أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وصفاته.

وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ، (وَيَقْدِرُ) أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء أيصبر أم يضجر ويسخط. إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرجه ولا ما قنطوا. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإعطاء والمنع (لَآياتٍ) أي حججا ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من إله عظيم ورب غفور رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم.

٢) بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة.

٣) بيان حال أهل الشرك والكفر والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والأشر ويأسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة.

٤) مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديرا وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم.

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

١٨١

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) : أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة.

(وَالْمِسْكِينَ) : أي المعدم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) : أي اعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإيواء والطعام.

(ذلِكَ خَيْرٌ) : أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) : أي من هدية أو هبة وسميت ربا لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم.

(لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) : أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم من أهديتموه القليل ليرد عليكم الكثير.

(فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) : أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) : أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافا مضاعفة.

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) : أي من أصنامكم التي تعبدونها.

(مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) : والجواب لا أحد ، إذا بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين.

معنى الآيات

لما بيّن تعالى في الآية السابقة لهذه انه يبسط الرزق لمن يشاء امتحانا ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وامته التابعة له بإيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ، إذ منع

١٨٢

الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه ، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبى (١) حَقَّهُ) أي من البر والصلة (وَالْمِسْكِينَ) وهو من لا يملك قوته (وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحدا ، وحقهما : إيواءهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالا ومآلا للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب. وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة ، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يردّ عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربو عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم ، (فَأُولئِكَ) أي هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (٢) ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعا : الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم (هَلْ (٣) مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ) المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء (مِنْ شَيْءٍ)؟ والجواب لا وإذا فلم تعبدونهم من دون الله ، فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون. ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك ، وتعالى عن المشركين فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤)

__________________

(١) الخطاب وإن كان موجها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمته تابعة له في هذا كله وابن السبيل إن استضاف مؤمنا وجب عليه ضيافته لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه في الصحيح.

(٢) استئناف لتقرير عقيدة التوحيد وابطال التنديد والتوبيخ والتقريع على الشرك الذي هو أعظم أنواع الظلم وصاحبه أحط الناس قدرا وأفسدهم ذوقا وعقلا.

(٣) الاستفهام انكاري مشبوب بالنفي لقرينة من المؤكدة لنفي الجنس والاشارة في قوله من ذلكم إلى ما ذلك من الخلق والرزق والاماتة والاحياء.

(٤) قرأ الجمهور بالياء وقرأ غيرهم بتاء الخطاب بدون التفات من الغيبة إلى الخطاب.

١٨٣

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) وجوب اعطاء ذوى القربى حقوقهم من البر والصلة.

٢) وجوب كفاية الفقراء وابناء السبيل في المجتمع الإسلامي.

٣) جواز هدية الثواب (١) الدنيوي كأن يهدي رجل شيئا يريد أن يردّ عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة ، وتسمى هذه الهدية : هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ).

٤) بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى.

٥) ابطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

__________________

(١) الهبة ثلاث أنواع الأول هبة يريد بها صاحبها وجه الله تعالى كأن يهب عبدا صالحا هبة إكراما له واسعادا فهذه جائزة ويثيب عليها الله تعالى والثانية هبة يريد بها صاحبها رد أكثر منها كأن يهدي فقير لغني أو مأمور لأمير فهذه ثوابها ما يعطيه له من أهداه ولا اجر له عند الله. وله أن يطالب من أهداه للثواب ولم يثيبه والثالثة الصدقات تعطى للفقراء فهي هبة لله والله يثيب عليها إن خلت من الربا فإذا شابها رياء فلا ثواب فيها.

١٨٤

شرح الكلمات :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد.

(بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) : أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) : أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا.

(عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) : أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنّها هلاكهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) : أي استقم على طاعة ربك عابدا له مبلغا عنه منفذا لأحكامه.

(لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) : أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإتيانه وهو يوم القيامة.

(يَصَّدَّعُونَ) : أي يتفرقون فرقتين.

(يَمْهَدُونَ) : أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإيمانهم وصالح أعمالهم.

معنى الآيات :

تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة (٤١) فقال (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي انتشرت المعاصي في البر (١) والبحر وفي الجو اليوم فعبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه. وقوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله : ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به (لِيُذِيقَهُمْ (٢) بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم

__________________

(١) ذكر للفساد في البر والبحر تأويلات وما في التفسير أصحها وأولاها بفهم الآية الكريمة وانفعها لأهل القرآن المتدبرين به العاملين بما فيه.

(٢) قرأ الجمهور (لِيُذِيقَهُمْ) بالياء وقرأ البعض بالنون.

١٨٥

بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم وقضى على وجودهم (١) ، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم. وقوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم : سيروا في الأرض شمالا أو جنوبا أو غربا فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دمارا وهلاكا فهل ترضون أن تكونوا مثلهم. وقوله (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي انتم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه وأقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلّموه الناس أجمعين ، واصبروا على ذلك فإن العاقبة للمتقين وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي افعلوا ذاك الذي أمرتكم به قبل مجيىء يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء ، وقوله (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا. وقوله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين (٢) كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار. وقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة ، (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً) أي اليوم (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطئون فرشهم في الجنة (٣) إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم ، وقوله (لِيَجْزِيَ (٤) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العاملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها انها زكّت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط ، وقوله (إِنَّهُ (٥) لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) هذه الجملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير ، ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين.

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (فاطر).

(٢) شاهده قول الشاعر :

وكنا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

جذيمة الأبرشي كان ملكا ونديماه هما مالك وعقيل نادماه اربعين سنة ثم ماتوا وندماني في البيت تثنية ندمان

(٣) شاهده قوله تعالى من سورة الشورى (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

(٤) اللام لام التعليل وهو واضح في التفسير.

(٥) علة الحذف طلب الإيجاز مع ظهور المعنى بدلالة السياق عليه.

١٨٦

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) ظهور الفساد بالجدب والغّلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى ظهور فساد في العقائد بالشرك ، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي.

٢) وجوب الاستقامة على الدين الإسلامي عقيدة وعبادة وقضاء وحكما.

٣) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه

٤) بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) : أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده.

(مُبَشِّراتٍ) : أي تبشر العباد بالمطر وقربه.

(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحّدوا ربكم.

(رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) : أي كنوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام.

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والمعجزات.

(الَّذِينَ أَجْرَمُوا) : أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي.

١٨٧

(حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي ونصر المؤمنين أحققناه حقا وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته ، فقال تعالى (وَمِنْ آياتِهِ) أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات (١) عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله ، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلو كل رحمة. وقوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي بإنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء ، وقوله : (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها. وقوله (بِأَمْرِهِ) (٢) أي بإذنه وإرادته وتدبيره الحكيم ، وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدركم عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته. فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟ ، وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا رسولنا (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) كنوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب عليهم‌السلام فجاءوا أقوامهم بالبيّنات والحجج النيرات كما جئت أنت قومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فأهلكناهم ، ونجينا الذين آمنوا (وَكانَ حَقًّا (٣) عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ألا فلتعتبر قريش بهذا وإلا فستحلّ بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل.

__________________

(١) قيل في الرياح مبشرات لأنها تتقدم المطر فهي كالمبشرة بمجيئه.

(٢) قال يأمره لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية فيتعين إرساء السفن والاحتيال على حبسها إذ ربما عصفت بها الرياح فاغرقتها فمن هنا قال بأمره والا فالرياح وحدها لن تغرق السفن وتعوقها عند السير.

(٣) حقا هذه الكلمة من صيغ الالتزام يقال فلان محفوف بكذا أي لازم له شاهده في قول الأعشى :

لمحفوفة أن تستجيبي لصوته

(حَقًّا) خبر كان مقدم على اسمها وهو (نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ولا التفات إلى من رأى الوقف على (حقا).

١٨٨

٢) بيان أن الله تعالى ينعم على عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء.

٣) بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن ، وناصر المؤمنين كذلك.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(فَتُثِيرُ سَحاباً) : أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) : أي قطعا متفرقة في السماء هنا وهناك.

(فَتَرَى الْوَدْقَ) : أي المطر يخرج من خلال السحاب.

(إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم.

(لَمُبْلِسِينَ) : أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم.

(إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) : أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى.

١٨٩

(فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) : أي رأوا النبات والزرع مصفرا للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة.

(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) : أي أقاموا بعد هلاك زروعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) : أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) (١) أي ينشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحابا أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء من كثافة وخفّة وكثرة وقلة ، (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) (٢) أي قطعا فترى أيها الرائي الودق أي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب. وقوله (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي بالمطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ) أي المصابون بالمطر في أرضهم. (يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي المطر (مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) (٣) أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أي فانظر يا رسولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت. فإذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء أراده. وقوله (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) أي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحا فيه إعصار فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبستها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث (يَكْفُرُونَ) بربهم أي يقولون : ما هو كفر من الفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم

__________________

(١) استئناف مبدوء باسم الله الأعظم الدال على قدرته وواسع علمه فهو الذي يرسل الرياح وينزل من السماء ماء ويحيي به الأرض هو الله الرب القادر على إحياء الناس بعد موتهم والمستحق لعبادتهم دون سواه والرياح قرأ بها الجمهور وقرأ بعض الريح بالإفراد ومما عرف بالعادة أن الرياح للإمطار والريح للدمار.

(٢) الكسف جمع كسفه أي قطعة والمراد أن الله تعالى يرسل الرياح فتثير السحاب ويكون عاما مجللا للسماء كافة ويكون منه قطعا قطعا لحكمة تتطلب ذلك والكسف بكسر الكاف وسكون السين كالكسف بكسر الكاف وفتح السين كلاهما جمع كسفه كسدره وسدر وقرىء من خلله وجائز أن يكون جمع خلال أيضا.

(٣) وفسر بآيسيين أي قانطين ازلين كما في الحديث أي في ضيق وشده وفسر بيئسين والكل صحيح.

١٩٠

وكفرهم. وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ (١) إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي انك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع اسماع الموتى كلامك فيفهموه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولّوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإشارة أما إذا ولّوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم. إذا فهون على نفسك ولا تحزن عليهم. وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلّا من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في امكانك إسماعهم وهدايتهم بإذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية.

٢) بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإلهي.

٣) بيان حال الكافر في أيام الرخاء وأيام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر ، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته.

٤) الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي.

٥) بيان ان الكفار أموات ، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون ، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)

__________________

(١) قال القرطبي. أي وضحت الحجج يا محمد لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم فلا يتهيأ لك إسماعيل وهدايتهم وقرأ الجمهور تسمع بالتاء وقرأ ابن كثير يسمع ورفع الصم على أنه فاعل وقرأ الجمهور هادي وقرأ ابن كثير تهدي.

١٩١

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

شرح الكلمات

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) : أي من نطفة وهي ماء مهين.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) : أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) : أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب

(وَشَيْبَةً) : أي الهرم

(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) : أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم.

(لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) : أي في انكارهم للبعث والجزاء.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (١) وحده (مِنْ ضَعْفٍ) (٢) أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة

__________________

(١) هذا الاستئناف كسابقه الاستدلال به علم قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وعظيم تدبيره في خلقه وهي موجبة التوحيد له والنبوة لرسوله والبعث لعباده ليحاسبهم ويجزيهم برحمته وعدله.

(٢) قرأ نافع والجمهور من ضعف بضم الضاد في الألفاظ الثلاثة في هذه الآية وهي لغة الحجاز ، وقرأ حفص بالفتح وهي لغة تميم ومن ابتدائية أي ابتدأ خلقكم من ضعف وهي النطفة ولا أضعف منها.

١٩٢

(قُوَّةً) وهي قوة الشباب (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي قوة الشباب والكهولة (ضَعْفاً) أي ضعف الكبر (وَشَيْبَةً) (١) أي الهرم وقوله تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ) بخلقه (الْقَدِيرُ) على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على احياء الأموات وبعثهم ، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرّمم وقوله تعالى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) أي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) (٢) أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن. وقوله تعالى (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣) أي كما صرّفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالله تعالى ولقائه ، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصى. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في كتاب المقادير (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) وهو يوم القيامة (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لعدم إيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله

وقوله (فَيَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ يأتي يوم البعث (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضى الله تعالى من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصى.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١) تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال.

٢) بيان اطوار خلق الإنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم.

٣) فضل العلم والإيمان وأهلهما.

٤) بيان ان معذرة الظالمين لا تقبل منهم ، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم.

__________________

(١) الشيبة اسم مصدر الشيب وعطف الشيبة على الضعف إشارة إلى عدم وجود قوة بعدها وإنما يأتي الفناء كما قيل الشيب نذير الموت وهو كذلك.

(٢) روى أن أم حبيبة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر في الصحيح.

(٣) يقال أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة ممنوعة من المطر.

١٩٣

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

شرح الكلمات

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ) : أي جعلنا للناس.

(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا.

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) : أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) : أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإيمان بآيات الله ولقائه.

(الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق.

(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) : أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك.

معنى الآيات

بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الآيات السابقة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِ (١) مَثَلٍ) أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب

__________________

(١) قال القرطبي : أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.

١٩٤

الكلام وضروب التشبيه ، وعرض الأحداث بصور مثيرة للدهشة موقظة للحس ، ومنبهة للضمير ، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا ، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك ، (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ (١) بِآيَةٍ) أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي منهم (٢). (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون (إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون إليه من الدين الحق والبعث الآخر. وقوله (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها ، يطبع على قلوب الذين لا يعلمون (٣) ، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإدراك فلا يحصل إيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يأمر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد ، حتى ينصره الله تعالى إذ واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف. وقوله : (وَلا) (٤) (يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٥) أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر. والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيمانا يقينيا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإيمان وحجج الهدى.

__________________

(١) أي كآيات موسى من فلق البحر والعصا أو آيات عيسى كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.

(٢) أي من الناس لقوله ولقد ضربنا للناس وهو لفظ عام يشمل الكافر والمؤمن.

(٣) في هذه الآية إنذار خطير للجهال وتنديد بالجهل ، إذ أهله لا يفهمون عن الله ولا يهتدون إلى سبل الخير وطريق السعادة والكمال ولذا أوجب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلب العلم على كل مسلم في قوله (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وما أصاب المسلمين ما أصابهم من خوف وهون ودون إلا نتيجة لجهلهم بربهم ومحابه ومكارهه وضروب عباداته وكيفيات أدائها لتزكوا بها نفوسهم وتطهر أرواحهم وقلوبهم.

(٤) وفسر بيستفزنك الذين في محل رفع فاعل وبعض العرب يعربونه إعراب جمع المذكر السالم فيقولون اللذون رفعا والذين نصبا وجرا قال الشاعر :

نحن اللذون صبحوا الصباح

يوم النخيل غارة ملحاحا

(٥) الاستخفاف : طلب خفة الشيء بفقد ثقله ورصانته فيغضب ويترك العمل. والذين لا يؤمنون هم المشركون كالنضر بن الحارث وابي جهل والمراد بنفي اليقين عنهم. اليقين بالأمور البديهيات اليقينية للناس لكون الله تعالى خلق كل شيء ورب كل شيء وقدرته على كل شيء إذ هذه يقينيات لدى عامة الناس.

١٩٥

٢) أسوأ أحوال الإنسان عند ما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئا وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم.

٣) وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون.

سورة لقمان

مكية (١)

وآياتها أربع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(الم) هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب الم ، وتقرأ : ألف لام ميم.

(تِلْكَ) : أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب الحكيم.

(الْحَكِيمِ) : أي المحكم الذي لا نسخ يطرأ عليه بعد تمام نزوله ، ولا خلل فيه ، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا خلط ولا خبط فيما يحمل من هدى وتشريع.

(هُدىً وَرَحْمَةً) : أي هو هدى يهتدي به ورحمة يرحم بها.

(لِلْمُحْسِنِينَ) : أي الذين يراقبون الله تعالى في كل شؤونهم إذ هم الذين يجدون الهدى والرحمة في القرآن الكريم أما غيرهم من أهل الشرك والمعاصي فلا يجدون ذلك.

__________________

(١) قال قتادة : غير آيتين أولهما ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وقال بن عباس غير ثلاث آيات أولهن : ولو أن ما في الأرض من الخ ..

١٩٦

(أُولئِكَ) : أي المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة.

(عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) : أي هم على هداية من الله تعالى فلا يضلون ولا يجهلون معها أبدا.

(الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالنجاة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب محبوب.

معنى الآيات

قوله تعالى : (الم) أحسن ما يفسر به مثل هذه الحروف المقطعة قول : الله أعلم بمراده به وقد أفادت هذه الحروف فائدة عظيمة ، وذلك من جهتين الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به فيهتدي إلى الحق من يحصل له ذلك ، وقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كانت هذه الحروف بنغمها الخاص ومدودها العجيبة تضطر المشرك إلى الإصغاء والاستماع فحصل ضد مقصودهم وكفى بهذه فائدة. والثانية أنهم لما ادعوا أن القرآن سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين كأنما قيل لهم هذا القرآن الذي ادعيتم فيه كذا وكذا قد تألف من هذه الحروف ص ، ن ، ق ، يس ، طس ، الم فألفوا سورة مثله وأتوا بها للناس فيصبح لكم ما تدعون فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله أنزله على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا ووحدوا واستقيموا على ذلك تعزوا وتكرموا وتكملوا وتسعدوا.

وقوله : (تِلْكَ آياتُ (١) الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه الآيات هي آيات القرآن الكريم الموصوف بالحكمة إذ هو لا يخلط ولا يغلط ولا يخبط بل يضع كل شيء في موضعه اللائق به في كل ما قال فيه وحكم به ، وأخبر عنه أو به من سائر المعارف والعلوم التي حواها كما هو حكيم بمعنى محكم لا نسخ يطرأ عليه بعد تمامه كما طرأ على الكتب السابقة ، ومحكم أيضا بمعنى لا خلل فيه ، ولا تناقض بين أخباره وأحكامه على كثرتها وتنوع أسبابها ومقتضيات نزولها ، وقوله : (هُدىً (٢) وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (٣) أي هو بيان هداية ورحمة تنال المحسنين وهم الذين أحسنوا عبادتهم لربهم فخلصوها من الشرك والرياء وأتوا بها على

__________________

(١) (تِلْكَ) في محل رفع مبتدأ و (آياتُ الْكِتابِ) الخبر.

(٢) (هُدىً وَرَحْمَةً) نصبا على الحال على حد هذه ناقة الله لكم آية وقرىء هدى ورحمة بالرفع على أن هدى خبر ثان ورحمة معطوف عليه وهي قراءة حمزة.

(٣) وجائز أن يكون المحسنين الفاعلين للحسنات والمحسنين إلى غيرهم كالوالدين وذوي القربى واليتامى والمساكين ومن ذكروا في آية الحقوق العشرة من سورة النساء «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا الخ ...

١٩٧

الوجه المرضي لله تعالى وهو ما بينه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كيفيات العبادات وبيان فعلها وأدائها عليه. وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي المحسنين الذين يقيمون الصلاة أي يؤدون الصلوات الخمس مراعى فيها شروطها مستوفاة أركانها وسننها الواجبة منها والمستحبة ، ويؤتون الزكاة أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالذهب والفضة أو العمل القائمة مقامهما والحرث من تمر وزيتون ، وحبوب مقتاة مدخرة والناطقة من إبل وبقر وغنم وذلك إن حال الحول في الذهب والفضة والعمل وفي بهيمة الأنعام أما الحرث والغرس فيوم حصاده وجداده. وقوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) أي والحال هم موقنون بما أعده الله من ثواب وجزاء على الإحسان والإيمان والإسلام الذي دلت عليه صفاتهم في هذا السياق الكريم وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يخبر تعالى عن المحسنين أصحاب الصفات الكريمة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان باليوم الآخر والإيقان بثواب الله تعالى فيه انهم على هدى أي طريق مستقيم وهو الإسلام هداهم الله تعالى إليه ومكنهم من السير عليه وبذلك أصبحوا من المفلحين الذين يفوزون بالنجاة من النار ، وبدخول الجنة دار الأبرار. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم انك برّ كريم تواب رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان إعجاز القرآن حيث ألّف من مثل الم ، وص ، وطس ، ولم يستطع خصومه تحديه.

٢) بيان معنى الحكيم وفضل الحكمة.

٣) بيان أن القرآن بيان للهدى المنجي المسعد ورحمة لمن آمن به وعمل بما فيه.

٤) فضل الصلاة والزكاة واليقين.

٥) بيان مبنى الدين : وهو الإيمان والإسلام والإحسان (١).

__________________

(١) شاهد هذا حديث جبريل في مسلم : إذ سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان فدل ذلك على أن مبنى الدين الإسلامي هذه الثلاثة (الإيمان والإسلام والإحسان).

١٩٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١) (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

شرح الكلمات

(وَمِنَ النَّاسِ) : أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث بن كلدة حليف قريش.

(لَهْوَ الْحَدِيثِ) : أي الحديث الملهي عن الخير والمعروف وهو الغناء.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي ليصرف الناس عن الإسلام ويبعدهم عنه فيضلوا.

(وَيَتَّخِذَها هُزُواً) : أي ويتخذ الإسلام وشرائعه وكتابه هزوا أي مهزوءا به مسخورا منه.

(وَلَّى مُسْتَكْبِراً) : أي رجع في كبرياء ولم يستمع إليها كفرا وعنادا وكبرا كأن لم يسمعها.

(فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) : أي ثقل يمنع من السماع كالصمم.

(بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) : أي بدون عمد مرئية لكم ترفعها حتى لا تقع على الأرض.

(رَواسِيَ) : أي جبال راسية في الأرض بها ترسو الأرض أي تثبت حتى لا تميل.

__________________

(١) هذا عطف على جملة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) كأنما قال كانت تلك حال الكتاب الحكيم وهي حال تدعو إلى كل كمال وإن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ففي الاخبار تعجب من حال هذا الإنسان الذي يعرض عن الهدى إلى الضلال وعن الخير إلى الشر.

١٩٩

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) : أي وخلق ونشر فيها من صنوف الدواب وهي كل ما يدب في الأرض.

(مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي من كل صنف من النباتات جميل نافع لا ضرر فيه.

(هذا خَلْقُ اللهِ) : أي المذكور مخلوقه تعالى إذ هو الخالق لكل شيء.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من الآلهة المزعومة التي يعبدها الجاهلون.

(بَلِ الظَّالِمُونَ) : أي المشركون.

معنى الآيات

لما ذكر تعالى عباده المحسنين وأثنى عليهم بخير وبشرهم بالفلاح والفوز المبين ذكر صنفا آخر على النقيض من الصنف الأول الكريم فقال : (وَمِنَ النَّاسِ (١) مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ (٢) لِيُضِلَّ عَنْ (٣) سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ومن بعض الناس إنسان هو النضر بن الحارث الكلدي حليف قريش يشتري لهو الحديث أي الغناء إذ كان يشترى الجواري المغنيات ويفتح ناديا للهو والمجون ويدعو الناس إلى ذلك ليصرفهم عن الإسلام حتى لا يجلسوا إلى نبيّه ولا يقرأوا كتابه بغير علم منه بعاقبة صنيعه وما يكسبه من خزي وعار وعذاب النار. وقوله (وَيَتَّخِذَها (٤) هُزُواً) أي يتخذ سبيل الله التي هي الإسلام هزوا أي شيئا مهزوءا به مسخورا منه بما في ذلك الرسول والمؤمنون والآيات الكلّ يهزأ به ويسخر منه لجهله وظلمة نفسه. قال تعالى (أُولئِكَ) لهم عذاب مهين أي أولئك البعداء وهم كل من يشترى الغناء يغني به نساء ورجال أو آلات ممن اتخذوا الإسلام وشرائعه هزوا وسخرية ليصدوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله الموصلة إلى رضاه ومحبته وجنّته. أولئك : من تلك صفتهم لهم عذاب مهين بكسر أنوفهم وبذلهم يوم القيامة وقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ

__________________

(١) معنى الكلام من الناس ـ يا للعجب ـ من يشغله لهو الحديث والولوع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم ، هذه الآية إحدى ثلاث آيات في القرآن الكريم تحرم الغناء والأولى آية بني اسرائيل وهي قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك والثالثة آية النجم : وأنتم سامدون قال ابن عباس هو الغناء بالحميرية يقال اسمد لنا أي غنّي لنا.

(٢) لهو الحديث هو الغناء ، صح أن ابن مسعود رضي الله عنه سئل عن لهو الحديث فقال بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات إنه الغناء وقال ابن جرير الطبري قد اجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة ابراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم عليكم بالسواد الأعظم ، ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية.

(٣) قرأ الجمهور ليضل بضم الياء أي ليضل غيره فهو إذا ضال مضل وقرأ ابن كثير ليضل بفتح الياء أي ليزداد ضلالا على ضلال.

(٤) قرأ نافع بالرفع عطفا على يشترى وقرأ حفص بالفتح عطفا على ليضل.

٢٠٠