أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

الدار الاخرة. قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) (١) أي أولئك المنكرون للبعث ، أيكذبون؟ ، ولم ينظروا كيف يبدىء الله الخلق أي خلق الإنسان ، فإن ذلك دال على إعادته متى أراد الله الخالق ذلك ، ثم هو تعالى يعيده متى شاء ، (إِنَّ ذلِكَ) أي الخلق والإعادة بعد الفناء والبلى (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل لا يتعذر عليه أبدا.

وقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا (٢) فِي الْأَرْضِ) أي قل يا رسولنا للمكذبين بالبعث الآخر (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) شرقا وغربا (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ) تعالى خلق تلك المخلوقات التي تشاهدونها من أرض ، وسماء ، وانهار ، وأشجار ، وحيوان ، وإنسان ، إنها كلها كانت عدما فأنشأها الله تعالى ثم هو سيفنيها (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) (٣) وذلك بأن يعيد حياة الانسان ليحاسبه على كسبه في الدنيا ويجزيه به خيرا أو شرا ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ (٤) قَدِيرٌ) إذا فلا يستنكر عليه إعادة الناس أحياء بعد نهاية هذه الحياة الدنيا ليحاسبهم ويجزيهم بما كانوا يعملون. وقوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) هذه فائدة وحكمة البعث الآخرة وهي المجازاة على العمل في هذه الحياة فيعذب أهل الكفر به وبرسوله والذين لم يزكوا أنفسهم بالإيمان وصالح الأعمال فيدخلهم جهنم دار الشقاء والعذاب ويرحم أهل الإيمان والتقوى الذين زكوا أنفسهم بالإيمان والصالحات. وقوله : (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي إلى الله ربكم ترجعون بعد الموت والفناء وإنشاء النشأة الآخرة وقوله (وَما أَنْتُمْ (٥) بِمُعْجِزِينَ) أي الله تعالى (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) بل أنتم مقهورون له خاضعون لسلطانه لا يمكنكم الهرب منه ولا الخلاص بحال من الأحوال. وليس لكم من دونه تعالى ولي يتولاكم فيدفع عنكم العذاب ولا نصير ينصركم فلا تغلبون ولا تعذبون وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) التي جاءت بها

__________________

(١) الاستفهام للإنكار والتوبيخ لهم على عدم استعمال عقولهم إذ ينكرون البعث وأمامهم صوّر منه دالة عليه فهو يبدىء الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبدا ويخلق المرء ثم يميته بعد أن يخلق منه ولدا ويخلق من الولد ولدا ، وهكذا تتكرر عملية البعث أمامهم فما لهم لا يرونها؟!

(٢) هذا الأمر للارشاد والتوجيه والنصح لو كانوا يعقلون.

(٣) أظهر اسم الجلالة بعد تقديم ذكر ضميره في قوله : (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) ليحرك ضمائرهم باسم الجلالة ويدفع بنفوسهم إلى التسليم بالنشأة الآخرة بعد التسليم بالنشأة الأولى وهي بدء الخلق.

(٤) الجملة تذييلية أعلن فيها عن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء أراده : البدء كالإعادة سواء.

(٥) المعجز : هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما وهو هنا كناية عن الغلبة والانقلاب ، قرّر بهده الجملة عجزهم التام في الأرض التي هم يسكنونها ، وحتى في السماء لو فرض أنهم يرقونها وما هم بأهل لذلك كما قال الأعشى.

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلّم

١٢١

رسله (وَلِقائِهِ) وهو البعث الآخر الموجب للوقوف بين يدي الله للسؤال والحساب والجزاء هذا إن كان للعبد ما يحاسب عليه من الخير ، أما إن لم يكن له حسنات فإنه يلقى في جهنم بلا حساب ولا وزن إذ ليس له من الصالحات ما يوزن له ويحاسب به ، ولذا قال تعالى : (أُولئِكَ) أي المكذبون بآيات (١) الله ولقائه (يَئِسُوا مِنْ (٢) رَحْمَتِي) إذ تكذيبهم بالقرآن مانع من الإيمان والعمل الصالح وتكذيبهم بيوم القيامة مانع لهم أن يتخلوا عن الشرك والمعاصي ، أو يعملوا صالحا من الصالحات لتكذيبهم بالجزاء ، فهم يائسون من الجنة. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع وهو عذاب النار في جهنم والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب استعمال العقل للاستدلال على الغائب بالحاضر وعلى المعدوم بالموجود.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء وذكر أدلتها التفصيلية.

٣ ـ تقرير عجز الانسان التام وأنه لا مهرب له من الله تعالى ربه ومالكه وهي حال تستدعي الفرار إلى الله اليوم بالإيمان والتقوى.

٤ ـ إنذار المكذبين بأنهم إن ماتوا على التكذيب بالبعث لا يدخلون الجنة بحال ، وسيعذبون في نار جهنم أشد العذاب.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

__________________

(١) المراد بآيات الله : القرآن الكريم : المشتمل على الأدلة والبراهين والحجج الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته والمفصلة لأنواع عباداته.

(٢) أخبر عن يأسهم بالفعل الماضي تنبيها على تحقيق وقوعه وإن كان المعنى أنهم سييأسون من رحمة الله التي هي الجنة لا محالة.

١٢٢

شرح الكلمات :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي قوم إبراهيم عليه‌السلام.

(إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) : أي إلا قولهم اقتلوه أو حرقوه

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي في كون النار لم تحرق الخليل ويخرج منها سالما.

(لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : لأن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالآيات لحياة قلوبهم.

(أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) : أي اتخذتم أوثانكم آلهة تتوادون من أجل عبادتها وتتحابون لذلك.

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي هذا التوادد والتحاب على الآلهة في الحياة الدنيا فقط أما الآخرة فلا.

(يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) : أي يكفر المتبوعون بأبتاعهم ويتبرأون منهم.

(وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : يلعن الأتباع القادة الذين اتبعوهم في الباطل.

معنى الآيات :

مازال السياق في قصص (١) إبراهيم الخليل عليه‌السلام فإنه لمّا أفحمهم بالحجة وبين لهم باطلهم وكشف لهم عن جهلهم وضلالهم لجأوا كعادة الطغاة من أهل الكفر والباطل إلى التهديد بالقوة فقالوا ما أخبر به تعالى عنهم : أي (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) فما كان جوابهم أي عما سمعوا من الحجج والبراهين على بطلان الشرك وصحة التوحيد (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) (٢) أي إلا قولهم اقتلوا إبراهيم بالسيف ونحوه أو حرقوه بالنار ، ونفذوا جريمتهم بالفعل وأوقدوا النار وألقوه فيها ، وقال الله جل جلاله للنار (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت كما أمرت وخرج إبراهيم سالما لم تحرق النار سوى كتافه الذي شد به يداه ورجلاه. وهو ما دل عليه قوله تعالى (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي في كون النار لم تحرق إبراهيم فيتخلف طبعها وتصبح بردا وسلاما على إبراهيم فلم تحرقه ، (آيات) أي دلائل قدرة الله تعالى ورحمته وحكمته ولكن تلك الآيات لا ينتفع بها غير المؤمنين ، لأنهم أموات لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون. أما المؤمنون فهم أحياء فينتفعون بما يسمعون ويبصرون لأن الإيمان بمثابة

__________________

(١) عاد السياق الكريم إلى الحديث عن قصة إبراهيم بعد تلك الجمل الاعتراضية التي تخللت القصة بقصد إثارة شعور قريش وتحريك ضمائرها رجاء أن تطلب الهداية فتحصل عليها إذ هي المقصودة من سوق القصة.

(٢) ثمّ اتفقوا على تحريقه ونفذوا ما اتفقوا عليه فألقوه في النار ونجّاه الله فله الحمد وله المنة.

١٢٣

الروح في البدن فإن وجد في القلب حيي الجسم وان فارقه فالجسم ميت فلا العين تبصر الأحداث ولا الأذن تسمع الآيات. وقوله : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً (١) مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) هذا من جملة قول إبراهيم لقومه وهو يعظهم ويرشدهم فأخبرهم بحقيقة يتجاهلونها وهي أنهم ما اتخذوا تلك الأوثان آلهة يعبدونها إلا لأجل التعارف عليها والتوادد والتحاب من أجلها ، فيقيمون الأعياد لها ويجتمعون حولها فيأكلون ويشربون لا أنهم حقيقة يعتقدون أنها آلهة وهي أحجار نحتوها بأيديهم ونصبوها تماثيل في سوح دورهم وأمام منازلهم (ويوم القيامة) أي في الآخرة فالعكس هو الذي سيحدث لهم حيث (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ (٣) بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي يكفر المتبوعون وهم الرؤساء بمن اتبعوهم وهم الأتباع من الدهماء وعوام الناس ، (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) كل من الأتباع والمتبوعين يطلب بعد الآخر عنه ، وعدم الاعتراف به وذلك عند معاينة العذاب ولم تبق تلك الروابط والصلات التي كانت لهم في هذه الحياة!! وقوله : (وَمَأْواكُمُ (٤) النَّارُ) أي ومقركم الذي يؤويكم جميعا فتستقرون فيه هو النار (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) بعد أن أذلكم الله الذي أشركتم به أوثانا ، فجعلتموها مودة بينكم في الحياة الدنيا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن الظّلمة سنتهم أنهم إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى استعمال القوة.

٢ ـ في عدم إحراق النار دليل على أن الله تعالى قادر على إبطال السنن إذا شاء ذلك ، ومن هنا تكون الكرامات والمعجزات إذ هى خوارق للعادات.

٣ ـ بيان أن الخرافيين في اجتماعهم على البدع لم يكن ذلك عن علم بنفع البدعة وإنما لعنصر التوادد والتعارف والتلاقي على الأكل والشرب كما قال إبراهيم لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

__________________

(١) قرأ نافع مودّة بالتنوين منصوبا ، وقرأ حفص بدون تنوين منصوبا مضافا إلى الظرف ، وقرأ ابن كثير وغيره مودّة بالرفع مضاف إلى (بينكم) على أنه خبر إنّ وما : اسمها.

(٢) قال القرطبي : معنى الآية : جعلتم الأوثان تتحابون عليها في الحياة الدنيا.

(٣) قال القرطبي : تتبرأ الأوثان من عبادها ، والرؤساء من السفلة كما قال الله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).

(٤) قيل : يحشرون في النار الرؤساء والأتباع والأوثان كقوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهي الأوثان التي كانت تعبد من دون الله عزوجل.

١٢٤

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) : أي آمن بإبراهيم لوط وهو ابن أخيه هاران ولم يؤمن من قومه سواه.

(مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) : أي إلى حيث أعبد ربي فلا أفتن في ديني.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : أي هاجر لأجلنا فأكرمناه في دار هجرته فوهبنا له ذرية هم اسحق الابن ويعقوب الحفيد.

(فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) : فكل الأنبياء بعده من ذريته وكل الكتب التي أنزلت بعده فهي في ذريته.

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : وذلك بالرزق الحسن والثناء الحسن على ألسنة كافة الناس من أهل الأديان الإلهية.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : أي هو أحدهم ، فيكرم كما يكرمون بالدرجات العلا ، والصالحون هم أنبياء الله ورسله وأولياؤه وصالحو عباده.

معنى الآيات :

هذا آخر قصص إبراهيم الخليل في هذا السياق الكريم فأخبر تعالى أن إبراهيم بعد الجهاد الطويل في الدعوة إلى عبادة الرحمن الرحيم لم يؤمن له ولم يتابعه على الحق الذي دعا إليه إلا لوط بن هاران أخيه فقال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ) أي إبراهيم (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى (١) رَبِّي) فترك بلاد قومه من (٢) سواد العراق وارتحل إلى أرض الشام فأكرمه الله تعالى جزاء

__________________

(١) المهاجرة : مفاعلة من الهجر الذي هو الترك لما كان ملازما له وحرف إلى الأصل فيه الانتهاء ، وهي هنا أفادت التعليل : أي لأجل ربي إذ هو الذي أمره بها من أجل أن يعبده في دار هجرته هو وأهله.

(٢) من قرية كوثا من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ، ومعه ابن أخيه لوط بن تارخ ، وامرأته سارة ، وهو أوّل من هاجر في سبيل الله وأوّل من هاجر من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبيل الله تعالى : عثمان بن عفان مع زوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أرض الحبشة.

١٢٥

هجرته إلى ربه عزوجل بما أخبر به في هذا السياق حيث قال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ (١) وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وهبه أي أعطاه ولده إسحق بن سارة وولد اسحق وهو يعقوب ، وجعل كافة الأنبياء من ذريته وجعل الكتاب فيهم أيضا فالتوراة أنزلت على موسى ، والزبور على داود ، والانجيل على عيسى وهم من ذرية إبراهيم ، والقرآن الكريم أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم وقول إبراهيم هو كما قال : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) وصف ربه بالعزة والحكمة. فقال : (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ (٢) الْحَكِيمُ) أي الغالب القاهر (الْحَكِيمُ) الذي وضع كل شيء في موضعه ، ودلائل العزة ان أنجى إبراهيم من أيدي الظلمة الطغاة ومن مظاهر الحكمة أن نقله من أرض لا خير فيها إلى أرض كلها خير وأكرمه فيها بما ذكر في قوله (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) حيث رزقه أطيب الأرزاق في دار هجرته ورزقه الثناء الحسن من كل أهل الأديان الإلهية كاليهودية والنصرانية ، والإسلام وهو خاتم الأديان هذا في الدنيا أما في الآخرة فإنه من الصالحين ذوي الدرجات العلا والمنازل العالية في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حصيلة دعوة إبراهيم كذا سنة وأنها كانت إيمان واحد بها وهو لوط عليه‌السلام وفي هذا تسلية للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان إكرام الله تعالى لمن يهاجر إليه ويترك أهله وداره.

٣ ـ بيان ما أكرم الله تعالى به إبراهيم من خير الدنيا والآخرة جزاء صبره على دعوة الله تعالى.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ

__________________

(١) هذه الهبة كان قبلها هبة اسماعيل إذ ولد قبل اسحق عليهم‌السلام.

(٢) هذه الجملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (إني مهاجر إلى ربي) لأنّ من كان عزيزا يعتزّ به جاره ، ومن كان حكيما لا يأمر بغير ما هو خير للمأمور الممتثل لأمره.

١٢٦

فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) : أي واذكر إذ قال لوط بن هاران لقومه أهل سدوم.

(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) : أي الخصلة القبيحة وهي إتيان الذكران في أدبارهم.

(ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) : أي لم تعرف البشرية قبل قوم لوط إتيان الذكران في أدبارهم.

(وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) : أي باعتدائكم على المارة في السبيل فامتنع الناس من المرور خوفا منكم.

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) : أي مجالس أحاديثكم تأتون المنكر كالضراط وحل الإزار والفاحشة أي اللواط.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) : أي إلا قولهم ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص لوط عليه‌السلام مع قومه أهل سدوم وعموريّة والغرض من سياقه تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذه القصص لا يتم لأحد إلّا من طريق الوحي ، وتسلية الرسول من أجل ما يلاقي من عناد المشركين ومطالبتهم بالآيات والعذاب قال تعالى : واذكر يا رسولنا لقومك (١) لوطا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وهي الفعلة القبيحة ويزيدها قبحا أن الناس قبل قوم لوط لم تحدث فيهم هذه الخصلة ولم يعرفها أحد من العالمين ، ثم يواصل لوط إنكاره وتشنيعه عليهم فيقول : (أَإِنَّكُمْ (٢) لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) أي في أدبارهم (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وذلك أنهم كانوا يعتدون على المارة بعمل الفاحشة معهم قسرا وبسلب أموالهم وبذلك امتنع الناس من المرور فانقطعت السبيل ، كما أنهم بإتيانهم الذكران عطلوا النسل

__________________

(١) (لُوطاً) منصوب إمّا على تقدير اذكر كما في التفسير أو على تقدير وأرسلنا أو أنجينا كما تقدم في قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ ..)

(٢) الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقرير على جريمتهم التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.

١٢٧

بقطع سبيل الولادة ، وزاد لوط في تأنيبهم والإنكار عليهم والتوبيخ لهم فقال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) والنادي محل اجتماعهم وتحدثهم وإتيان المنكر فيه كان بارتكاب الفاحشة مع بعضهم بعضا ، وبالتضارط فيه ، وحل الإزار ، والقذف بالحصى وما إلى ذلك (١) مما يؤثر عنهم من سوء وقبح. قال تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) بعد أن أنبهم ووبخهم ناهيا لهم عن مثل هذه الفواحش (إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا (٢) بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي ما كان جوابهم إلا المطالبة بعذاب الله ، وهذه طريقة الغلاة المفسدين والظلمة المتكبرين ، إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى القوة يستعملونها أو يطالبون بها. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (٣) أي لما طالبوه بالعذاب ، وقد أعياه أمرهم لجأ إلى ربه يطلب نصره على قومه الذين كانوا شر قوم وجدوا على وجه الأرض واستجاب الله تعالى له ونصره وسيأتى بيان ذلك في الآيات بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بذكر قصص لا يتم إلا عن طريق الوحي.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل ما يعاني من المشركين من كفر وعناد ومطالبة بالعذاب.

٣ ـ قبح الفاحشة وحرمتها وأسوأها فاحشة اللواط.

٤ ـ وجوب إقامة الحد على اللوطيّ الفاعل والمفعول لأن الله تعالى سماها فاحشة وسمى الزنا فاحشة ووضع حدا للزنى فاللوطية تقاس عليه ، وقد صرحت السنة بذلك فلا حاجة إلى القياس.

٥ ـ التحذير من العبث والباطل قولا أو عملا وخاصة في الأندية والمجتمعات.

__________________

(١) من ذلك : أنهم كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك ، والصفير وتطريف الأصابع بالحناء وفرقتها ، ويحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم ، روى هذا الترمذي وحسّنه.

(٢) هذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم قطعا.

(٣) الإفساد في الأرض : هو العمل بمعاصي الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل عامل بالمعاصي فهو مفسد في الأرض ، إذ فعل المعاصي يورث الفقر والخوف وهما شرّ ما يتقى.

١٢٨

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(بِالْبُشْرى) : أي إسحق ويعقوب بعده.

(هذِهِ الْقَرْيَةِ) : أي قرية لوط وهي سدوم.

(قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) : أي قالت الرسل نحن أعلم بمن فيها.

(كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) : أي كانت في علم الله وحكمه من الباقين في العذاب.

(سِيءَ بِهِمْ) : أي حصلت لهم مساءة وغم بسبب مخافة أن يقصدهم قومه بسوء.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) : أي عجز عن احتمال الأمر لخوفه من قومه أن ينالوا ضيفه بسوء.

(رِجْزاً) : أي عذابا من السماء.

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : أي بسب فسقهم وهو إتيان الفاحشة.

١٢٩

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً) : أي تركنا من قرية سدوم التي دمرناها آية بينة وهي خرابها ودمارها وتحولها إلى بحر ميت لا حياة فيه.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : أي يعلمون الأسباب والنتائج إذا تدبروا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص لوط عليه‌السلام ، إنه بعد أن ذكرهم وخوفهم عذاب الله قالوا كعادة المكذبين الهالكين فائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين وأنه عليه‌السلام استنصر ربه تعالى عليهم ، واستجاب الله تعالى له وفي هذه الآية بيان ذلك بكيفيته ، قال تعالى : (١) (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ) الخليل عم لوط (بِالْبُشْرى) (٢) التي هي ولادة ولد له هو إسحق ومن بعده يعقوب ولد إسحق عليه‌السلام كما قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ). (قالُوا) أي قالت الملائكة لإبراهيم (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يريدون قرية قوم لوط وهي سدوم وعللوا لذلك بقولهم (إِنَّ أَهْلَها كانُوا (٣) ظالِمِينَ) أي لأنفسهم بغشيان الذنوب وإتيان الفواحش ، ولغيرهم إذ كانوا يقطعون السبيل وهنا قال لهم إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً) ليس من الظالمين بل هو من عباد الله الصالحين فأجابته الملائكة فقالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) منك يا إبراهيم. (لَنُنَجِّيَنَّهُ (٤) وَأَهْلَهُ) من الهلاك (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وذلك لطول عمرها فسوف تهلك معهم لكفرها وممالأتها للظالمين. وقوله تعالى : (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) أي ولما وصلت الملائكة لوطا قادمين من عند إبراهيم من فلسطين (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أي استاء بهم وأصابه غم وهم خوفا من قومه أن يسيئوا إليهم ، وهم ضيوفه نازلون عليه ولما رأت ذلك الملائكة منه طمأنوه بما أخبر به تعالى في قوله : (وَقالُوا لا تَخَفْ) أي علينا (وَلا تَحْزَنْ) على من سيهلك من أهلك مع قومك الظالمين. (إِنَّا مُنَجُّوكَ) من العذاب أنت وأهلك أى زوجتك المؤمنة وبنتيك ، (إِلَّا امْرَأَتَكَ) أي العجوز الظالمة فإنها (مِنَ الْغابِرِينَ) الذين طالت أعمارهم وستهلك مع الهالكين. وقوله تعالى فى الآية (٣٤) : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ

__________________

(١) (لَمَّا) حرف وجود لوجود نحو : لما جاء الحق ذهب الباطل. وهي أداة تدل على التوقيت كما هي ظرف ملازم للاضافة إلى جملة بعدها.

(٢) البشرى : اسم للبشارة التي هي : الإخبار بما يسرّ المخبر.

(٣) الجملة تعليلية لما تقدمها من الإهلاك.

(٤) قرأ الجمهور نافع وحفص : (مُنَجُّوكَ) بتشديد الجيم ، وقرأ ابن كثير منجوك بتخفيفها من : أنجاه ينجيه ، ونجي وأنجى بمعنى.

١٣٠

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي أخبرت الملائكة لوطا بما هم فاعلون لقومه وهو قولهم (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) أي مدينة سدوم (رِجْزاً) أي عذابا من السماء وهي الحجارة بسبب فسقهم بإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين. قال تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) أي من تلك القرية (آيَةً بَيِّنَةً) (١) ، أي عظة وعبرة ، وعلامة واضحة على قدرتنا على إهلاك الظالمين والفاسقين. وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذ هم الذين يتدبرون في الأمور ويستخلصون أسبابها وعواملها ونتائجها وآثارها أما غير العقلاء فلا حظ لهم في ذلك ولا نصيب فهم كالبهائم التي تنساق إلى المجزرة وهي لا تدري وفي هذا تعريض بمشركي مكة وما هم عليه من الحماقة والغفلة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حلم إبراهيم ورحمته تجليا في دفاعه عن لوط وأهله.

٢ ـ تقرير مبدأ : من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه ، حيث العلاقة الزوجية بين لوط وامرأته العجوز لم تنفعها وهلكت لأنها كانت مع الظالمين بقلبها وسلوكها.

٣ ـ مشروعية الضيافة وتأكدها في الإسلام لحديث الصحيح «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه».

٤ ـ التنديد بالفسق عن طاعة الله وهو سبب هلاك الأمم والشعوب.

٥ ـ فضيلة العقل إذا استعمله صاحبه في التعرف إلى الحق والباطل والخير والشر.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

__________________

(١) المعنى : ولقد تركنا من القرية آثارا دالة عليها ، وهي بقايا القرية المغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه ، مع بقايا لون الكبريت والمعادن التي رجمت بها قريتهم.

١٣١

شرح الكلمات :

(وَإِلى مَدْيَنَ) : أي وأرسلنا إلى قبيلة مدين ، ومدين أبو القبيلة فسميت باسمه.

(أَخاهُمْ شُعَيْباً) : أي أخاهم في النسب.

(اعْبُدُوا اللهَ) : أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.

(وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) : أي آمنوا به وتوقعوا مجيئه وما يحدث فيه.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أي ولا تعيثوا في الأرض فسادا بأن تنشروا فيها الفساد وهو العمل بالمعاصي فيها.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) : الهزة العنيفة والزلزلة الشديدة.

(فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) : لاصقين بالأرض أمواتا لا يتحركون.

معنى الآيتين :

هذا موجز لقصة (١) شعيب عليه‌السلام مع قومه أهل مدين ، والعبرة منه إهلاك تلك الأمة لما كذبت رسولها واستمرت على الشرك والمعاصي لعل قريشا تعتبر بما أصاب هذه الأمة من هلاك ودمار من أجل تكذيبها لرسولها وعصيانها لربها قال تعالى (وَإِلى مَدْيَنَ) (٢) أي وأرسلنا إلى مدين (أَخاهُمْ شُعَيْباً) وهو نبيّ عربي فلما انتهى إليهم برسالته قال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي وحدوه في عبادته وأطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه من التطفيف في الكيل والوزن ، (وَارْجُوا (٣) الْيَوْمَ الْآخِرَ ،) أي آمنوا بيوم القيامة وتوقعوا دائما مجيئه وخافوا ما فيه من أهوال وأحوال فإن ذلك يساعدكم على التقوى وقوله : (وَلا تَعْثَوْا (٤) فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وذلك أنهم ينقصون الكيل والوزن ويبخسون الناس أشياءهم ويفسدون في الأرض بالمعاصي. وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ) أي كذب أصحاب مدين نبيهم شعيبا فيما أخبرهم به ودعاهم إليه (فَأَخَذَتْهُمُ (٥) الرَّجْفَةُ) أي رجفة الهلاك من تحتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين على الركب

__________________

(١) هذه القصة معطوفة على سابقاتها : قصة نوح وإبراهيم ولوط عليهم‌السلام

(٢) إن طلبت المناسبة بين قصة لوط وقصة أصحاب مدين فإنها في كون مدين من أبناء ابراهيم وكون لوط من الأسرة الإبراهيمية وأوضح من هذا السبب قرب الديار من بعضها ، فمدين غير بعيدة من قرى لوط.

(٣) أمره إيّاهم برجاء اليوم الآخر دال على أنهم ما كانوا يؤمنون باليوم الآخر أو ذكرهم به لغفلتهم عنه بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

(٤) العثو : بالواو كالدنو والعثي بالياء كالعصي : أشد الفساد ، وفعله : عثا يعثو ، وعثي كرضي يعثى كيرضى بمعنى واحد.

(٥) الفاء للسببية ، و (الرَّجْفَةُ) الزلزال الشديد الذي ترجف منه الأرض والقلوب وكانت هذه الزلازل مصحوبة بصيحة شديدة انخلعت منها القلوب.

١٣٢

هلكى وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر.

٢ ـ حرمة الفساد في الأرض وذلك بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

٣ ـ بيان نقمة الله تعالى على المكذبين والظالمين والفاسقين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(وَعاداً وَثَمُودَ) : أي وأهلكنا عادا القبيلة وثمود القبيلة كذلك.

(وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) : أي تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم الخالية منهم بالحجر شمال الحجاز والشحر جنوب اليمن.

(عَنِ السَّبِيلِ) : أي سبيل الهدى والحق التي بينتها لهم رسلهم.

(كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) : أي ذوي بصائر لما علمتهم رسلهم.

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) : أي وأهلكنا قارون بالخسف وفرعون وهامان بالغرق.

١٣٣

(فَاسْتَكْبَرُوا) : أي عن عبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسله.

(وَما كانُوا سابِقِينَ) : أي فائتين عذاب الله أي فارين منه ، بل أدركهم.

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) : أي فكل واحد من المذكورين أخذناه بذنبه ولم يفلت منا.

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) : أي ريحا شديدة ، كعاد

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) : أي ثمود.

(وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) : أي كقارون.

(وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) : كقوم نوح وفرعون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات قبل ذي (١) إهلاكه لقوم لوط وقوم شعيب وقوم نوح من قبل لما ردوا دعوته وكذبوا رسله ذكر بقية الأقوام الذين كذبوا بآيات الله ورسله فأهلكهم ، فقال عزوجل : (وَعاداً وَثَمُودَ) (٢) أي وأهلكنا كذلك عادا قوم هود ، وثمود قوم صالح! وقوله تعالى : (وَقَدْ تَبَيَّنَ (٣) لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي وقد تبين لكم يا معشر كفار مكة ومشركي قريش من مساكنهم بالحجر (٤) والشجر (٥) من حضر موت ما يؤكد لكم إهلاكنا لهم ، إذ مساكنهم الخاوية دالة على ذلك دلالة عين. وقوله تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) أي وقد زين لهم الشيطان أعمالهم من الشرك والشر والظلم والفساد وصدهم بذلك التزيين عن السبيل ، سبيل الإيمان والتقوى المورثة للسعادة في الدنيا والآخرة. وقوله : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٦) أي ذوي بصائر أي معرفة بالحق والباطل والخير والشر لما علمتهم الرسل ولكن آثروا أهواءهم على عقولهم فهلكوا. وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين. وقوله تعالى : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أي أهلكنا قارون الإسرائيلي ابن عم موسى عليه‌السلام ، أهلكناه ببغيه وكفره ، فخسفنا به الأرض وبداره أيضا ، وفرعون وهامان اغرقناهما في اليم بكفرهما وطغيانهما

__________________

(١) وجه المناسبة ظاهر بين هذه الآيات وسابقتها وهي إتمام ذكر كل من قص تعالى في كتابه قصصهم مفصلة في الأعراف وهود والشعراء والنمل والقصص ، فذكر بإيجاز من لم يذكرهم في هذا العرض من هذه السورة ، فذكر عادا وثمودا وقارون وفرعون وهامان.

(٢) (وَعاداً) جائز أن يكون منصوبا بفعل مقدر ، وأهلكنا عادا أو اذكر عادا.

(٣) الجملة حالية.

(٤) مدائن صالح.

(٥) منازل عاد.

(٦) الاستبصار : البصارة بالأمور ، والسين والتاء للتأكيد كالاستحباب بمعنى الحب ، والمراد أنهم أهل بصائر ومعرفة بالأمور لما لهم من عقول صالحة للنظر والإدراك ، وما في التفسير وجه أحسن من هذا.

١٣٤

وظلمهما واستعلائهما وذلك بعدما جاءهم موسى بالبينات من الآيات والحجج الواضحات التي لم تبق لهم عذرا في التخلف عن الإيمان والتقوى ولكن (فَاسْتَكْبَرُوا (١) فِي الْأَرْضِ) ، أرض مصر وديارها فرفضوا الإيمان والتقوى (وَما كانُوا سابِقِينَ) ولا فائتين فأحلّ الله تعالى بهم. نقمته وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين. ثم في الآية الأربعين من هذا السياق بين تعالى أنواع العذاب الذي أهلك به هؤلاء الأقوام ، فقال : (فَكُلًّا) (٢) أي فكل واحد من هؤلاء المكذبين (أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ (٣) مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي ريحا شديدة كعاد. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كفرعون ، وقوله تعالى. (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يكن من شأن الله تعالى الظلم فيظلمهم ، (وَلكِنْ كانُوا) أي أولئك الأقوام (أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بالشرك والكفر والتكذيب والمعاصي فأهلكوها بذلك ، فكانوا هم الظالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الشيطان هو سبب هلاك الأقوام وذلك بتزيينه لهم الشر والقبيح كالشرك والباطل والشر والفساد.

٢ ـ بيان أن الاستكبار كالظلم عاقبتهما الهلاك والخسران.

٣ ـ بيان أن الله تعالى ما أهلك أمة حتى يبين لها ما يجب أن تتقيه (٤) من أسباب الهلاك والدمار فإذا أبت إلا ذاك أوردها الله موارده.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ

__________________

(١) إن فرعون وهامان وقارون شأنهم شأن أبي جهل والعاص بن وائل والنضر بن الحارث ما حملهم على الكفر والعناد إلّا الاستكبار في البلاد.

(٢) (فَكُلًّا) : الفاء للتفريع على ما سبق : قوله تعالى : (وَعاداً) إذ التنوين عوض عن كلمة أي : فكل واحد ممّن ذكروا من عاد إلى قارون أخذ الله أي : أهلك بذنبه ، ولم يظلمهم الله تعالى بإهلاكه إيّاهم.

(٣) الفاء للتفريع إذ هذا التفصيل بعد الفاء متفرع عن ذلك الإجمال المذكور في قوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ).

(٤) شاهده في قول الله تعالى من سورة التوبة : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) والإضلال سبيل الهلاك وطريقه.

١٣٥

اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي صفة وحال الذين اتخذوا أصناما يرجون نفعها.

(كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) : أي لنفسها تأوي إليه.

(أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) : أضعف البيوت وأقلها جدوى.

(يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي من الأوثان والأصنام وغيرها.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي الغالب على أمره الحكيم في تدبير أمور خلقه.

(وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) : أي العالمون بالله وآياته وأحكام شرعه وأسراره.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) : أي من أجل أن يعبد لا للهو ولا لباطل.

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) : اقرأ يا رسولنا ما أنزل إليك من القرآن.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) : بأدائها مقامة مراعى فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها.

(تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) : أي الصلاة بما توجده من نور في قلب العبد يصبح به لا يقدر على فعل فاحشة ولا إتيان منكر.

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : أي ذكر الله عبده أكبر من ذكر العبد ربه كما ان ذكر

١٣٦

الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة وغيرهما.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى نقمته على أعدائه الذين كفروا به وأشركوا غيره في عبادته وكذبوا رسله وكان ذلك تنبيها وتعليما للمشركين والكافرين المعاصرين لنزول القرآن لعلهم يستجيبون للدعوة المحمدية فيؤمنوا ويوحدوا ويسلموا فيسلموا من العذاب والخسران. ذكر هنا في هذه الآيات مثلا لعبادة الأوثان في عدم نفعها لعابديها والقصد هو تقرير التوحيد ، وإبطال الشرك العائق عن كمال الإنسان وسعادته وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي شركاء وهي الأصنام والأوثان يعبدونها راجين نفعها وشفاعتها لهم عند الله تعالى (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (١) اتَّخَذَتْ بَيْتاً) لتأوي إليه قصد وقايتها مما تخاف من جراء برد أو اعتداء حشرة عليها ، (وَإِنَّ أَوْهَنَ (٢) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) والحال أن أوهن البيوت أي أضعفها وأحقرها شأنا وأقلها مناعة هو بيت العنكبوت فهذه حال المشركين الذين اتخذوا من دون الله (أَوْلِياءَ) أي اصناما يرجون النفع ، ودفع الضر بها فهم واهمون في ذلك غالطون ، مخطئون ، إنه لا ينفع ولا يضر إلا الله فليعبدوه وحده وليتركوا ما سواه. وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان المشركون يعلمون أن حالهم في عبادتهم غير الله في عدم الانتفاع بها كحال العنكبوت في عدم الانتفاع ببيتها الواهي لما رضوا بعبادة غير الله وتركوا عبادة الله الذي بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فيه تهديد للمشركين المصرين على الشرك بأنه لا يخفى عليه ما هم عليه من دعاء غيره ، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من قبلهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه ولذا يعجل العقوبة لمن يعجل لحكمة ويؤخرها لمن يؤخرها عنه لحكمة فلا يغتر المشركون بتأخير العذاب ، ولا يستدلون به على رضا الله تعالى بعبادتهم ، وكيف يرضاها وقد أهلك أمما بها وأنزل كتابه وبعث رسوله لإبطالها والقضاء عليها وقوله

__________________

(١) العنكبوت : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف : منها صنف يسمى ليث العنكبوت ، وهو الذي يفترس الذباب وكلها تتخذ لنفسها نسيجا تنسجه من لعابها يكون خيوطا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران ، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبا أغلظ وأكثر خيوطا فتحتجب فيه ويسمى بيتا لشبهه بالخيمة لأنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر ، وجملة : (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) حال من العنكبوت ويصغّر على العنكبوت ويجمع على : عناكب.

(٢) (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ..) هذه الجملة معترضة مبيّنة لوجه الشبه وتجري هذه الجملة مجرى المثل يضرب للشيء إذا قلّت فائدته وجدواه.

١٣٧

تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ (١) نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) أي وهذه الأمثال نضربها للناس لأجل إيقاظهم وتبصيرهم وهدايتهم ، وما (يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي وما يدرك مغزاها وما تهدف إليه من التنفير من الشرك العائق عن كل كمال وإسعاد في الدارين (إِلَّا الْعالِمُونَ) (٢) أي بالله وشرائعه وأسرار كلامه وما تهدي إليه آياته. وقوله تعالى : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) إخبار بأنه تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وهي مظاهر قدرته وعلمه وحكمته موجبة لعبادته بتعظيمه وطاعته ومحبته والإنابة إليه والخوف منه. وخلقهما بالحق لا بالباطل وذلك من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن كفر به فترك ذكره وشكره كان كمن عبث بالسموات والأرض وأفسدها ، لذا يعذب نظرا إلى عظم جرمه عذابا دائما أبدا. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن في خلق السموات (٣) والأرض بالحق (لَآيَةً) أي علامة بارزة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ، وهذه موجبات ألوهيته على سائر عباده فهو الإله الحق الذي لا رب غيره. ولا إله سواه وبعد هذا البيان والبرهان لم يبق عذر لمعتذر ، وعليه ف (اتْلُ) (٤) أيها الرسول (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) تعليما وتذكيرا وتعبدا وتقربا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) طرفي النهار وزلفا من الليل فإن في ذلك عونا كبيرا لك على الصبر والثبات وزادا عظيما لرحلتك إلى الملكوت الأعلى. وقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى (٥) عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) تعليل للأمر بإقام الصلاة فإن الصلاة بما توجده من إشراقات النفس والقلب والعقل حال تحول بين العبد وبين التلوث بقاذورات الفواحش ومفاسد المنكر وذلك يفيد إقامتها لا مجرد أدائها والإتيان بها. وإقامة الصلاة تتمثل في الإخلاص فيها لله تعالى أولا ثم بطهارة القلب من الالتفات إلى غير الرب تعالى أثناء أدائها ثانيا ، ثم بأدائها في أوقاتها المحددة لها وفي المساجد بيوت الله ، ومع جماعة المسلمين عباد الله وأوليائه ، ثم بمراعاة أركانها من قراءة الفاتحة والركوع والطمأنينة فيه والاعتدال والطمأنينة فيه ، والسجود على الجبهة والأنف والطمأنينة فيه ، وآخر أركانها الخشوع وهو السكون ولين القلب وذرف الدمع. هذه هي الصلاة التى

__________________

(١) (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) مبتدأ والخبر : جملة (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ).

(٢) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه.)

(٣) لفظ السموات والأرض : يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما.

(٤) المراد من : (اتْلُ) : مداومة تلاوة ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم.

(٥) قيل لابن عطية : إن حمادا وابن جريج والكلبي يقولون : الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام العبد فيها. قال : هذه عجمة أي : نسبهم إلى قلة الفهم وهو كذلك للحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) وقال له أحد الصحابة : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق. فقال : سينهاه ما تقول. يعني صلاته.

١٣٨

توجد طاقة النور التي تحول دون الانغماس في الشهوات والذنوب وإتيان الفاحشة وارتكاب المنكر. وقوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من إقامة الصلاة لأن الصلاة أثناء أدائها مانعة عاصمة لكن إذا خرج منها ، قد يضعف تأثيرها ، أما ذكر الله بالقلب واللسان في كل الأحيان فهو عاصم مانع من الوقوع في الفحشاء والمنكر وفي اللفظ معنى آخر وهو أن ذكر الله للعبد في الملكوت الأعلى أكبر من ذكر العبد للرب في ملكوت الأرض ويدل عليه قوله : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإ ، ذكرته في ملإ خير منه» كما في الحديث الصحيح. وقطعا والله لذكر الرب العبد الضعيف أكبر من ذكر العبد الضعيف الرب العظيم. اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين لآلائك. وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (١) فيه وعد وعيد ، فإن علمه يترتب عليه الجزاء فمن كان يصنع المعروف جزاه به ، ومن كان يصنع السوء جزاه به. اللهم ارزقنا صنائع المعروف وأبعد عنا صنائع السوء آمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني للأفهام.

٢ ـ تقرير التوحيد وإبطال التنديد.

٣ ـ فضل العلماء على غيرهم ، العلماء بالله ، بصفاته وأسمائه وآياته ، وشرائعه ، وأسرارها.

٤ ـ وجوب تلاوة القرآن ، وإقامة الصلاة ، وذكر الله ، إذ هى غذاء الروح وزاد العروج إلى الملكوت الأعلى.

٥ ـ بيان فائدة إقام الصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى بالقلب واللسان.

__________________

(١) في الآية وازع المراقبة ، وعليه فتلاوة القران وإقام الصلاة وذكر الله تعالى ومراقبته. هذه الأربعة تمثّل سبيل السّلام إلى دار السّلام من سلكه نجا ومن تنكّبه هلك ، والعياذ بالله العليم الحكيم.

١٣٩

الجزء الحادي والعشرون

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) : أي لا تحاجوا ولا تناظروا اليهود ولا النصارى.

(إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي إلا بالمجادلة التي هي أحسن وهي الدعوة إلى الله بآياته والتنبيه على حججه.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) : أي الذين لم يدخلوا في ذمة المسلمين بدفع الجزية وبقوا حربا على المسلمين.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) : أي وكإنزالنا الكتاب على من قبلك من الرسل أنزلنا إليك الكتاب.

(فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) : أي كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين آمنوا بالرسول وكتابه.

(وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) : أي ومن هؤلاء المشركين من يؤمن به وفعلا آمن به كثيرون.

١٤٠