أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

آياتُنا وَلَّى (١) مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)

أي وإذا قرئت على هذا الصنف من الناس آيات الله لتذكيره وهدايته رجع مستكبرا كأن لم يسمعها تتلى عليه وهي حالة من أقبح الحالات لدلالتها على خبث هذا الصنف من الناس وكبرهم. وقوله (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) (٢) كأن به صمم لا يسمع القول وهنا عجّل الله له بما يحزنه ويخزيه فقال لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) والتبشير بما يضر ولا يسر يحمل معه التهكم وهذ النوع من الناس مستحق لذلك وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها) هذا صنف آخر مقابل لما قبله وهم أهل الإيمان والعمل الصالح بشرهم ربهم بجنات النعيم والخلود فيها وقوله (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي (٣) وعدهم بذلك وعدا صادقا لا يخلف وأحقه لهم حقا لا يسقط. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده (الْحَكِيمُ) الذي يضع كل شيء في موضعه.

وقوله (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٤) أي من مظاهر قدرته وعزته وحكمته خلقه السموات ورفعها بغير عمد مرئية لكم وفي هذا التعبير إشارة إلى أن هناك أعمدة غير مرئية وهي سنّة نظام الجاذبية التي خلقها بقدرته وجعل الأجرام السمواية متماسكة بها. وقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي من مظاهر قدرته وحكمته إلقاء الجبال الرواسي على الأرض لتحفظ توازنها حتى لا تميل بأهلها فيفسد ويسقط ما عليها وتنعدم الحياة عليها وهو معنى (أَنْ تَمِيدَ (٥) بِكُمْ) أي تميل ، وإذا مالت تصدع كل ما عليها وخرب وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وهذا مظهر آخر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة للإيمان بالله ولقائه والمستلزمة لتوحيده تعالى في عبادته ، فسائر أنواع الدواب على كثرتها واختلافها الله الذي خلقها وفرقها في الأرض تعمرها وتزيّنها. وقوله (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو ماء المطر (فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف من أصناف الزروع والنباتات مما

__________________

(١) (وَلَّى) هذا تمثل للإعراض عن آيات الله التي تتلى عليه ومستكبرا حال مبينة وأن إعراضه كان لا عن إهمال أو تفريط وإنما كان عن كبر كأن لم يسمعها تكرار التشبيه لفائدة الإخبار بأنه مرة لم يسمعها مع وجود حاسة السمع وأخرى مع عدم وجودها.

(٢) قرأ نافع أذنيه بإسكان الذال تخفيفا وقرأ الجمهور أذنيه بتحريك الذال مضمومة.

(٣) انتصاب وعد الله على المفعول المطلق وانتصاب حقا على الحال.

(٤) ترونها في محل جر نعت لعمد ومعنى هذا أن هناك عمدا غير مرئية ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من السموات.

(٥) أي كراهية أن تميد بكم أي تميل أو لئلا تميد والكل جائز.

٢٠١

هو نافع وصالح للإنسان هذا المذكور أيضا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة الربّانية الموجبة للإيمان بالله وآياته ولقائه وتوحيده في عباداته ومن هنا قال تعالى : (هذا خَلْقُ (١) اللهِ) أي كل ما ذكر من المخلوقات في هذه الآيات هو مخلوق لله والله وحده خالقه فأروني أيها المشركون المكذبون ما ذا خلق الذين تعبدونهم من دونه من سائر المخلوقات يتحداهم بذلك. فعجزوا. وقوله تعالى (بَلِ (٢) الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنهم عبدوا غير الله وكذبوا بلقاء الله لا عن علم لديهم أو شبهة كانت لهم بل الظالمون وهم المشركون في ضلال مبين فهم تائهون في أودية الضلال حيارى بجهلهم في حياتهم فدواؤهم العلم والإيمان فمتى آمنوا وعلموا لم يبق مجال لكفرهم وشركهم وعنادهم فلهذا فصّل تعالى الآيات وعرض الأدلة والحجج عرضا عجيبا لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا فيكملوا ويسعدوا فضلا منه ورحمة. وهو العزيز الرحيم

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) حرمة غناء النساء للرجال الأجانب.

٢) حرمة شراء الأغاني في الأشرطة والاسطوانات التي بها غناء العواهر والخليعين من الرجال.

٣) حرمة حفلات الرقص والغناء الشائعة اليوم في العالم كافره ومسلمه.

٤) دعوة الله تقوم على دعامتي الترهيب والترغيب والبشارة والنذارة.

٥) بيان شتّى مظاهر القدرة والعلم والعز والحكمة الموجب للإيمان والتوحيد.

٦) لا قصور في الأدلة والحجج الإلهية وإنما ضلال العقول بالشرك والمعاصى هو المانع من الاهتداء. والعياذ بالله تعالى.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما

__________________

(١) خلق الله بمعنى مخلوقه.

(٢) بل للاضراب الانتقالي من المجادلة إلى تسجيل ضلالهم وهو اعتقادهم إلهية الأصنام كما يقول المناظر دع عنك هذا وانتقل إلى كذا.

٢٠٢

يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ (١) جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) : أي أعطينا لقمان (٢) القاضي : أي الفقه في الدين والعقل والإصابة في الأمور.

(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) : أي اشكر لله ما أنعم به عليك بطاعته وذكره.

(لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) : أي ابنه ثاران وهو يعظه أي يأمره وينهاه مرغّبا له مرهبا.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : أي عهدنا إليه ببرهما وهو كف الأذى عنهما والإحسان إليهما وطاعتهما في المعروف.

(وَهْناً عَلى وَهْنٍ) : أي ضعفا على ضعف وشدة على شدة وهي الحمل والولادة والإرضاع.

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) : أي مدة رضاعه تنتهي في عامين ، وبذلك يفصل عن

__________________

(١) هذه الآية : وإن جاهداك والتي قبلها ووصينا الإنسان نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص لما أسلم وان أمة حمنه بنت أبي سفيان بن أمية حلفت ألا تأكل حتى يكفر سعد أو تموت جوعا وعطشا حتى يعير بها مدى الحياة (يا قاتل أمه) إلا أنها لما أيأسها سعد أسلمت وأكلت وشربت.

(٢) هو لقمان بن باعوراء بن ناصور بن تارح وهو ازر أبو ابراهيم كذا نسبه ابن اسحق وقال السهيلي هو لقمان بن عتفاد بن سرون وكان نوبيا من أهل أيلة ، قال وهب كان ابن اخت أيوب أو ابن خالته عاش ألف سنة وأدركه داود عليه‌السلام وكان رجلا حكيما ولم يكن نبيا ومن حكمه قوله إن القلب واللسان إذا طابا فليس شيء أطيب منهما وإذا خبثا فليس شي أخبث منهما وقوله وقد قيل له أي الناس شر؟ قال الذي لا يبالي أن رآه الناس مسيئا وقوله الصمت حكمة وقليل فاعله.

٢٠٣

الرضاع.

(وَإِنْ جاهَداكَ) : أي بذلا جهدهما في حملك على الشرك.

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) : أي واصحبهما في حياتهما بالمعروف وهو البر والإحسان وكف الأذى والطاعة في غير معصية الله.

(مَنْ أَنابَ إِلَيَ) : أي رجع إليّ بتوحيدي وطاعتي وطاعة رسولي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

/ معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين وهذه القصة اللقمانية اللطيفة مشوقة لذلك قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أي أعطينا عبدنا لقمان الحكمة وهي الفقه في الدين والإصابة في الأمور ورأسها مخافة الله تعالى بذكره وشكره الذي هو طاعته في عبادته وتوحيده فيها. وقوله : (أَنِ اشْكُرْ (١) لِلَّهِ) أي وقلنا له اشكر الله خالقك ما أنعم به عليك بصرف تلك النعم فيما يرضيه عنك ولا يسخطه عليك. وقوله تعالى (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي ومن شكر الله بطاعته فإن ثمرة الشكر وعائدته للشاكر نفسه بحفظ النعمة والزيادة فيها أما الله فإنه غني بذاته محمود بفعاله فلا يفتقر إلى خلقه في شيء إذ هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى. وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ) أي واذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين قول لقمان لابنه وأخص الناس به وهو ينهاه عن الشرك الذي نهيتكم أنا عنه فغضبتم وأصررتم عليه عنادا ومكابرة فقال له : بما اخبر به تعالى عنه في قوله : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) (٢) (وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يأمره وينهاه مرغبا له في الخير مرهبا له من الشر : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) أي في عبادته أحدا. وعلل لنهيه ليكون أوقع في نفسه فقال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ (٣) عَظِيمٌ) والظلم وضع الشيء في غير موضعه ويترتب عليه الفساد والخسران الكبير ، وعبادة غير الله وضع لها في غير موضعها إذ العبادة حق الله على عباده

__________________

(١) وجائز أن تكون أن التفسيرية أي مفسرة للفظ الحكمة بأنها الشكر لله تعالى وهي أقوال القيت إليه بإلهام ففي الحكمة معنى القول دون حروفه. كما فسرت (حاجة) في قول الشاعر لأنها بمعنى القول.

إن تحملا حاجة لي خف محملها

تستوجبا منة عندي بها ويدا

أن تقرآن على أسماء ويحكما

مني السّلام وان لا تخبرا أحدا

(٢) قيل كان اسم ابنه ثاران وقيل مشكم وقيل أنعم والله أعلم.

(٣) روي مسلم انه لما نزلت (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه : يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.

٢٠٤

مقابل خلقهم ورزقهم وكلاءتهم في حياتهم وحفظهم وقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ (١) بِوالِدَيْهِ) أي عهدنا إلى الإنسان آمرين أياه ببرّ والديه أي أمه وأبيه ، وبرّهما بذل المعروف لهما وكف الأذى عنهما وطاعتهما (٢) في المعروف ، وقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ) أي الإنسان أمه أي والدته (وَهْناً عَلى (٣) وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف وشدة على أخرى وهي آلام وأتعاب الحمل والطلق والولادة والإرضاع فلهذا تأكدّ برّها فوق برّ الوالد مرتين لحديث الصحيح : [من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال أمك ، قال ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من؟ قال : أبوك] وقوله (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) أي فطام الولد من الرضاع في عامين فأول الرضاع ساعة الولادة وآخره تمام الحولين ويجوز فصله عن الرضاع خلال العامين ، وقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) هذا الموصى به وهو أن يشكر لله تعالى وذلك بطاعته تعالى فيما يأمره به وينهاه عنه ، وذكره بقلبه ولسانه وقوله (وَلِوالِدَيْكَ) إذ هما قدما معروفا وجميلا فوجب شكرهما ، وذلك ببرّهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله ورسوله ، لأن طاعة الله كشكره قبل طاعة الوالدين وشكرهما وقوله (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي الرجوع بعد الموت وهذه الجملة مؤكدة لواجب شكر الله تعالى وبر الوالدين لما تحمله من الترغيب والترهيب فالمطيع إذا رجع إلى الله أكرمه والعاصي أهانه. وما دام الرجوع إليه تعالى حتميّا فطاعته بشكره وشكر الوالدين متأكدة متعيّنة. وقوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي وإن جاهداك أيها الإنسان والداك وبذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وهو عامة الشركاء إذ ما هناك من يصح إشراكه في عبادة الله قط. فلا تطعهما في ذلك أبدا ، (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا) (٤) أي في الحياة بالمعروف وهو برهما وصلتهما وطاعتهما في غير معصية الله تعالى ورسوله ، وقوله : (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي اتبع طريق من أناب إليّ بتوحيدي وعبادتي والدعوة إليّ

__________________

(١) الراجح أن هاتين الآيتين وقعتا اعتراضا بين كلام لقمان الأول والثاني وأنهما نزلتا في شأن والدة سعد بن أبي وقاص وللاعتراض فائدة وهي التنويع في الأسلوب لإذهاب السآمة وتجديد نشاط الذهن للحفظ والفهم وجائز أن يكون لا اعتراض والآيتان من كلام لقمان.

(٢) روى أن الحسن قال لو منعت والدة ولدها من شهود صلاة العشاء شفقة عليه فلا يطعها.

(٣) الوهن بإسكان الهاء مصدر وهن يهن من باب ضرب ووهن بفتح الواو والهاء من باب وجل يوجل وجلا. والمعنى أي وهنا واقعا على وهن كقولهم (عودا على بدء) أي رجع عودا على بدء.

(٤) معروفا نعت لمصدر محذوف تقديره مصاحبا معروفا. وفي الآية دليل على جواز بر الأم الكافرة أو الأب لحديث أسماء إذ قالت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال نعم ، ووالدة أسماء هي قتيلة بنت عبد العزى ووالدة عائشة هي أم رومان قديمة الإسلام.

٢٠٥

وهو رسول (١) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآية نزلت في سعد ابن أبي وقاص حيث أمرته أمه أن يكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه وذلك قبل إسلامها وبذلت جهدا كبيرا في مراودة ابنها سعد رضي الله عنهما وقوله (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي جميعا فأنبكم بما كنتم تعملون وأجزيكم بعملكم الخير بالخير والشر بالشر فاتقوني بطاعتي وتوحيدي والإنابة إليّ في كل أموركم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.

٢) بيان الحكمة وهي شكر (٢) الله تعالى بطاعته وذكره إذ لا يشكر إلا عاقل فقيه.

٣) مشروعية الوعظ والإرشاد للكبير والصغير والقريب والبعيد.

٤) التهويل في شأن الشرك وإنه لظلم عظيم.

٥) بيان مدة الرضاع وهي في خلال العامين لا تزيد.

٦) وجوب بر الوالدين وصلتهما.

٧) تقرير مبدإ لا طاعة لمخلوق (٣) في معصية الخالق بعدم طاعة الوالدين في غير المعروف.

٨) وجوب اتباع سبيل المؤمنين من أهل السنة والجماعة وحرمة اتباع سبيل أهل البدع والضلالة.

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ

__________________

(١) الآية عامة في سائر المؤمنين فعلى كل مؤمن اتباع الصالحين في كل زمان ومكان والاقتداء بهم وعليه مجانبة أهل الضلال والفسق والعصيان وعدم اتباعهم في باطلهم وضلالهم وفسقهم وعصيانهم.

(٢) روى أن سفيان بن عيينة قال من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في ادبار الصلوات فقد شكرهما.

(٣) صح الحديث بلفظ إنما الطاعة في المعروف وبلفظ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

٢٠٦

بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) : أي توجد زنة حبة من خردل.

(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) : أي في داخل صخرة من الصخور لا يعلمها أحد.

(لَطِيفٌ خَبِيرٌ) : أي لطيف باستخراج الحبة خبير بموضعها حيث كانت.

(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : أي مر الناس بطاعة الله تعالى ، وانههم عن معصيته.

(مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : أي مما أمر الله به عزما لا رخصة فيه.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) : أي ولا تعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرا.

(مَرَحاً) : أي مختالا تمشي خيلاء.

(مُخْتالٍ فَخُورٍ) : أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أي إتّئد ولا تعجل في مشيتك ولا تستكبر.

(وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : أي اخفض من صوتك وهو الاقتصاد في الصوت.

(إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) : أي أقبح الأصوات وأشدها نكارة عند الناس لأن أوله زفير وآخره شهيق.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في قصص لقمان عليه‌السلام فقال تعالى مخبرا عن لقمان بقوله لابنه ثاران (يا بُنَيَ (١) إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ (٢) خَرْدَلٍ) أي إن تك زنة حبة من خردل من

__________________

(١) تكرير النداء حكمته تجديد نشاط السماع وقرأ نافع مثقال بالرفع على انه فاعل تك وكان التي مضارعها تك تامة وقرأ حفص مثقال بالفتح على أن كان ناقصة ومثقال خبرها وقوله انها أي القصة أو الحالة المسؤول عنها.

(٢) روي أن ناران بن لقمان قال لأبيه يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يقابلها الله؟ فقال لقمان يا بني إنها إن تك مثقال حبة الخ .. فما زال ابنه يضطرب حتى مات قاله مقاتل رحمه‌الله.

٢٠٧

خير أو شر من حسنة أو سيئة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ (١) أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ) ويحاسب عليها ويجزي بها ، (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي باستخراجها (خَبِيرٌ) بموضعها وعليه فاعمل الصالحات واجتنب السّيئات وثق في جزاء الله العادل الرحيم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٦) أما الآية الثانية (١٧) فقد تضّمنت أمر ولده باقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك فقال له ما أخبر تعالى به عنه في قوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدها بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ، (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بطاعة الله تعالى فيما أوجب على عباده (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عما حرم الله تعالى على عباده من اعتقاد أو قول أو عمل. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من أذى ممن تأمرهم وتنهاهم ، وقوله (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي إن اقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذات الله من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليست برخص وقوله تعالى (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (٢) هذا مما قاله لقمان لابنه نهاه فيه عن خصال ذميمة محرمة وهى التكبر على الناس بأن يخاطبهم وهو معرض عنهم بوجهه لا وعنقه (٣) ، وهي مشية المرح والاختيال والتبختر ، والفخر بالنعم مع عدم شكرها وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ (٤) فَخُورٍ) هذا مما قاله لقمان لابنه لما نهاه عن التكبر والاختيال والفخر أخبره أن الله تعالى لا يحب من هذه حاله حتى يتجنبها ولده الذي يعظه بها وبغيرها وقوله في الآية (١٩) (وَاقْصِدْ فِي (٥) مَشْيِكَ) أي إمش متّئدا في غير عجلة ولا إسراع إذ الاقتصاد ضد الإسراف. وقوله : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أمره أن يقتصد في صوته أيضا فلا يرفع صوته إلا بقدر الحاجة. كالمقتصد لا يخرج درهمه إلا عند الحاجة وبقدرها وقوله (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ذكر هذه الجملة لينفره من رفع صوته بغير حاجة فذكر له أنّ أقبح الأصوات صوت الحمير (٦) لأنه عال مرتفع وأوله زفير وآخره

__________________

(١) قيل أن الصخرة تكون تحت الأرض السابعة لأنها ليست في السماء ولا في الأرض.

(٢) الصعر الميل ومنه قول الشاعر :

وكنا إذا الجبار صعر خده

أقمنا له من ميله فتقوم

والصعر كالصّيد داء يصيب الإبل فتلوى منه أعناقها.

(٣) شاهده في الحديث الصحيح لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ، فقوله ولا تدابروا يشمل تصعير الوجه أي ميله.

(٤) المختال ذو الخيلاء قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة والفخور هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تعالى (قاله مجاهد).

(٥) ما روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا مشى أسرع فإنما أريد به السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت المظهر للمسكنة والذلة.

(٦) بالحمار يضرب المثل في البلادة وينهى عن رفع الصوت لغير حاجة حتى لا يكون صوت المتكلم كصوت الحمار الممقوت والحمار إذا نهق فإنه رأى شيطانا كما في الحديث ، وركبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواضعا ، وقيل نهيق الحمار دعاء عن الظلمة.

٢٠٨

شهيق. هذا آخر ما قص تعالى من نبأ لقمان العبد الصالح عليه‌السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب مراقبة الله تعالى وعدم الاستخفاف بالحسنة والسيئة مهما قلت وصغرت.

٢) وجوب إقام الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يلحق الآمر والناهي من أذى.

٣) حرمة التكبر والاختيال في المشي ووجوب القصد في المشي والصوت فلا يسرع ولا يرفع صوته إلا على قدر الحاجة.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

شرح الكلمات

(أَلَمْ تَرَوْا) : أي ألم تعلموا أيّها الناس.

(سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) : أي من شمس وقمر وكواكب ورياح وأمطار لمنافعكم.

(وَما فِي الْأَرْضِ) : أي من أشجار وأنهار وجبال وبحار وغيرها.

(وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً) : أي أوسع وأتّم عليكم نعمه ظاهرة وهي الصحة وكمال الخلق وتسوية الأعضاء.

(وَباطِنَةً) : أي المعرفة والعقل.

(مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) : أي يخاصم في توحيد الله منكرا له مكذبا به.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي بدون علم عنده من وحي ولا هو مستفاد من دليل عقلي.

(وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) : أي سنة من سنن الرسل ، ولا كتاب إلهي منير واضح بيّن.

٢٠٩

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ) : أي ايتبعونهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم إلى موجب عذاب السعير من الشرك والمعاصي.

معنى الآيات

عاد السياق بعد نهاية قصة لقمان إلى خطاب المشركين لهدايتهم فقال تعالى (أَلَمْ تَرَوْا) أيها الناس الكافرون بالله وقدرته ورحمته أي ألم تعلموا بمشاهدتكم (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ) (١) أي من أجلكم (ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر وكواكب ومطر ، وسخر لكم ما في الأرض من أشجار وأنهار وجبال ووهاد وبحار وشتّى الحيوانات ومختلف المعادن كل ذلك لمنافعكم في مطاعمكم ومشاربكم وكل شؤون حياتكم ، (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) (٢) أي أوسعها وأتمها نعم الإيجاد ونعم الإمداد حال كونها ظاهرة كحسن (٣) الصورة وتناسب الأعضاء وكمال الخلق ، وباطنة كالعقل والإدراك والعلم والمعرفة وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعد ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ومع هذا البيان والإنعام والاستدلال على الخالق بالخلق وعلى المنعم بالنعم فإن ناسا يجادلون (٤) في توحيد الله وأسمائه وصفاته ووجوب طاعته وطاعة رسوله بغير علم من وحي ولا استدلال من عقل ، ولا كتاب منير واضح بين يحتجون به ويجادلون بأدلته.

وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ) (٥) أي لأولئك المجادلين في الله بالجهل والباطل (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هدى ، قالوا لا ، بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا من عقائد وثنيّة وتقاليد جاهلية ، قال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) أي أيتّبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي النار المستعرة الملتهبة والجواب لا ، ولكن اتبعوهم فسوف يردون معهم النار وبئس الورد المورود.

__________________

(١) ذكر نعم الله الموجبة لشكره بعبادته وحده وترك عبادة من سواه.

(٢) قرأ نافع وحفص (نِعَمَهُ) بالجمع وقرأ آخرون بالإفراد نعمته وهي داله على الجمع لأنها اسم جنس دال على متعدد بدليل قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

(٣) عن ابن عباس أن النعم الظاهرة الإسلام وما حسن من الخلق والباطنة ما ستر على العبد من سيء العمل وقيل النعم الظاهرة الصحة وكمال الخلق والباطنة المعرفة والعقل.

(٤) قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم أي بغير حجة نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو فجاءت صاعقة فأخذته قاله مجاهد.

(٥) هذا عام في اليهودي السائل وفي المشركين الذين طالما سألوا وجادلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهلهم وتقليد آبائهم وهم من أجهل الناس.

٢١٠

هداية الآيات

من هداية الآيات

١) تعيين الاستدلال بالخلق على الخالق وبالنعمة على المنعم.

٢) وجوب ذكر النعم وشكرها لله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣) حرمة الجدال بالجهل ودون علم.

٤) حرمة التقليد في الباطل والشر والفساد كتقليد بعض المسلمين اليوم للكفار في عاداتهم وأخلاقهم ومظاهر حياتهم.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) : أي أقبل على طاعته مخلصا له العبادة لا يلتفت إلى غيره من سائر خلقه.

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) : أي والحال انه محسن في طاعته اخلاصا واتباعا.

(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : أي تعلّق بأوثق ما يتعلق به فلا يخاف انقطاعه بحال.

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) : أي مرجع كل الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) : أي متاعا في هذه الدنيا قليلا إي إلى نهاية آجالهم.

(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) : أي ثم نلجئهم في الآخرة إلى عذاب النار والغليظ :

٢١١

الثقيل.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي إحمد الله على ظهور الحجة بأن تقول الحمد لله.

(لا يَعْلَمُونَ) : أي من يستحق الحمد والشكر ومن لا يستحق لجهلهم.

معنى الآيات

بعد إقامة الحجة على المشركين في عبادتهم غير الله وتقليدهم لآبائهم في الشرك والشر والفساد قال تعالى مرغبا في النجاة داعيا إلى الإصلاح : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) (١) أي يقبل بوجهه وقلبه على ربه يعبده متذللا له خاضعا لأمره ونهيه. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي والحال أنه محسن في عبادته اخلاصا فيها لله ، واتباعا في أدائها لرسول الله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي قد أخذ بالطرف الأوثق فلا يخاف انقطاعا أبدا وقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يخبر تعالى أن مردّ الأمور كلها لله تعالى يقضي فيها بما يشاء فليفوّض العبد اموره كلها لله إذ هي عائدة إليه فيتخذ بذلك له يدا عند ربه ، وقوله لرسوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ (٢) كُفْرُهُ) أي أسلم وجهك لربك وفوض أمرك إليه متوكلا عليه ومن كفر من الناس فلا يحزنك كفره أي فلا تكترث به ولا تحزن عليه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي فإن مردهم إلينا بعد موتهم ونشورهم (فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) في هذا الدار من سوء وشر ونجزيهم به. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣) أي بما تكنه وتخفيه من اعتقادات ونيّات وبذلك يكون الحساب دقيقا والجزاء عادلا. وقوله تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ (٤) قَلِيلاً) أي نمهل هؤلاء المشركين فلا نعاجلهم بالعقوبة فيتمتعون مدة آجالهم وهو متاع قليل (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) بعد موتهم ونشرهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) أي نلجئهم إلجاء إلى عذاب غليظ ثقيل لا يحتمل ولا يطاق وهو عذاب النار. نعوذ بالله منها ومن كل عمل يؤدي إليها وقوله تعالى في الآية (٢٥) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين قائلا لهم : من خلق السموات والأرض لبادروك

__________________

(١) أسلم وسلّم بمعنى ، إلا أن التضعيف للتكثير وعدي باللام نحو قول أسلمت وجهي لله ، وعدي مرة بإلى قال القرطبي معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالما لله أي خالصا له ومعناه مع إلى راجع إلى أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه.

(٢) قرأ نافع يحزنك بضم الياء وكسر الزاي يحزنك وقرأ حفص (يَحْزُنْكَ) بفتح الباء وضم الزاي يحزنك فالأولى مضارع احزنه.

يحزنه كأعلم يعلمه والثاني مضارع حزنه كنصره ينصره.

(٣) الجملة تعليلية لما سبقها من أحكام.

(٤) جملة نمتعهم قليلا مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا يقول ما الذي يترتب على علمه تعالى بذات الصدور فالجواب انه يمتعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ.

٢١٢

بالجواب قائلين الله إذا قل الحمد لله على إقامة الحجة عليكم باعترافكم ، وما دام الله هو الخالق الرازق كيف يعبد غيره أو يعبد معه سواه أين عقول القوم؟ وقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون موجب الحمد ولا مقتضاه ، ولا من يستحق الحمد ومن لا يستحقه لأنهم جهلة لا يعلمون شيئا. وقوله تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وعبيدا ولذا فهو غني عن المشركين وعبادتهم فلا تحزن عليهم ولا تبال بهم عبدوا أو لم يعبدوا (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن كل ما سواه (الْحَمِيدُ) أي المحمود بعظيم فعله وجميل صنعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات

١) بيان نجاة أهل لا إله إلا الله وهم الذين عبدوا الله وحده بما شرع لهم على لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣) بيان أن المشركين من العرب موحدون في الربوبيّة مشركون في العبادة كما هي حال كثير من الناس اليوم يعتقدون أن الله ربّ كل شيء ولا ربّ سواه ويذبحون وينذرون ويحلفون بغيره ، ويخافون غيره ويرهبون سواه. والعياذ بالله.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) : أي من شجرة.

(أَقْلامٌ) : أي يكتب بها.

(وَالْبَحْرُ) : أي المحيط.

يمده سبعة أبحر : أي تمده

(ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) : أي ما انتهت ولا نقصت.

٢١٣

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أي عزيز في انتقامه غالب على ما أراده حكيم في تدبير خلقه.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) : أي ما خلقكم ابتداء ولا بعثكم من قبوركم إعادة لكم إلا كخلق وبعث نفس واحدة.

معنى الآيتين

قوله تعالى (وَلَوْ أَنَ (١) ما فِي الْأَرْضِ مِنْ (٢) شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) أي لو أن شجر الأرض كله قطعت أغصانه شجرة شجرة حتى لم تبق شجرة وبريت أقلاما ، والبحر المحيط صار مدادا ومن ورائه سبعة أبحر أخرى تحولت إلى مداد وتمد البحر الأول وكتب بتلك الأقلام وذلك المداد كلمات الله لنفد البحر والأقلام ولم تنفد كلمات الله ، وذلك لأن الأقلام والبحر متناهية ، وكلمات الله غير متناهية فعلم الله وكلامه كذاته وصفاته لا تتناهى بحال ، نزلت هذه الآية ردا على اليهود لما قيل لهم (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) قالوا وكيف هذا وقد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء. كما نزل ردا على أبي بن خلف قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ (٣) وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ (٤) واحِدَةٍ) إذ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يخلقنا الله خلقا جديدا في يوم واحد ليحاسبنا ويجزينا ، ونحن خلقنا اطوارا وفي قرون عديدة فأنزل تعالى قوله (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) إلا كخلق وبعث نفس واحدة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ (٥) بَصِيرٌ) فكما يسمع المخلوقات ولا يشغله صوت عن صوت ، ويبصرهم ولا تحجبه ذات عن ذات كذلك هو يبعثهم في وقت واحد ولو أراد خلقهم جملة واحدة لخلقهم لأنه يقول للشيء كن فيكون.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) بيان سعة علم الله تعالى وأنه تعالى متكلم وكلماته لا تنفد بحال من الأحوال.

٢) بيان أن ما أوتيه الإنسان من علوم ومعارف ما هو بشيء إلى علم الله تعالى.

__________________

(١) قيل في سبب هذه الآية المدنية على رأي ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود قالوا : يا محمد كيف عنينا بهذا القول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه وعندك انها تبيان كل شيء. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوراة قليل من كثير ونزلت هذه الآية.

(٢) من شجرة من بيانية وفي التعبير ب لو : دلالة على أن مضمون الكلام افتراضي ، ولكن لو كان المفترض لما يخرج عما أخبر تعالى به وهو نفاد الأقلام والمداد وبقاء كلام الله تعالى لأن المراد من الكلمات كلام الله تعالى.

(٣) في الآية إيجاز بالحذف إذ التقدير ما خلقكم إلا كخلق نفس واحدة ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة.

(٤) ما خلقكم فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.

(٥) جملة إن الله سميع بصير صالحة لأن تكون تعليلية أو استئنافية بيانية.

٢١٤

٣) بيان قدرة الله تعالى وانها لا تحد ولا يعجزها شيء.

٤) إثبات صفات الله كالعزة والحكمة والسمع والبصر.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تعلم أيها المخاطب.

(أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل جزءا منه في النهار ، ويدخل جزءا من النهار في الليل بحسب الفصول.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : يسبحان في فلكيهما الدهر كله لا تكلان إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى لهما.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) : أي ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير بسبب أن الله هو الإله الحق.

(وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) : أي وأن ما يدعون من دونه من آلهة هي الباطل.

(بِنِعْمَتِ اللهِ) : أي بإفضاله على العباد وإحسانه إليهم حيث هيأ أسباب جريها.

٢١٥

(لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : أي صبار عن المعاصى شكور للنّعم.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) : أي علاهم وغطاهم من فوقهم.

(كَالظُّلَلِ) : أي كالجبال التي تظلل من تحتها.

(فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) : أي بين الكفر والإيمان بمعنى معتدل في ذلك ما آمن ولا كفر.

(كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) : أي غدار كفور لنعم الله تعالى.

معنى الآيات

ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال الشرك والكفر قال تعالى (أَلَمْ تَرَ) (١) أي ألم تعلم أيها النبي أن الله ذا الألوهية على غيره (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) بإدخال جزء منه في النهار (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) بإدخال جزء منه في الليل وذلك بحسب الفصول السّنوية (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) (٢) يسبحان في فلكيهما لمنافع الناس إلى أجل مسمى أي إلى وقت محدد معين عنده سبحانه وتعالى وهو يوم القيامة ، وأن الله تعالى بما تعملون خبير ، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم صالحها وفاسدها وسيجزيكم بها وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الإيلاج لليل في النهار والنهار في الليل وتسخير الشمس والقمر ، وعلم الله تعالى بأعمال العباد ومجازاتهم عليها قاطع لكل شك بأن الله هو إله الحق ، وأن ما يدعون من دونه من أوثان هو الباطل (٣) ، وقاطع بأن الله تعالى ذا الألوهية الحقة هو العلي الكبير أي ذو العلو المطلق الكبير الذي ليس شيء أكبر منه إذ هو ربّ كل شيء ومالكه والقاهر له والمتحكم فيه لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (أَنَّ الْفُلْكَ) أي السفن (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) تعالى على خلقه حيث يسّر لها أسباب سيرها وجريها في البحر وهي تحمل السلع والبضائع

__________________

(١) (أَلَمْ تَرَ) : الاستفهام تقريري بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو إنكاري بالنسبة إلى غيره ينكر على أهل الغفلة غفلتهم وأهل الإعراض عن النظر إعراضهم إذ لو نظروا وفكروا لاهتدوا إلى توحيد الله وبعثه عباده للحساب والجزاء يوم القيامة.

(٢) قال القرطبي : ذللهما بالطلوع والأفول تقديرا للأجال ، وإتماما للمنافع والآية في تقرير التوحيد بذكر مظاهر علم الله وقدرته وحكمته.

(٣) جائز أن يكون المراد بالباطل الشيطان إذ هو الذي زين عبادة الأصنام والأوثان وأمرهم بها فلذا أطلق لفظ الباطل عليه.

٢١٦

والأقوات من إقليم إلى إقليم وهي نعم كثيرة. سخر ذلك لكم ليريكم (١) من آياته الدالة على ربوبيته وألوهيته وهي كثيرة تتجلى في كل جزء من هذا الكون. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي علامات ودلائل على قدرة الله ورحمته وحكمته وهي موجبات عبادته وتوحيده فيها ، وقوله (لِكُلِ (٢) صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لكل عبد صبور على الطاعات صبور عن المعاصي صبور عما تجرى به الأقدار شكور لنعم الله تعالى جليلها وصغيرها أما غير الصبور الشكور فإنه لا يجد فيها عبرة ولا عظة.

وقوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) (٣) أي إذا غشي المشركين موج وهم على ظهر السفينة فخافوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي دعوا الله وحده ولم يذكروا آلهتهم. فلما نجاهم بفضله (إِلَى الْبَرِّ) فلم يغرقوا (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) (٤) أي في إيمانه وكفره لا يغالي في كفره ولا يعلن عن إيمانه. وقوله (وَما يَجْحَدُ (٥) بِآياتِنا) القرآنية والكونية وهي مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لألوهيته (إِلَّا كُلُ (٦) خَتَّارٍ) أي غدار بالعهود (كَفُورٍ) للنعم لا خير فيه البتّة والعياذ بالله تعالى من أهل الغدر والكفر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير التوحيد وإبطال الشرك بذكر الأدلة المستفادة من مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته.

٢) فضيلة الصبر والشكر والجمع بينهما خير من افتراقهما.

٣) بيان أن المشركين أيام نزول القرآن كانوا يوحدون في الشدة ويشركون في الرخاء.

__________________

(١) من آياته من للتبعيض من بعض آياته ما يشاهدون به مظاهر قدرة الله ولطفه ورحمته. قال الحسن مفتاح البحار السفن ومفتاح الأرض الطرق ومفتاح السماء الدعاء.

(٢) صبار صيغة مبالغة كثر الصبر وشكور كذلك كثير الشكر قال بعضهم صبار لقضائه ، شكور على نعمائه وما في التفسير أعم وأشمل روى أن الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر.

(٣) الظلل جمع ظلة وهو ما أظل من سحاب وجبال وغيرها.

(٤) فسر هذا اللفظ بعدة تفسيرات منها موف بما عاهد الله عليه في البحر قال الحسن مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة ، وقال مجاهد مقتصد في القول مضمر للكفر وقيل في الكلام حذف والمعنى فمنهم مقتصد ومنهم كافر ودل على المحذوف قوله : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور. وما في التفسير أشمل وأسلم

(٥) قال القرطبي جحد الآيات إنكار أعيانها والجحد بالآيات إنكار دلائلها.

(٦) الختر الغدر وجحود الفضل وفعله ختر كضرب يختر قال عمرو بن معد يكرب :

فإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى

بالأبلق الفردي من تيماء منزله

حصن حصين وجار غير ختار

٢١٧

٤) شر الناس الختار أي الغدار الكفور.

٥) ذم الختر وهو أسوأ الغدر وذم الكفر بالنعم الإلهية.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

شرح الكلمات

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي خافوا فآمنوا به واعبدوه وحده تنجوا من عذابه.

(وَاخْشَوْا يَوْماً) : أي خافوا يوم الحساب وما يجري فيه.

(لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) : أي لا يغني والد فيه عن ولده شيئا.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي وعد الله بالحساب والجزاء حق ثابت لا محالة هو كائن.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) : أي فلا تغتروا بالحياة الدنيا فإنها زائلة فأسلموا تسلموا.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) : أي الشيطان يغتنم حلم الله عليكم وإمهاله لكم فيجسركم على المعاصي ويسوفكم في التوبة.

(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) : أي المطر.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) : أي من ذكر أو أنثى ولا يعلم ذلك سواه.

(ما ذا تَكْسِبُ غَداً) : أي من خير أو شر والله يعلمه.

٢١٨

معنى الآيتين الكريمتين

هذا نداء عام لكل البشر يدعوهم فيه ربهم تعالى ناصحا لهم بأن يتقوه بالإيمان به وبعبادته وحده لا شريك له وأن يخشوا يوما عظيما فيه من الأهوال والعظائم ما لا يقادر قدره بحيث لا يجزي فيه والد (١) عن ولده ولا مولود (٢) هو جاز عن والده شيئا إذ كل واحد لا يريد إلا نجاة نفسه فيقول نفسي نفسي وهذا لشدة الهول يوم لا يغني أحد عن أحد شيئا ولو كان أقرب قريب ، وهو يوم آت لا محالة حيث وعد الله به الناس ووعد الله حق والله لا يخلف الميعاد ، ويقول لهم بناء على ذلك (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بملاذها وزخارفها وطول العمر فيها ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) ذي الحلم والكرم (الْغَرُورُ) (٣) أي الشيطان من الإنس أو الجن يحملكم على تأخير التوبة ومزاولة أنواع المعاصي بتزيينها لكم وترغيبكم فيها فانتبهوا فإن الموت لا بد منه وقد يأتي فجأة فالتوبة التوبة يا عباد الله هذه نصيحة الرّب تبارك وتعالى لعباده فهل من مستجيب؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٣).

أما الآية الثانية (٣٤) فالله جل جلاله يخبر عباده بأنه استقل بعلم الساعة متى (٤) تأتي والقيامة متى تقوم وليس لأحد أن يعلم ذلك كائنا من كان وهذه حال تتطلب من العبد أن يعجل التوبة ولا يؤخرها ، كما استقل تعالى بعلم وقت نزول المطر في يوم أو ليلة أو ساعة من ليل أو نهار ، ويعلم ما في الأرحام أرحام الإناث من ذكر أو أنثى أو أبيض أو أحمر أو أسود ومن طول وقصر ومن إيمان أو كفر ولا يعلم ذلك سواه ويعلم ما يكسب كل إنسان في غده من خير أو شر أو غنى أو فقر ، ويعلم أين تموت كل نفس من بقاع الأرض وديارها ولا

__________________

(١) فإن قيل لقد ثبت بالسنة ما ظاهره خلاف هذا فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ، وقال من ابتلى بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له حجابا من النار فالجواب أن المراد بالآية أن الولد لا يحمل ذنب والده وأن الوالد لا يحمل ذنب ولده ، وأما موت الأولاد فأجر المصيبة مع الصبر والاحتساب هو الذي منع الوالد من دخول النار كما أن تربية البنات والإحسان إليهن جعل الله تعالى جزاءه النجاة من النار فليس في الحديث أن الولد يجزي عن والده ولا الوالد يجزي عن ولده.

(٢) ولا مولود : مبتدأ وهو ضمير فصل والخبر جاز مرفوع بضمة مقدرة على حرف العلة المحذوف للتخفيف ، وذكر الولد والوالد لأنهما أشد شفقة على بعضهما ورحمة وحميّة من غيرهما.

(٣) الغرور بالفتح (الفعول) من أمثلة المبالغة أي كثير التغرير بالإنسان وهو الشيطان عليه لعائن الرحمن والغرور الخداع بما ظاهره حسن وباطنه ضرر.

(٤) قال مقاتل هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ما ذا تلد؟ وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ ولقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ما ذا أعمل غدا؟ وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى الآية. روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله عنده علم الساعة الخ الآية.

٢١٩

يعلم ذلك إلا الله ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مفاتح (١) الغيب خمسة وقرأ : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) «في الصحيح»

وقوله إن الله عليم أي بكل شيء وليس بهؤلاء الخمسة فقط خبير بكل شيء من دقيق أو جليل من ذوات وصفات وأحوال وببواطن الأمور كظواهرها وبهذا وجب أن يعبد وحده بما شرع من أنواع العبادات التي هي سلم النجاح ومرقى الكمال والإسعاد في الدارين

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١) وجوب تقوى الله عزوجل بالإيمان به وتوحيده في عبادته.

٢) تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣) التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا ، والتحذير من الشيطان أي من اتباعه والاغترار بما يزينه ويحسنه من المعاصي.

٤) بيان مفاتح (٢) الغيب الخمسة واختصاص الربّ تعالى بمعرفتها.

٥) كل مدع لمعرفة الغيب من الجن والإنس فهو طاغوت يجب لعنه ومعاداته.

٦) ما ادّعى اليوم من أنه بواسطة الآلات الحديثة قد عرف ما في رحم المرأة فهذه المعرفة ليست داخلة في قوله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) لأنها بمثابة من فتح البطن ونظر ما فيه فقال هو كذا وذلك لوجود أشعة عاكسة أمّا المنفيّ عن كل حد إلا الله أن يقول المرء : إن في بطن امرأة فلان ذكرا أو أنثى ولا يقرب منها ولا يجرّ بها في ولادتها السابقة ، ولا يحاول أن يعرف ما في بطنها بأيّة محاولة.

__________________

(١) في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفاتح الغيب خمس ثم قرأ (إن الله عنده علم الساعة) الآية وفي رواية أبي هريرة (وخمس لا يعلمهن إلا الله وعلة تسميتها مفاتح الغيب أنها من أمور الناس المغيبة عنهم فإذا وقعت كان وقوعها كفتح مغلق بمفتاح فالإنسان قد يعرف متى يصلي متى يسافر متى يتزوج أما هذه الخمسة فلا علم له بها ابدا حتى يفتح الله بابها ويظهرها.

(٢) المفاتح جمع مفتح آلة الفتح والمعنى أن هذه الأمور الخمسة وهي متعلقة بالإنسان لا يظهرها إلى الوجود ولا يفتح مغلقها الغيبي إلا الله جل جلاله إذ بيده مفاتحها.

٢٢٠