أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(وَما يَعْرُجُ فِيها) : أي وما يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد وأرواحهم بعد الموت.

(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) : أي الرحيم بالمؤمنين الغفور للتائبين.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى عباده بأن له الحمد (١) والشكر الكاملين التامين ، دون سائر خلقه ، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها فلا يستحق الحمد على الحقيقة الا الله ، كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا وتدبيرا وتصريفا وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا ، (٢) (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السّلام فيحمدونه على ذلك (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) وقوله تعالى (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها الخبير بأحوالها العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.

وقوله (يَعْلَمُ ما يَلِجُ) أي ما يدخل (٣) في الأرض من مطر وكنوز وأموات ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي من الأرض من نبات ومعادن ومياه ، وما ينزل من السماء من أمطار وملائكة وأرزاق ، (٤) (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يصعد من ملائكة وأعمال العباد. وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده الرحيم بعباده المؤمنين الغفور للتائبين. بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية وهي صفات جلال وجمال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه فكل تأليه لغيره هو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلى عنه ، والتنديد بفاعله حتي يتركه ويتخلى عنه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى (٥) وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان.

__________________

(١) الحمد الكامل والثناء الشامل كله لله ، إذ النعم كلها منه وله الحمد في الأولى لأنه المالك وله الحمد في الآخرة كذلك.

(٢) الجملة عطف على الصلة أي والذي له الحمد في الآخرة ، وفيها إشارة إلى أنه مالك الأمر في الآخرة.

(٣) الذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم من باب أولى ما يدب على سطحها وما يزحف فوقها والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج فيها يعلم من باب أولى ما يجول في أرجائها ويعلم سير كواكبها.

(٤) وكذا من الثلوج والبرد والصواعق.

(٥) حمده تعالى نفسه دليل على أنه محب الحمد. ولذا كان الحمد رأس الشكر وشاهده قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى حتى انه حمد نفسه.

٣٠١

٢ ـ بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال.

٣ ـ لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى.

٤ ـ بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه.

٥ ـ تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

شرح الكلمات :

(لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) : أي القيامة.

(لا يَعْزُبُ عَنْهُ) : أي لا يغيب عنه.

(مِثْقالُ ذَرَّةٍ) : أي وزن ذرة : أصغر نملة.

٣٠٢

(وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) : أصغر من الذرة ولا أكبر منها.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي موجود في اللوح المحفوظ مكتوب فيه.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي اثبته في اللوح المحفوظ ليحاسب به ويجزى صاحبه.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) : أي عملوا على إبطالها وسعوا في ذلك جهدهم.

(مُعاجِزِينَ) : أي مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم ، وأنهم يفوتوننا فلا نبعثهم ولا نحاسبهم ولا نجزيهم.

(عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) : أي عذاب من أقبح العذاب وأسوأه.

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي ويعلم الذين اوتوا العلم وهم علماء أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وأصحابه.

(الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) : أي القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.

(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) : أي القرآن يهدي إلى صراط الله الموصل الى رضاه وجواره الكريم وهو الإسلام. والعزيز ذو العزة والحميد المحمود.

معنى الآيات :

بعد ما قررت الآيات السابقة توحيد الله في ربوبيته وألوهيته ذكر تعالى في هذه الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى مخبرا بما قاله منكروا البعث والجزاء : (وَقالَ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) (٢) وهو انكار منهم للبعث إذ الساعة هي ساعة الفناء والبعث بعدها ، وأمر رسوله أن يقول لهم : (بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي أقسم لهم بالله تعالى ربه ورب كل شيء لتأتينهم أحبوا أم كرهوا ثم أثنى الرب تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم إذ البعث يتوقف على العلم كما يتوقف على القدرة والقدرة حاصلة ، إذ خلقهم ورزقهم ويميتهم. فذكر تعالى أنه عالم الغيب وهو (٣) كل ما غاب في السموات وفي الأرض. وأخبر أنه لا يعزب أي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة أي (٤) وزن ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر أيضا إلا في كتاب مبين أي

__________________

(١) روى أن أبا سفيان هو الذي قال هذه المقالة حيث قال لإخوانه من أهل الكفر بمكة واللات والعزى لا تأتينا الساعة ابدا ولا نبعث فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليه دعواه بقوله (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) الآية.

(٢) الساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة النشر والحشر.

(٣) قرأ نافع وعنه ورش عالم بالرفع على الابتداء وقرأ حفص بالخفض نعت لاسم الجلالة.

(٤) قال القرطبي مثقال ذرة أي قدر نملة صغيرة.

٣٠٣

بيّن وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل أحداث العالم فلا حركة ولا سكون وقع أو يقع في الكون الا وله صورته ووقته في اللوح المحفوظ.

هذا ما تضمنته الآية الثالثة وقوله تعالى في الآية (٤) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي إذ الحكمة من كتابة الأحداث صغيرها وكبيرها ومن البعث الآخر هي ليجزي تعالى الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض والسنن بما ذكر من جزائهم في قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في الجنة وقوله في الآية (٥) (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بيّن فيه جزاء الكافرين بعد أن بين جزاء المؤمنين ذلك الجزاء الذي هو حكمة وعلّة البعث وكتابة الأعمال في اللوح المحفوظ فقال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) (١) أي والذين عملوا جهدهم في إبطال آيات الله إذ قالوا فيها أنها من كلام الكهان وانها شعر وأساطير الأولين حتى لا يؤمنوا ولا يوحدوا أولئك البعداء في الخسّة والانحطاط لهم جزاء ، عذاب من رجز أليم (٢) والرجز سيء العذاب وأشده ومعنى أليم أي ذي ألم وإيجاع شديد.

وقوله تعالى : في الآية (٦) ويرى الذين أوتوا العلم ، أي ويعلم علماء أهل الكتاب كعبد (٣) الله بن سلام وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن الكريم هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد ، وعلم أهل الكتاب بأن القرآن حقّ ناتج عن موافقته لما في كتاب الله التوراة من عقيدة القدر وكتابة الأعمال دقيقها وجليلها في اللوح المحفوظ ليجزى بها الله تعالى المؤمنين والكافرين يوم القيامة.

هذا ما دلت عليه الآية (٦) والأخيرة وهي قوله تعالى : (وَيَرَى) أي وليعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو الإسلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير توحيد الألوهية.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وكتابة الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ.

٣ ـ طلب شهادة أهل الكتاب على صحة الإسلام والحصول عليها لموافقة التوراة للقرآن.

٤ ـ تقرير النبوة إذ القرآن فرع نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودليلها المقرر لها.

__________________

(١) قال القرطبي أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا وما في التفسير أشمل وأوضح.

(٢) قرأ نافع بجر أليم نعت لرجز وقرأ حفص برفع (أَلِيمٌ) نعت لعذاب المرفوع.

(٣) على هذا التفسير أن الآية مدنية كما قال بعضهم حيث استثناها من آيات السورة وجائز أن يراد بالذين أوتو العلم أبو بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب والأصحاب رضوان الله عليهم إذ هم من أولى العلم.

٣٠٤

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

شرح الكلمات :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي قال بعضهم لبعض على جهة التعجيب.

(هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي قطعتم كل التقطيع.

(إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي تبعثون خلقا جديدا لم ينقص منكم شيء.

(أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) : أي جنون تخيّل له بذلك.

(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) : أي ليس الأمر كما يقول المشركون من افتراء الرسول أو جنونه بل الأمر الثابت والواقع أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب في الآخرة ، وفي الضلال البعيد في الدنيا.

(أَفَلَمْ يَرَوْا) : أي ينظروا.

(إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) : أي من أمامهم وورائهم وفوقهم وتحتهم إذ هم محاطون من كل جهة من السماء والأرض.

(أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً) : أي قطعا جمع كسفة أي قطعة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي علامة واضحة ودليلا قاطعا على قدرة الله عليهم.

٣٠٥

(لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي لكل مؤمن منيب إلى ربّه رجّاع إليه فى أمره كله.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء إنه لما قررها تعالى في الآيات قبل أورد هنا ما يتقاوله المشركون بينهم في تهكم واستهزاء واستبعاد للحياة الآخرة. فقال تعالى حاكيا قولهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم مشركو مكة أي بعضهم لبعض متعجبين (هَلْ نَدُلُّكُمْ (١) عَلى رَجُلٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم بأنكم إذا متم وتمزقت لحومكم وتكسرت عظامكم وذهبتم في الأرض ترابا تبعثون في خلق جديد بعد أن مزقتم كل (٢) ممزق أي كل التمزيق فلم يبق شيء متصل ببعضه بعضا. (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي (٣) محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم؟! أم به جنة أي به مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجرى فيه وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهنا رد الله تعالى عليهم كذبهم وباطلهم فقال (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) (بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذبا ، أو به جنون فتخيل له البعث وانما الأمر الثابت والواقع المقطوع به ان الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة. وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.

ثم قال تعالى مهددا لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَفَلَمْ يَرَوْا) أي أعموا فلم يروا الي ما بين أيديهم (٥) وما خلفهم من السماء والأرض أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم أي الأرض تحتهم والسماء فوقهم (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) فيعودون فيها (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ (٦) كِسَفاً) أي قطعا من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهربا والجواب لا ، لأنهم مهما جروا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ

__________________

(١) الاستفهام مستعمل في العرض مثل : (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي يعرض عليه ما هو صالح له. والاستفهام في الآية وإن كان للعرض فهو مكنّى به عن التعجب أي هل ندلكم على أعجوبة وهي رجل ينبئكم بهذا النبأ.

(٢) التمزق والتفرق والتشتت.

(٣) هذه الجملة (أَفْتَرى) صفة ثانية لرجل والصفة الأولى هي قوله ينبئكم.

(٤) في الجملة إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا إذ أخبر أنهم في الآخرة في العذاب وفي الدنيا في الضلال البعيد.

(٥) المراد بما بين أيديهم هو ما يستقبله الإنسان من الكائنات السماوية والأرضية ، وبما خلفهم وهو ما وراء الإنسان من الكائنات الأرضية والسماوية.

(٦) قرأ نافع كسفا بسكون السين وقرأ حفص بفتحها.

٣٠٦

لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم وإسقاط كسف من السماء على من شاء ذلك لهم آية. وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفروا بالله وبرسوله وكذبوا بلقائه. وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه كلما أذنب آب لخشيته من ربه فالخائف الخاشى هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به أو إسقاط السماء كسفا عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان المشركون عليه من استهزاء وتكذيب وسخرية بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه.

٣ ـ لفت الأنظار الى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده.

٤ ـ فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب. والإنابة الرجوع الى التوبة بعد الذنب والمعصية ، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ

٣٠٧

الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) : أي نبوة وملكا.

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) : أي وقلنا يا جبال أوّبى معه أي رجعى معه بالتسبيح.

(وَالطَّيْرَ) : أي والطير تسبح أيضا معه.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) : أي جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها كما يشاء.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) : أي دروعا طويلة تستر المقاتل وتقيه ضرب السيف.

(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : أي اجعل المسمار مناسبا للحلقة ، فلا يكن غليظا ولا دقيقا ، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق لما يترتب على عدم المناسبة من فساد الدرع وعدم الانتفاع بها.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) : أي وسخرنا لسليمان الريح غدوها أي سيرها من الغداة الى منتصف النهار مسيرة شهر ورواحها من منتصف النهار الى الليل شهر كذلك أي مسافة شهر.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) : أي وأسلنا له عين النحاس.

(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) : أي ومن يعدل عن طاعة سليمان فلم يطعه نذقه من عذاب السعير.

(مِنْ مَحارِيبَ) : جمع محراب المقصورة تكون الى جوار المسجد للتعبد فيها.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) : أي وقصاع في الكبر كالحياض التى حول الآبار يجبى إليها الماء.

(وَقُدُورٍ راسِياتٍ) : أي وقدور كبار ثابتات على الأثافى لكبرها لا تحول.

٣٠٨

(إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) : أي الأرضة.

(تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) : أي عصاه بلغة الحبشة.

(فَلَمَّا خَرَّ) : أي سقط على الأرض ميتا.

(تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) : أي انكشف لها فعرفت.

(فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) : وهو خدمة سليمان في الأعمال الشاقة.

معنى الآيات :

يذكر تعالى في هذا السياق الكريم مظاهر قدرته وإنعامه على عباده المؤمنين ترغيبا في طاعته وترهيبا من معصيته فيقول : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ (١) مِنَّا فَضْلاً) وهو النبوة والزبور «كتاب» والملك. وقلنا للجبال (أَوِّبِي) مع سليمان أي ارجعي صوت تسبيحه (٢) والطير أمرناها كذلك فكان إذا سبح ردد تسبيحه الجبال والطير. وهذا تسخير لا يقدر عليه الا الله. وقوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (٣) وهذا امتنان آخر وهو تسخير الحديد له وتليينه حتى لكأنه عجينة يتصرف فيها كما شاء ، وقلنا له اعمل دروعا طويلة سابغات تستتر بها في الحرب ، (وقدر في السرد (٤)) وقوله (وَاعْمَلُوا صالِحاً) (٥) أي اعملوا بطاعتي وترك معصيتي فأدوا الفرائض والواجبات واتركوا الاثم والمحرمات. وقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيه وعد ووعيد إذ العلم بالأعمال يستلزم الثواب عليها إن كانت صالحة والعقاب عليها إن كانت فاسدة.

وقوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي سخرنا لسليمان بن داود الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي تقطع مسافة شهر في الصباح ، وأخرى في المساء أي من منتصف النهار إلى الليل فتقطع مسيرة شهرين في يوم واحد ، وذلك أنه كان لسليمان مركب من لحشب يحمل فيه الرجال والعتاد وترفعه الجان من الأرض فإذا ارتفع جاءت عاصفة فتحملها ثم تتحول الى رخاء فيوجه سليمان السفينة حيث شاء بكل ما تحمله وينزل بها كسفينة فضاء تماما. وقوله تعالى (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) وهو النحاس فكما ألآن لداود الحديد للصناعة أجرى لسليمان عين النحاس لصناعته فيصنع ما شاء من آلات وأدوات النحاس.

__________________

(١) بين تعالى بهذه الآية أن إرسال نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن أمرا خارقا للعادة ولا منافيا لمقتضيات العقول إذا أرسل من قبله رسلا وآتى داود من الإنعام ما قرر به رسالته وأثبت به نبوته وكذا ولده سليمان عليهما‌السلام.

(٢) والطير منصوب بالعطف على المنادى «يا جبال». لأن المعطوف المعرف على المنادي يجوز نصبه ورفعه والنصب أولى.

(٣) الحديد تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب.

(٤) قدر الشيء جعله على قدر معيّن والسرد هو تركيب حلقها ومساميرها بصورة متناسبة بحيث لا يعظم المسمار فيغلق الحلقة ، ولا يرق فلا تمسكه.

(٥) لمّا عدد عليه نعمه أمره بشكره وهو العمل الصالح الشامل للحمد والشكر والطاعة والصبر.

٣٠٩

وقوله تعالى (وَمِنَ الْجِنِ) أي وسخرنا من الجن من يعمل بين يديه أي أمامه وتحت رقابته يعمل له ما يريد عمله من أمور الدنيا. وذلك بإذن ربّه تعالى القادر على تسخير ما يشاء لمن يشاء. وقوله (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) أي ومن يعدل من الجن (عَنْ أَمْرِنا) أي عما أمرناهم بعمله وكلفناهم به (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وذلك يوم القيامة (١). وقوله (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) بيان لما في قوله (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) من محاريب قصور أو بيوت تكون ملاصقة للمسجد للتعبد فيها ، وتماثيل أي صور من نحاس أو خشب إذ لم تكن محرمة في شريعتهم وجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة تتسع لعشرة من الأكلة ، كالجواب أي في الكبر والجابية (٢) حوض يفرغ فيه ماء البئر ثم يسقى به الزرع أو قدور راسيات أي ويعملون له قدورا ضخمة لا تتحول بل تبقى دائما موضوعة على الأثافي ويطبخ فيها وهي في مكانها وذلك لكبرها ومعنى راسيات ثابتات على الأثافي.

وقوله تعالى (اعْمَلُوا) أي قلنا لهم اعملوا آل داود شكرا أي اعملوا الصالحات شكرا لله تعالى على هذا الإفضال والإنعام أي أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واطيعوا ربكم في أمره ونهيه يكن ذلك منكم شكرا لله على نعمه. روى أنه لما أمروا بهذا الأمر قال داود عليه‌السلام لآله أيكم يكفيني النهار فإنى أكفيكم الليل فصلوا لله شكرا فما شئت أن ترى في مسجدهم راكعا أو ساجدا في أية ساعة من ليل أو نهار إلا رأيت. ويكفى شاهدا أن سليمان مات وهو قائم يصلى في المحراب. وقوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) هذا إخبار بواقع وصدق الله العظيم الشاكرون لله على نعمه قليل وفي كل زمان ومكان وذلك لإستيلاء الغفلة على القلوب من جهة ولجهل الناس بربهم وإنعامه من جهة أخرى.

وقوله تعالى في الآية (١٤) (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي توفيناه : ما دلهم على موته الا دابة في الأرض أي الأرضة المعروفة تأكل منسأته فلما أكلتها خر على الأرض ، وذلك أنه سأل ربّه أن يعمى خبر موته عن الجن ، حتي يعلم الناس أن الجن لا يعلمون الغيب كما هم يدعون ، فمات وهو متكىء على عصاه يصلى في محرابه ، والجن يعملون لا يدرون بموته فلما مضت مدة من الزمن وأكلت الأرضة المنسأة وخر سليمان على الأرض علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان ولما أقاموا مدة طويلة في الخدمة والعمل الشاق وهم لا يدرون. هذا معنى

__________________

(١) وجائز أن يكون هناك ملك بيده سوط من نار أو شهاب يضرب به الشيطان إن عصى سليمان كما روى عن السلف.

(٢) قال الشاعر :

تروح على آل المحلق جفنة

كجايبة الشيخ العراقي تفهق

أي لامتلائها.

٣١٠

قوله تعالى (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ) (١) (الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) ـ كما كان يدعى بعضهم ـ (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي الذي كان سليمان يصبه عليهم لعصيانهم وتمردهم على الطاعة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لآل داود وما وهب داود وسليمان من الآيات.

٢ ـ فضيلة صنع السلاح وآلات الحرب لغرض الجهاد في سبيل الله.

٣ ـ مركبة سليمان سبقت صنع الطائرات الحالية بآلاف السنين.

٤ ـ شرع من قبلنا شرع لنا إلا ما خصّه الدليل كتحريم الصور (٢) والتماثيل علينا ولم تحرم عندهم.

٥ ـ وجوب الشكر على النعم ، وأهم ما يكون به الشكر الصلاة والإكثار منها.

٦ ـ تقرير أن علم الغيب لله وحده.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨)

__________________

(١) الآية صريحة في أن من الجن من كان يدعي علم الغيب يضلل اخوانه من الجن والإنس به ، وإذ تبين للجن إن دعوى علم الغيب ممن ادعاها باطلة علم كذلك الإنس ان الجن ما كانوا يعلمون الغيب إذ لو كانوا يعلمونه لعلموا بموت سليمان حين مات وتركوا العمل وفروا بعيدين.

(٢) لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المصورين ولم يستثن فقال إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم.

وفي البخاري أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون. وحديث الموطأ. إلا ما كان رقما في ثوب فهو وإن خص جميع الصور فإن حديث عائشة رضي الله عنها دل على كراهيته إذ قال لها أخرجيه عني فهتكته والرخصة في لعب البنات لما في الصحيح على شرط أن لا تكون كأشباه التماثيل.

٣١١

فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ) : أي لقد كان لقبيلة سبأ اليمانية في مسكنهم.

(آيَةٌ) : أي علامة على قدرة الله وهى جنتان عن يمين وشمال.

(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) : أي طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها ، والله رب غفور.

(فَأَعْرَضُوا) : أي عن شكر الله وعبادته.

(سَيْلَ الْعَرِمِ) : أي سد السيل العرم.

(ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) : أي صاحبتي أكل مرّ بشع وشجر الأثل.

(ذلِكَ) : أي التبديل جزيناهم بكفرهم.

(الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) : هي قرى الشام مبارك فيها.

(قُرىً ظاهِرَةً) : أي متواصلة من اليمن إلى الشام.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) : أي المسافات بينها مقدرة بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى.

(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي لمن جاء بعدهم أي أهلكناهم ولم يبق منهم إلا ذكرهم متداولا بين الناس.

(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي فرقناهم في البلاد كل التفرق.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي إن في ذلك المذكور من النعم وسلبها لعبرا.

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي صبار على الطاعات وعن المعاصى شكور على النعم.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى إنعامه على آل داود وشكرهم له وأخبر أنه قليل من عباده من يشكر إنعامه عليه ذكر أولاد سبأ وأنه أنعم عليهم بنعم عظيمة وأنهم ما شكروها فأنزل بهم نقمته وسلبهم نعمته

٣١٢

وذلك جزاء لكل كفور. فقال تعالى (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ (١) آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي لقد كان لأولاد سبأ وهم الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، ومن أنمار جنعم وبجيلة ومن أولاد سبأ اربعة سكنوا في الشام وهم لخم وجدام وغسان ، وعاملة وأبوهم سبأ هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقوله تعالى (فِي مَسْكَنِهِمْ) أي في مساكنهم (آيَةٌ) أي علامة على قدرة الله وإفضاله على (٢) عباده وهي جنتان عن يمين وشمال الوادى أي جنتان عن يمين الوادى وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضر ، تسقى بماء سد مأرب. كلوا من رزق ربكم أي قلنا لهم كلوا من رزق ربكم واشكروا له أي هذا الإنعام بالإيمان به وبرسله وطاعته وطاعة رسله. وقوله (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي هذه بلدة طيبة وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هوام ولا حشرات كالعقارب ونحوها ، (وَرَبٌّ غَفُورٌ) (٣) يغفر ذنوبكم متى أذنبتم وتبتم واستغفرتم. ولكن أبطرتهم هذه النعم فكفروها ولم يشكروا كما قال تعالى (فَأَعْرَضُوا) بأن كذبوا رسل الله إليهم وعصوا الله ورسله فانتقم الله منهم لإعراضهم وعدم شكرهم كما هى سنته في عباده. قال تعالى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) وذلك بأن خرب السد ، وذهبت المياه وماتت الأشجار وأمحلت الأرض ، وتبدلت قال تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي مر بشع وهو شجر الأراك وأثل وهو الطرفاء ، وشيء من سدر قليل. هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وفسق عن أمره وخرج عن طاعته. قال تعالى (ذلِكَ) أي الجزاء (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بسبب كفرهم وقوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٤) أي وهل نجازى بمثل هذا الجزاء وهو تحويل النعمة الي نقمة غير الكفور.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ (٥) وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي مدن الشام (قُرىً ظاهِرَةً) أي مدنا ظاهرة على المرتفعات من الأرض ، وذلك من صنعاء عاصمتهم إلى الشام قرابة أربعة آلاف وسبعمائة قرية أي مدينة ، وقوله (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي يجعل المسافات بين كل مدينة ومدينة متقاربة بجيث يخرج المسافر بلا زاد من ماء أو طعام فلا يقيل الا في مدينة ويخرج بعد

__________________

(١) قرأ نافع مساكنهم بالجمع وقرأ حفص بالإفراد (مَسْكَنِهِمْ) وجمعه مساكن.

(٢) إذ لو اجتمعت البشرية كلها على اخراج شجرة من خشبة يابسة لما استطاعت فكيف بأنواع النوار وألوانه واختلاف طعومه وروائحه وأزهاره.

(٣) في الآية اشارة إلى أن الذنب ملازم للإنسان لا يعصم منه إلا من أراد الله عصمته كأنبيائه ، ولذا أعلمهم أن المنعم بهذه النعم رب غفور يغفر ذنب عباده إذا تابوا إليه فدعاهم بهذا الى التوبة وأن الذنب مع التوبة لا يسبب الهلاك العام أو سلب النعم ما دام هناك توبة تعقب الذنب.

(٤) قرأ حفص (وَهَلْ نُجازِي) بنون العظمة والبناء للفاعل والكفور مفعول به منصوب وقرأ نافع والجمهور وهل يجازى بياء الغيبة مضمومة والفعل مبني للمفعول والكفور نائب فاعل والمعنى ما يجازى ذلك الجزاء إلا الكفور أي الشديد الكفر عظيمه.

(٥) هذه الآية والتي بعدها ذكرتا تتميما للقصة.

٣١٣

القيلولة فلا ينام الا في مدينة أخرى حتى يصل الى الشام أو إلى المدينة التي يريد. وهذا كان لهم قبل هدم السد وتفرقهم وقوله تعالى : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا بين تلك المدن الليالي والأيام ذوات العدد آمنين من كل ما يخاف. وما كان منهم الا أنهم بطروا النعمة وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم. أي حملهم بطر النعمة على أن سألوا ربهم بلسان حالهم أو قالهم أن يباعد بين (١) مسافات أسفارهم بإزالة تلك المدن حتى يحملوا الزاد ويركبوا الخيول ويذوقوا طعم التعب وهذا في الواقع هو حسد من الأغنياء للفقراء الذين لا طاقة لهم على السفر في المسافات البعيدة بدون زاد ولا رواحل (٢). قال تعالى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ بإعراضهم وحسدهم وبطرهم النعمة كانوا قد ظلموا أنفسهم فعرّضوا لعذاب الحرمان في الدنيا وعذاب النار في الآخرة ، وقوله تعالى (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي لمن بعدهم يروون أخبارهم ويقصون قصصهم بعد أن هلكوا وبادوا. وقوله تعالى (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في البلاد كل تفريق بحيث لا يرجى لهم عود اتصال أبدا فذهب الأوس والخزرج الى يثرب «المدينة النبوية» وهم الأنصار ، وذهب غسان الى (٣) الشام ، والازد الى عمان ، وخزاعة الى تهامة واصبحوا مضرب المثل يقال : ذهبوا شذر مذر. وتفرقوا أيادي سبأ ، أي مذاهب سبأ وطرقها. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في إنعام الله على ابناء سبأ ثم في نقمته عليهم لما بطروا النعمة وكفروا الطاعة لعبرا يعتبر بها كل صبور على الطاعات فعلا وعن المعاصي تركا ، (شَكُورٍ) أي كثير الشكر على النعم. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من الإعراض عن دين الله فإنه متى حصل لأمة نزلت بها النقم وسلبها الله النعم. وكم هذه الحال مشاهدة هنا وهناك لا بين الأمم والشعوب فحسب بل حتى بين الأفراد.

٢ ـ التحذير من كفر النعم بالاسراف فيها وصرفها في غير مرضاة الله واهبها عزوجل.

٣ ـ خطر الحسد وانه داء لا دواء له ، والعياذ بالله يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

٤ ـ فضيلة الصبر والشكر وعلو شأن الصبور الشكور.

__________________

(١) قوله تعالى (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرأ الجمهور (باعِدْ) فعل أمر من باعد يباعد وقرأ بعض بعّد فعل أمر من بعد يبعد على وزن جدّد ، وقرأ بعض آخر باعد فعلا ماضيا.

(٢) قيل ان المسافة التي يقطعونها بين تلك المدن آمنين من الجوع والخوف مسيرة أربعة أشهر ذهابا وإيابا وحالهم كحال بني اسرائيل كما قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض حيث ملوا أكل اللحم والعسل.

(٣) قال الشعبي فلحقت الأوس والخزرج (الأنصار) بيثرب (المدينة) وغسان وجذام ولخم بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة. فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول. تفرقوا ايدي سبأ ، وأيادي سبأ أي مذاهب سبأ وطرقها.

٣١٤

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) : أي صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.

(فَاتَّبَعُوهُ) : في الكفر والضلال والإضلال.

الا فريقا منهم : أي من بني آدم وهم المؤمنون المسلمون فإنهم لم يتبعوه وخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة إلى يوم القيامة.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) : أي ولم يكن لإبليس من تسليط منا عليهم لا بعصا ولا سيف وإنما هو التزيين والإغراء بالشهوات.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) : أي لكن أذنّا له في إغوائهم ـ إن استطاع ـ بالتزيين والإغراء لنعلم علم ظهور من يؤمن ويعمل صالحا ممن يكفر ويعمل سوءا.

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : أي وربك يا محمد على كل شيء حفيظ وسيجزى الناس بما كسبوا.

٣١٥

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي أنهم شركاء لله في ألوهيته.

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) : أي ملكا استقلاليا لا يشاركهم الله فيه.

(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) : أي وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.

(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) : أي وليس لله تعالى من شركائكم الذين تدعونهم من معين على شيء.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) : أي ولا تنفع الشفاعة أحدا عنده حتى يأذن هو له بها.

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : أي ذهب الفزع والخوف عنهم بسماع كلم الرب تعالى.

(قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟) : أي قال بعضهم لبعض لبعض استبشارا ما ذا قال ربكم؟ قالوا الحق أي في الشفاعة.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) : العلي فوق كل شيء علوّ ذات وقهر وهو الكبير المتعالي الذي كل شيء دونه.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما حدث لسبأ من تقلبات وكان عامل ذلك هو تزيين الشيطان وإغواؤه أخبر تعالى عن حال الناس كل الناس فقال (لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ (١) إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي فيهم لما علم ضعفهم أمام الشهوات فاستعمل تزيينها كسلاح لحربهم (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه من الشرك والإسراف والمعاصي (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين أسلموا لله وجوههم وهم عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سبيل لإغوائهم فإنهم لم يتبعوه. هذا ما دلت عليه الآية (٢٠) وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ) أي للشيطان (عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أي قوة مادية ولا معنوية من حجج وبراهين ، وإنما أذن له في التحريش والوسواس والتزيين وهذا الإذن لعلة وهي ظهور حال الناس ليعلم من (٢) يؤمن بالآخرة وما فيها من جنات ونيران ، وقد حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات فالمؤمنون بالآخرة يتحملون مشاق التكاليف فينهضون بها ويتجنبون الشهوات فينجون من النار ويدخلون الجنة ، والذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينهضون بواجب ولا يتجنبون حراما فيخسرون أنفسهم

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور صدق بتخفيف الدال وقرأ حفص (صَدَّقَ) بالتضعيف والجملة يبدو أنها معطوفة على قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ) وهو قول كفار مكة وما بين هذه الآيات وتلك اعتراض للعظة والاعتبار والمقصود من هذه الآية تنبيه المؤمنين إلى مكايد الشيطان وسوء عاقبة من يتبعه حتى يلعنوه ولا يتبعوه. قال الحسن لما اهبط آدم وحواء عليهما‌السلام من الجنة إلى الأرض وهبط إبليس قال ابليس أما إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف فكان ذلك ظنا من ابليس فأنزل الله تعالى لقد صدق عليهم إبليس ظنه.

(٢) أي علم الشهادة والظهور الذي يتم به الثواب والعقاب فأما علم الغيب فقد علمه تبارك وتعالى فقوله تعالى ، (إِلَّا لِنَعْلَمَ) الخ ... جواب لقوله وما كان له عليهم من سلطان.

٣١٦

وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) فهو يحصى أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ويجزيهم بها.

وقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا (١) الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قل يا رسولنا بعد هذا العرض والبيان الشافى الذي تقدم في هذا السياق للمشركين من قومك ما دمتم مصرين على الشرك بحجة أن شركاءكم ينفعون ويضرون وأنهم يشفعون لكم يوم تبعثون ادعوهم غير أن الحقيقة التي يجب أن تسمعوها وتعلموها ـ وأنتم بعد ذلك وما ترون وتهوون ـ هي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون مثقال ذرة أي وزن ذرة في السموات ولا في الأرض لا يملكونها استقلالا ولا يملكونها شركة مع الله المالك الحق ، وهو معنى قوله تعالى (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما) أي في السموات والأرض من شرك بمعنى شركة ولو بأدنى نسبة. وشيء آخر وهو أن شركاءكم الذين تدعونهم ليس لله تعالى منهم من ظهير أي معين حتى لا يقال بحكم حاجة الرب إليه ندعوه فيشفع لنا عنده ، وشيء آخر وهو أن الشفاعة عند الله لا تتم لأحد ولا تحصل له إلا إذا رضى الله تعالى بالشفاعة لمن أريد الشفاعة له ، وبعد أن يأذن ايضا لمن أراد أن يشفع. فلم يبق إذا أي طمع في شفاعة آلهتكم لكم لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا فكيف تصح عبادتهم وهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يشفعون لأحد في الدنيا ولا الآخرة. وقوله تعالى (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) إلى آخره بيان لكيفية الشفاعة يوم القيامة وهي أن الشافع المأذون له في الشفاعة عند ما يسأل الله تعالى فيجيبه الرب تعالى فيصاب بخوف وفزع شديد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي زال ذلك الفزع والخوف قالوا لبعضهم (٢) البعض ما ذا قال ربكم؟ فيقولون مستبشرين قالوا : الحق أي أذن لنا في الشفاعة وهو العليّ الكبير أي العلى فوق خلقه بذاته وقهره وسلطانه الكبير الذي ليس كمثله شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا ربّ سواه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن إبليس صدق ظنه في بني آدم وأنهم سيتبعونه ويغويهم.

__________________

(١) هذا الأمر للتحدي والتوبيخ وهو خطاب للمشركين المؤلهين الأصنام بعد ما ساق من دلائل التوحيد فيما عرفوا من حياة داود وسليمان وأهل سبأ أمر رسوله أن يتحداهم ويوبخهم على شركهم وباطلهم.

(٢) الظاهر أن من طلبوا الشفاعة لما أذن الله تعالى لهم وأصابهم الفزع والخوف فلما ذهب ذلك من قلوبهم سألوا الملائكة عما قال الله تعالى فتجيبهم الملائكة قال الحق أي قبل شفاعتكم.

٣١٧

٢ ـ تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة سواه.

٣ ـ بيان بطلان دعاء غير الله إذ المدعو كائنا من كان لا يملك مثقال ذرة في الكون لا بالاستقلال ولا بالشركة ، وليس لله تعالى من ظهير أي ولا معينين يمكن التوسل بهم ، وأخيرا والشفاعة لا تتم إلا بإذنه ولمن رضى له بها. ولذلك بطل دعاء غير الله ومن دعا غير الله من ملك أو نبي أو وليّ أو غيرهم فقد ضل الطريق وأشرك بالله في أعظم عبادة وهى الدعاء ، والعياذ بالله تعالى.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : من السموات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات الزروع.

(قُلِ اللهُ) : أي إن لم يجيبوا فأجب انت فقل الله ، إذ لا جواب عندهم سواه.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : وأخبرهم بأنكم أنتم أيها المشركون أو إيانا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وقطعا فالموحدون هم الذين على هدى

٣١٨

والمشركون هم في الضلال المبين ، وإنما شككهم تلطفا بهم لعلهم يفكرون فيهتدون.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) : أي أنكم لا تسألون عن ذنوبنا.

(وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : أي ولا نسأل نحن عما تعملون. وهذا تلطفا بهم أيضا ليراجعوا أمرهم ، ولا يحملهم الكلام على العناد.

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) : أي قل لهم سيجمع بيننا ربّنا يوم القيامة ويفصل بيننا بالحق وهذا أيضا تلطف بهم وهو الحق.

(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) : أي قل لهؤلاء المشركين أروني شركاءكم الذين عبدتموهم مع الله فإن أروه إياهم أصناما لا تسمع ولا تبصر قامت الحجة عليهم. وقال لهم أتعبدون ما تنحتون وتتركون الله الذي خلقكم وما تعملون؟!

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : كلا : لن تكون الأصنام أهلا للعبادة بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله العزيز الحكيم.

(كَافَّةً لِلنَّاسِ) : أي لجميع الناس أي عربهم وعجمهم.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) : بشيرا للمؤمنين بالجنة ، ونذيرا للكافرين بعذاب النار

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) : هو يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تبكيت المشركين وإقامة الحجج عليهم بتقرير التوحيد وإبطال التنديد فقال تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سل قومك مبكتا لهم : (قُلْ مَنْ (١) يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الأمطار وإرسال الرياح لواقح وإنبات النباتات والزروع والثمار وتوفير الحيوان للحم واللبن ومشتقاته؟ وإن تلعثموا في الجواب أو ترددوا خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلا الله. إذ ليس من جواب عندهم سواه.

وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى (٢) هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف

__________________

(١) لما أبطل بتلك الحجج آلهة المشركين حيث دعاؤها لا يجدي نفعا للداعين لأنهم لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا شفاعتها تنفع عابديها قرر بهذه الآيات استحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره ، واستعمل اسلوب الجدل لإقامة الحجة على الخصم فقال : قل من يرزقكم.

(٢) واياكم معطوف على محل اسم إن المنصوب والجملة معطوفة على الاستفهام (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) الخ وهذا يقال له اسلوب المنصف وهو أن لا يذكر المجادل لمن يجادله ما يغيظه أو يثير حفيظته رجاء هدايته إلى الحق.

٣١٩

بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر فى الأمر الذي يجادل فيه ، وإلّا فالرسول والمؤمنون هم الذين على هدى ، والمشركون هم الذين في ضلال مبين وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع. وقوله تعالى (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا (١) أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهذا أيضا من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى صوابه. فقوله : (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) هو حق فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين ، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم وإنما هو من باب التلطف في الخطاب ، وأما المشركون فإن لهم أعمالا من الشرك والباطل سيجزون بها والرسول والمؤمنون قطعا لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا. وقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) أي يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي يحكم ويفصل بيننا (بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي الحاكم العليم بأحوال خلقه فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهرا وباطنا. وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة. وقوله (قُلْ أَرُونِيَ (٢) الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين ارونى آلهتكم التي اشركتموها بالله والحقتموها به وقلتم في تلبيتكم : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. الا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون ينفعون ويضرون ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم فقال : (كَلَّا ، بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين (الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره ومراده الحكيم في تدبير خلقه وشؤون عباده.

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ (٣) إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (٤) بَشِيراً وَنَذِيراً) أي لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به ، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو اليه.

__________________

(١) وهذا أيضا من الباب الأول وهو حمل الخصم على عدم اللجاج في الخصومة ليبقى قادرا على الفهم وقبول الحق متى ظهر له ولاح.

(٢) الأمر هنا للتعجيز لإقامة الحجة عند ثبوت عجز المخاصم ، ولما ثبت عجزهم زجرهم بكلمة كلا وردعهم بها ، وحملهم على الاعتراف ببطلان آلهتهم.

(٣) ولما تقرر مبدأ التوحيد عطف عليه تقرير النبوة المحمدية فقال وما أرسلناك. وبذلك ثبتت رسالته.

(٤) في الكلام تقديم وتأخير إذ الأصل وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة.

٣٢٠