أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

سورة السّجدة

مكية (١)

وآياتها ثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

شرح الكلمات

(الم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب الم ، ويقرأ ألف لام ميم

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي لا شك في أنه نزل من ربّ العالمين.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل أيقولون أي المشركون اختلقه وكذبه.

(قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) : أي من زمن بعيد وهم قريش والعرب.

(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) : أي بعد ضلالهم إلى الحق الذي هو دين الإسلام.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : أي استوى على عرشه يدير أمر خليقته.

__________________

(١) وتسمى سورة ألم السجدة ، وتنزيل السجدة وفي الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بها الصبح يوم الجمعة يقرأ في الركعه الأولى بالفاتحة والسجدة والثانية بالفاتحة وسورة الإنسان كما ورد أنه كان يقرأها مع سورة الملك عند النوم وفي كل منهما ثلاثون آية.

٢٢١

(مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) : أي ليس لكم أيها المشركون من دون الله وليّ يتولاكم ولا شفيع يشفع لكم.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) : أي أفلا تتعظون بما تسمعون فتؤمنوا وتوحدوا.

معنى الآيات

قوله تعالى (الم) هذه الحروف المقطعة في فواتح عدة سور الأسلم أن لا تؤول ويكتفى فيها بقول الله أعلم بمراده بها. وقد اخترنا من أقاويل المفسرين أنها أفادت فائدتين : الأولى أنه لما كان المشركون من قريش في مكة يمنعون سماع القرآن مخافة أن يتأثر السامع به فيؤمن ويوحد فكانت هذه الحروف تستهويهم بنغمها الخاص فيستمعون فينجذبون ويؤمن من شاء الله إيمانه وهدايته والثانية بقرينة ذكر الكتاب بعدها غالبا : أن هذا القرآن الكريم قد تألف من مثل هذه الحروف الم ، طس ، حم ، ق فألفوا أيها المكذبون سورة من مثله وإلّا فاعلموا أنه تنزيل من الله ربّ العالمين فلما عجزوا قامت عليهم الحجة ولم يبق شك في أنه تنزيل الله وكتابه أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) (١) أي القرآن الكريم (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك (٢) في أنه نزل من رب العالمين على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس بشعر ولا بسجع كهان ، ولا أساطير الأولين وقوله تعالى : (أَمْ (٣) يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل أيقولون افتراه محمد واختلقه وأتى به من تلقاء نفسه اللهم لا إنه لم يفتره (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي جاءك من ربك وحيا أوحاه إليك ، (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ (٤) مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم مشركوا العرب لتنذرهم بأس الله وعذابه إن بقوا على شركهم وكفرهم ، وقوله (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا فيهتدوا إلى الحق بعد ضلالهم فينجوا ويكملوا ويسعدوا وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي من مخلوقات (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من مثل أيام الدنيا أولها الأحد واخرها الجمعة ولذا كانت الجمعة من أفضل الأيام (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) عرشه (٥) سبحانه

__________________

(١) تنزيل مرفوع بالابتداء والخبر لا ريب فيه ، أو خبر على تقدير مبتدأ أي هذا تنزيل أو المتلو عليك تنزيل الكتاب ، ويكون لا ريب فيه محل نصب على الحال.

(٢) (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لما اشتمل من الإعجاز العلمي حيث عجز الإنس والجن على أن يأتوا بمثله وعجز فصحاء العرب على الإتيان بسورة مثل سوره. ولما عرف به صاحبه الذي نزل عليه وجاء به وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدق الكامل حيث لم يكذب قط وقد أخبر أنه تنزيل الله رب العالمين.

(٣) (أَمْ) هذه هي المنقطعة ولذا قدرت ببل والاستفهام في التفسير ، وصيغة المضارع (يَقُولُونَ) لاستحضار الحالة الماضية اثارة للتعجب في نفس السامع.

(٤) النذير المعلم المخوف بعواقب الشرك والمعاصي والفساد والشر ، والقوم الجماعة العظيمة الذين يجمعهم أمر يكون كالقوام لهم من نسب أو وطن أو غرض تجمعوا من أجله والمراد بهم عامة العرب في كل ديارهم شمالا وجنوبا وشرقا وغربا إذ فقدوا العلم الإلهي منذ قرون عدة.

(٥) سئل مالك رحمه‌الله تعالى عن الاستواء فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

٢٢٢

وتعالى استوى استواء يليق به يدبر أمر مخلوقاته. الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما هو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسول وهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا ربّ سواه ما للعرب ولا للبشرية كلها من إله غيره ، وليس لها من غيره من وليّ يتولاها بالنصر والإنجاء إن أراد الله خذلانها وإهلاكها ، وليس لها شفيع (١) يشفع لها عنده إذا أراد الانتقام منها لشركها وشرها وفسادها وقوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتعلموا أيها العرب المشركون أنه لا إله لكم إلا الله فتعبدوه وتوحدوه فتنجوا من عذابه وتكملوا وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله ووحيه أوحاه إلى رسوله.

٢) ابطال ما كان المشركون يقولون في القرآن بأنه شعر وسجع كهان وأساطير الأولين.

٣) بيان الحكمة من إنزال القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الإنذار.

٤) بيان الزمان الذي خلق الله فيه السموات والأرض وما بينهما.

٥) إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى.

٦) تقرير انه ما للبشرية من إله إلا الله وأنه ليس لها من دونه من وليّ ولا شفيع فما عليها إلا أن تؤمن بالله وتعبده فتكمل وتسعد على عبادته.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ

__________________

(١) في نفي الشفيع رد على قول بعضهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله على تقدير انهم يبعثون يوم القيامة إذ قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله أو في قضاء حوائجهم في الدنيا.

٢٢٣

مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

شرح الكلمات :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) : أي أمر المخلوقات طوال الحياة.

(ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) : أي يوم القيامة حيث تنتهي هذه الحياة وسائر شؤونها.

(أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) : أي من أيام الدنيا.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي ما غاب عن الناس ولم يروه وما شاهدوه ورأوه.

(بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) : أي بدأ خلق آدم عليه‌السلام من طين.

(مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : أي خلق ذريّة آدم من علقة من ماء النطفة.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) : أي سوى الجنين في بطن أمه ونفخ فيه الروح فكان حيّا كما سوى آدم ايضا ونفخ فيه من روحه فكان حيا.

(وَالْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي ما تشكرون الله على نعمة الايجاد والامداد إلا شكرا قليلا لا يوازي قدر النعمة.

معنى الآيات

ما زال السياق في تقرير التوحيد والنّبوة والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة الإلهية ، فقوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمر المخلوقات (مِنَ السَّماءِ) حيث العرش وكتاب المقادير (إِلَى الْأَرْضِ) حيث تتم الحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع ، والغنى والفقر والحرب والسلم ، والعز والذل فالله تعالى من فوق عرشه يدبر أمر الخلائق كلها في عرالمها المختلفة ، وقوله ثم يعرج أي الأمر إليه في يوم كان مقداره ألف (١) سنة مما يعد الناس اليوم من أيام هذه الدنيا. ومعنى (يَعْرُجُ إِلَيْهِ) في يوم

__________________

(١) ورد في سورة الحج قوله تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي هذه الآية (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي سورة المعارج (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ، وقد كثرت أقوال أهل التفسير في تحديد هذه الأيام حتى قال ابن عباس أيام سماها الله سبحانه وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم وأحسن ما يقال فيها أن اليوم الذي ذكر في سورة الحج هو عبارة عن الزمان وتقديره عند الله وأن يوم سورة المعارج هو يوم القيامة يوم الحساب وأن هذا اليوم هو آخر أيام الدنيا حيث ينتهي التدبير والتصرف لانقضاء الحياة الدنيا وهو ذكر تعالى.

٢٢٤

القيامة أي يرد إليه حيث عم الكون الفناء ولم يبق ما يدبر في هذه الأرض لفنائها وفناء كل ما كان عليها. وقوله (ذلِكَ (١) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما غاب عن الناس وما حضر فشاهدوه أي العالم بكل شيء وقوله العزيز الرحيم : أي الغالب على مراده من خلقه الرحيم بالمؤمنين من عباده ، وقوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢) أي أحسن خلق كل مخلوق خلقه أي جوّد خلقه وأتقنه وحسنه. وقوله (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) أي وبدأ خلق آدم من طين وهو الإنسان الأول ، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي نسل الإنسان من (سُلالَةٍ) وهي العلقة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣) وهو النطفة ، وقوله (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي سوّى آدم ونفخ فيه من روحه ، كما سوى الإنسان في رحم أمه أي سوى خلقه ثم نفخ فيه من روحه فكان إنسانا حيا ، وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي القلوب أي لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا لحاجتكم إلى ذلك لأن حياتكم تتطلب منكم مثل ذلك ومع هذه النعم الجليلة (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٤) أي لا تشكرون إلّا شكرا قليلا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان جلال الله وعظمته في تدبيره أمر الخلائق.

٢) بيان صفات الله تعالى من العلم والعزة والرحمة.

٣) بيان كيفية خلق الإنسان ومادة خلقه.

٤) شكر العباد ـ إن شكروا ـ لا يوازي نعم الله تعالى عليهم.

٥) وجوب شكر النعم بالاعتراف بها وذكرها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

__________________

(١) ذلك اسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة أي ذلك الرب العظيم والإله الحكيم الذي خلق السموات والأرض وما بينهما المدبر للملكوت المتصرف في الموجودات هو عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم المستحق للعبادة والمحبة والخوف دون غيره من سائر المخلوقات.

(٢) قرأ نافع وحفص (خَلَقَهُ) بصيغة الماضي وقرأ بعض خلقه بإسكان اللام على أنه مصدر خلق يخلق خلقا وهو بدل اشتمال من كل شيء ومعنى أحسن أتقن وأحكم قال عكرمة : ليست أست القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة.

(٣) المهين الممتهن الذي لا يعبأ به.

(٤) وجائز أن يكون المراد عدم شكرهم مطلقا فهو كناية عن العدم توبيخا لهم وتأنيبا.

٢٢٥

شرح الكلمات

(أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) : أي غبنا فيها حيث فنينا وصرنا ترابا.

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي أنعود خلقا جديدا بعد فنائنا واختلاطنا بالتراب.

(بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) : أي لم يقف الأمر عند استبعادهم للبعث بل تعداه إلى كفرهم بلقاء ربهم ، وهو الذي جعلهم ينكرون البعث.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) : أي يقبض أرواحكم ملك الموت المكلف بقبض الأرواح.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) : أي بعد الموت ، وما دمتم لا تمنعون أنفسكم من الموت سوف لا تمنعونها من الحياة فرجوعكم حتمي لا محالة.

معنى الآيتين

ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة فأخبر تعالى عن منكري البعث فقال (وَقالُوا) (١) أي منكروا البعث الآخر (أَإِذا ضَلَلْنا فِي (٢) الْأَرْضِ) أي غبنا فيها بحيث صرنا ترابا فيها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي لعائدون في خلق جديد. وهذا منهم انكار للبعث واستبعاد له ، فقال تعالى مخبرا عن علة انكارهم للبعث وهي أنهم بلقاء (٣) ربهم كافرون إذ لو كانوا يؤمنون بلقاء الله الذي وعدهم به لما أنكروا البعث والحياة لذلك ، وقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين للبعث ولقاء الرب تعالى : يتوفاكم عند نهاية آجالكم (مَلَكُ الْمَوْتِ) (٤) الذي وكله ربّه بقبض أرواحكم ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) بعد ذلك وما دمتم لا تدفعون الموت عن أنفسكم فكيف تدفعون الحياة عند ما يريدها الله منكم؟ وهل دفعتموها عند ما كنتم عدما فأوجدكم الله وأحياكم.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

__________________

(١) الجملة استئناف لحكاية عقيدتهم في إنكار البعث والجزاء ليعلل لها بالعلة المناسبة ثم يقرر عقيدة البعث التي أنكروها وتعجبوا من حقيقتها بما هو لازم لها.

(٢) الاستفهام للتعجب والاستبعاد ، والضلال الدخول في الأرض والغياب فيها إذ كل ما غاب في شيء ولم يظهر له وجود يقال ضل فيه كما يضل الماء في اللبن والميت في القبر قال الحارث الغساني شعرا :

فآب مضلوه بعين جلية

وغودر وبالجولان حزم ونائل

(مضلوه أي مغيبوه)

(٣) بل هم بلقاء ربهم كافرون ، بل للإضراب عن كلامهم أي ليس إنكارهم البعث لاستبعاده واستحالته لوجود الأدلة الواضحة على إمكانه بل وجوبه وإنما الباعث لهم على التكذيب به هو كفرهم التقليدي.

(٤) لم يرد اسم ملك الموت في القرآن غير أن أهل السنة على أن اسمه عزرائيل بمعنى عبد الله.

٢٢٦

٢) الذنب الذي هو سبب كل ذنب هو الكفر بلقاء الله تعالى

٣) بيان أن لقبض الأرواح ملكا وله أعوان من الملائكة وأن الأرض جعلت لملك الموت كالطست بين يديه يتناول منها ما يشاء.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(إِذِ الْمُجْرِمُونَ) : أي المشركون المكذبون بلقاء ربهم.

(ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) : أي مطأطئوها من الحياء والذل والخزي.

(رَبَّنا أَبْصَرْنا) : أي ما كنا ننكر من البعث.

(وَسَمِعْنا) : أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا.

(فَارْجِعْنا) : أي إلى دار الدنيا.

(لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) : أي لو أردنا هداية الناس قسرا بدون اختيار منهم لفعلنا.

(وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) : أي وجب وهو لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.

(إِنَّا نَسِيناكُمْ) : أي تركناكم في العذاب.

(عَذابَ الْخُلْدِ) : أي العذاب الخالد الدائم.

(بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : من سيئات الكفر والتكذيب والشر والشرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها وما يجري للمكذبين

٢٢٧

بها في الدار الآخرة قال تعالى : (وَلَوْ تَرى) (١) يا رسولنا (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم الذين أجرموا على أنفسهم فدنسوها بالشرك والمعاصي الحامل عليها التكذيب بلقاء الله ، (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطئطئوها خافضوها عند ربهم من الحياء والخزي الذي أصابهم عند البعث. لرأيت أمرا فظيعا لا نظير له. وقوله تعالى (رَبَّنا أَبْصَرْنا (٢) وَسَمِعْنا) هذا قول المجرمين وهم عند ربهم أي يا ربنا لقد أبصرنا ما كنا نكذب به من البعث والجزاء وسمعنا منك أي تصديق ما كانت رسلك تأمرنا به في الدنيا. (فَارْجِعْنا) أي إلى دار الدنيا (نَعْمَلْ (٣) صالِحاً) أي عملا صالحا (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي الآن ولم يبق في نفوسنا شك بأنك الإله الحق ، وبأن لقاءك حق ، وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا (٤) لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) وذلك لما طالب المجرمون بالعودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا فأخبر تعالى انه ما هناك حاجة إلى ردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويعملوا الصالحات ، إذ لو شاء هدايتهم لهداهم قسرا منهم بدون اختيارهم ، ولكن سبق أن قضى بدخولهم جهنم فلا بد هم داخلوها وهو معنى قوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي وجب العذاب لهم وهو معنى قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) أي الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي من كفار ومجرمي الجن والإنس معا.

وقوله (فَذُوقُوا) أي العذاب والخزي (بِما نَسِيتُمْ) (٥) أي بسبب نسيانكم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا إنا نسيناكم أي تركناكم في العذاب. (وَذُوقُوا عَذابَ (٦) الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي هذا يقال لهم وهم في جهنم تبكيتا لهم وتقريعا زيادة في عذابهم ، والعياذ بالله من عذاب النار.

__________________

(١) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرفه وأمته تابعة له والمعنى ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب العجاب من ذلتهم وخزيهم وندامتهم.

(٢) هذا مقول قول محذوف بعد ناكسو رؤوسهم يقولون أو قائلين ربنا الخ.

(٣) هذا كقولهم في آية : (أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ).

(٤) هذه الجمل اعتراضية بين قوله أبصرنا وقوله فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا وقوله ولو شئنا لآتينا الخ. رد عليهم حيث طلبوا العودة إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا

(٥) النسيان يكون بمعناه الأصلي وهو عدم ورود الشيء بالخاطر النفسي ويكون بترك الشيء وعدم الالتفات إليه مع ذكره في النفس والآخر أولى بالآية.

(٦) قد يعبر بالذوق عما يطرأ على النفس وإن لم يكن مطعوما لا حساسها به كإحساسها بذوق المطعوم قال الشاعر :

فذق هجرها إن كنت تزعم أنها

فساد ألا يا ربّما كذب الزعم

فاطلق الذوق على الهجر وهو غير مطعوم ولكنه محسوس بالنفس.

٢٢٨

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) التنديد بالإجرام والمجرمين وبيان حالهم يوم القيامة.

٢) بيان عدم نفع الإيمان عند معاينة العذاب.

٣) بيان حكم الله في امتلاء جهنم من كل من مجرمي الإنس والجن.

٤) تقرير حكم السببيّة فالأعمال سبب للجزاء خيرا كان أو شرا.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

شرح الكلمات :

(إِذا ذُكِّرُوا بِها) : أي وعظوا بما فيها من أمر ونهي ووعد ووعيد.

(خَرُّوا سُجَّداً) : أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على الأرض.

(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي نزهوه وقدسوه وهم ساجدون يقولون سبحان ربي الأعلى.

(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) : أي عن عبادة ربهم في كل آحايينهم بل يأتونها خاشعين متذللين.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) : أي تتباعد عن الفرش من أجل قيامهم للصلاة في جوف الليل.

(خَوْفاً وَطَمَعاً) : أي يسألونه النجاة من النار ، ودخول الجنة.

٢٢٩

(ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) : أي لا تعلم نفس ما أخفى الله تعالى لهم وادخر لهم عنده من النعيم الذي تقر به أعينهم أي تسر به وتفرح.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى جزاء المجرمين وهم المكذبون بآيات الله ولقائه ذكر جزاء المؤمنين وهم الذين آمنوا بآيات الله ولقائه ذكرهم بأجمل صفاتهم فقال : (إِنَّما يُؤْمِنُ (١) بِآياتِنَا) حق الإيمان (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي قرئت عليهم وكانت من الأيات التي فيها السجدات (خَرُّوا سُجَّداً) (٢) أي وقعوا على الأرض ساجدين بوضع جباههم وأنوفهم على التراب ، (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوه وقدسوه اثناء سجودهم بقولهم سبحان ربي الأعلى ، والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة الله مطلقا بل يأتونها متذللين خاشعين.

وقوله (تَتَجافى (٣) جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) هذه بعض صفاتهم أيضا وهي أنهم يباعدون جنوبهم عن فرشهم في الليل لصلاة التهجد. وقوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي في حال صلاتهم وفي غيرها وهو دعاء تميّز بخوفهم من عذاب ربهم وطمعهم في رحمته فهم يسألون ربهم النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) هذا وصف آخر لهم وهو أنهم يتصدقون بفضول أموالهم زيادة على أداء الزكاة كتهجدهم بالليل زيادة على الصلوات الخمس.

وقوله تعالى (فَلا تَعْلَمُ (٤) نَفْسٌ ما أُخْفِيَ (٥) لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) يخبر تعالى عن جزائهم عنده فيقول : فلا تعلم نفس ما خبّأ الله تعالى لهم من النعيم المقيم الذي تقر به أعينهم أي

__________________

(١) في الآيات تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يجده من إعراض المشركين المكذبين بالبعث والجزاء في الدار الآخرة والقائلين. أم يقولون افتراه فأعلمه إنما يؤمن من ذكرهم بصفاتهم ، والقصر اضافي والمراد من الآيات آيات القرآن الكريم.

(٢) الخرور الهوي من علو إلى أسفل والسجود وضع الجبهة على الأرض إرادة التعظيم والخضوع.

(٣) الجملة حال من الموصول والتجافي التباعد والمتاركة ، والمضاجع جمع مضجع الفراش والجنب جمع جنب ، والمراد تباعدهم عن فرشهم لقيام الليل ، ومن صلى العشاء في جماعة والصبح في جماعة تناوله الوصف ، وشاهد التجافي قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول :

وفينا رسول الله يتلو كتابه

إذا انشق معروف من الصبح ساطع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

(٤) هذا كقول الرجل : هذا لا يعلمه إلا الله ، وقرة الأعين كناية عن السرور وعظيم الفرح.

(٥) قرأ الجمهور (ما أُخْفِيَ) بصيغة الماضي المجهول ، وقرأ غيرهم أخفي بالمضارع المعلوم

٢٣٠

تسر وتفرح وقوله (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاهم بذلك النعيم بعملهم الخيري الإسلامي الذي كانوا في الدنيا يعملونه وقد ذكر بعضه في الآيات قبل كالصلاة والصدقات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) فضيلة التسبيح في الصلاة وهو سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود.

٢) ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله.

٣) فضيلة قيام الليل وهو المعروف بالتهجد (١) والدعاء خوفا وطمعا.

٤) بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات وهو انه تعالى [أعد لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما جاء في الحديث أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين (٢) رأت] الخ.

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ

__________________

(١) روى الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ، قال لقد سألت عن عظيم وانه ليسر على من يسره الله عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ، ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير ، الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطايا كما يطفىء الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم تلا (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الآية.

(٢) في الصحيح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى. اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

٢٣١

أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) : أي مصدقا بالله ورسوله ولقاء ربّه

(كَمَنْ كانَ فاسِقاً) : أي كافرا لا يستوون.

(جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) : النزل ما يعد للضيف من قرى.

(مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) : أي عذاب الدنيا من مصاب القحط والجدب والقتل والأسر.

(الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) : هو عذاب الآخرة في نار جهنم.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي يصيبهم بالمصائب في الدنيا رجاء أن يؤمنوا ويوحدوا.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) : لا أحد أظلم منه أبدا.

(إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) : أي من المشركين أي بتعذيبهم أشد أنواع العذاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَفَمَنْ (١) كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي كافرا ينفي تعالى إستواء الكافر مع المؤمن فلذا بعد الاستفهام الإنكاري أجاب بقوله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ) ثم بيّن تعالى جزاء الفريقين وبذلك تأكد بعد ما بينهما فقال (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربّا وإلها وبمحمد نبيّا ورسولا وبالإسلام شرعا ودينا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بأداء الفرائض والنوافل في الغالب بعد اجتنابهم الشرك والمحارم (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) (٢) أي ضيافة لهم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) عن أمر الله فلم يوحدوا ولم يطيعوا فعاشوا على الشرك والمعاصي حتى ماتوا (فَمَأْواهُمُ (٣) النَّارُ) أي مقرهم ومحل مثواهم وإقامتهم لا يخرجون (كُلَّما أَرادُوا) أي هموا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها من قبل الزبانية تدفعهم عن أبوابها ، (وَقِيلَ لَهُمْ) إذلالا لهم وإهانة (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إذ كانوا مكذبين بالبعث والجزاء وقالوا (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

__________________

(١) الاستفهام انكاري وفيه معنى التعجب والمراد بالفاسق هنا الكافر لمقابله المؤمن وفسقه بترك عبادة ربه وعبادة الأوثان والأصنام.

(٢) النزل بضمتين مشتق من النزول وهو ما يعد للضيف النازل بك من قرى وهو الطعام والشراب والفراش.

(٣) المأوى مكان الإيواء أي الرجوع إليه والاستقرار فيه.

٢٣٢

وقوله تعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وهو عذاب الدنيا بالقحط والغلاء والقتل والأسر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو عذاب يوم القيامة (لَعَلَّهُمْ (١) يَرْجِعُونَ) يخبر تعالى أنه فاعل ذلك بكفار قريش لعلهم يتوبون إلى الإيمان والتوحيد فينجوا من العذاب وينعموا في الجنة وفعلا قد تاب منهم كثيرون وقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ (٢) عَنْها) أي وعظ بها وخوّف كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عليهم القرآن وكان بعضهم يعرض عنها فلا يسمعها ويرجع وهو مستكبر والعياذ بالله فمثل هؤلاء لا أحد أشدّ منهم ظلما وقوله تعالى (إِنَّا مِنَ) (٣) (الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) يخبر تعالى أنه لا محالة منتقم من أهل الاجرام وهم أهل الشرك والمعاصي ، وورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر ثلاثة أصناف من أهل الإجرام الخاص وهم :

١) من اعتقد «عقد» لواء في غير حق أي حمل راية الحرب على المسلمين وهو مبطل غير محق.

٢) من عق والديه أي آذاهما بالضرب ونحوه ومنعهما برهما ولم يطعهما في معروف.

٣) من مشى مع ظالم ينصره رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان خطأ من يسوي بين المؤمن والكافر والبار والفاجر والمطيع والفاسق.

٢) بيان جزاء كل من المؤمنين والفاسقين.

٣) بيان أن الله تعالى كان يأخذ قريشا بألوان (٤) من المصائب لعلهم يتوبون.

٤) بيان أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات الله فيعرض عنها مستكبرا جاحدا معاندا.

__________________

(١) الجملة استئنافها بياني جوابا لمن قال لم يذيقهم العذاب الأدنى وهو عذاب الدنيا! دون العذاب الأكبر؟ فكان الجواب لعلهم يرجعون وهو تعليل للحكم السابق.

(٢) عطف الإعراض على التذكير بالآيات بثم للدلالة على التراخي بين زمن التذكير والإعراض كقول الشاعر :

لا يكشف الغماد إلا ابن حره

يرى غمرات الموت ثم يزورها

(٣) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا فهو جواب لمن تساءل عن جزاء صاحبه الإعراض بعد التذكير بالآيات وهو قوله تعالى إنا من المجرمين منتقمون.

(٤) من ذلك سنوات الجدب التي أكلوا فيها العهن وأصبح أحدهم يرى السماء وكأنها دخان من شدة الجوع.

٢٣٣

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي أنزلنا عليه التوراة.

(فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) : أي فلا تشك في لقائك بموسى عليه‌السلام ليلة الإسراء والمعراج.

(وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي وجعلنا الكتاب «التوراة» هدى أي هاديا لبني اسرائيل.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) : أي وجعلنا من بني اسرائيل أئمة أي قادة هداة يهدون الناس بأمرنا لهم بذلك وإذننا به.

(وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) : أي وكان أولئك الهداة يوقنون بآيات ربهم وحججه على عباده وما تحمله الآيات من وعد ووعيد.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي بين الأنبياء وأممهم وبين المؤمنين والكافرين والمشركين والموحدين.

(فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : من أمور الدين.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) : أي أغفلوا ولم يتبيّن.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) : أي إهلاكنا لكثير من أهل القرون من قبلهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم لرسلهم.

٢٣٤

(يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) : أي يمرون ماشين بديارهم وهي في طريقهم إلى الشام كمدائن صالح وبحيرة لوط ونحوهما.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي دلائل وعلامات على قدرة الله تعالى وأليم عقابه.

(أَفَلا يَسْمَعُونَ) : أي أصمّوا فلا يسمعوا هذه المواعظ والحجج.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى (١) الْكِتابَ) أي أعطينا موسى بن عمران أحد أنبياء بني اسرائيل الكتاب الكبير وهو التوراة. إذا فلم ينكر عليك المشركون أن يؤتيك ربك القرآن كما آتى موسى التوراة ، وفي هذا تقرير لأصل من أصول العقيدة وهي الوحي والنبوة المحمدية. وقوله (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) (٢) أي فلا تكن يا محمد في شك (٣) من لقائك موسى ليلة الإسراء والمعراج فقد لقيه وطلب إليه أن يراجع ربّه في شأن الصلاة فراجع حتى أصبحت خمسا بعد أن كانت خمسين وقوله (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي الكتاب أو موسى كلاهما كان هاديا لبني اسرائيل إلى سبيل السّلام والصراط المستقيم. وقوله (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة هداة يهدون الناس إلى ربهم فيؤمنون به ويعبدونه وحده فيكملون على ذلك ويسعدون وذلك بأمره تعالى لهم بذلك. وقوله (لَمَّا صَبَرُوا) أي عن أذى أقوامهم (٤) ، (وَكانُوا بِآياتِنا) الحاملة لأمرنا ونهينا ، ووعدنا ووعيدنا (يُوقِنُونَ) أي تأهلو لحمل رسالة الدعوة بشيئين : الصبر على الأذى واليقين التام بصحة ما يدعون إليه ونفعه ونجاعته وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ (٥) هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) يخبر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه سبحانه وتعالى الذي يفصل بين المختلفين من الأنبياء وأممهم ، وبين الموحدين والمشركين والسّنيين والبدعيين فيحكم بإسعاد أهل الحق وإشقاء أهل الباطل وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه مما يجد في نفسه من خلاف قومه له.

__________________

(١) هذا الإخبار استطراد المراد به تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفاء في قوله فلا تكن للتقريع.

(٢) وجائز أن يكون المعنى فلا تكن في شك من أنك لقيته ليلة الاسراء والمعراج وقيل فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب بالقبول وقيل فلا تكن في شك من أنه سيلقاك من الأذى والتكذيب ما لقيه موسى ، وما في التفسير هو الحق.

(٣) المرية : الشك والتردد والمقصود من النهي التثبيت كقوله (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ،) وليس النهي لطلب ترك الشك إذ لم يكن شك قط.

(٤) (لَمَّا صَبَرُوا) لما بمعنى حين صبروا عن أذى أقوامهم ، وقرأ خلاف الجمهور لما صبروا أي لأجل صبرهم جعلناهم أئمة ، فما مصدرية واللام قبلها لام التعليل.

(٥) هو ضمير فصل ومعنى يفصل يقضي ويحكم.

٢٣٥

وقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي أعموا فلم (١) يبيّن لهم إهلاكنا لأمم كثيرة (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) (٢) مارّين بهم في أسفارهم إلى الشام كمدائن صالح ، وبلاد مدين ، وبحيرة لوط أنّا قادرون على إهلاكهم إن أصروا على الشرك والتكذيب كما أهلكنا القرون من قبلهم. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي في إهلاكنا أهل القرون الأولى لما أشركوا وكذبوا دلالات وحججا وبراهين على قدرة الله وشدة انتقامه ممن كفر به وكذب رسوله وقوله (أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٣) أي أصموا فلا يسمعون هذه المواعظ التي تتلى عليهم فيتوبوا من الشرك والتكذيب فينجوا ويسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية وتأكيد قصة الإسراء والمعراج.

٢) الكتاب والسنة كلاهما هاد للعباد إن طلبوا الهداية فيهما.

٣) بيان ما تنال به الإمامة في الدين. وهو الصبر وصحة اليقين.

٤) كل خلاف كان في هذه الحياة سينتهي بحكم الله تعالى فيه يوم القيامة.

٥) في إهلاك الله تعالى للقرون السابقة أكبر واعظ لمن له قلب وسمع وبصيرة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

__________________

(١) هذا بناء على أن همزة الاستفهام داخلة على محذوف والاستفهام للإنكار عليهم عدم رؤيتهم مصارع الهالكين من قبلهم وهي واضحة بينه فضمن يهد معنى يبين فلذا عدي باللام ومثله (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) آية الأعراف.

(٢) جملة يمشون في محل نصب على الحال.

(٣) الاستفهام تقريري مشوب بالتوبيخ واختير لفظ يسمعون لأن أخبار الأمم الهالكة كانت شائعة مستفيضة بينهم فلم لا يسمعونها سماع اتعاظ واعتبار.

٢٣٦

شرح الكلمات

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) : أي أغفلوا ولم يروا سوقنا للماء للإنبات والإخصاب فيدلهم ذلك على قدرتنا.

(إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) : أي اليابسة التي لا نبات فيها.

(تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) : أي مواشيهم من إبل وبقر وغنم.

(أَفَلا يُبْصِرُونَ) : أي أعموا فلا يبصرون أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على البعث.

(مَتى هذَا الْفَتْحُ) : أي الفصل والحكم بيننا وبينكم يستعجلون العذاب.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي ولا هم يمهلون للتوبة أو الاعتذار.

(وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) : أي وانتظر يا رسولنا ما سيحل بهم من عذاب إن لم يتوبوا فإنهم منتظرون بك موتا أو قتلا ليستريحوا منك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح الاجتماعي فيقول تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا (أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) (١) ماء الأمطار أو الأنهار (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) (٢) اليابسة التي ما بها من نبات فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم (وَأَنْفُسُهُمْ) فالأنعام تأكل الشعير والذرة وهم يأكلون البر والفول ونحوه (أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإحياء الأرض الجزر فيؤمنوا بالبعث الآخر وعليه يستقيموا في عقائدهم وكل سلوكهم. وقوله (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ (٣) إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين لما يخوفونهم بعذاب الله يقولون لهم متى هذا الفتح أي الحكم والفصل يستعجلونه لخفة أحلامهم وعدم إيمانهم.

__________________

(١) الرؤية هنا بصرية واختير المضارع نسوق لاستحضار الصورة العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ولطفه بعباده ورحمته بهم ، وسوق الماء هو بسوق السحاب ، والسوق هو إزجاء الماشي من ورائه.

(٢) الجرز وصف للأرض التي انقطع نبتها ، وهو مشتق من الجزر وهو انقطاع النبت والحشيش إما بسبب يبس الأرض أو بالرعي ، والجرز القطع ولذا سمي السيف القاطع جرازا قال الشاعر يصف أسنان ناقته :

تنحّى على الشوك جرازا مقضبا

والهرم تدريه إذراء عجبا

(٣) الفتح : النصر والقضاء كانوا إذا قال لهم المؤمنون سيحكم الله بيننا وبينكم يوم القيامة فيثيب المؤمن ويعاقب الكافر يقولون لهم مستهزئين ساخرين متى هذا الفتح أو الحكم.

٢٣٧

وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم. فقال (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ (١) لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) أي إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفسا كافرة إيمانها عند رؤية العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يؤخرون ويمهلون ليتوبوا ويستغفروا فيتاب عليهم ويغفر لهم إذ سنّة الله أنّ من عاين العذاب لا تقبل توبته. وقوله تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فأعرض يا رسولنا عن هؤلاء المكذبين (وَانْتَظِرْ) (٢) ما سينزل بهم من عذاب (إِنَّهُمْ (٣) مُنْتَظِرُونَ) ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل ليستريحوا منك في نظرهم. كما هم منتظرون أيضا عذاب الله عاجلا أو آجلا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها.

٢) استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم.

٣) بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار.

سورة الأحزاب

مدنية

وآياتها ثلاث وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

__________________

(١) هذا إجابة لهم ورد عليهم والفتح جائز أن يكون فتح مكة أو يوم بدر أو يوم القيامة إذ هو اليوم الذي يحكم الله تعالى فيه بين عباده.

(٢) الانتظار الترقب مشتق من النظر كأنه مضارع أنظره فانتظر وحذف مفعول «انتظر» للتهويل أي انتظر أياما يكون لك النصر فيها ، ويكون الخسران لأعدائك فيها ، وفي الأمر بالانتظار إيماء بالبشرى للمؤمنين والوعيد للكافرين.

(٣) جملة انهم منتظرون تعليل للأمر بالانتظار.

٢٣٨

شرح الكلمات :

(اتَّقِ اللهَ) : أي دم على تقواه بامتثالك أوامره واجتنابك نواهيه.

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) : أي المشركين فيما يقترحون عليك.

(وَالْمُنافِقِينَ) : أي الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر بما يخوفونك به.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) : أي عليما بخلقه ظاهرا وباطنا حكيما في تدبيره وصنعه

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) : أي تقيد بما يشرع لك من ربك ولا تلتفت إلى ما يقوله خصومك لك من اقتراحات أو تهديدات.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) : أي فوض أمرك إليه وامض في ما أمرك به غير مبال بشيء.

معنى الآيات :

لقد واصل المشركون اقتراحاتهم التي بدأوها بمكة حتى المدينة وهي عروض المصالحة بينه وبينهم بالتخلي عن بعض (١) دينه أو بطرد بعض أصحابه ، والمنافقون قاموا بدورهم في المدينة بتهديده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتل غيلة إن لم يكف عن ذكر آلهة المشركين في هذا الظرف بالذات نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) (٢) ناداه ربّه تعالى بعنوان النبوة تقريرا لها وتشريفا له ولم يناده باسمه العلم كما نادى موسى وعيسى وغيرهما بأسمائهم فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ (٣) الْكافِرِينَ (٤) وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي اتق الله فخفه فلا تقبل اقتراح المشركين ، ولا ترهب تهديد المنافقين بقتلك إن الله كان وما يزال عليما بكل خلقه وما يحدثون من تصرفات ظاهرة أو باطنة حكيما في تدبيره وتصريفه أمور

__________________

(١) هذا من قوله تعالى في سورة الاسراء (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

(٢) نداؤه تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان النبوة تشريف له وتقرير لنبوته وناداه بعنوان الرسالة في موضعين من كتابه وذلك في سورة المائدة. وأمره أن يخبر البشرية كلها بأنه رسول الله اليهم وحدث عنه فوصفه بالرسالة «محمد رسول الله» ولم يناده باسمه العلم لشهرته وعدم الحاجة إليه وحتى لا يدعي أحد انه هو المعني بهذا الاسم وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أسماء كما جاء ذلك في حديث الموطأ : لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب.

(٣) الطاعة : العمل بما يأمر به الغير أو يشير به لأجل تحقيق غرض له صالحا كان أو فاسدا.

(٤) سبب نزول هذه الآية أن وفدا جاء من مكة بعد غزوة أحد برئاسة أبي سفيان واجتمعوا بعد أن أمّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولهم المدينة بعدد من النافقين على رأسهم أبن أبي ومعتب بن قشير وطعمة بن أبيرق فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يترك ذكر آلهة قريش كخطوة فى المصالحة فغضب المسلمون وهمّ عمر بقتلهم فنزلت هذه الآية : ولا تطع الكافرين والمنافقين.

٢٣٩

خلقه وعباده فهو تعالى لعلمه وحكمته لا يخذلك ولا يتركك ، ولا يمكن اعداءك وأعداءه منك بحال وقوله (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) من تشريعات خاصة وعامة ولا تترك منها صغيرة ولا كبيرة إذ هي طريق فوزك وسلم نجاحك أنت وامتك تابعة لك في كل ذلك ، وقوله (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) هذه الجملة تعليلية تحمل الوعد والوعيد إذ علم الله بأعمال العباد صالحها وفاسدها يستلزم الجزاء عليها فمتى كانت صالحة كان الجزاء حسنا وفي هذا وعده ومتى كانت فاسدة كان الجزاء سوءا وفي هذا الوعيد. وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن يتوكل على الله في أمره ويمضي في طريقه منفذا أحكام ربه غير مبال بالكافرين ولا بالمنافقين ، وأعلمه ضمنا أنه كافيه متى توكل عليه وكفى بالله كافيا ووكيلا حافظا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب تقوى الله تعالى بفعل المأمور به وترك المنهي عنه.

٢) حرمة طاعة الكافرين والمنافقين فيما يقترحون أو يهددون من أجله.

٣) وجوب اتباع الكتاب والسنة والتوكل على الله والمضي في ذلك بلا خوف ولا وجل.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

٢٤٠