أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

شرح الكلمات :

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : أي لم يخلق الله رجلا بقلبين كما ادعى بعض المشركين.

(تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) : يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي.

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) : أي ولم يجعل الدعيّ إبنا لمن ادّعاه.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) : أي مجرد قول باللسان لا حقيقة له في الخارج فلم تكن المرأة أما ولا الدعي ابنا.

(هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) : أي أعدل.

(فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) : أي أخوة الإسلام وبنو عمكم فمن لم يعرف أبوه فقولوا له : يا أخي أو ابن عمي.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) : أي لا حرج ولا اثم في الخطأ ، فمن قال للدعي خطأ يا ابن فلان فلا إثم عليه.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) : أي الاثم والحرج في التعمد بأن ينسب الدعي لمن ادعاه.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : ولذا لم يؤاخذكم بالخطأ ولكن بالتعمد.

معنى الآيات :

لما كان القلب محط العقل والإدراك كان وجود قلبين في جوف رجل واحد يحدث تعارضا يؤدي إلى الفساد في حياة الإنسان ذي القلبين لم يجعل الله تعالى لرجل قلبين في جوفه كما ادعى بعض أهل مكة أن أبا معمر جميل بن معمر الفهري كان له قلبان لما شاهدوا من ذكائه ولباقته وحذقه وغره ذلك فقال إن لي قلبين أعقل بهما أفضل من عقل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت الآية ردا عليه قال تعالى (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ (١) مِنْ قَلْبَيْنِ (٢) فِي جَوْفِهِ) وفيه إشارة إلى أنه لا يجمع بين حب الله تعالى وحب أعدائه وطاعة الله وطاعة

__________________

(١) يروى أنه لما انهزمت قريش يوم بدر رأى أبو سفيان جميل بن معمر المدعى أن له قلبين رآه منهزما واحدى نعليه في رجله والأخرى في يده ، فسأله أبو سفيان ما حال الناس؟ قال انهزموا فقال له ما بال أحد نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟

قال : ما شعرت فانفضح في دعواه.

(٢) القلب بضعة لحم صغيرة على هيئة (صنوبرة) خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم ، وهو بين لمتين لمة من الملك ولمة من الشيطان ، وهو محل العلم ومحل الخطرات والوساوس ومحل الصدق واليقين ومحل الشك والكذب ، ومحل الانزعاج والطمأنينة فسبحان الله الخلاق العليم.

٢٤١

أعدائه ، وقوله ، (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) أي لم يجعل الله تعالى المرأة المظاهر منها أما لمن ظاهر منها كأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي وكان أهل الجاهلية يعدون الظهار محرّما للزوجة كالأم فأبطل الله تعالى ذلك وبيّن حكمه في سورة المجادلة ، وأن من ظاهر من امرأته يجب عليه كفارة : عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا.

وقوله تعالى (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ (١) أَبْناءَكُمْ) أي لم يجعل الله الدعيّ إبنا إذ كانوا في الجاهلية وفي صدر الإسلام يطلقون على المتبنّي إبنا فيترتب على ذلك كامل حقوق البنوة من حرمة التزوج بامرأته إن طلقها أو مات عنها ، وقوله (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي ما هو إلا نطق بالفم ولا حقيقة في الخارج له إذ قول الرجل للدعيّ أنت ولدي لم يصيّره ولده وقول الزوج لزوجته انت كأمي لم تكن أما له. وقوله تعالى (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) فلا يطلق على المظاهر منها لفظ أم ، ولا على الدعي لفظ ابن ، (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي الأقوم والأرشد سبحانه لا إله إلا هو.

وقوله تعالى في الآية (٥) من هذا السياق (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي ادعوا الأدعياء لآبائهم أي انسبوهم لهم يا فلان بن فلان. فإن دعوتهم إلى آبائهم أقسط وأعدل في حكم الله وشرعه. (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فادعوهم باسم الإخوة الإسلامية فقولوا هذا أخي في الإسلام. (وَمَوالِيكُمْ) أي بنو عمكم فادعوهم بذلك فقولوا يابن عمي وإن كان الدعي ممن حررتموه فقولوا له مولاي (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) أي إثم أو حرج (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (٢) من قول أحدكم للدعي يا ابن فلان لمن ادعاه خطأ لسان بدون قصد ، أو ظنا منكم أنه إبنه وهو في الواقع ليس ابنه ولكن الاثم في التعمد والقصد المتعمد ، وقوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي غفورا لمن تاب رحيما لم يعاجل بالعقوبة من عصى لعله يتوب ويرجع.

__________________

(١) هذه الآية نزلت في شأن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ تبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة النبوية ، إذ كان عبدا رقيقا لخديجة فأهدته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما جاء أبوه وعرفه طلبه فخيره رسول الله بين الذهاب مع والده والبقاء معه فاختار العبودية على الحرية فتبناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح من يومئذ يعرف بزيد بن محمد حتى نزلت هذه الآية فأبطلت التبني ففي هذا نسخ للسنة بالكتاب.

(٢) أخذ عطاء وكثير من العلماء من السلف أخذوا من هذه الآية انه لا مؤاخذه مع الخطأ من ذلك إذا حلف المرء ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يظن أنه هو فإنه لا يحنث ، أو حلف أن لا يفارق غريمه حتى يقضيه دينه فأعطاه دراهم فوجدها زيوفا لا يحنث ، وروى البخاري من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ، كما روى «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر».

٢٤٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) إبطال التحريم بالظهار الذي كان في الجاهلية.

٢) ابطال عادة التبنّي ، وما يترتب عليها من حرمة نكاح امرأة المتبنّى.

٣) وجوب دعاء الدعي المتبنّى بأبيه إن عرف ولو كان حمارا.

٤) إن لم يعرف للمدعي أب دعي بعنوان الإخوة الإسلامية ، أو العمومة أو المولوية

٥) رفع الحرج والإثم في الخطأ عموما وفيما نزلت فيه الآية الكريمة خصوصا وهو دعاء الدعي باسم مدعيه سبق لسان بدون قصد ، أو بقصد لأنه يرى انه ابنه وهو ليس ابنه.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

شرح الكلمات :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلب منهم هو أحق به من أنفسهم.

(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : في الحرمة وسواء من طلقت أو مات عنها منهن رضى الله عنهن.

٢٤٣

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) : أي في التوارث من المهاجرين والمتعاقدين المتحالفين.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) : بأن توصوا لهم وصيّة جائزة وهي الثلث فأقل.

(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) : أي عدم التوارث بالإيمان والهجرة والحلف مكتوب في اللوح المحفوظ.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) : أي أذكر لقومك أخذنا من النبيين ميثاقهم على أن يعبدوا الله وحده ويدعوا إلى عبادته.

(وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : أي وأخذنا بخاصة منك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ، وقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذكر تشريفا وتعظيما له.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) : أي شديدا والميثاق : العهد المؤكد باليمين.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) : أي أخذ الميثاق من أجل أن يسأل الصادقين وهم الأنبياء عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا للكافرين بهم.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) : أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين عذابا أليما أي موجعا.

معنى الآيات :

لما أبطل الله تعالى عادة التبنّي وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبنى زيد بن حارثة الكلبي فكان يعرف بزيد بن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح بذلك يدعى بزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم تعالى كافة المؤمنين أن نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وان أزواجه أمهاتهم (١) في الحرمة فلا تحل امرأة النبي لأحد بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى أن (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ (٢) مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

__________________

(١) هذه الأمومة إنما هي في حرمة النكاح والبر والتعظيم والإجلال أما في الإرث فلا كما أنه لا تبيح النظر إليهن والخلوة بهن كالأمهات فلذا ضرب الله الحجاب عليهن وقال : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب.

(٢) صح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصلي على ميت ترك دينا ولم يترك سدادا فلما فتح الله عليه ، قال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفى وعليه دين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته وقال أيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه ، فأكد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفعل والقول هذه الحقيقة.

٢٤٤

أي فيما يأمرهم به وينهاهم عنه ويطلبه منهم هو أحق به من أنفسهم ، وبذلك أعطى الله تعالى رسوله من الرفعة وعلوّ الشأن ما لم يعط أحدا غيره جزاء له على صبره على ما أخذ منه من بنوّة زيد رضي الله عنه الذي كان يدعى بزيد بن محمد فأصبح يعرف بزيد بن حارثة.

وقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (١) يريد في الإرث فأبطل تعالى بهذه الآية التوارث بالإيمان والهجرة والحلف الذي كان في صدر الإسلام وأصبح التوارث بالنسب والمصاهرة والولاء لا غير. وقوله (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) التوارث بالأرحام أي بالقرابات مكتوب في اللوح المحفوظ وقوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) أي إلا أن توصوا بوصيّة جائزة وهي الثلث لأحد من المؤمنين والمهاجرين ومن حالفتم فلا بأس فهي جائزة ولا حرمة (٢) فيها ، وقوله (كانَ ذلِكَ) أي المذكور من التوارث بالقرابات لا غير وجواز الوصيّة بالثلث لمن أبطل ارثهم بالإيمان والهجرة والمؤاخاة ، في اللوح المحفوظ وهو كتاب المقادير مسطورا أي مكتوبا مسطرا فلا يحل تبديله ولا تغييره. وقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ (٣) مِيثاقَهُمْ) أي اذكر يا رسولنا لقومك أخذنا الميثاق وهو العهد المؤكد باليمين من النبيين عامة بأن يعبدوا الله وحده ويدعوا أممهم إلى ذلك ، ومن أولى العزم من الرسل خاصة وهم أنت يا محمد ونوح (٤) وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم وقوله (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أعيد اللفظ تكرارا لتقريره ، وليرتب عليه قوله (لِيَسْئَلَ) تعالى يوم القيامة (الصَّادِقِينَ) (٥) وهم الأنبياء (عَنْ صِدْقِهِمْ) في تبليغ رسالتهم تقريعا لأممهم الذين كفروا وكذبوا. فأثاب المؤمنين (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي موجعا وهو عذاب النار

__________________

(١) (أَوْلى بِبَعْضٍ) متعلق (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي أولو الأرحام بعضم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين وذلك في كتاب الله المتضمن لشرعه وهو القرآن والمتضمن لقضائه وقدره وهو اللوح المحفوظ فبطل التوارث بالإسلام والهجرة والمعاقدة والتحالف وثبت بالولاء والنسب والمصاهرة لا غير.

(٢) اختلف في الوصية للكافر من يهودي أو نصراني والراجح أنها إن كانت مودة له ومحبة فإنها لا تجوز إذ مودتهم محرمة وإن كانت لمعنى آخر كإحسان قدمه الكتابي للمسلم فرأى أن يكافئه عليه فأوصى له بشيء إذا مات فلا حرج.

(٣) قال القرطبي : أي عهدهم على الوفاء بما حملوا وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدق بعضهم بعضا وما في التفسير شامل لهذا ولغيره مما ذكر فيه.

(٤) خص هؤلاء بالذكر تعظيما لهم وتشريفا ولأنهم أصحاب شرائع وكتب وأولو العزم من الرسل.

(٥) جائز أن يراد بالصادقين الأنبياء عن تبليغهم ووفائهم بما عهد إليهم وهذا هو الأرجح وجائز أن يسأل الأنبياء عما أجابهم به أقوامهم من طاعة وإيمان أو كفر وعصيان ، والحقيقة أن كلا من الرسل والمرسل إليهم يسألهم تعالى ، فقد جاء في الأعراف قوله تعالى (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

٢٤٥

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب تقديم ما يريده الرسول من المؤمن على ما يريده المؤمن لنفسه.

٢) حرمة أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهن أمهات المؤمنين وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالأب لهم.

٣) بطلان التوارث بالمؤاخاة والهجرة والتحالف الذي كان في صدر الإسلام.

٤) جواز الوصيّة لغير الوارث بالثلث فأقل.

٥) وجوب توحيد الله تعالى في عبادته ودعوة الناس إلى ذلك.

٦) تقرير التوحيد بأخذ الميثاق به على كافة الأنبياء والمرسلين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

٢٤٦

شرح الكلمات :

(اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي اذكروا نعمة الله أي دفاعنا عنكم لتشكروا ذلك.

(جُنُودٌ) : أي جنود المشركين المتحزبين.

(رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) : هي جنود الملائكة والريح ريح الصبا وهي التي تهب من شرق.

(بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) : أي بصيرا بأعمالكم من حفر الخندق والاستعدادات للمعركة.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) : أي بنو أسد وغطفان أتوا من قبل نجد من شرق المدينة.

(وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : أي من غرب وهم قريش وكنانة.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) : أي مالت عن كل شيء إلا عن العدو تنظر إليه من شدة الفزع.

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) : أي منتهى الحلقوم من شدة الخوف.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) (١) : أي المختلفة من نصر وهزيمة ، ونجاة وهلاك.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) : أي ثم في الخندق وساحة المعركة أختبر المؤمنون.

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) : أي حركوا حراكا قويا من شدة الفزع.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي شيء من النفاق لضعف عقيدتهم.

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) : أي ما وعدنا من النصر ما هو إلا غرورا وباطلا.

(يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) : أي يا أهل المدينة لا مقام لكم حول الخندق فارجعوا إلى دياركم.

(إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : أي غير حصينة.

(إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) : أي من القتال إذ بيوتهم حصينة.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) : أي المدينة أي دخلها العدو الغازي.

(ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) : أي ثم طلب إليهم الردة إلى الشرك لآتوها أي اعطوها وفعلوها.

(وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) : أي ما تريثوا ولا تمهلوا بل أسرعوا الإجابة وارتدوا.

__________________

(١) قرأ الجمهور (الظُّنُونَا) جمع ظن بألف بعد النون زيدت هذه النون لرعاية الفواصل في الوقف لأن الفواصل مثل الاسجاع. ومن القراء من أثبتها وقفا وحذفها وصلا والكل جائز ومثلها في هذه السورة (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) ، (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا).

٢٤٧

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ (١) جُنُودٌ) الآيات هذه قصة غزوة (٢) الخندق أو الأحزاب قصها تبارك وتعالى على المؤمنين في معرض التذكير بنعمه تعالى عليهم ليشكروا بالإنقياد والطاعة لله ورسوله وقبول كل ما يشرع لهم لإكمالهم وإسعادهم في الحياتين فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام دينا وشرعا (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدّة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألّبهم عليهم وحزّب أحزابهم حيي بن أخطب النضري يريد الانتقام من الرسول والمؤمنين إذ أجلوهم عن المدينة وأخرجوهم منها فالتحقوا بيهود خيبر وتيما ، ولما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبرهم أمر (٣) بحفر الخندق تحت سفح جبل سلع غربي المدينة ، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه إذ كانت له خبرة حربيّة علمها من ديار قومه فارس.

وتم حفر الخندق في خلال شهر من الزمن وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي لكل عشرة أنفار أربعين ذراعا أي عشرين مترا ، وما إن فرغوا من حفره حتى نزلت جيوش المشركين وكانوا قرابة اثنى عشر ألفا ولما رأوا الرسول والمسلمين وراء الخندق تحت جبل سلع قالوا هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها فتناوشوا بالنبال ورمى عمرو بن عبد ود القرشي بفرسه في الخندق فقتله علي رضي الله عنه ودام الحصار والمناوشة وكانت الأيام والليالي باردة والمجاعة ضاربة أطنابها قرابة الشهر. وتفصيل الأحداث للقصة فيما ذكره تعالى فيما يلي : فقوله تعالى (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) هي جنود المشركين من قريش ومن بني أسد وغطفان (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) لما (٤) جاءتكم جنود المشركين وحاصروكم في

__________________

(١) إذ ظرف للزمان الماضي متعلق (بنعمة) لما فيها من معنى الإنعام أي اذكروا ما أنعم الله به عليكم وقت مجيى جنود العدو إليكم لقتالكم فهزمهم الله جل جلاله بما شاء من وسائط.

(٢) اختلف في السنة التي كانت فيها غزوة الأحزاب فقال قوم كانت سنة خمس وقال آخرون كانت سنة أربع وكانت في شوال ، وسميت بغزوة الأحزاب لتحزب المشركين على قتال الرسول والمؤمنين فصاروا حزبا واحدا.

(٣) روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلده بطنه وكان كثير الشعر فرأيته يرتجز بكلمات ابن رواحه ويقول :

اللهم لو لا أنت ما اهدتينا

ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

(٤) هي جنود الملائكة الذين كانوا يلقون الرعب في قلوب المشركين حتى تخاذلوا وقرروا العودة إلى بلادهم.

٢٤٨

سفح سلع أرسلنا عليهم ريحا وهي ريح الصبا المباركة التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا (١) وأهلكت عاد بالدبور وهي الريح الغربيّة. وفعلت بهم الصبا الأفاعيل حيث لم تبق لهم نارا إلا أطفأتها ولا قدرا على الأثافي إلا أراقته ، ولا خيمة ولا فسطاطا إلا أسقطته وأزالته حتى اضطروا إلى الرحيل وقوله (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والحمد لله وقوله تعالى (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي بكل أعمالكم من حفر الخندق والمشادات والمناورات وما قاله وعمله المنافقون لم يغب عليه تعالى شيء وسيجزيكم به المحسن بالإحسان والمسيىء بالإساءة.

وقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ) أي المشركون (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من الشرق وهم غطفان بقيادة عيينة بن حصن وأسد ، (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي وهذا تحديد لساحة المعركة ، وقوله (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت عن كل شيء فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية من شدة الخوف ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم (٢). وقوله (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب ، وهذا تصوير للحال أبدع تصوير وهو كما ذكر تعالى حرفيّا.

وقوله تعالى (هُنالِكَ) أي في ذلك المكان والزمان الذي حدّق العدو بكم (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبرهم ربهم ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد والفتن من السريع الانهزام والتحول لضعف عقيدته وقلة عزمه وصبره. وقوله تعالى (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي أزعجوا وحرّكوا حراكا شديدا لعوامل قوة العدو وكثرة جنوده ، وضعف المؤمنين وقلة عددهم ، وعامل المجاعة والحصار ، والبرد الشديد وما أظهره المنافقون من تخاذل وما كشفت عنه الحال من نقض بني قريظة عهدهم وانضمامهم إلى الأحزاب وقوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ (٣) الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي النفاق لضعف إيمانهم

__________________

(١) قال عكرمة قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي لنصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت الشمال ان محوة لا تسري بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وهي الريح الشرقية ، (محوة) من أسماء ريح الشمال لأنها تمحو السحاب.

(٢) وقيل هذا من باب المبالغة على إضمار كادت أي ارتفعت من أماكنها لشدة الخوف حتى كادت تبلغ الحناجر جمع حنجرة ، قال الشاعر :

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

أي كادت تقطر ، والحنجرة والحنجور حرف الحلق أي طرفه.

(٣) من بين القائلين طعمة بن ابيرق ومعتب بن قشير وجماعة قالوا يوم الخندق كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز.

٢٤٩

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أي من النصر (إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا : وذلك أنهم لما كانوا يحفرون في الخندق استعصت عليهم صخرة فأبت أن تنكسر فدعي لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضربها بالمعول ضربة تصدعت لها وبرق منها بريق أضاء الساحة كلها فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون ، ثم ضربها ثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة فكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبير الفتح وكبر المسلمون وضرب ثالثة فكسرها وبرقت لها برقة كسابقتيها وكبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكبر المسلمون ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد سلمان فرقى من الخندق فقال سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيته قط فالتفت رسول الله إلى القوم فقال هل رأيتم ما رأى سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله فأعلمهم أنه على ضوء ذلك البريق رأى قصور مدائن كسرى كأنياب الكلاب وإن جبريل أخبرني أن أمتي ظاهرة عليها كما رأيت في الضربة الثانية القصور الحمراء من أرض الروم وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، ورأيت في الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا أبشروا أبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صدق. فلما طال الحصار واشتدت الأزمة واستبد الخوف بالرجال قال المنافقون وضعفاء الإيمان (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) إذ قال معتب (١) بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقا وخوفا ما هذا إلا وعد غرورا!!

وقوله (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) (٢) أي من المنافقين. وهو أويس بن قيظى أحد رؤساء المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) (٣) أي المدينة قبل أن يبطل الرسول هذا الإسم لها ويسميها بالمدينة (لا مُقامَ (٤) لَكُمْ) أي في سفح سلع عند الخندق (فَارْجِعُوا) إلى منازلكم داخل المدينة بحجة أنه لا فائدة في البقاء هنا دون قتال ، وما قال ذلك إلا فرارا من القتال وهروبا من المواجهة ، وقوله تعالى (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي يطلبون الإذن لهم بالعودة إلى منازلهم بالمدينة بدعوى أن بيوتهم عورة أي مكشوفة أمام العدو وهم لا يأمنون عليها

__________________

(١) تقدم انه من رواية النسائي «النهر».

(٢) لفظ الطائفة يطلق على الواحد فأكثر والمعني أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي يقول فيه لشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(٣) يثرب هي المدينة وسماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طيبة وطابه قال السهيلي سمى العرب في الجاهلية المدينة يثرب ، لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن قهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن ارم.

(٤) قرأ نافع والجمهور لا مقام بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام ، وقرأ حفص بضم الميم (مُقامَ) وهو اسم لمحل الإقامة.

٢٥٠

وأكذبهم الله تعالى في قولهم فقال (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) أي ما يريدون بهذا الاعتذار إلا الفرار من وجه العدو ، وقال تعالى فيهم ومن أصدق من الله قيلا. (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) المدينة (مِنْ أَقْطارِها) أي من جميع نواحيها من شرق وغرب وشمال وجنوب (١) (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي ثم طلب منهم العدو الغازي الذي دخل عليهم المدينة الردة أي العودة إلى الشرك (لَآتَوْها) أعطوها فورا (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) حتى يرتدوا عن الإسلام ويصبحوا كما كانوا مشركين والعياذ بالله من النفاق والمنافقين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية التذكير بالنعم ليشكرها المذكّرون بها فتزداد طاعتهم لله ورسوله.

٢) عرض غزوة الأحزاب أو الخندق عرضا صادقا لا أمثل منه في عرض الأحداث للعبرة.

٣) بيان أن غزوة الخندق كانت من أشد الغزوات وأكثرها ألما وتعبا على المسلمين.

٤) بيان أن حسن الظن بالله ممدوح ، وأن سوء الظن به تعالى كفر ونفاق.

٥) بيان مواقف المنافقين الداعية إلى الهزيمة ليكون ذلك درسا للمؤمنين.

٦) تقرير النبوة المحمدية بإخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله فكانت كما أخبر من فتح فارس والروم واليمن.

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ

__________________

(١) ثم العطف بها هنا للترتيب الرتبي ، إذ كان مقتضى الظاهر أن يكون العطف بالواو ، لأن المذكور بعد حرف العطف داخل في فعل الشرط ووارد عليه جوابها فعدل عن الواو إلى ثم لأجل التنبيه على أن ما بعد ثم أهم من الذي قبلها أي انهم مع ذلك يأتون الفتنة.

٢٥١

لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل غزوة الخندق وذلك يوم أحد قالوا : والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نولي الأدبار.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) : أي صاحب العهد عن الوفاء به.

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا وتموتون.

(مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ) : أي من يجيركم ويحفظكم من الله.

(إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) : أي عذابا تستاءون له وتكربون.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) : أي المثبطين عن القتال المفشلين إخوانهم عنه حتى لا يقاتلوا مع رسول الله والمؤمنين.

(هَلُمَّ إِلَيْنا) : أي تعالوا إلينا ولا تخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي ولا يشهدون القتال إلا قليلا دفعا عن أنفسهم تهمة النفاق.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) : أي بخلاء لا ينفقون على مشاريعكم الخيرية كنفقة الجهاد وعلى الفقراء.

(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) : أي تدور أعينهم من شدة الخوف لجبنهم كالمحتضر الذي يغشى عليه أي يغمى عليه من آلام سكرات الموت.

(سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) : أي آذوكم بألسنة ذربة حادة كأنها الحديد وذلك بكثرة

٢٥٢

كلامهم وتبجحهم بالأقوال دون الأفعال.

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) : أي بخلاء بالخير لا يعطونه ولا يفعلونه بل ولا يقولونه حتى القول.

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) : أي إنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح فلذا هم جبناء عند اللقاء بخلاء عند العطاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحداث عزوة الأحزاب فقوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا (١) اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) أي ولقد عاهد أولئك المنافقون الله من قبل غزوة الأحزاب وذلك يوم فروا من غزوة أحد إذ كانت قبل غزوة الأحزاب بقرابة السّنتين فقالوا والله لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن ولا نوليّ (٢) الأدبار ، فذكرهم الله بعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم ثم نكثوه ، (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) (٣) أي يسأل عنه صاحبه ويؤاخذ به. وقوله تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي قل لهم يا رسولنا إنه لن ينفعكم الفرار أي الهروب من الموت أو القتل لأن الآجال محددة ومن لم يمت بالسيف مات بغيره فلا معنى للفرار من القتال إذا وجب وقوله (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وإذا فررتم من القتال فإنكم لا تمتعون بالحياة إلا قليلا من الزمن ثم تموتون عند نهاية أعماركم وهي فترة قليلة ، فالفرار لا يطيل أعماركم والقتال لا ينقصها ، وقوله تعالى (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ (٤) رَحْمَةً) أي قل لهم يا رسولنا تبكيتا لهم وتأنيبا وتعليما أيضا : من (٥) ذا الذي يعصمكم أي يجيركم ويحفظكم من الله (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي ما يسوءكم من بلاء وقتل ونحوه (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي سلامة وخيرا فليس هناك من يحول دون وصول ذلك إليكم لأن الله تعالى يجير ولا يجار عليه وقوله تعالى (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ

__________________

(١) ذكر بعضهم أن هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة إذ هموا بالرجوع يوم أحد ، وقيل هم من فاتتهم وقعة بدر فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن وما في التفسير أرجح لدلالة السياق عليه.

(٢) المراد بعهد الله كل عهد يعاهد عليه العبد ربه فإنه يجب عليه الوفاء به وان تركه سئل عنه وحوسب به يوم القيامة.

(٣) (الْأَدْبارَ) جمع دبر والمراد به الظهر فالادبار الظهور وتولية الادبار كناية عن الفرار.

(٤) في الكلام محذوف تقديره أو بجرمكم أن اراد بكم رحمة وهذا يعرف بدلالة الاقتضاء إيجازا للكلام كقول الراعي :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزججن الحواجب والعيونا

أي وكحلن العيون.

(٥) الاستفهام للنفي أي لا أحد يعصمهم مما أراد الله تعالى بهم.

٢٥٣

دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١) أي ولا يجد المخالفون لأمر الله العصاة له ولرسوله من دون الله وليا يتولاهم فيدفع عنهم ما أراد الله بهم من سوء ، ولا نصيرا ينصرهم إذا أراد الله إذلالهم وخذلانهم لسوء أفعالهم ، وقوله تعالى في الآية (١٨) في هذا السياق (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ (٢) الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أخبرهم تعالى بأنه قد علم المعوقين أي المثبطين عن القتال والمخذلين بما يقولونه سرّا في صفوف المؤمنين كالطابور الخامس في الحروب وهم أناس يذكرون في الخفاء عظمة العدو وقوته يرهبون منه ويخذلون عن قتاله. وقوله (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) أي تعالوا إلينا إلى المدينة واتركوا محمدا وأصحابه يموتون وحدهم فإنهم لا يزيدون عن أكلة جزور. وقوله (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ولا يشهد القتال ويحضره أولئك المنافقون المثبطون والذين قالوا إن بيوتنا عورة إلا قليلا إذ يتخلفون في أكثر الغزوات وإن حضروا مرة قتالا فإنما هم يدفعون به معرة التخلف ودفعا لتهمة النفاق التي لصقت بهم.

وقوله تعالى (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) (٣) وصفهم بالبخل بعد وصفهم بالجبن وهما شر صفات المرء أي الجبن والبخل أشحة عليكم أي بخلاء لا ينفقون معكم لا على الجهاد ولا على الفقراء والمحتاجين وقوله تعالى (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) (٤) أي بسبب هجوم العدو (رَأَيْتَهُمْ) أيها الرسول (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) لائذين بك (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) من الخوف (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو المحتضر يغمى عليه لما يعاني من سكرات الموت وهذا تصوير هائل لمدى ما عليه المنافقون من الجبن والخوف وعلة هذا هو الكفر وعدم الإيمان بالقدر والبعث والجزاء

وقوله (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) أي راحت أسبابه بانتهاء الحرب (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ) أي سلقكم أولئك الجبناء عند اللقاء أي ضربوكم بألسنة ذربة حادة كالحديد بالمطالبة بالغنيمة أو بالتبجح الكاذب بأنهم فعلوا وفعلوا. وهذا حالهم إلى اليوم

__________________

(١) المراد بالولي من يتولى نفعهم والنصير من يتولى نصرهم في الحرب.

(٢) قد تفيد التحقيق فهي مؤكدة لمضمون الجملة لتطلب المقام ذلك لوجود شك لدى المخاطبين ، والمعوقين جمع معوق وهو من يكثر منه العوق وهو المنع من العمل والحيلولة دونه والصيغة صيغة مبالغة نحو طوّف وغلّف وسمّع.

(٣) (أَشِحَّةً) جمع شحيح والقياس أشحاء لكنهم عدلوا عنه فقالوا أشحة والضمير في عليكم يعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، والشح البخل بما في الوسع اعطاؤه.

(٤) (الْخَوْفُ) هنا توقع القتال من الجيشين.

٢٥٤

وقوله (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي بخلاء على مشاريع الخير وما ينفق في سبيل الله فلا ينفقون لأنهم لا يؤمنون بالخلف ولا بالثواب والأجر وذلك لكفرهم بالله ولقائه. ولذا قال تعالى (أُولئِكَ لَمْ (١) يُؤْمِنُوا) فسجل عليهم وصف الكفر ورتب عليه نتائجه فقال (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها فلا يثابون عليها لأنها أعمال مشرك وأعمال المشرك باطلة ، وقوله (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أي إبطال أعمالهم وتخييبهم فيها وحرمانهم من جزائها يسير على الله ليس بالعسير. ولذا هو واقع كما أخبر تعالى

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب الوفاء بالعهد إذ نقض العهد من علامات النفاق.

٢) ترك الجهاد خوفا من القتل عمل غير صالح إذ القتال لا ينقص العمر وتركه لا يزيد فيه.

٣) الشح والجبن من صفات المنافقين وهما شر الصفات في الإنسان.

٤) الثرثرة وكثرة الكلام والتبجح بالأقوال من صفات أهل الجبن والنفاق.

٥) الكفر محبط للأعمال.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

__________________

(١) (أُولئِكَ) أصحاب تلك الصفات الذميمة الصادرة عن قلوب لم يخالطها بشاشة الإيمان فلذا أحبط الله أعمالهم لأنها لم تكن ثمرة إيمان صحيح فلذا هي فاسدة لا تزكي النفس ولا يستحق صاحبها أجرا.

٢٥٥

قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥))

شرح الكلمات :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ) : أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان.

(لَمْ يَذْهَبُوا) : أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) : أي مرة أخرى فرضا

(يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) : أي من جبنهم وخوفهم يتمنّون أن لو كانوا في البادية مع سكانها.

(يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) : أي إذا كانوا في البداية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل انهزمتم أو انتصرتم.

(وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) : أي ولو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلا.

(أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أي قدوة صالحة تقتدون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القتال والثبات في مواطنه.

(هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) : من الابتلاء والنصر.

(وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) : في الوعد الذي وعد به.

(وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) : أي تصديقا بوعد الله وتسليما لأمر الله.

(صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) : أي وفوا بوعدهم.

(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) : أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) : أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر

٢٥٦

القتل في سبيل الله.

(وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) : أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) : أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين.

(وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) : أي بالريح والملائكة

معنى الآيات :

ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمدا في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي مرة أخرى على فرض وتقدير (يَوَدُّوا) يومئذ (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ (١) فِي الْأَعْرابِ) أي خارج المدينة مع الأعراب في البادية لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة ، وقوله تعالى (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) (٢) أي أخباركم هل ظفر بكم الأحزاب أو لا ، (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي بينكم ولم يكونوا في البادية (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٠) وقوله تعالى في الآية الثانية (٢١) (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي (٣) رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا (٤) اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي : لقد كان لكم أيها المسلمون أي : من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته ، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شجّ وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة

__________________

(١) قرىء لو أنهم بدّى جمع باد كغاز وغزّى ، يقال بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية وهي البداوة والبداوة بالكسر والفتح.

(٢) أي هل هلك محمد وأصحابه ، أم غلب أبو سفيان وأحزابه؟ أي يودون لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة قتال لفرط جبنهم.

(٣) هذه الآية تحمل عتابا شديدا للمتخلفين عن القتال والأسوة بضم الهمزة قراءة عاصم وبالكسر قراءة الجمهور وهي اسم لما يؤتسى به أي يقتدى به : ويعمل مثل عمله وجمع الأسوة أسى وإسى.

(٤) اختلف في الاتساء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل هو على الايجاب أو الندب أو هو على الايجاب. حتى يقوم دليل الاستجاب أو هو على العكس ، والصواب أنه فيما هو واجب واجب وفيما هو مستحب مستحب.

٢٥٧

وشقاء ، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم. وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم ، فاقتدوا بنبيكم فإن الاقتداء به واجب لا يسقط إلّا عن عجز والله المستعان. وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق (٢٢) (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) أي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاحطت بهم (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ (١) وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) وقوله (وَما زادَهُمْ) أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم (إِلَّا إِيماناً) بصادق وعد الله (وَتَسْلِيماً) لقضائه وحكمه ، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عزوجل.

وقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله ، وقوله تعالى (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢) أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ (٣) اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير ، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم ، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) ذلك لهم قضاء وقدرا أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا ، وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم.

__________________

(١) المراد من الوعد الذي ذكروه هو ما تضمنته آية البقرة (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآية أي قوله إلا إن نصر الله قريب كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبرهم بقدوم الأحزاب عليهم وأن الله ناصرهم عليهم.

(٢) في هذه الجملة تعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولون الأدبار ثم ولوا راجعين وعادوا إلى بيوتهم تاركين الرسول والمؤمنين في المواجهة.

(٣) الجملة تعليلية أي ثم الذي تم من الوفاء والغدر والصبر والجزع والهزيمة والنصر لعله أن يجزي الله الصادقين بما يناسب صدقهم وهو المغفرة ويجزي المنافقين بما يناسب نفاقهم.

٢٥٨

وقوله تعالى في آخر هذا السياق (٢٥) (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وهم قريش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم أي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئا مما أمّلوا تحقيقه ، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيرا. وكان الله قويا على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزا أي غالبا على أمره لا يمتنع منه شيء أراده.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.

٢) وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه.

٣) ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم.

٤) ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإيمان.

٥) بيان الحكمة في غزوة الأحزاب ، ليجزي الصادقين ..... الخ.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

شرح الكلمات :

(ظاهَرُوهُمْ) : أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم.

(مِنْ صَياصِيهِمْ) : أي من حصونهم والصياصي جمع صيصيّة وهي كل ما يمتنع به

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا

(وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) : أي لم تطأوها بعد وهي خيبر إذ فتحت بعد غزوة الخندق.

__________________

(١) روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) قالت : أبو سفيان بن حرب وعيينه بن بدر.

٢٥٩

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ (١) مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب وعاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عونا لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي إلى بني قريظة فلا يصليّن أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر مناديا ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله أتنزلون على حكمي فأبوا فقال أتنزلون على حكم سعد بن معاذ (٢)؟ فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقررا للحكم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات. فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقا ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزّب الأحزاب وكعب بن أسد رئيس بني قريظة ، وأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق.

وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبويّة. والحمد لله.

فقوله تعالى (وَأَنْزَلَ) أي الله تعالى بقدرته (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عونا لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) (٣) أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها ، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) ولذا

__________________

(١) المظاهرون بفتح الهاء هم قريش وكنانة وغطفان والمظاهرون لهم هم بنو قريظة من أهل الكتاب.

(٢) كان سعد رضي الله عنه قد اصابه سهم في غزوة الخندق فوضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خيمة بالمسجد ليتمكن من زيارته وكان رضي الله عنه لما أصابه السهم دعا الله تعالى : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فابقني لها وإن كنت أنهيت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله تعالى له وحكمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم فحكم عليهم بأن تقتل مقاتليهم وتسبى نساؤهم وذراريهم.

(٣) الصياصي واحدها صيصة ، والمراد حصونهم التي يتمنعون بها. قال الشاعر :

فجئت إليه والرماح تنوشه

كوقع الصياصي في النسيج الممدد

والصيصة : شوكة الحائك وصياصي البقر قرونها لأنها تتمنع بها.

٢٦٠