قول الشاعر :

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

(٤) (أَمَّا) أصلها : أم المعادلة للهمزة وما : الموصولية أدغمت فيها أم فصارت أمّا والعائد محذوف تقديره : تشركونها ، أي آلهتهم بالله تعالى.

(٥) (أم) المنقطعة بمعنى بل للاضراب الانتقالي من الاستفهام التهكمي للاستفهام التقريري أي : الذي خلق السموات وما عطف عليها خير وأحق بالعبادة.

(٦) هذا استئناف كالنتيجة للكلام قبلها لأن إثبات الخلق والرزق لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه ، والاستفهام إنكاري أي : إنكار وجود إله مع الله الخالق الرازق والجواب : لا إله مع الله.

(٧) القرار : مصدر قرّ يقرّ قرارا الشيء : إذا سكن وثبت ، وصفت الأرض بالقرار مبالغة في سكونها وثباتها حيث لا تتحرك ولا تضطرب بأهلها على مدى الحياة في حين أنها سابحة في الفضاء متحركة فيه كل لحظة فسبحان الله العلي القدير العزيز الحكيم.

(٨) إنّ هذا الحاجز ليس جسما غير الماء إنما هو تفاوت الثقل النسبي لاختلاف أجزاء الماء المركب منها الماء المالح والماء العذب ، فالحاجز حاجز من طعميهما وليس جسما آخر فاصلا بينهما.

٣٥

بالله مخلوقاته. وقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ (١) إِذا دَعاهُ) أي ليكشف ضره (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) أي يبعده والسوء هو ما يسوء المرء من مرض وجوع وعطش وقحط وجدب. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) جعل جيلا يخلف جيلا وهكذا الموجود خلف لمن سلف وسيكون سلفا لمن خلف (أَإِلهٌ مَعَ (٢) اللهِ) والجواب لا إله مع الله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي ما تتعظون إلا قليلا بما تسمعون وترون من آيات الله.

وقوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) في الليل بالنجوم وفي النهار بالعلامات الدالة والهادية إلى مقاصدكم (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي من يثير الرياح ويرسلها تتقدم المطر وتبشر به؟ لا أحد غير الله إذا ... أإله مع الله. والجواب : لا ، لا .. الله وحده الإله الحق وما عداه فباطل.

وقوله تعالى : (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عن شرك المشركين أصناما لا تبدىء ولا تعيد ولا تخلق ولا ترزق ولا تعطي ولا تمنع. وقوله تعالى :(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي نطفا في الأرحام ، ثم بعد حياته يميته ، ثم يعيده وهو معنى (ثُمَّ يُعِيدُهُ).

(وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات. والجواب : الله إذا (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) والجواب : لا ، لا وإن قلتم هناك آلهة مع الله (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي حججكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أن غير الله يفعل شيئا مما ذكر في هذا السياق الكريم.

هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله وشكره عند تجدد الشكر ، والحمد لله رأس الشكر.

٢ ـ مشروعية السّلام عند ذكر الأنبياء عليهم‌السلام فمن ذكر أحدهم قال عليه‌السلام.

٣ ـ التنديد بالشرك والمشركين.

٤ ـ تقرير التوحيد بأدلته الباهرة العديدة.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر وإثباتها بالاستنباط من الأدلة المذكورة.

٦ ـ لا تثبت الأحكام إلا بالأدلة النقلية والعقلية.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ

__________________

(١) قال ابن عباس : المضطر هو : ذو الضرورة المجهود ، والضرورة هي : الحال المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول كالجوع والمرض والخوف ونحوهما من العزوبة وقلّة ذات اليد.

(٢) الاستفهام توبيخي إنكاري أي : إنكار أن يكون مع الله إله آخر لما قام على ذلك من الأدلة والحجج المذكورة ، وإله مرفوع بما تعلّق به الظرف أو بإضمار يفعل ذلك أي : أإله مع الله يفعل ذلك.

٣٦

فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩))

شرح الكلمات :

(مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : الملائكة والناس.

(الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) : أي ما غاب عنهم ومن ذلك متى قيام الساعة إلا الله فإنه يعلمه.

(أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي متى يبعثون.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) : أي تلاحق وهو ما منهم أحد إلا يظن فقط فلا علم لهم بالآخرة بالمرة.

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) : أي في عمى كامل لا يبصرون شيئا من حقائقها.

(أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) : أي أحياء من قبورنا.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا) : أي البعث أحياء من القبور.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي أكاذيبهم التي سطروها في كتبهم.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) : أي المكذبين بالبعث كانت دمارا وهلاكا وديارهم الخاوية شاهدة بذلك.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) لما سأل المشركون من قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة أمره تعالى أن يجيبهم بهذا الجواب (قُلْ لا يَعْلَمُ) الخ .. والساعة من جملة الغيب بل هي أعظمه. (مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَالْأَرْضِ) من الناس (إِلَّا (١) اللهُ) أي لكن

__________________

(١) أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قولها : من زعم أنّ محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وذكر القرطبي ما خلاصته : أنّ منجما أتى به إلى الحجاج فاعتقله ثم أخذ حصيات فعدّها وقال للمنجّم : كم من حصيات في يدي فأخبره بعددها ، ثم أخذ أخرى ولم يعدها وسأل المنجم عنها فلم يعرف عددها وكرر هذا ثلاث مرات فلم يعرف المنجم فسأله كيف عرفت في الأولى ولم تعرف في غيرها؟

قال : لأنك لما عددتها خرجت من الغيب فعلمتها أمّا الغيب فلا يعلمه إلا الله.

٣٧

الله تعالى يعلم غيب السموات والأرض أما غيره فلا يعلم إلا ما علمه الله علام الغيوب. وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وما يشعر أهل السموات وأهل الأرض متى يبعث الأموات من قبورهم للحساب والجزاء وهذا كقوله تعالى في سورة الأعراف.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).

وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ (١) عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) قرىء بل أدرك علمهم في الآخرة أي بلغ حقيقته يوم القيامة إذ يصبح الإيمان بها الذي كان غيبا شهادة ولكن لا ينفع صاحبه يومئذ. وقرىء (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي علم المشركين بالآخرة. أي تلاحق وأدرك بعضه بعضا وهو أنه لا علم لهم بها بالمرة. ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٢) أي لا يرون شيئا من دلائلها ، ولا حقائقها بالمرة ويدل على هذا ما أخبر به تعالى عنهم من أنهم لا يؤمنون بالساعة بالمرة في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا (٣) كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أي من قبورنا أحياء. والاستفهام للانكار الشديد ويؤكدون إنكارهم هذا بقولهم :

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يعدنا محمد. (إِنْ هذا) أي الوعد بالبعث والجزاء (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أكاذيبهم وحكاياتهم التى يسطرونها فى الكتب ويقرأونها على الناس. وقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق (٦٩) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي قل لهم يا رسولنا سيروا في الأرض جنوبا أو شمالا أو (٤) غربا (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي أهلكناهم لما كذبوا بالبعث كما كذبتم ، فالقادر على خلقهم ثم إماتتهم قادر قطعا على بعثهم وإحيائهم لمحاسبتهم وجزائهم بكسبهم. فالبعث إذا ضروري لا ينكره ذو عقل راجح أبدا.

__________________

(١) أصل : (ادَّارَكَ) : تدارك فسكنت التاء وأدغمت في الدال وجلبت همزة الوصل فصارت : ادّارك.

(٢) (عَمُونَ) أصلها : عميون : حذفت الياء وضمت الميم تخفيفا ، والمفرد عم.

(٣) قرأ نافع : إذا كنا بدون همزة استفهام ، وبتسهيل همزة أينا ، وقرأ حفص بهمزتين محققتين أإذا وأئنا.

(٤) جنوبا حيث ديار عاد ، وشمالا حيث ديار ثمود ، وغربا حيث مدين والمؤتفكات.

٣٨

هداية الآيات :

من هدية الآيات :

١ ـ حصر علم الغيب في الرب تبارك وتعالى. فمن ادعى أنه يعلم ما في غد فقد كذب (١).

٢ ـ تساوي علم أهل السماء والأرض في الجهل بوقت قيام الساعة.

٣ ـ المكذبون بيوم القيامة سيوقنون به في الآخرة ولكن لا ينفعهم ذلك.

٤ ـ إهلاك الله الأمم المكذبة بالبعث بعد خلقهم ورزقهم دليل على قدرته تعالى على بعثهم لحسابهم وجزائهم.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

شرح الكلمات :

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). الآية : المراد به تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِمَّا يَمْكُرُونَ) : أي بك إذ حاولوا قتله ولم يفلحوا.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي بعذابنا.

(بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) : وقد حصل لهم في بدر.

إن الله لذو فضل على الناس : أي في خلقهم ورزقهم وحفظهم وعدم إنزال العذاب بهم.

(ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) : أي ما تخفيه وتستره صدورهم.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ) : أي ما من حادثة غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين هو اللوح المحفوظ مدونة فيه مكتوبة.

__________________

(١) شاهده حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها وقد تقدم انفا.

٣٩

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا ترد ، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق (١) صدره مما يمكرون (٢) ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٠) وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب. فقال تعالى : (٧١) (وَيَقُولُونَ مَتى) (٣) (هذَا الْوَعْدُ) ـ أي بالعذاب ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ فيما تقولون وتعدون ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي اقترب (٤) منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان (٧١ و ٧٢).

وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) (٥) مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فها هم أولاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون ، وهذا أعظم فضل. وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ (٦) صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي لا يخفى عليه من أمرهم شىء وسيحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفى هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى : (وَما مِنْ (٧) غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شىء ولا يعزب عنه شىء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي المستلزم للبعث والجزاء ، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضا لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم.

__________________

(١) الضيق : بفتح الضاد وكسرها قرأه الجمهور بالفتح ، وقرأ غيرهم بالكسر وحقيقة الضيق : عدم اتساع المكان أو الوعاء لما يراد إدخاله فيه ، والمراد به هنا الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس بضيق في صدره.

(٢) ومن أعظم مكرهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكمهم الجائر بقتله في مكة لو لا أنّ الله أنجاه منهم.

(٣) الاستفهام للإنكار والاستعباد ، والآية نزلت في المستهزئين الذين هلكوا ببدر.

(٤) هذا تفسير ل (رَدِفَ لَكُمْ) يقال : ردفه وأردفه : إذا تبعه كتبعه واتبعه وردفه وردف له بمعنى قال الشاعر :

عاد السواد بياضا في مفارقه

لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردف

والشاهد في ردف وأردف : إذا تبع ، وقال آخر :

إذا الجوزاء أردفت الثريّا

ظننت بآل فاطمة الظنونا

(٥) في إدرار الرزق وتأخير العقوبة.

(٦) قرىء : تكن من كن الشيء يكنه إذا ستره ، وقرأ الجمهور (تكن) من أكنّ الشيء إذا ستره أيضا.

(٧) قال الحسن : الغائبة هنا : القيامة ، وهو حق ولكن اللفظ أعم إذ هو يشمل كل غيب وهو ما غاب عن الخلق في الأرض أو في السماء ، فالله تعالى يعلمه وكيف لا ، وقد كتبه في كتاب المقادير والغائبة : اسم للشيء الغائب ، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الأسمية كالتاء في الفاتحة ، والعاقبة ، والمراد ما غاب عن علم الناس ، واشتقاقه من الغيب ضدّ الحضور.

٤٠