أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

ورفع الحرج فقال ممتنا عليه (يا أَيُّهَا النَّبِيُ (١) إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن وأحللنا لك (ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) من سبايا الجهاد كصفية بنت حبيب وجويرية بنت الحارث ، (وَبَناتِ عَمِّكَ (٢) وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ (٣) مَعَكَ) من مكة إلى المدينة.

أما اللاتي لم تهاجر فلا تحلّ لك ، وامرأة مؤمنة أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة لا كافرة إن وهبت نفسها للنبي بدون مهر وأراد النبي أن يستنكحها حال كون هذه الواهبة خالصة لك دون المؤمنين فالمؤمن لو وهبت له امرأة نفسها بدون مهر لم تحل له بل لا بد من المهر والولي والشهود.

وقوله تعالى (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين في أزواجهم من أحكام كأن لا يزيد الرجل على أربع ، وأن لا يتزوج إلا بولي ومهر وشهود ، والمملوكة لا بد أن تكون كتابية أو مسلمة ، وأن لا يطأها قبل الاستبراء بحيضة قد علمنا كل هذا وأحللنا لك ما أحلننا خصوصية لك دون المؤمنين وذلك تخفيفا عليك لكيلا يكون عليك حرج أي ضيق ومشقة وكان الله غفورا لك ولمن تاب من المؤمنين رحيما بك وبالمؤمنين.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لنبيه (٤) في التخفيف عليه رحمة به فأباح له أكثر من أربع ، وقصر المؤمنين على أربع أباح له الواهبة نفسها أن يتزوجها بغير مهر ولا ولي ولم يبح ذلك للمؤمنين فلا بد من مهر وولي وشهود.

٢ ـ تقرير أحكام النكاح للمؤمنين وأنه لم يطرأ عليها نسخ بتخفيف ولا بتشديد.

٣ ـ بيان سعة رحمة الله ومغفرته لعباده المؤمنين.

__________________

(١) هذه الآية من المتقدم في التلاوة المتأخر في النزول ونظيرها آيتي الوفاة في البقرة على رأى الجمهور. إذ مضمون هذه الآية التوسعة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكراما له لما تحمله من نكاح زينب ثم قصره في الآيات بعد على من تحته من النساء إكراما لهن ايضا وذلك في قوله لا يحل لك النساء من بعد. ثم لم يقبض حتى رفع الله تعالى عنه الحظر اكراما واعلاء من شأنه إذ قالت عائشة. ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم حتى أحل له النساء.

(٢) وحد العم والخال وجمع العمات والخالات لأن العم والخال استعمل استعمال أسماء الأجناس الدالة على متعدد واللفظ موحد كالإنسان واللفظ واحد وهو دال على كل انسان من بني آدم.

(٣) المعية هنا (مَعَكَ) هي الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة إذ أحل له من هاجرت سواء كانت في رفقته أو في رفقة أخرى ، ولم يهاجر في رفقته امرأة قط.

(٤) من جملة خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن فرض عليه أمورا لم تفرض على الأمة كقيام الليل مثلا وأباح له أمورا لم تبح للأمة كنكاح الواهبة بدون مهر ، وحرم عليه أمورا لم تحرم على الأمة كحرمة الصدقة ذكر هذه الخصائص القرطبي في تفسيره عند تفسير هذه الآية.

٢٨١

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

شرح الكلمات :

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) : أي تؤخر من نسائك.

(وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) : أي وتضم إليك من نسائك من تشاء فتأتيها.

(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) : أي طلبت.

(مِمَّنْ عَزَلْتَ) : أي من القسمة.

(فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) : أي لا حرج عليك في طلبها وضمها إليك خيره ربه في ذلك بعد أن كان القسم واجبا عليه.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) : أي ذلك التخيير لك في إيواء من تشاء وترك من تشاء أقرب إلى أن تقر أعينهن ولا يحزن.

(وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَ) : أي مما أنت مخير فيه من القسم وتركه ، والعزل والايواء.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) : أي من حب النساء ـ أيها الفحول ـ والميل الى بعض دون بعض وإنما خير الله تعالى رسوله تيسيرا عليه لعظم مهامه.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) : أي عليما بضعف خلقه حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل التوبة.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) : أي لا يجوز لك أن تتزوج بعد هؤلاء التسعة اللاتي اخترنك إكراما لهن وتخفيفا عنك.

٢٨٢

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) : أي بأن تطلق منهن وتتزوج أخرى بدل المطلقة لا. لا.

(وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) : ما ينبغي أن تطلق من هؤلاء التسع وتتزوج من أعجبك حسنها.

(إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) : أي فالأمر في ذلك واسع فلا حرج عليك في التسرى بالمملوكة ، وقد تسرى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمارية المهداة إليه من قبل ملك مصر وولدت له إبراهيم ومات في سن رضاعه عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في شأن التيسير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف فقد تقدم أنه أحل له النساء يتزوج من شاء مما ذكر له وخصه بالواهبة نفسها يتزوجها بدون مهر ولا ولي وفي هذه الآية الكريمة (٥١) (تُرْجِي (١) مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) الآية وسع الله تعالى عليه بأن أذن له في أن يعتزل وطء من يشاء ، وأن يرجىء من يشاء ، وأن يؤوي إليه ويضم من يشاء وأن يطلب من اعتزلها إن شاء فلا حرج عليه في كل ذلك ، ومع هذا فكان يقسم بين نسائه ، ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك اللهم إلا ما كان من سودة رضى الله عنها فإنها وهبت ليلتها لعائشة رضى الله عنها. هذا ما دل عليه قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) (٢) وقوله ذلك أدنى أي ذلك التخيير لك في شأن نسائك أقرب أن تقر أعينهن أي يفرحن بك ، ولا يحزن عليك ، ويرضين بما تتفضل به عليهن من إيواء ومباشرة.

وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي أيها الناس من الرغبة في المخالطة ، وميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وإنما خيّر الله رسوله هذا التخيير تيسيرا عليه وتخفيفا لما له من مهام لا يطمع فيها عظماء الرجال ولو كان في القوة والتحمل كالجبال أو الجمال.

وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) أي بخلقه وحاجاتهم. حليما عليهم لا يعاجل بالعقوبة ويقبل ممن تاب التوبة.

__________________

(١) (تُرْجِي) بدون همزة وترجىء مهموز لغتان فصيحتان من أرجى وأرجأ الأمر إذا أخره والآية تحمل التوسعة والتخفيف عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسقط عنه واحب القسم بين أزواجه ومع هذا فكان يقسم. لأن الآية تفيد التخيير والاذن لا غير.

(٢) الجناح الميل يقال جنحت السفينة إذا مالت إلى الأرض أي لا ميل عليك بلوم أو توبيخ أو عتاب. في الآية وجوب القسمة بين الزوجات والعدل بينهن فيعطي لكل زوجة يوما وليلة فيقيم عندها في يومها ولو كانت مريضة أو نفساء أو حائضا وإن مرض هو فكذلك إلا أن يأذن له بالتمريض عند إحداهن كما استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له في ذلك.

٢٨٣

وقوله تعالى في الآية (٥٢) (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ (١) مِنْ بَعْدُ) أي لا يحل لك يا رسولنا النساء بعد هؤلاء التسع اللائى خيرتهن فاخترن الله واخترنك وأنت رسوله واخترن الدار الآخرة فاعترافا بمقامهن قصرك الله عليهن بعد الآن فلا تطلب امرأة أخرى ببدل أو بغير بدل ، ومعنى ببدل : أن يطلق منهن واحدة أو أكثر ويتزوج بدلها. وهو معنى قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) وقوله (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي فلا بأس بأن تتسرى بالجارية تملكها وقد تسرى بمارية القبطية التى أهداها له المقوقس ملك مصر مع بغلة بيضاء تسمى الدّلدل وهي أول بغلة تدخل الحجاز ، وقد أنجبت مارية إبراهيم ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفى في أيام رضاعه عليه وعلى والده ألف ألف سلام.

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) أي حفيظا عليما فخافوه وراقبوه ولا تطلبوا رضا غيره برضاه فإنه إلهكم الذي لا إله لكم سواه به حياتكم وإليه مرجعكم بعد مماتكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لرسوله بالتيسير والتسهيل عليه لكثرة مهامه.

٢ ـ ما خير الله فيه رسوله لا يصح لأحد من المسلمين اللهم إلا أن يقول الرجل للمرأة كبيرة السن أو المريضة أي فلانة إنى أريد أن أتزوج أحصن نفسي وأنت كما تعلمين عاجزه فإن شئت طلقتك ، وإن شئت تنازلت عن ليلتك فإن اختارت البقاء مع التنازل عن حقها في الفراش فلا بأس بذلك.

٣ ـ في تدبير الله لرسوله وزوجاته من الفوائد والمصالح ما لا يقادر قدره.

٤ ـ تقرير مبدأ (ما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله خيرا منه) تجلّى هذا في اختيار نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله ورسوله والدار الآخرة.

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى وعدم التفكير في الخروج عن طاعته بحال من الأحوال.

[تنبيه هام]

إذن الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزواج بأكثر من أربع كان لحكم عالية ، وكيف والمشرع هو الله العليم الحكيم من تلك الحكم العالية ما يلي :

__________________

(١) اختلف في أحكام هذه الآية ونسخها وهل نسخها بالكتاب أو السنة والراجح أنها منسوخة بآية ترجى من تشاء وتؤوي إليك من تشاء ورجح بعضهم نسخها بالسنة إذ قالت عائشة : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحل له النساء.

٢٨٤

(١) اقتضاء التشريع الخاص بالنساء ومنه ما لا يطلع عليه إلا الزوجان تعدّد الزوجات ليروين الأحكام الخاصة بالنساء ، ولصحة الرواية وقبولها فى الأمة تعدد الطرق وكثرة الرواة والروايات.

(٢) تطلب الدعوة الإسلامية في أيامها الأولى مناصرين لها أقوياء ولا أفضل من أصهار الرجل الداعى فإنهم بحكم العرف يقفون إلى جنب صهرهم محقا أو مبطلا كان.

(٣) أن المؤمنين لا أحب إليهم من مصاهرة نبي الله ليظفروا بالدخول عليه في بيته والخلوة به وما أعزها. فأي المؤمنين من لا يرغب أن تكون أمه أو أخته أو بنته أما لكل المؤمنين إني والله لا أحب إليّ من أن أكون أنا وزوجتي وسائر أولادي خدما في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلذا وسع الله على رسوله ليتّسع على الأقل للأرامل وربات الشرف حتى لا يدنس شرفهن.

(٤) قد يحتاج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى مكافأة بعض من أحسن إليه ولم يجد ما يكافئه به ويراه راغبا في مصاهرته فيجيبه لذلك ومن هذا زواجه بكل من عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق رضي الله عنهم أجمعين.

(٥) قد زوجه ربّه بزينب وهو كاره لذلك يتهرب منه خشية قالة الناس وما كانوا يعدونه منكرا وهو التزوج بامرأة الدعى المتبنى بعد طلاقها أو موت زوجها هذه بعض الحكم التي اقتضت الإذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج أكثر من أربع مع عامل آخر مهم وهو قدرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العدل والكفاية الأمر الذي لن يكون لغيره أبدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ

٢٨٥

تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من صدقوا بالله ووعده ووعيده وبالرسول وما جاء به.

(إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) : أي في الدخول بأن يدعوكم إلى طعام.

(غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) : أي غير منتظرين وقت نضجه أي فلا تدخلوا قبل وقت إحضار الطعام وتقدم المدعوين إليه بأن يستغل أحدكم الاذن بالدعوة للطعام فيأتي قبل الوقت ويجلس في البيت فيضايق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهله.

(فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) : أي إذا أكلتم الطعام وفرغتم فانتشروا عائدين الي بيوتكم أو أعمالكم ولا يبق منكم أحد.

(وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) : أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث بعضكم بعضا.

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) : أي ذلكم المكث في بيوت النبي كان يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) : أي أن يخرجكم.

(وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) : أن يقوله ويأمر به ولذا أمركم أن تخرجوا.

(مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : أي ستر كباب ورداء ونحوه.

(أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) : أي من الخواطر الفاسدة.

(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) : أي إن أذاكم لرسول الله كان عند الله ذنبا عظيما.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) : أي إن تظهروا رغبة في نكاح أزواج الرسول بعد وفاته أو تخفوه في نفوسكم فسيجزيكم الله به شر الجزاء.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) الخ : أي لا حرج على نساء الرسول في أن يظهرن لمحارمهن المذكورين في الآية.

٢٨٦

(وَلا نِسائِهِنَ) : أي المؤمنات أما الكافرات فلا.

(وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) : أي من الإماء والعبيد في أن يرونهن ويكملونهن من دون حجاب.

(وَاتَّقِينَ اللهَ) : أي يا نساء النبي فيما أمرتن به من الحجاب وغيره.

معنى الآيات :

لما بين تعالى لرسوله ما ينبغي له مراعاته من شأن أزواجه أمهات المؤمنين بين تعالى بهذه الآية (٥٣) ما يجب على المؤمنين مراعاته أيضا نحو أزواج النبي أمهاتهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) حقا وصدقا (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) بالدخول إلى طعام تطعمونه غير (١) ناظرين إناه أي وقته ، وذلك أن هذه الآية والمعروفة بآية الحجاب نزلت في شأن نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أكلوا طعام الوليمة التى أقامها رسول الله لما زوّجه الله بزينب بنت جحش رضى الله عنها ، وكان الحجاب ما فرض بعد على النساء مكثوا بعد انصراف الناس يتحدثون فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أمامهم لعلهم يخرجون فما خرجوا وتردد رسول الله على البيت فيدخل ويخرج رجاء أن يخرجوا معه فلم يخرجوا واستحى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم هيا فاخرجوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى غير ناظرين إناه (٢) يعني ذلك النفر ومن يريد أن يفعل فعلهم فإذا وجه إليه أخوه استدعاء لحضور وليمة بعد الظهر مثلا أتى إلى المنزل من قبل الظهر يضايق اهل المنزل فهذا معنى غير ناظرين إناه أي وقته لأن الإنى هو الوقت.

وقوله ولكن إذا دعيتم فادخلوا أي فلا تدخلوا بدون دعوة أو إذن فاذا طعمتم أي فرغتم من الأكل فانصرفوا منتشرين في الأرض فهذا الى بيته وهذا الى بيت ربه وهذا إلى عمله. وقوله : (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي ولا تمكثوا بعد الطعام يحدث بعضكم بعضا مستأنسين بالحديث. حرم تعالى هذا عليكم أيها المؤمنون لأنه يؤذى رسوله. وان كان الرسول لكمال أخلاقه لا يأمركم بالخروج حياء منكم فالله لا يستحي من الحق فلذا أمركم بالخروج بعد الطعام

__________________

(١) غير ناظرين إناه غير منصوب على الحال والآية تضمنت الأدب في حال الجلوس والطعام كما تضمنت مشروعية الحجاب.

(٢) أي غير منتظرين وقت نضجه ، واناه مقصور ، وفيه لغات إني بكسر الهمزة وأني بفتح الهمزة والنون وأنا بفتح الهمزة والمد قال الحطيئة :

وأخرت العشاء إلى سهيل

أو الشعرى فطال بي الاناء

والفعل أنى يأنى أنى إذا حان وأدرك وفرغ.

٢٨٧

مراعاة لمقام رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ (١) مَتاعاً) أي طلبتم شيئا من الأمتعة التى توجد في البيت كإناء ونحوه فاسألوهن من وراء حجاب أي باب وستر ونحوهما لا مواجهة لحرمة النظر إليهن. وقوله ذلكم أطهر لقلوبكم أنتم أيها الرجال وقلوبهن أيتها الأمهات أطهر أي من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب فحل أنثى أو خاطبت امرأة فحلا من الرجال.

وقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ) أي ما ينبغي ولا يصح أن تؤذوا رسول الله أي أذى ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أي ولا أن تتزوجوا بعد وفاته نساءه فإنهن محرمات على الرجال تحريم الأمهات تحريما مؤبدا لا يحل بحال ، وقوله تعالي : (إِنَ (٢) ذلِكُمْ) أي المذكور من أذى رسول الله والزواج من بعده بنسائه كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنبا عظيما لا يقادر قدره ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٣) وقوله تعالى (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي تظهروه أو تخفوه أي تستروه يريد من الرغبة في الزواج من نساء الرسول بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الله كان بكل شيء عليما وسيجزيكم بتلك الرغبة التي أظهرتموها أو أخفيتموها في نفوسكم شرّ الجزاء وأسوأه. فاتقوا الله وعظموا ما عظم من حرمات رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا ما دلت عليه الآية (٥٤).

وقوله تعالى في الآية (٥٥) لا جناح عليهن (٣) أي لا تضييق ولا حرج ولا إثم على النساء المؤمنات من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين في أن يظهرن وجوههن ويكلمن بدون حجاب أي وجها لوجه آباءهن الأب والجد وان علا ، وابناءهن الابن وابن الابن وان نزل وابن البنت كذلك وان نزل. واخوانهن وابناء اخوانهن وان نزلوا وأبناء اخواتهن وان نزلوا ، ومما ليكهن من إماء وعبيد.

وقوله تعالى (وَاتَّقِينَ (٤) اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) أمر من الله لنساء النبي ونساء المؤمنين بتقوى الله فيما نهاهن عنه وحرمه عليهن من ابداء الوجه للأجانب غير المحارم المذكورين في

__________________

(١) روى ابو داود عن أنس بن مالك قال عمر : وافقت ربي في أربع الحديث وفيه قلت يا رسول الله لو ضربت الحجاب على نسائك يدخل عليهن البر والفاجر فأنزل الله عزوجل وإذا سألتموهن الآية.

(٢) روى أن رجلا من المنافقين لما تزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة قال : فما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فحرم الله نكاح أزاجه من بعده وجعل لهن حكم الأمهات وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجاتي في الدنيا هن زوجاتي في الآخرة وهذه علة من علل التحريم أيضا.

(٣) روى انه لما نزلت آية الحجاب تساءل الآباء والأقارب : هل نحن أيضا لا نكلمهن إلا من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية لا جناح عليهن في آبائهن الخ.

(٤) لما ذكر تعالى الرخصة للمحارم أمر النساء بتقواه تعالى فأمرهن بذلك حتى لا يتجاوز من أذن لهن بالنظر إليهم في المحارم إلى غيرهم وذلك لقلة تحفظ النساء وكثرة استرسالهن.

٢٨٨

الآية وتذكيرهم بشهود الله تعالى لكل شيء واطلاعه على كل شيء ليكون ذلك مساعدا على التقوى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما ينبغي للمؤمنين ان يلتزموه من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت لحاجة الطعام ونحوه.

٢ ـ بيان كمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلقه فى أنه ليستحي أن يقول لضيفه أخرج من البيت فقد انتهى الطعام.

٣ ـ وصف الله تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق أن يقوله ويأمر به عباده.

٤ ـ مشروعية مخاطبة الأجنبية من وراء حجاب ستر ونحوه.

٥ ـ حرمة أذية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانها جريمة كبرى لا تعادل بأخرى.

٦ ـ بيان أن الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا كلم المرأة ونظر إليها.

٧ ـ حرمة نكاح ازواج الرسول بعد موته وحرمة الخاطر يخطر بذلك.

٨ ـ بيان المحارم الذين للمسلمة أن تكشف وجهها أمامهم وتخاطبهم بدون حجاب.

٩ ـ الأمر بالتقوى ووعيد الله لمن لا يتقه في محارمه.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩))

٢٨٩

شرح الكلمات :

(يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) : صلاة الله على النبي هي ثناؤه ورضوانه عليه ، وصلاة الملائكة دعاء واستغفار له ، وصلاة العباد عليه تشريف وتعظيم لشأنه.

(صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) : أي قولوا : اللهم صل على محمد وسلم تسليما.

(يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي بسب أو شتم أو طعن أو نقد.

(يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) : أي يرمونهم بأمور يوجهونها إليهم تهما باطلة لم يكتسبوا منها شيئا.

(فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) : أي تحملوا كذبا وذنبا بينا ظاهرا.

(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) : أي يرخين على وجههن الجلباب حتى لا يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) : أي ذلك الإدناء من طرف الجلباب على الوجه أقرب.

(فَلا يُؤْذَيْنَ) : أي يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذى.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : أي غفورا لمن تاب من ذنبه رحيما به بقبول توبته وعدم تعذيبه بذنب تاب منه.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات السابقة ما يجب على المؤمنين من تعظيم نبيّهم واحترامه حيا وميتا أعلن في هذه الآية (٥٦) عن شرف نبيّه الذي لا يدانيه شرف وعن رفعته التي لا تدانيها رفعة فأخبر أنه هو سبحانه وتعالى يصلى عليه وأن ملائكته كذلك يصلون (١) عليه وأمر المؤمنين كافة أن يصلوا عليه فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فكان واجبا على كل مؤمن ومؤمنة أن يصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو مرة في العمر يقول :

__________________

(١) اختلف في الضمير في (يُصَلُّونَ) على من يعود والصحيح أنه عائد على الله تعالى والملائكة معا ولا حرج لأنه قول الله تعالى ولله أن يرفع من يشاء من عباده لجمع ضمير الملائكة مع ضميره ، وليس هذا من باب ومن يعصهما الذي أنكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ذاك من قول خطيب وهذا قول الله تعالى وليس من حقنا أن نعترض على الله تعالى وروى أن ابن عباس قرأ وملائكته بالرفع أي يصلون وعليه فانفصل الضمير وأصبح خاصا بالله تعالى وهو وجه وما تقدم أولى لقراءة الكافة بالنصب.

٢٩٠

اللهم صل على محمد وسلم تسليما. وقد بينت السنة أنواعا من صيغ الصلاة والسّلام على الرسول أعظمها أجرا الصلاة الإبراهيمية (١) وهي واجبة في التشهد الأخير من كل صلاة (٢) فريضة أو نافلة ، وتستحب استحبابا مؤكدا عند ذكره (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مواطن أخرى. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٦) أما الآية الثانية (٥٧) فقد أخبر تعالى عباده أن الذين يؤذون الله بالكذب (٤) عليه أو انتقاصه بوصفه بالعجز أو نسبة الولد إليه أو الشريك وما إلى ذلك من تصوير الحيوان إذ الخلق اختص به الله فلا خالق الا هو فلا تجوز محاكاته في الخلق ، ويؤذون (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسب أو شتم أو انتقاص أو تعرض له أو لآل بيته أو أمته أو سنته أو دينه هؤلاء لعنهم الله في الدنيا والآخرة أي طردهم من رحمته ، وأعد لهم أي هيأ واحضر لهم عذابا مهينا لهم يذوقونه بعد موتهم ويوم بعثهم يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (٥٨) أما الآية الرابعة (٥٩) فإنه لما كان المؤمنات يخرجن بالليل لقضاء الحاجة البشرية إذ لم يكن لهم مراحيض في البيوت وكان بعض سفهاء المنافقين يتعرضون لهن بالغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإماء لا الحرائر فتأذى بذلك المؤمنات وشكون إلى أزواجهن ما يلقين من تعرض بعض المنافقين لهن فأنزل الله تعالى هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ (٦) وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) والجلباب هو الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل ، أي مرهنّ بأن يدنين من طرف الملاءة على الوجه حتى لا يبقى إلا عين واحدة ترى بها الطريق ، وبذلك يعرفن انهن حرائر عفيفات فلا يؤذيهنّ بالتعرض لهن أولئك المنافقون السفهاء عليهم لعائن الله. وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أخبر عباده أنه تعالى كان وما زال غفورا لمن تاب من عباده رحيما به فلا يعذبه بعد توبته.

__________________

(١) صيغة الصلاة الإبراهيمية هي : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.

(٢) غير ضار أن يقول المالكية الصلاة سنة مؤكدة في التشهد الأخير إذ السنة المؤكدة عند المالكية هي الواجب عند الشافعي وأحمد وإذا فلا فرق.

(٣) من هذه المواطن بدء الدعاء وختمه ، وافتتاح الخطبة بعد حمد الله والثناء عليه ويوم الجمعة وليلتها ورد في فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحاديث منها ، حديث مسلم من صلى عليّ مرة صلّى الله بها عشرا وروى النسائى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عليهم يوما والبشر يرى في وجهه فقالوا إنا لنرى البشر في وجهك فقال : أتاني الملك فقال : «يا محمد إن ربك يقول أما برضيك أنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشرا».

(٤) روى البخاري في صحيحه قال قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة يقول الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإن شئت قبضتهما.

(٥) من أفظع أنواع الأذى الذي تعرض له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يوما يصلي حول الكعبة فجاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور ووضعه على ظهره بين كتفيه الشريفتين فجاءت فاطمة وهي جويرية صغيرة فألقته بعيدا عن ظهر أبيها ونالت من المشركين وانصرفت فرضى الله عنها وارضاها.

(٦) تقدم ذكر أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما بناته ففاطمة الزهراء وزينب ورقية وأم كلثوم.

٢٩١

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شرف الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب الصلاة والسّلام عليه في التشهد الأخير في الصلاة.

٢ ـ بيان ما يتعرض له من يؤذى الله ورسوله من غضب وعذاب.

٣ ـ بيان مقدار ما يتحمله من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالقول فينسب إليهم ما لم يقولوا أو لم يفعلوا أو يؤذيهم بالفعل بضرب جسم أو أخذ مال أو انتهاك عرض.

٤ ـ وجوب تغطية المؤمنة وجهها إذا خرجت لحاجتها الا ما كان من عين ترى بها الطريق ، واليوم بوجود الأقمشة الرقيقة لا حاجة الى ابداء العين اذ تسبل قماشا على وجهها فيستر وجهها وترى معه الطريق واضحا والحمد لله.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢))

شرح الكلمات :

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) : أي عن نفاقهم وهو إظهار الإيمان واخفاء الكفر.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي مرض حب الفجور وشهوة الزنا.

(وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) : أي الذين يأتون بالأخبار الكاذبة لتحريك النفوس وزعزعتها كقولهم العدو على مقربة من المدينة أو السرية الفلانية قتل أفرادها وما إلى ذلك.

(لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) : أي لنسلطنك عليهم ولنحرشنك بهم.

(ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) : أي في المدينة الا قليلا من الأيام ثم يخرجوا منها أو يهلكوا.

٢٩٢

(مَلْعُونِينَ) : أي مبعدين عن الرحمة.

(أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا) : أينما وجدوا أخذوا أسرى وقتلوا تقتيلا.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) : أي سن الله هذا سنة فى الأمم الماضية اينما ثقف المنافقون والمرجفون أخذوا وقتلوا تقتيلا.

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) : أي منه تعالى إذ هي ليست أحكاما يطرأ عليها التبديل والتغيير بل هي سر التشريع وحكمته.

معنى الآيات :

لقد تقدم أن بعض النسوة اشتكين ما يلقينه من تعرض المنافقين لهن عند خروجهن ليلا لقضاء الحاجة ، وأن الله تعالى أمر نساء المؤمنين أن يدنين من جلابيبهن وعلة ذلك أن يعرفن أنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون وكان ذلك إجراء وقائيا لا بد منه ، ثم أقسم الجبار بقوله (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ (١) الْمُنافِقُونَ) أي وعزتي وجلالي لئن لم ينته هؤلاء المنافقون من نفاقهم وأعمالهم الاستفزازية والذين في قلوبهم مرض الشهوة وحب الفجور والمرجفون الذين يكذبون الأكاذيب المرجفة أي المحركة للنفوس كقولهم : العدو زاحف على المدينة والسرية الفلانية انهزمت أو قتل أكثر افرادها لئن لم ينته هؤلاء لنغرينك (٢) بهم أي لنحرشنّك بهم ثم لنسلّطنّك عليهم. ثم لا يجاورونك فيها أي في المدينة الا قليلا ، ثم يخرجوا منها أو يهلكوا ملعونين أي يخرجون ملعونين أي مطرودين من الرحمة الإلهية التي تصيب سكان المدينة النبوية ، وحينئذ أينما ثقفوا أي وجدوا وتمكن منهم أخذوا أي أسرى وقتلوا تقتيلا حتى لا يبقى منهم أحد.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٠) (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ..) والثانية (٦١) (مَلْعُونِينَ ...) الخ. أما الآية الثالثة (٦٢) (سُنَّةَ اللهِ (٣) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ، أي لقد سن الله تعالى هذا سنة في المنافقين من أنهم إذا لم ينتهوا يلعنون ثم يسلط عليهم من يأخذهم ويقتلهم تقتيلا ، وقوله : (وَلَنْ (٤) تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) يخبر تعالى أن ما كان من قبل السنن كالطعام

__________________

(١) يرى الكثيرون أن الصفات الثلاث لجنس واحد وهم المنافقون فقد اجتمعت فيهم هذه الصفات الثلاث والواو مفحمة وليست للعطف وشاهده قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

فهو رجل واحد بثلاث صفات.

(٢) لنغرينك اللام للقسم أي وعزتنا وجلالنا لنغرينك.

(٣) سنه منصوب على المصدر أي سنّ الله تعالى ذلك سنة ثم أضيف المصدر إلى فاعله.

(٤) الجملة تذييلية المراد بها تأكيد العذاب الحائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهو أو يتوبوا والمعنى لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا.

٢٩٣

يشبع والماء يروى والنار تحرق والحديد يقطع لا يبدله تعالى بل يبقى كذلك لأنه مبني على أساس الحكم التشريعية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالمنافقين وتهديدهم بامضاء سنة الله تعالى فيهم إذا لم يتوبوا.

٢ ـ مشروعية إبعاد أهل الفساد من المدن الإسلامية أو يتوبوا بترك الفساد والإفساد ، وخاصة المدينة النبوية الشريفة.

٣ ـ بيان ان ما كان من الأشياء من قبل السنن لا يتبدل بتبدل الأحوال والظروف بل يبقى كما هو لا يبدله الله تعالى ولا يغيره.

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨))

شرح الكلمات :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) : أي يهود المدينة كما سأله أهل مكة فاليهود سألوه امتحانا والمشركون تكذيبا بها واستعجالا لها.

(قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) : أي أجب السائلين قائلا انما علمها عند ربي خاصة فلم يعلمها غيره.

(وَما يُدْرِيكَ) : أي لا أحد يدريك أيها الرسول أي يخبرك بها إذ علمها لله وحده.

٢٩٤

(لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) : أي وما يشعرك أن الساعة قد تكون قريبة القيام.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) : أي نارا متسعرة.

(خالِدِينَ فِيها) : أي مقدرا خلودهم فيها إذ الخلود يكون بعد دخولهم فيها.

(تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) : أي تصرف من جهة إلى جهة كاللحم عند شيّه يقلب في النار.

(يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ) : أي يتمنون بأقوالهم لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) : هذا قول الأتباع يشكون الى الله سادتهم ورؤساءهم.

(فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) : أي طريق الهدى الموصل إلى رضا الله عزوجل بطاعته.

(آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) : أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا لأنهم أضلونا.

(وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) : أي أخزهم خزيا متعدد المرات في عذاب جهنم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) (١) أي ميقات مجيئها والسائلون مشركون وأهل الكتاب فالمشركون يسألون عنها استبعادا لها فسؤالهم سؤال استهزاء واليهود يسألون امتحانا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره تعالى أن يجيب السائلين بجواب واحد وهو إنما علمها عند الله ، أي انحصر علمها في الله تعالى إذ أخفى الله تعالى أمرها عن الملائكة والمقربين منهم والأنبياء والمرسلين منهم كذلك فضلا عن غيرهم فلا يعلم وقت مجيئها الا هو سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ) أي لا أحد يعلمك بها أيها الرسول ، وقوله (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) أي وما يشعرك يا رسولنا لعل الساعة تكون قريبة القيام وهي كذلك قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) فأعلم بالقرب ولم يعلم بالوقت لحكم عالية منها استمرار الحياة كما هي (٢) حتى آخر ساعة.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) المكذبين بالساعة المنكرين لرسالتك الجاحدين بنبوتك لعنهم فطردهم من رحمته أعدلهم نارا مستعرة في جهنم خالدين فيها إذا دخلوها لم

__________________

(١) شاهد قرب الساعة في السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى. وحذفت التاء من قريبا ذهابا بالساعة إلى اليوم كما حذفت من قريب في قوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ذهابا بالرحمة إلى العفو.

(٢) من الحكم العالية لإخفاء الساعة أن يكون العبد مستعدا لها بالإيمان وصالح الأعمال في كل وقت وكذلك ساعة الفرد وهي الموت.

٢٩٥

يخرجوا منها أبدا (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) أي يتولاهم فيدفع العذاب عنهم (وَلا نَصِيراً) أي ينصرهم ويخلصهم من محنتهم في جهنم. وقوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) (١) تصرف من جهة إلى جهة كما يقلب اللحم عند شيّه يقولون عند ذلك يا ليتنا اطعنا الله وأطعنا الرسول يتحسرون متمنين لو أنهم أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ولم يكونوا عصوا الله والرسول. وقوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) (٢) هذه شكوى منهم واعتذارا وانى لهم أن تقبل شكواهم وينفعهم اعتذارهم. اطعناهم فيما كانوا يأمروننا به من الكفر والشرك وفعل الشر فاضلونا السبيلا أي طريق الهدى فعشنا ضالين ومتنا كافرين وحشرنا مع المجرمين. (رَبَّنا) أي يا ربنا (آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) أي ضاعف يا ربنا لسادتنا وكبراءنا الذين أضلونا ضاعف لهم العذاب فعذبهم ضعفى عذابنا ، والعنهم أي واخزهم في العذاب خزيا كبيرا يتوالى (٣) عليهم دائما وأبدا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن علم الساعة استأثر الله به فلا يعلم وقت مجئيها غيره.

٢ ـ بيان أن الساعة قريبة القيام ، ولا منافاة بين قربها وعدم علم قيامها.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر احوال الكافرين فيها.

٤ ـ بيان أن طاعة السادة والكبراء في معاصي الله ورسوله يعود بالوبال على فاعليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ

__________________

(١) وجائز أن تقلب الوجوه أيضا من لفح النار من الاسوداد إلى الاخضرار.

(٢) قرىء ساداتنا بكسر التاء جمع سيد.

(٣) الضعف بكسر الضاد العدد المماثل للمعدود فالأربعة ضعف الاثنين وقرى كثيرا وكبيرا وكثيرا يناسب قولهم ضعفين.

٢٩٦

وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي يا من صدقوا بالله ورسوله ولقاء الله وما جاء به رسول الله.

(لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) : أي لا تكونوا مع نبيكم كما كان بنو اسرائيل مع موسى إذ آذوه بقولهم إنه ما يمنعه من الاغتسال معنا إلا أنه آدر.

(فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) : أي أراهم أنه لم يكن به أدرة وهي انتفاخ احدى الخصيتين.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) : أي ذا جاه عظيم عند الله فلا يخيّب له مسعى ولا يرد له مطلبا.

(وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) : أي صدقا صائبا.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) : أي الدينيّة والدنيوية إذ على الصدق والموافقة للشرع نجاح الأعمال والفوز بثمارها.

(فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) : أي نال غاية مطلوبة وهو النجاة من النار ودخول الجنة.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) : أي ما ائتمن عليه الإنسان من سائر التكاليف الشرعية وما ائتمنه عليه أخوه من حفظ مال أو قول أو عرض أو عمل.

(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) : أي رفضن الالتزام بها وخفن عاقبة تضييعها.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) : أي آدم وذريّته.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) : أي لأنه كان ظلوما أي كثير الظلم لنفسه جهولا بالعواقب.

٢٩٧

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) : أي وتحملها الإنسان قضاء وقدرا ليرتب الله تعالى على ذلك عذاب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب على المؤمنين والمؤمنات فيغفر لهم ويرحمهم وكان الله غفورا رحيما.

معنى الآيات :

قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى ينادى الله تعالى مؤمني هذه الأمة ناهيا لهم عن أذى نبيّهم بأدنى أذى ، وأن لا يكونوا كبنى اسرائيل الذين آذوا موسى في غير موطن ومن ذلك ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه في قوله من رواية مسلم (١) ان بنى اسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده فقالوا : ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر ، فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه (٢) على حجر وأخذ يغتسل وإذا بالحجر يهرب بالثوب فيجرى موسى ورارءه حتى وقف به على جمع من بنى اسرائيل فرأوا أنه ليس به أدره ولا برص كما قالوا فهذا معنى فبرّأه الله مما قالوا ، وكان عند الله وجيها أي ذا جاه عظيم.

ومما حصل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى أذاه في إتهام زوجه بالفاحشة من قبل أصحاب الإفك وقول بعضهم له وقد قسم مالا هذه قسمة ما أريد به وجه الله.

وقول بعضهم اعدل فينا يا رسول الله فقال له ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل؟

وكان يقول يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر!! هذا ما دلت عليه الآية الاولى (٦٩) أما الآية الثانية (٧٠) فقد نادى تعالى عباده المؤمنين الذين نهاهم عن أذيّة نبيهم وأن لا يكونوا في ذلك كقوم موسى بن عمران ناداهم ليأمرهم بأمرين الأول بتقواه عزوجل إذ قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله. (اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه. فأدوا فرائضه واجتنبوا محارمه. والثاني بالتزام القول الحق الصائب (٣) السديد ، ورتّب على الأمرين صلاح أعمالهم ومغفرة ذنوبهم إذ قول الحق والتزام الصدق مما يجعل الأقوال والأعمال مثمرة نافعة ، فتثمر زكاة النفس وطهارة الروح. ثم أخبرهم مبشرا إياهم بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر والنهي فقد فاز فوزا عظيما وهي سعادة الدارين : النجاة من كل مخوف والظفر بكل محبوب مرغوب ومن

__________________

(١) ورواه البخاري بمعناه أيضا.

(٢) قال أهل العلم في وضع موسى ثوبه على حجر ودخوله الماء عريانا دليل على جواز مثل هذا الصنيع وهو كذلك ، وهذا الجواز لا يتنافى الاستحباب إذ التستر مستحب بلا خلاف.

(٣) القول السديد هو لا إله إلا الله وهو القصد الحق وهو الذي يوافق ظاهره باطنه ، وهو ما أريد به وجه الله دون سواه فالقول السديد الصائب يشمل كل هذا الذي ذكر.

٢٩٨

ذلك النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما تضمنه قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) وقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) يخبر تعالى منبها محذرا فيقول : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) (١) وهي شاملة للتكاليف الشرعية كلها ولكل ما أئتمن عليه الإنسان من شيء يحفظه لمن ائتمنه عليه حتى يرده إليه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بعد أن خلق لها عقلا ونطقا ففهمت الخطاب وردت الجواب فأبت تحملها بثوابها واشفقت وخافت من تبعتها ، وعرضت على الإنسان آدم فحملها بتبعتها من ثواب وعقاب لأنه كان ظلوما لنفسه يوردها موارد السوء جهولا بعواقب الأمور. هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (٧٢) وهي قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان إنه كان ظلوما (٢) جهولا. وقوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ (٣) اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ (٤) وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي بتبعة النفاق والشرك ، ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات أي تمّ عرض الأمانة وقبول آدم لها ليؤول الأمر إلى أن يكفر بعض أفراد الإنسان فيعذبوا بكفرهم الذي نجم عن تضييع الأمانة ، ويؤمن بعض آخر فيفرط بعض التفريط ويتوب فيتوب الله عليه فيغفر له ويدخله الجنة وكان الله غفورا رحيما ومن آثار ذلك أن تاب الله على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم ورحمهم بإدخالهم الجنة فسبحان الله المدبر الحكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تقوى الله عزوجل بفعل الأوامر واجتناب المناهى.

٢ ـ صلاح الأعمال لتثمر للعاملين الزكاة للنفس ، وطيب الحياة متوقف على التزام الصدق في

__________________

(١) روى معمر عن الحسن أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال قالت وما فيها؟ قيل لها إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت فقالت لا قال مجاهد فلما خلق الله آدم عرضها عليه قال وما هي؟ قال إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج من الجنة الا قدر ما بين الظهر والعصر.

(٢) فكان الإنسان فريقين فريق ظلوم وفريق راشد عالم.

(٣) ليعذب اللام متعلقة بحمل أي حملها ليعذب العاصي ويثاب المطيع فهي لام التعليل وتعذيبهم نتيجة إضاعتهم الأمانة ، ورحمة المؤمنين والمؤمنات نتيجة محافظتهم على الأمانة برعايتهم لها وسر ذلك أن التكاليف عملها يزكى النفس ويطهرها فتتأهل للجنة ، وعدم عملها بتركها يسبب خبث النفس وهو يؤهل للنار وعذابها.

(٤) ذكر المنافقات والمشركات لأن المقام كمقام الإشهاد يتطلب ذكر الشاهد إقامة للحجة وإظهارا للعدالة ولأن الجزاء العادي يتطلب التنصيص على من يقضي له أو عليه.

٢٩٩

القول والعمل وهو القول السديد المنافى للكذب والانحراف في القول والعمل.

٣ ـ طاعة الله ورسوله سبيل الفوز والفلاح في الدارين.

٤ ـ وجوب رعاية الأمانة وأدائها ، ولم يخل أحد من أمانة.

٥ ـ وصف الإنسان بالظلم والجهل وبالكفر والمهانة والضعف في آيات أخرى يستلزم طلب علاج لهذه الصفات. وعلاجها جاء مبينا في سورة المعارج في قوله (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) الى قوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

سورة سبأ (١)

مكية

وآياتها أربع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي الوصف بالجميل واجب لله مستحق له.

(الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) : أي يحمده فيها أولياؤه وهم في رياض الجنان ، كما له الحمد في الدنيا.

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) : أي الحكيم في أفعاله الخبير بأحوال عباده.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : أي ما يدخل فيها من مطر وأموات وكنوز.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) : أي من نبات وعيون ومعادن.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) : أي من ملائكة وأمطار وأرزاق ونحوها.

__________________

(١) هذه السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي إحدى خمس سور مفتتحة بالحمد لله وهن كلهن مكيات أولهن الفاتحة وآخرهن فاطر.

٣٠٠