أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) : أي تكتب بيدك لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب.

(لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) : أي لشك اليهود في نبوتك ونزول القرآن إليك.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعوته وصفاته آيات بينات في التوراة والانجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) : أي وما يجحد بآيات الله الحاملة لنعوت الرسول الأمي وصفاته إلا الذين ظلموا أنفسهم بكتمان الحق والاستمرار على الباطل.

معنى الآيات

قوله تعالى (وَلا (١) تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) هذا تعليم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين يأخذون به مستقبلا عند ما يتصلون بأهل الكتاب ويحتكون بهم فقال عزوجل مخاطبا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من أمته (وَلا (٢) تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) الذين هم اليهود والنصارى فنهاهم عن مجادلتهم وهي خصامهم ومحاجتهم ومناظرتهم (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن (٣) وذلك بدعوتهم إلى الله تعالى ليؤمنوا برسوله ويدخلوا في دينه الإسلام والتنبيه على حجج الله وأدلة وحيه وكتابه. وقوله (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين ولم يؤدوا الجزية وناصبوا المسلمين الحرب والعداء فهؤلاء لا يجادلون ولكن يحكّم فيهم السيف فيقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). هذا تعليم آخر للمؤمنين وهو : إن أخبرهم أهل الكتاب بشىء لا يوجد في الإسلام ما يثبته ولا ما ينفيه وادّعوا هم أنه في كتابهم في هذه الحال فقولوا ما أرشدنا الله تعالى إلى قوله وهو : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا)

__________________

(١) ذكر القرطبي الخلاف في هل هذه الآية منسوخة أو محكمة ، ورجّح قول مجاهد وهي أنها محكمة ، وما في التفسير على هذا وهو الصواب.

(٢) الجدال والمجادلة مصدران لجادل ، والمراد بالمجادلة : إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره. والجدل : شدّة الخصومة وهو مأخوذ من الجدل الذي هو الفتل للحبل. ونحوه إذا قواه ، والمجادل يقوي رأيه بما يراه ويورده من حجج.

(٣) وجه المجادلة بالحسنى لأهل الكتاب لأنهم أهل علم متأهلون للفهم وقبول الحق متى اتضح لهم بخلاف جهّال المشركين فإن تهجين عبادتهم وتفضيع طريقتهم قد يكون أنجع فيهم.

١٤١

إلى آخر الآية حتى لا نكون قد كذّبنا بحق ولا آمنّا بباطل ، وفي البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (١) ، وقولوا (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي وكإنزالنا الكتب السابقة على رسل سبقوا كموسى وداود وعيسى عليهم‌السلام أنزلنا إليك أنت يا محمد الكتاب أي القرآن وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ). فهذا إخبار بغيب فكما علّم الله تعالى المؤمنين كيف يكونون مع أهل الكتاب عند ما يتصلون بهم ويعيشون معهم في المدينة وغيرها أخبر أن الذين آتاهم الكتاب أي التوراة والانجيل وهم الراسخون في العلم يؤمنون أي بالقرآن وقد آمن عبد الله بن سلام وكثير من أحبار أهل الكتاب ، وآمن من المشركين كثيرون فكان الأمر كما أخبر. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) فهو كما أخبر لا يجحد بالآيات القرآنية ويكذّب بها إلا كافر مظلم النفس خبيثها وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) هو كما قال عزوجل لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ قبل القرآن أيّ كتاب ، ولا كان يخط بيمينه أيّ كتاب لأنه أميّ لا يقرأ ولا يكتب أي فلو كان قبل نزول القرآن عليه يقرأ ويكتب لكان للمبطلين (٢) مجال للشك في صحة دعوى النبوة المحمدية ونزول القرآن عليه ، ولكن لم يكن قبل القرآن يقرأ أيّ كتاب ، ولم يكن يخط بيمينه أيّ خط ولا كتاب فلم يبق إذا للمشركين ما يحتجون به أبدا. وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ (٣) الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي بل الرسول ونعوته وصفاته ومنها وصف الأمية آيات في التوراة والانجيل محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب .. وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) في التوراة والانجيل والقرآن (إِلَّا الظَّالِمُونَ) أنفسهم (٤) من الماديين اليهود والنصارى الذين يأكلون ويترأسون على حساب الحق والعياذ بالله تعالى.

__________________

(١) تفرّد به البخاري رحمه‌الله تعالى.

(٢) قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية.

(٣) أي : ليس هو كما يقول المبطلون من أنه سحر أو شعر ولكنه علامات ودلائل يعرف بها دين الله وأحكامه وكذلك في صدور الذين أوتوا العلم ، وهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمؤمنون به ، وهذا لا يتنافى مع ما في التفسير ، إذ الوجهان صحيحان ، وقال كعب في صفة هذه الأمة : إنهم حكماء علماء وهم في الفقه أنبياء.

(٤) والمشركون كاليهود والنصارى في هذا أي : الجحود بالآيات.

١٤٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية مجادلة أهل الكتاب من أهل الذّمّة بالتي هي أحسن.

٢) حرمة سؤال أهل الكتاب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسألوا أهل الكتاب (١) عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل».

٣) منع تصديق أهل الكتاب أو تكذيبهم إذا أخبروا بشيء ووجوب قول : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ، وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

٤) إخبار القرآن بالغيب قبل وقوعه فيقع كما أخبر فيكون ذلك آية على أنّه وحي الله تعالى.

٥) تقرير صفة الأمية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هي في الكتب السابقة.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ) : أي قال كفار قريش هلّا أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح ، وعصا موسى.

__________________

(١) رواه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.

١٤٣

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) : أي قل لهم يا رسولنا الآيات عند الله ينزلها متى شاء.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) : أي أو لم يكفهم فيما طلبوا من الآيات إنزالنا الكتاب عليك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى) : أي في القرآن رحمة وموعظة للمؤمنين فهو خير من ناقة صالح.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) : وهو ما يعبد من دون الله.

(وَكَفَرُوا بِاللهِ) : وهو الإله الحق.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي حيث استبدلوا الكفر بالإيمان.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير النبوة المحمدية فقوله تعالى : (وَقالُوا) أي أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ (١) مِنْ رَبِّهِ) أي هلّا أنزل على محمد آيات من ربّه كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى إذ هذا الذي يعنون بالآيات أي معجزات خارقة للعادة. قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا رسولنا لقومك المطالبين بالآيات دليلا على صدق نبوّتك قل لهم : أولا : الآيات التي تطالبون بها هي عند الله وليست عندى فهو تعالى ينزّلها متى شاء وعلى من شاء. وثانيا (إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وظيفتي التي أقوم بها هي إنذار أهل الظلم من عاقبة ظلمهم وهي عذاب النار فلذا لا معنى بمطالبتي بالآيات. وثالثا (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) (٢) آية أن الله تعالى أنزل عليّ كتابه فأنا أتلوه عليكم صباح مساء فأي آية أعظم من كتاب من أميّ لا يقرأ ولا يكتب تتلى آياته تحمل الهدى والنور وهو في الوقت نفسه رحمة وذكرى أي موعظة لقوم يؤمنون فهي معجزة ثابتة قائمة باقية يجد فيها المؤمنون الرحمة فيتراحمون بها ويجدون فيها الموعظة فهم يتعظون بها ، فأين هذا من معجزة تبقى ساعة ثم تذهب وتروح كمائدة عيسى أو عصا موسى. ورابعا : شهادة الله برسالتي كافية لا يطلب معها دليل آخر على نبوتي ورسالتي ، فقد قال لي ربي : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ

__________________

(١) قرأ ابن كثير وحمزة : آية بالافراد ، وقرأ الجمهور ونافع وحفص بالجمع (آياتٌ).

(٢) أخرج الدارمي في سننه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بكتف فيه كتاب فقال (كفى بقوم ثلاثة : أن يرغبوا عما جاءهم به نبيّهم إلى ما جاء به نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم فأنزل الله تعالى هذه الآية : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ).

١٤٤

شَهِيداً) (١). ربي الذي يعلم ما في السموات والأرض من كل غيب ومن ذلك علمه بأني رسوله فشهد لي بذلك بإنزاله عليّ هذا الكتاب وأخيرا وبعد هذا البيان يقول تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا (٢) بِالْباطِلِ) وهو تأليه المخلوقات من دون الله (وَكَفَرُوا) بأولوهية الله الحق (أُولئِكَ) البعداء في الفساد العقلي وسوء الفهم (هُمُ الْخاسِرُونَ) في صفتهم حين اشتروا الكفر بالإيمان واستبدلوا الضلالة بالهدى.

هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث فلتعد تلاوتها بالتأنّي والتدبر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير النبوة المحمدية بالأدلة القاطعة التي لا ترد ، وهي أربع كما ذكر آنفا.

٢) بيان أكبر معجزة لإثبات النبوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي نزول القرآن الكريم عليه وفي ذلك قال عليه الصلاة والسّلام كما في البخاري (٣) : «ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر ، وكان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

٣) القرآن الكريم رحمة وذكرى أي عبرة وعظة للمؤمنين به وبمن نزل عليه.

٤) تقرير خسران المشركين في الدارين لاستبدالهم الباطل بالحق والعياذ بالله تعالى.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

__________________

(١) (شَهِيداً) أي : يشهد لي بالصدق فيما أدّعيه من أني رسول وأنّ هذا كتابه.

(٢) قال يحيى بن سلام : الباطل هنا : إبليس وهو شامل لإبليس ولعبادة الأوثان وما في التفسير أعم ، إذ اللفظ يشمل عبادة غير الله مطلقا وهو الباطل.

(٣) أخرجه ابن كثير بهذا اللفظ : (وما من الأنبياء من نبي إلّا قد اعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) وقال : أخرجاه من حديث الليث.

١٤٥

شرح الكلمات :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) : أي يطلبون منك تعجيل العذاب لهم.

(وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) : أي وقت محدد للعذاب لا يتقدمه ولا يتأخر عنه لجاءهم.

(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) : فجأة من حيث لا يخطر لهم على بال.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) : أي من كل جانب وهم فيها وذلك يوم يغشاهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) : أي من فوقهم ومن تحت أرجلهم.

(ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي ويقول لهم الجبار ذوقوا ما كنتم تعملون أي من الشرك والمعاصي.

معنى الآيات :

لقد تقدم في الآيات القريبة أن المكذّبين بالرسالة المحمدية طالبوا بالعذاب تحديا منهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إئتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين في أنك نبي ورسول إلينا وفي هذه الآية يعجّب تعالى رسوله أي يحمله على أن يتعجب من حمق المشركين وطيشهم وضلالهم إذ يطالبون بالعذاب فيقول له (وَ (١) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) (٢) للعذاب أي وقت محدد له لا يتقدمه ولا يتأخره (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ). ثم أخبر تعالى رسوله مؤكدا خبره فقال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) أي العذاب (بَغْتَةً) لا محالة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئه ، ثم كرر تعالى حمل رسوله على التعجب من سخف المشركين الذين لا يطيقون لسعة عقرب ولا نهشة أفعى يطالبون بالعذاب فقال (يَسْتَعْجِلُونَكَ (٣) بِالْعَذابِ ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) لا محالة كقوله (أَتى أَمْرُ اللهِ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي يغطيهم ويغمرهم فيكون (مِنْ فَوْقِهِمْ (٤) وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) وجهنم محيطة بهم

__________________

(١) من بين المطالبين بالعذاب : أبوجهل ، والنضر بن الحارث إذ قالا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب وفيهم نزل : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ ..).

(٢) المعنى : لو لا الأجل المعيّن لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا لأنّ كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ، ولكن الله أراد تأخيره الحكم يعلمها منها : إمهالهم ليؤمن من يؤمن منهم ، ومنها ليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم ومنه إظهار رحمته بعباده وحلمه عليهم.

(٣) حكى استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجب منها كما في قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ).

(٤) (مِنْ فَوْقِهِمْ) حال مؤكدة ، إذ غشيان العذاب لا يكون إلّا من فوق ، وقوله (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) احتراس عمّا قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة.

١٤٦

ويقول (١) الجبار تبارك وتعالى موبخا لهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) مشروعية التعجب إذا وجدت أسبابه الحاملة عليه.

٢) بيان مدى حمق وجهل وسفه الكافرين والمشركين بخاصة.

٣) بيان أن تأخير العذاب لم يكن عن عجز وإنما هو لنظام (٢) دقيق إذ كل شيء له أجل محدد لا يتقدم ولا يتأخر.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) : أي هاجروا من بلاد لم تتمكنوا من العبادة فيها فإن أرض الله واسعة.

(فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) : فاعبدوني وحدي ولا تعبدوا معي غيري كما يريد منكم المشركون.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : أي لا يمنعنكم الخوف من الموت أن لا تهاجروا في سبيل الله فإن الموت لا بد منه للمهاجر ولمن ترك الهجرة.

__________________

(١) قرأ بعضهم (ونقول) بنون التكلم والتعظيم.

(٢) وحكم عالية تقدم بعضها إزاء رقم (٢) في الصفحة السابقة.

١٤٧

(ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) : أي بعد موتكم ترجعون إلى الله فمن مات في سبيل مرضاته أكرمه وأسعده ، ومن مات في معصيته أذاقه عذابه.

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : أي لننزلنّهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الأنهار.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي صبروا على الإيمان والهجرة متوكلين على الله تعالى.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : أي لا تطيق جمعه ولا حمله لضعفها ، والله يرزقها فلا عذر لمن ترك الهجرة خوفا من الجوع والخصاصة.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأحوالهم وأعمالهم.

معنى الآيات :

لا شك أنه بعد ذلك التأنيب الإلهي للمشركين وتهديدهم بالعذاب وتوعدهم بعذاب جهنم وتوبيخهم فيها على شركهم وباطلهم لا شك أن رد الفعل من المشركين هو الضغط على المؤمنين المستضعفين في مكة فأرشدهم الله تعالى إلى الهجرة من مكة إلى المدينة ليتمكنوا من عبادة الله تعالى ، فناداهم بقوله عزوجل : (يا عِبادِيَ) (١) (الَّذِينَ آمَنُوا) أي بي وبرسولي ولقائي (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فهاجروا فيها ، ولا ترضوا بالبقاء مع الكفر تهانون وتلزمون بعبادة غيري من آلهة المشركين ، (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) لا تعبدوا معي غيري. وعليه فهاجروا في سبيل مرضاتي ولا تخشوا موتا ولا فقرا فإن كل نفس ذائقة الموت هاجر صاحبها أو لم يهاجر (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وقوله : (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٢) ، لا محالة فمن رجع إلينا وهو مؤمن مطيع منفذ لأوامرنا مجتنب نواهينا أسعدناه ، ومن رجع إلينا وهو كافر بنا عاص لنا مهمل أوامرنا مرتكب نواهينا أشقيناه. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) (٣) أي لننزلنّهم من الجنة دار الإسعاد (غُرَفاً

__________________

(١) قال القرطبي هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة وهو كذلك إلّا أنها عامة في كل من منع من عبادة الله تعالى في أرض عليه أن يهاجر إلى أخرى يعبد الله تعالى فيها إذ العبادة هي علّة خلقه ووجوده لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

(٢) قرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) وقرأ البعض بالياء يرجعون.

(٣) روى مسلم : (أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم ، وقيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم! قال : بلى والذي نفسي بيده رجال امنوا بالله وصدّقوا المرسلين).

١٤٨

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. هذا بيان لمن مات وهو مؤمن عامل بالصالحات ومنها الهجرة في سبيل الله. وقوله (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي ذلك الإنزال في الغرف في الجنان هو الإسعاد المترتب على الإيمان والهجرة والعمل الصالح فالإيمان والهجرة والعمل الصالح عمل والجنة وما فيها من النعيم أجرة ذلك العمل. وأثنى الله تعالى على الجنة فقال : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) ووصفهم بقوله (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على الإيمان والهجرة والطاعة (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فخرجوا من ديارهم تاركين أموالهم لا يحملون معهم زادا كل ذلك توكلا على ربهم وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ (١) مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لضعفها وعجزها أي وكثير من الدواب من الإنسان والحيوان من يعجز حتى عن حمل طعامه أو شرابه لضعفه والله عزوجل يرزقه بما يسخر له من أسباب وما يهيىء له من فرص فيطعم ويشرب كالأقوياء والقادرين ، وعليه فلا يمنعنكم عن الهجرة مخافة الفاقة والفقر فالله تعالى تكفل برزقكم ورزق سائر مخلوقاته. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) (٢) ببواطنكم وظواهركم وأعمالكم وأحوالكم فارهبوه ولا ترهبوا سواه فإن في طاعته السعادة والكمال وفي معصيته الشقاء والخسران.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) لا عذر لأحد في ترك عبادة الله وتوحيده فيها لأنه إن منع منها في بلد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر.

٢) لا معنى للخوف من الموت إذا وجب العمل كالهجرة والجهاد لأن الموت حق ولا بد منه.

٣) بيان جزاء أهل الصبر والتوكل من أهل الإيمان والهجرة والتقوى.

٤) لا يمنعن المؤمن من الهجرة خوفه من الجوع في دار هجرته إذ تكفل الله برزقه.

__________________

(١) (وَكَأَيِّنْ) : أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم ، والتقدير : أي كشيء كثير من العدد من دابة قال ابن عباس : الدواب هي كل ما دبّ من الحيوان فكله لا يحمل رزقه ولا يدخر إلّا ابن آدم والنمل والفأر.

(٢) وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من إخلاص لله تعالى في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم من الرزق.

١٤٩

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

شرح الكلمات :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : أي المشركين.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : أي ذللهما يسيران الدهر كله لا يملان ولا يفتران.

(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته لهم. وهو أن الخالق المدبر هو الإله الحق الذي يجب توحيده في عبادته.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : أي يوسّع الرزق على من يشاء من عباده امتحانا للعبد هل يشكر الله أو يكفر نعمه.

(وَيَقْدِرُ لَهُ) : أي ويضيق عليه ابتلاء ليرى هل يصبر أو يسخط.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ) : إذا كيف يشركون به أصناما لا تنفع ولا تضر؟.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي قل لهم الحمد لله على ثبوت الحجة عليكم.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) : أي انهم متناقضون في فهمهم وجوابهم.

١٥٠

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) : أي بالنظر إلى العمل لها والعيش فيها فهي لهو يتلهى بها الإنسان ولعب يخرج منه بلا طائل ولا فائدة.

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) : أي الحياة الكاملة الخالدة ، ولذا العمل لها أفضل من العمل للدنيا.

(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : أي لو علم المشركون هذا لما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالشرك وتذكير المشركين لعلّهم يوحدون. يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين الذين يؤذون المؤمنين ويضطهدونهم من أجل توحيدهم لله تعالى لو سألتهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي من أوجدهما من العدم ، ومن سخر الشمس والقمر في فلكيهما يسيران الحياة كلها ليجيبنّك قائلين الله. (فَأَنَّى (١) يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته إنّها حال تستدعي التعجب وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) هذا مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية والتدبير الحكيم وهو موجب له الألوهية ناف لها عما سواه. فهذا يبسط الرزق له فيوسع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومركوبه ومسكنه ، وهذا يضيق عليه في ذلك لما ذا؟! والجواب إنه يوسع امتحانا للعبد هل يشكر أو يكفر ، ويضيق ابتلاءا للعبد هل يصبر أو يسخط. ولذا فلا حجة للمشركين في (٢) غناهم وفقر المؤمنين فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط ولا على رضا. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بِكُلِ (٣) شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقرير لحكمته ورحمته وعدله وتدبيره فهو يوسع لحكمة ويضيق لحكمة لعلمه بعباده وما يصلحهم وما يفسدهم إذ من الناس من يصلحه الغنى ، ومنهم من يصلحه الفقر ، والإفساد كذلك وقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين فقلت من نزل من السماء

__________________

(١) الاستفهام للإنكار والتعجب.

(٢) نزلت الآية ردا على المشركين الذين عيّروا المؤمنين بالفقر وقالوا لهم : لو كنتم على الحق لم تكونوا فقراء ، وهذا تمويه منهم إذ في الكافرين فقراء أيضا.

(٣) هذه الجملة تذييلية لإفادة أنّ ذلك كلّه جار على حكمة لا يطّلع عليها.

١٥١

ماء المطر فأحيا به الأرض بعد موتها بالقحط والجدب لأجابوك قائلين : الله إذا قل لهم : الحمد (١) لله على اعترافكم بالحق لو أنكم تعملون بمقتضاه فما دام الله هو الذي ينزل الماء ويحيى الأرض بعد موتها فالعبادة إذا لا تنبغي إلّا له فلم إذا تعبدون معه آلهة أخرى لا تنزل ماء ولا تحيي أرضا ولا غيرها ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ لو عقلوا ما أشركوا بربهم أحجارا وأصناما ولا ما تناقضوا هذا التناقض في أقوالهم وأفعالهم يعترفون بالله ربا خالقا رازقا مدبرا ويعكفون على الأصنام يستغيثون بها ويدعونها ويعادون بل ويحاربون من ينهاهم عن ذلك.

وقوله تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي التي أعمت الناس عن الآخرة وصرفتهم عن التزوّد لها ما هي (إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) (٢) إذ يتشاغل بها الكافر ويعمل لها الليل والنهار ثم يموت ويخرج منها صفر اليدين كالأطفال يلعبون طوال النهار ثم يعودون بلا شيء سوى ما نالهم من التعب فالواجب أن تحول إلى عمل صالح مثمر يتزود به العبد إلى آخرته إذ الآخرة هي الحيوان أي الحياة الكاملة الخالدة فلها يعمل العاملون ، وفي عملها يتنافس المتنافسون. وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي الدار الآخرة (لَهِيَ الْحَيَوانُ) (٣) أي الحياة التي يجب أن نعمل لها لبقائها وخيريّتها ، وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي نعم إذ لو علموا أن الآخرة خير لما أقبلوا على الدنيا وأعرضوا عن الآخرة ، ولكن جهلهم هو سبب إعراضهم ، فدواؤهم العلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) التعجب من تناقض المشركين الذين يؤمنون بربوبيّة الله ويجحدون ألوهيته.

٢) بيان حقيقة وهي أن الغنى والفقر لا يدلان على رضا الرب ولا على سخطه ، وإنما يدلان على علم الله وحكمته وحسن تدبيره.

٣) بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وعظمة الآخرة وعلو قيمتها. فلذا أحمق الناس وأشدهم سفاهة من يعمى عن الآخرة ويكفر بها ويبصر الدنيا ويؤمن بها.

__________________

(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : على ما أوضح من الحجج والبراهين على قدرته على كل شيء أراده.

(٢) اللهو : ما يلهو به الناس أي : يشتغلون به عن الأمور المكدّرة أو يعمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال.

(٣) (الْحَيَوانُ) : يقع على كل شيء حي ، وحيوان : عين في الجنة ، وقيل : أصل الحيوان حييان فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين.

١٥٢

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

شرح الكلمات :

(فِي الْفُلْكِ) : أي في السفينة.

(مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : أي دعوا الله وحده فلم يذكروا معه غيره من الآلهة.

(إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) : أي يفاجئونك بالشرك وهو دعاء غير الله تعالى.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) : أي بنعمة الإنجاء من الغرق وغيرها من النعم.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) : أي سوف يعلمون عاقبة كفرهم إذا ألقوا في جهنم.

(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) : أي يسبون ويقتلون في ديار جزيرتهم.

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) : أي يؤمنون بالأصنام وهي الباطل ، ينكر تعالى عليهم ذلك.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) : أي بذلوا جهدهم في تصحيح عقائدهم وتزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم ثم بقتال أعداء الله من أهل الكفر المحاربين للاسلام والمسلمين.

(لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) : أي لنوفقنّهم إلى معرفة ما يوصل إلى محبتنا ورضانا ونعينهم على تحصيله.

١٥٣

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في التنديد بالمشركين وشركهم فقد تقدم في السياق أنهم يعترفون بربوبية الله تعالى إذ لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر لقالوا الله ولو سئلوا عمن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها لقالوا الله. ومع هذا هم يشركون بالله آلهة أوثانا ، وكما يعترفون بربوبيّة الله ثم يشركون به الأصنام ، فإنهم إذا ركبوا في الفلك أي في سفينة من السفن وجاءهم موج واضطربت بهم وخافوا الغرق دعوا الله تعالى (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي الدعاء فسألوه وحده دون آلهتهم أن ينجيهم من الغرق. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) ونزلوا سالمين من الغرق إذا هم يشركون يفاجئونك بالشرك فهذا التناقض منهم كالتناقض في اعترافهم بربوبيّة الله تعالى ثم بالإشراك به. ومردّ هذا إلى الجهل والتقليد والعناد والمجاحدة والمكابرة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى من هذا السياق وهي قوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (١).

وقوله تعالى في الآية (٦٦) : (لِيَكْفُرُوا (٢) بِما آتَيْناهُمْ) أي عودتهم إلى الشرك بعد نجاتهم من الغرق ونزولهم في البركان كأنه من أجل أن يكفروا بنعمة الله تعالى بإنجائهم من الغرق ، إذ لو لم يكفروها لاستمروا على الاخلاص لله بدعائه وعبادته وحده دون الآلهة التي تركوها عند حلول الشدة ومعاينة البلاء. وقوله تعالى : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) قرىء بسكون اللام ورجح ابن جرير هذه القراءة فيكون المعنى : وليتمتعوا في دنياهم بما آتاهم الله من متاع الحياة الدنيا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك بعد موتهم وهي عذاب الآخرة ، والأمر حينئذ في قوله وليتمتعوا للتهديد والوعيد.

أما على قراءة جر اللام وليتمتعوا فالجملة معطوفة على قوله ليكفروا أي أخلصوا في الشدة وأشركوا في الرخاء ليكفروا وليتمتعوا بما أوتوا في الحياة ، ولم يكن ذلك بنافعهم ولا بمغن عنهم من الله شيئا فسوف يعلمون ما يحل بهم من عذاب وما ينزل بهم من بلاء وشقاء.

__________________

(١) قال القرطبي : يدعون معه غيره وما لم ينزل به سلطانا. وقيل : إشراكهم أن يقول قائلهم لو لا الله والرئيس والملاح لغرقنا ، وهو كما قال ، وإنما هو عند المسلمين من الشرك الأصغر لا الأكبر كقول الرجل : لو لا الطبيب لمات فلان ، ولو لا الكلب لسرقنا.

(٢) (لِيَكْفُرُوا) هذه اللام هي لام كي ، والظاهر أنها للعاقبة وما يؤول إليه الأمر ، وقيل هي لام الأمر ، وإن كانت كذلك فهو للتهديد والوعيد ، ويقوّي هذا الوجه قراءة من قرأها من القراء السبعة بسكون اللام (وَلِيَتَمَتَّعُوا).

١٥٤

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٦٧) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً (١) آمِناً وَيُتَخَطَّفُ (٢) النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) أي ألم ير أولئك المشركون الكافرون بنعمة الله في الإنجاء من الغرق نعمة أخرى وهي أن جعل الله تعالى لهم حرما آمنا يسكنونه آمنين من غارات الأعداء وحروب الظالمين المعتدين ، لا يعتدي عليهم في حرمهم ولا يظلمون في حين أنّ الناس من حولهم في أطراف جزيرتهم وأوساطها يتخطفون فتشنّ عليهم الغارات ويقتّلون ويؤسرون في كل وقت وحين ، أليست هذه نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرهم لله تعالى بعبادته وترك عبادة ما سواه. ولذا قال تعالى عاتبا عليهم منددا بسلوكهم : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) (٣) أي بالشرك وعبادة الأصنام يصدقون ويعترفون (وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) أي يجحدون إنعام ربهم عليهم فلا يشكرونه بعبادته وتوحيده فيها. وقوله تعالى في الأية الرابعة (٦٨) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) وصفهم بالظلم الفظيع في حالتين الأولى في كذبهم على الله بتحريم ما أحل وتحليل ما حرم واتخاذ شركاء لله زاعمين أنها تشفع لهم عند الله عزوجل والثانية في تكذيبهم للحق الذي جاءهم به رسول الله وهو الدين الاسلامي بعقائده وشرائعه حيث كذبوا بالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبعد هذا التسجيل لأكبر ظلم عليهم قال تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) (٤) (لِلْكافِرِينَ)؟ والاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مثوى أي مسكنا للكافرين من أمثالهم وهم كافرون ظالمون وذلك جزاؤهم ولبئس الجزاء جهنم.

وقوله تعالى في الآية الخامسة (٦٩) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا (٥) لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ (٦) الْمُحْسِنِينَ) في هذه الآية بشرى سارة ووعد صدق كريم ، وذلك أن من جاهد في سبيل الله أي طلبا لمرضاة الله بالعمل على إعلاء كلمته بأن يعبد ولا يعبد معه سواه فقاتل

__________________

(١) هو مكة والحرم حولها.

(٢) الخطف : الأخذ بسرعة. قال الضحّاك يتخطف الناس من حولهم : أي يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا فذكرهم الله تعالى بهذه النعمة لعلهم يذعنون له بالطاعة.

(٣) الاستفهام للانكار والتعجب أيضا.

(٤) المثوى المستقر الدائم ، والمثوى كالمأوى وزنا ومعنى والاستفهام هنا للتقرير.

(٥) جاهدوا الكفار والفساق والشيطان والنفس أمّا جهاد الكفار فلم يؤذن فيه فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية إلّا أنه لا مانع أن ينزل الحكم قبل أن يشرع العمل. ولكنه منتظر ، وأما جهاد النفس فهو لازم لا يفارق وكذا جهاد الشيطان عليه لعائن الله.

(٦) المعية هنا : معيّة إعانة وتسديد ونصرة على الأعداء المحاربين من الكفار والشياطين والنفس.

١٥٥

المشركين يوم يؤذن له في قتالهم يهديه الله تعالى أي يوفقه إلى سبيل النجاة من المرهوب والفوز بالمحبوب ، وكل من جاهد في ذات الله نفسه وهواه والشيطان وأولياءه فإن هذه البشرى تناله وهذا الوعد ينجز له وذلك أن الله مع المحسنين بعونه ونصره وتأييده على من جاهدهم في سبيل الله ، والمراد من المحسنين الذين يحسنون نياتهم وأعمالهم وأقوالهم فتكون صالحة مثمرة لزكاة نفوسهم وطهارة أرواحهم. اللهم اجعلنا منهم وآتنا ما وعدتهم إنك جواد كريم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) بيان أن مشركي العرب لم يكونوا ملاحدة لا يؤمنون بالله تعالى وتقرير أنهم كانوا موحدين توحيد الربوبية مشركين في توحيد الألوهية أي العبادة.

٢) إيقاظ ضمائر المشركين بتنبيههم بنعم الله تعالى عليهم لعلهم يشكرون.

٣) لا ظلم أعظم من ظلم من افترى على الله الكذب ، وكذّب بالحق لما جاءه وانتهى إليه وعرفه فانصرف عنه مؤثرا دنياه متبعا لهواه.

٤) بشرى الله لمن جاهد المشركين وجاهد نفسه والهوى والشياطين بالهداية إلى سبيل الفوز والنجاة في الحياة الدنيا والآخرة.

٥) فضل الإحسان وهو إخلاص العبادة لله تعالى وأداؤها متقنة مجوّدة كما شرعها الله تعالى ، وبيان هذا الفضل للإحسان بكون الله تعالى مع المحسنين بنصرهم وتأييدهم والإنعام عليهم وإكرامهم في جواره الكريم.

١٥٦

سورة الرّوم

مكية

وآياتها ستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

شرح الكلمات :

(الم) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم ، وتقرأ ألف ، لام ، ميم

(غُلِبَتِ) : أي غلبت فارس الروم.

(الرُّومُ) : إسم رجل هو روم بن عيصو بن اسحق بن ابراهيم سميّت به قبيلة لأنه جدها.

(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) : أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرض يقال لها الجزيرة «بين دجلة والفرات».

(وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) : أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) : أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين.

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) : أي الأمر في ذلك أي في غلب فارس أولا ثم في غلب الروم أخيرا لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.

١٥٧

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) : أي ويوم تغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار ، وبنصرهم هم على المشركين في بدر.

(وَعْدَ اللهِ) : أي وعدهم الله تعالى وعدا وأنجزه لهم.

(لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) : أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإنجاز وعده.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي لا يعلمون حقائق الإيمان وأسرار الشرع وإنما يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة.

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) : أي عن الحياة الآخرة ، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتروك.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الم) : أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله أعلم بمراده به ، مع الإشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد أعجز العرب على تأليف مثله فدل ذلك على أنه وحي الله وتنزيله ، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه ، والثانية أنها لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تأثيره على المستمع له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطباتهم.

وقوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ) (١) : أي غلبت فارس الروم في (أَدْنَى الْأَرْضِ) أي (٢) أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهرى دجلة والفرات

__________________

(١) هذا الخبر المقصود منه لازم الفائدة ، إذ الله يعلم ذلك ، وإنما المراد نحن نعلم ذلك فلا يهنئكم أيها المشركون ذلك ولا تتطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبهم في بضع سنين لا يعد الغلب في مثله غلبا.

(٢) اختلف في أدنى الأرض هل هذا الإدناء إلى أرض الروم أو إلى أرض الفرس كما في التفسير أو أدنى الأرض إلى أرض الروم أو إلى أرض العرب ، وهذا الخلاف سببه الخلاف في تحديد موقع المعركة فإن كانت بالجزيرة فأدنى الأرض هو بالنسبة إلى أرض فارس وإن كانت الوقعة بالأردن فهي أقرب إلى أرض الروم وإن كانت الوقعة بأذرعات جنوب الشام فهي أقرب إلى ديار العرب الحجاز وما حوله والراجح الأول كما في التفسير.

١٥٨

وقوله : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارسا وقوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) : أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ (١) بَعْدُ) أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه. وقوله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) أي (٢) ويوم يغلب الروم فارسا يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارسا مشركون يعبدون النار ، كما يفرح المؤمنون أيضا بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان الوقت الذي انتصرت فيه الروم هو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر. وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإسلام وكتابه ورسوله حق. وقوله تعالى : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزا بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين (٣) ، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده. وقوله ولكن (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) (٤) كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه ، ولكن يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة ، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى.

__________________

(١) قبل ، وبعد : مبنيان على الضم لحذف المضاف إليه ونيّة معناه أي : من قبل الغلب وبعده.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عزوجل : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قال : كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، وذكر أنّ أبا بكر راهن قريشا في كلام طويل ، وقال الترمذي فيه حديث حسن صحيح غريب نقله القرطبي.

(٣) وقيل كان النصر يوم صلح الحديبية لأن صلح الحديبية كان في واقع الأمر نصرا للمؤمنين ، وما في التفسير أصح لحديث الترمذي وقد حسّنه وصححه وقال فيه غريب.

(٤) قال الحسن بلغ ـ والله ـ من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي وفي هذا قال بعضهم شعرا :

ومن البلية أن ترى لك صاحبا

في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله

وإذا يصاب بدينه لم يشعر

١٥٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١) تقرير صحة الاسلام وأنه الدين الحق بصدق ما يخبر به كتابه من الغيوب.

٢) بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلا شفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

٣) بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإنسان ولا يسعد إلا عليها ، ويعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة ، اما عن سر الحياة الدنيا ولما ذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي. والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

١٦٠