أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٤

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

شرح الكلمات :

(فِي زِينَتِهِ) : أي لباس الأعياد والحفلات الرسمية.

(يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) : أي تمنوا أن لو أعطوا من المال والزينة ما أعطي قارون.

(إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : أي إنه لذو بخت ونصيب وهبه الله إياه في كتاب المقادير.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي اعطوا العلم الديني بمعرفة الله والدار الآخرة وموجبات السعادة والشقاء.

(وَيْلَكُمْ) : أي حضر ويلكم وهلاككم بتمنيكم المال وزخرف الدنيا.

(ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) : أي ما عند الله من جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات وهو الجنة خير من حطام الدنيا الفاني.

(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) : أي ولا يوفق لقول هذه الكلمة وهي ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا إلا الصابرون على الإيمان والتقوى.

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) : أي أسخنا الأرض من تحته فساخت به وبداره وكل من كان معه فيها من أهل البغي والإجرام.

(تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) : أي الذين قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون فالمراد من المكان المكانة وما عليه قارون من الامارة والزينة والمال والجاه.

(وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) : أي أعجب عالما أن الله يبسط الرزق لمن يشاء.

(وَيَقْدِرُ) : أي يضيّق.

(وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) : أي أعجب عالما أنه لا يفلح الكافرون أي أنهم لا يفوزون بالنجاة من النار ودخول الجنان كما يفوز المؤمنون.

١٠١

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص قارون الباغي قال تعالى (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ) (١) أي قارون في يوم عيد أو مناسبة خرج على قومه وهم يشاهدون موكبه (فِي زِينَتِهِ) الخاصة من الثياب والمراكب. قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي من قوم موسى وهم المفتونون بالدنيا وزخرفها من أهل الغفلة عن الآخرة وما أكثرهم اليوم وقبل وبعد اليوم قالوا ما أخبر الله تعالى به عنهم : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنوا أن يكون لهم مثل الذي أوتي قارون من المال والزينة (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ (٢) عَظِيمٍ) أي بخت ونصيب ورزق (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي الشرعي (٣) الديني العالمون بالدنيا والآخرة. وأسباب السعادة والشقاء في كل منهما قالوا ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي ويحكم هلكتم إن كنتم تؤثرون هذا الفاني على الباقي (ثَوابُ اللهِ) وهو الجنة خير من هذا الزخرف الفاني (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ولازم ذلك أنه ترك الشرك والمعاصي ، وقوله تعالى : (وَلا يُلَقَّاها) أي (٤) هذه الجملة من الكلام : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) بربه (وَعَمِلَ صالِحاً) في حياته بأداء الفرائض والنوافل وترك المحرمات والرذائل أي ولا يلقى هذه الكلمة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) من أهل الإيمان والتقوى هم الذين يلقنهم الله إياها فيقولونها لصفاء أرواحهم وزكاة أنفسهم وقوله تعالى في الآية (٨١) (فَخَسَفْنا بِهِ (٥) وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) يخبر تعالى أنه خسف بقارون وبداره الأرض انتقاما منه لكفره ونفاقه وبغيه وكبريائه. وقوله تعالى (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أي جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) لما أراد الله خذلانه بخسف الأرض به وبداره ومن فيها من أعوانه الظلمة والمجرمين. (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي لنفسه فنجاها مما حل بها من الخسف في باطن الأرض التي مازال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) (٦) يخبر تعالى

__________________

(١) لم تؤثر فيه موعظة واعظيه ولم ينتفع منها بشيء لظلمة نفسه وقساوة قلبه لما ران عليه من الذنوب فخرج في مظهر الكبرياء والتحدي.

(٢) الحظ : القسم الذي يعطاه المقسوم له.

(٣) في الآية دليل قوي على أنّ الجهل بالله وشرائعه ووعده ووعيده هو سبب كل شر وفساد في الأرض ، وأنّ العلم بذلك هو سبيل الإصلاح في الأرض.

(٤) (يُلَقَّاها) الضمير عائد على ما دلّ عليه قولهم : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) وهو هذه الموعظة ، ولا يلهمها وتلقى في روعه وينطق بها إلّا أهل الصبر على الطاعات وعن المعاصي فتصفو لذلك نفوسهم فيلهمون مثل هذه الموعظة.

(٥) الفاء هنا : للترتيب والتعقيب فقد خسف به يوم خروجه في زينته.

(٦) أي : تمنوا منزلته بين الناس ، وهي منزلة المال والترف والجاه والرفعة ومعنى : مكانه : ما كان عليه من منزلة العلو والرفعة.

١٠٢

عن الذين قالوا يوم خرج عليهم قارون في زينته يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون يخبر تعالى عنهم أنهم لما شاهدوا الخسف الذي حل بقارون وبداره قالوا ويكأن الله (١) يبسط الرزق لمن يشاء أي نعجب عالمين ، أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر (٢) أي على من يشاء فالبسط والقبض كله لله وبيد الله فما لنا لا نفزع إلى الله نطلب رضاه ولا نتمنى ما تمنيناه وقد أصبح ذاهبا لا يرى بعين ولا يلمس بيدين ، (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٣) أي نعجب أيضا عالمين بأنه لا يفلح الكافرون كقارون وفرعون وهامان أي لا يفوز الكافرون لا بالنجاة من العذاب ولا بدخول الجنان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الفتنة أسرع إلى قلوب الماديين أبناء الدنيا والعياذ بالله تعالى

٢ ـ بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشّد أي حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

٣ ـ بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة.

٤ ـ بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قل وأن ذا الإيمان أقرب إلى التوبة ممن لا إيمان له.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

__________________

(١) (وَيْكَأَنَّ اللهَ) قيل : ويكأن : مركبة من وي وهو اسم فعل بمعنى أعجب وكاف الخطاب وأنّ الناصبة ، ومعنى الكلام :

أعجب يا هذا من بسط الرزق لمن شاء ، قال عنترة ، والشاهد في قوله : ويك ، قال :

ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

وذهب بعض إلى أنّ أصل ويك : ويلك إعلم أنه كذا فحذفت اللام والفعل ، فصارت ويك.

(٢) أي : يضيق الرزق ولا يوسعه.

(٣) أي : لو لا أن منّ الله فعافانا مما ابتلى قارون به من المال والظلم والطغيان لحل بنا ما حل به من الخسف والخسران.

١٠٣

شرح الكلمات :

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) : أي الجنة ، دار الأبرار.

(لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) : أي بغيا ولا استطالة على الناس.

(وَلا فَساداً) : أي ولا يريدون فسادا بعمل المعاصي.

(وَالْعاقِبَةُ) : أي المحمودة في الدنيا والآخرة.

(لِلْمُتَّقِينَ) : الذين يتقون مساخط الله فلا يعتقدون ولا يقولون ولا يعملون ما لا يرضى به الله تعالى.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أي يوم القيامة والحسنة : أثر طاعة الله تعالى يجزى به المؤمن.

(فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : أي تضاعف له عشرة أضعاف.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : السيئة أثر معصية الله تعالى يعاقب به العبد إذا لم يعف الله تعالى عنه.

معنى الآيات :

لقد تقدم في السياق أن ثواب الله وهو الجنة خير لمن آمن وعمل صالحا فأشار إليه تعالى بقوله (تِلْكَ) (١) (الدَّارُ الْآخِرَةُ) التي هي الجنة إذ هي آخر دار يسكنها المتقون فلا يخرجون منها. نجعلها ، هذا هو الخبر عن قوله تلك الدار الآخرة فأخبر تعالى أنه يجعلها مأوى ومسكنا للذين لا يريدون (٢) علوا في الأرض ولا فسادا ، لا يريدون استطالة على الناس وتعاليا وتكبرا عليهم وبغيا ، ولا فسادا بارتكاب المعاصي كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ، وقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٣) أي والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل الإيمان والتقوى وهم المؤمنون الذين يتقون مساخط الله عزوجل ، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وقوله تعالى : (مَنْ جاءَ) أي يوم القيامة (بِالْحَسَنَةِ) وهي الطاعات لله ورسوله (فَلَهُ) جزاء مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف إلى أكثر بشرط أن لا تكون حسنة أعطيت له من حسنات ظالم في الدنيا فهذه لا تتضاعف. إذ تضاعف الحسنة التي باشرها ، كما

__________________

(١) الجملة ابتدائية وهو بدء مشوق ، قرأ الفضل بن عياض هذه الاية ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا أي : أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب.

(٢) روى سفيان بن عيينة أن عليا بن الحسين وهو راكب مرّ على مساكين يأكلون كسرا لهم فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم فتلا هذه الآية : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ ..) إلى (فَساداً) ثم نزل وأكل معهم.

(٣) الجملة تذييلية تقرر حقيقة أخرى وهي الإشارة بالتقوى والعاقبة المحمودة في الدارين لأهل التقوى.

١٠٤

لا تضاعف حسنة من همّ بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة ولا تضاعف لعدم مباشرته إياها وقوله (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي يوم القيامة. والسيئة أثر معصية الله تعالى ورسوله في نفسه (فَلا يُجْزَى) إلا مثلها أي لا تضاعف عليه وذلك لعدالة الله تعالى ورأفته بعباده ، وهو معنى قوله تعالى (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الشرك والمعاصي (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي في الدنيا إذ هي دار العمل والآخرة دار الجزاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة التكبر والاستطالة على الناس ، والعمل بالمعاصي ، وأنه الفساد في الأرض.

٢ ـ بيان فضل الله ورحمته وعدله بين عباده بمضاعفة الحسنات وعدم مضاعفة السيئات.

٣ ـ العاقبة الحسنى وهي الجنة لأهل الإيمان والتقوى.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) : أي الله الذي أنزل عليك القرآن وفرض عليك قراءته والعمل بما فيه وتبليغه.

(لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : أي لمرجعك إلى مكة فاتحا إذ معاد الرجل بلده الذي يعود إليه.

١٠٥

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا) : أي تأمل أن ينزل عليك القرآن ويوحى به إليك.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) : لكن برحمة من الله وفضل أنزله عليك.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً) : أي فمن شكر هذه النعمة أن لا تكون معينا للكافرين.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ) : أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد أن شرفك الله بإنزالها عليك.

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : أي ادع الناس إلى الإيمان بالله وعبادته وترك الشرك به.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي لا تعبد مع الله إلها آخر بدعائه والذبح والنذر له.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) : أي فان.

(إِلَّا وَجْهَهُ) : أي إلا الله سبحانه وتعالى فلا يهلك كما يهلك ما عداه.

معنى الآيات :

تقدم في السياق الكريم الدعوة إلى أصول الدين الثلاثة : التوحيد ، النبوة ، البعث والجزاء وهذه خاتمة ذلك في هذه السورة الكريمة فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي (١) فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزله عليك وفرض عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، (لَرادُّكَ) أي لمرجعك (٢) (إِلى مَعادٍ) (٣) وهو العودة إلى مكة بعد خروجك منها واشتياقك إلى العودة إليها وإلى الجنة بعد وفاتك لأنك دخلتها ليلة عرج بك إلى السماء وفي هذا تقرير لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي إليه ، وقوله تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فإنه تعليم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يرد به على المشركين الذين اتهموه بأنه ضال في دعوته وخروجه عن دين آبائه وأجداده علّمه أن يقول لهم ربي أعلم بمن جاء بالهدى وهو أنا ، رسول الله ، ومن هو في ضلال مبين وهو أنتم أيها المشركون.

وقوله (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي وما كنت يا محمد تأمل أن ينزل عليك القرآن ، وذلك قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ (٤) رَبِّكَ) أي لكن رحمة ربك عليك اقتضت إنزاله عليك لتكون رسول الله للعالمين ، وهي نعمة كبيرة وإفضال عظيم فاشكره بما يلي :

(١) (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي عونا لهم بحال من الأحوال.

__________________

(١) ختمت هذه السورة المكية بخاتمة نزلت بالمدينة ، وهي بشرى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن مرده إلى مكة فاتحا قاهرا غالبا وحقق الله تعالى له ذلك فبعد ثمان سنوات من هجرته ظهر مصداق هذه البشرى.

(٢) مرجعك : اسم فاعل من أرجعه الرباعي فهو مرجع له.

(٣) وفسّر المعاد بالجنة لأنه دخلها ليلة المعراج ، وأخرج منها وبقيت نفسه ملتصقة بها فبشر بأن الله تعالى سيرده إليها.

(٤) الاستثناء منقطع لذا فسّر بلكن.

١٠٦

(٢) (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) فتترك تلاوتها وإبلاغها والعمل بها. وفي هذا تقرير للنبوة المحمدية.

(٣) (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ادع الناس إلى توحيد ربك والعمل بشرعه.

(٤) (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي فتبرّأ منهم ولا ترضى بشركهم وادعهم إلى خلافه وهو التوحيد.

(٥) (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تعبد مع الله إلها آخر لا بالدعاء ولا بالنذر والذبح ولا بتقديم أيّ قربان أو طاعة لغير الله سبحانه وتعالى ، وفي هذا تقرير للتوحيد وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير للتوحيد بإبطال أن يكون هناك إله مع الله.

وقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) يخبر تعالى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل ذاهب بلا مثوبة عليه. كما أن كل شيء سوى الله عزوجل فان ولم يبق إلا الله سبحانه وتعالى كقوله (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (ولَهُ الْحُكْمُ) أي القضاء العادل بين عباده وقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي بعد الموت للحساب والجزاء يوم بعثكم وحشركم إليه عزوجل ، وفي هذا تقرير للبعث والجزاء. والحمد لله أولا وآخرا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ معجزة القرآن في وقوع الغيب بعد الإخبار به وذلك حيث عاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة بعد الخروج منها.

٢ ـ مشروعية الملاينة في الجدال والمناظرة أثناء الدعوة باستعمال اسلوب التشكيك.

٣ ـ حرمة معاونة الكفار ومناصرتهم لا سيما ضد المؤمنين.

٤ ـ وجوب الثبات والصبر على الدعوة حتى نجاحها ببلوغها الناس واستجابتهم لها.

٥ ـ تقرير التوحيد والبعث والنبوة المحمدية.

٦ ـ فناء كل شيء إلا الله تعالى إلا ما ورد الدليل بعدم فنائه وعدّ منه ثمانية نظمها بعضهم بقوله :

هي العرش والكرسي نار وجنة

وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم

__________________

(١) قال مجاهد : معناه إلّا هو ، وقال سفيان ، وأبو العالية : إلّا ما أريد به وجهه أي : ما يفعل من الطاعات لأجله ، كما قال الشاعر :

استغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

١٠٧

سورة العنكبوت

مكية (١)

وآياتها تسع وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

شرح الكلمات :

(الم) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم وتقرأ ألف لام ميم.

(وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) : أي لا يختبرون بما يتبين به حقيقة إيمانهم من التكاليف ومنها الصبر على الأذى.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي اختبرنا من قبلهم إذ هي سنة جارية في الناس.

(فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) : أي في إيمانهم ، وليعلمن الذين كذبوا فيه بما يظهر من أعمالهم.

(أَنْ يَسْبِقُونا) : أي يفوتونا فلا ننتقم منهم.

__________________

(١) روي أن الآيات الأولى منها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة ، وقال علي بن أبي طالب : نزلت بين مكة والمدينة.

١٠٨

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : أي بئس الحكم هذا الذي يحكمون به ، وهو حسبانهم أنهم يفوتون الله تعالى ولم يقدر على الانتقام منهم.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : أي من كان يؤمن بلقاء الله وينتظر وقوعه فليعلم أن أجله لآت فليستعد له بالإيمان وصالح الأعمال.

(وَمَنْ جاهَدَ) : أي بذل الجهد في حرب الكفار أو النفس.

(فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) : أي منفعة الجهاد من الأجر عائدة على نفسه.

(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ) : أي ولنجزينهم على أعمالهم بأحسن عمل كانوا عملوه.

معنى الآيات :

(الم) : الله أعلم بمراده به وهذا هو مذهب السلف في هذه الحروف وهو تفويض علمها إلى منزّلها عزوجل وقوله (أَحَسِبَ (١) النَّاسُ) أي أظن الناس (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) فيكتفى منهم بذلك و (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي ولا يختبرون بل لا بد من اختبار بالتكاليف الشاقة كالهجرة والجهاد والصلاة والصيام والزكاة وترك الشهوات والصبر على الأذى. والآية وإن نزلت في مثل عمار بن ياسر وبلال وعياش فإنها عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، واللفظ عام هنا ، لأن اسم الجنس إذا دخلت عليه «ال» أفادت استغراق جميع أفراده. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ (٢) مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة فهي إذا سنة ماضية في الناس لا تتخلف. وقوله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في إيمانهم أي يظهر ذلك (٣) ويعلمه مشاهدة بعد أن علمه قبل إخراجه إلى الوجود حيث قدر ذلك وكتبه في كتاب المقادير وذلك بتكليفهم وقيامهم بما كلفوا به من

__________________

(١) قال مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية مسلية للمعذبين بمكة المتخلفين عن الهجرة وهم : سلمة بن هشام ، وعياش بن ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وعمار بن ياسر ، وياسر أبوه وسميّة أمّه إذ كانت صدورهم تضيق بالعذاب وربما استنكر أن يمكن الله الكفّار من المؤمنين.

(٢) روى البخاري عن خباب بن الأرت قال : (شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون) وروى ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ بلاء؟ قال : (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة!!).

(٣) وفي الحديث : (من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها) أي : أظهرها عليه.

١٠٩

شاق الأفعال وشاق التروك ، إذ الهجرة والجهاد والزكاة أفعال ، وترك الربا والزنا والخمر تروك (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) حيث ادّعوا الإيمان ولما ابتلوا بالتكاليف لم يقوموا بها ، فبان بذلك عدم صدقهم وإنهم كاذبون في دعواهم أنهم مؤمنون. وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ (١) يَسْبِقُونا) أي أظن (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) من الشرك والمعاصي (أَنْ يَسْبِقُونا) أي يفوتونا فلم نأخذهم بالعذاب. (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) به لأنفسهم أي قبح حكمهم هذا من حكم لفساده ، إذ أقاموه على ظن منهم أن الله تعالى لا يقدر عليهم وهو على كل شيء قدير وأنه لا يعلمهم وهو بكل شيء عليم. وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ (٢) اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي (مَنْ كانَ) يؤمن ويؤمل لقاء الله وذلك يوم القيامة فليعلم أن أجل الله المضروب لذلك لآت قطعا وعليه فليستعد للقائه بما يناسبه وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والعمل الفاسد ، ومن هنا دعوى المرء أنه يرجو لقاء ربه ولم يعمل صالحا يثاب عليه ، دعوى لا تصح قال تعالى في سورة الكهف (.. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) وقوله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بنياتهم وأعمالهم ، فدعوى الإيمان ظاهرة من العبد أو باطنة لا قيمة لها ما لم يقم صاحبها الدليل عليها وذلك بالإيمان والجهاد للعدو (٣) الظاهر والباطن. وقوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي منفعة هذه العبادة عائدة على العبد نفسه أما الله عزوجل فهو في غنى عن عمل عباده غنى مطلقا وهذا ما دل عليه قوله : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات إذ كل ما سوى الله تعالى عالم ويجمع على عوالم وعالمين. (٤) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) هذا وعد من الله تعالى لمن آمن من عباده وذلك على إيمانه وصالح عمله فعلا وتركا بأنه يكفر عنه سيئاته التي عملها قبل الإسلام وبعده. ومعنى يكفرّها عنهم يغطيها ويسترها ولم يطالبهم بها كأنهم لم يفعلوها. وقوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي على أعمالهم الصالحة (أَحْسَنَ) أي بأحسن عمل عملوه فتكون أعظم ما تكون مضاعفة. وهذا من تكرمه على عباده الصالحين ليجزي بالحسنة أضعافها مئات المرات.

__________________

(١) قال ابن عباس : المراد بهم : الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل والأسود بن العاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل.

(٢) قال القرطبي : أجمع أهل التفسير على أنّ المعنى من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه.

(٣) المراد بجهاد العدو الظاهر الكفار والباطن النفسي.

(٤) جمع ملحق بمذكر سالم نحو : الحمد لله رب العالمين.

١١٠

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة أن الإيمان يصدق بالأعمال أو يكذب.

٢ ـ بيان إمكان التكليف بما يشق على النفس فعله أو تركه ولكن ليس بما لا يطاق.

٣ ـ تحذير المغترين من العقوبة وإن تأخرت زمنا ما فإنها واقعة لا محالة.

٤ ـ ثمرة الجهاد عائدة على المجاهد نفسه. فلذا لا ينبغي أن يمنها على الله تعالى بأن يقول فعلت وفعلت.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الوعد للذين آمنوا وعملوا الصلحات بتكفير السيئات والجزاء الأحسن وهذا يتم يوم البعث.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً (١) وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا

__________________

(١) يصح إعراب (حُسْناً) على أنه منصوب على نزع الخافض أي : بالحسن ، نحو : وصيته خيرا ، أي : بالخير ، ويصح أيضا أن يكون العامل محذوفا تقديره ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل بهما حسنا ، كما قال الشاعر :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأنما خافونا

أي يوصينا أن نفعل بها خيرا

١١١

وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : أي عهدنا إليه بطريق الوحي المنزل على رسولنا.

(بِوالِدَيْهِ حُسْناً) : أي إيصاء ذا حسن ، وذلك ببرهما وعدم عقوقهما.

(وَإِنْ جاهَداكَ) : أي بذلا الجهد في حملك على أن تشرك.

(لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) : أي لندخلنهم مدخلهم في الجنة.

(فِتْنَةَ النَّاسِ) : أي أذاهم له.

(كَعَذابِ اللهِ) : أي في الخوف منه فيطيعهم فينافق.

(إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) : أي في الإيمان وإنما أكرهنا على ما قلنا بألسنتنا.

(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) : أي ديننا وما نحن عليه.

(وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) : أي ليكن منكم اتباع لسبيلنا وليكن منا حمل لخطاياكم ، فالكلام خبر وليس إنشاء.

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) : أي أوزارهم ، والأوزار الذنوب.

(وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) : أي من أجل قولهم للمؤمنين اتبعوا سبيلنا.

(عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي يكذبون.

معنى الآيات :

هذه الآيات نزلت في شأن (١) سعد بن أبي وقاص لما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان ما هذا الدين الذي أحدثت والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بذلك أبد الدهر يقال يا قاتل أمه ، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم

__________________

(١) روى مسلم وغيره عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في أربع آيات فذكر قصته قال : قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية.

١١٢

تستظل فأصبحت وقد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلى ، فلما أيست منه أسلمت وأكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) أي عهدنا إليه بواسطة الرسل إيصاء ذا حسن وهو برهما بطاعتهما في المعروف وترك أذاهما ولو قل ، وإيصال الخير بهما من كل ما هو خير قولا كان أو فعلا. وقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ) أي بذلا جهدهما في حملك على أن تشرك بي شيئا من الشرك أو الشركاء فلا تطعهما كما فعل سعد بن أبي وقاص مع والدته في عدم إطاعتها. وقوله (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أولادا ووالدين (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وأجزيكم به فلذا قدموا طاعتي على طاعة الوالدين ، فإني أنا الذي أحاسبكم وأجزيكم بعملكم أنتم وإياهم على حد سواء. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي هي العبادات التي تعبّد الله تعالى بها عباده المؤمنين ، فشرعها لهم وبينها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذكر وقراءة القرآن والصلاة والصيام والصدقات والجهاد والحج وما إلى ذلك. هؤلاء الذين جمعوا بين الإيمان الحق والعمل الصالح الخالي من الشرك والرياء. يقسم الله تعالى أنه يدخلهم في مدخل الصالحين وهم الأنبياء والأولياء في الجنة دار السّلام. وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ (١) مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية هذه نزلت في أناس كانوا بمكة وآمنوا وأعلنوا عن إيمانهم فاضطهدهم المشركون فكانوا ينافقون فأخبر تعالى عنهم بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ) أي آذاه المشركون نافق وارتد (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ) أي أذاهم له وتعذيبهم إياه (كَعَذابِ اللهِ) يوم القيامة فوافق المشركين على الكفر. وقوله تعالى : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي على الإيمان وإنما كنا مكرهين وهذه نزلت فيمن خرجوا من مكة إلى بدر مع المشركين لما انهزم المشركون وانتصر المسلمون وأسروا قالوا (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) أي على الإيمان فرد تعالى دعواهم بقوله (أَوَلَيْسَ (٢) اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) أي الناس. وقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) تقرير لما سبق في الآية قبل وليترتب عليه الجزاء على الإيمان وعلى النفاق. فعلمه تعالى يستلزم الجزاء العادل فأهل الإيمان يجزيهم بالنعيم المقيم وأهل النفاق بالعذاب المهين. أولئك في دار السّلام وهؤلاء في دار البوار. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي ديننا

__________________

(١) قال الضحاك هذه الآية نزلت في ناس من المنافقين في مكة كانوا يؤمنون فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.

(٢) الاستفهام للتقرير فلذا يجاب ببلى.

١١٣

وما نحن عليه (وَلْنَحْمِلْ (١) خَطاياكُمْ) أي قال رؤساء قريش لبعض المؤمنين اتركو سبيل محمد ودينه واتبعوا سبيلنا وديننا ، وإن كان هناك بعث وجزاء كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحن مستعدون أن نتحمل خطاياكم ونجازى بها دونكم فأكذبهم الله تعالى بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) و (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم ولنحمل خطاياكم. وقال تعالى مقسما بعزته وجلاله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أي أوزارهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) أي وأوزارا أي ذنوبا مع أوزارهم التي هي ذنوبهم وذلك من أجل ما قالوا لهم. (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون من أنهم يحملون خطايا المؤمنين يوم القيامة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب بر الوالدين في المعروف وعدم طاعتهما فيما هو منكر كالشرك والمعاصي.

٢ ـ بشرى المؤمنين العاملين للصالحات بإدخالهم الجنة مع النبيين والصديقين.

٣ ـ ذم النفاق وكفر المنافقين وإن ادعوا الإيمان فما هم بمؤمنين.

٤ ـ بيان ما كان عليه غلاة الكفر في مكة من العتو والطغيان.

٥ ـ تقرير مبدإ من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها كما في الحديث الصحيح (٢).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

__________________

(١) جزم الفعل (وَلْنَحْمِلْ) على الأمر ، قال الفرّاء والزجّاج : هو في تأويل الشرط والجزاء أي : أن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ، كما قال : مدثار بن شيبان الضمري.

تقول خليلتي لما اشتكينا

سيدركنا بنو القرم الهجان

فقلت ادعي وأدع فإن أندى

لصوت أن ينادى داعيان

أي : إن دعوت دعوت.

(٢) نص الحديث كما هو في الصحيح : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا) وفي الصحيح أيضا (ما قتلت نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل).

١١٤

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) : أي نوحا بن لمك بن متوشلخ بن ادريس من ولد شيث بن آدم ، بينه وبين آدم ألف سنة.

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) : أي فمكث فيهم يدعوهم إلى الله تعالى تسعمائة وخمسين سنة.

(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) : أي الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم فأغرقهم.

(وَهُمْ ظالِمُونَ) : أي مشركون.

(وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) : أي عبرة للناس يعتبرون بها فلا يشركون ولا يعصون.

معنى الآيتين :

لما ذكر تعالى ما كان يلاقيه رسوله والمؤمنون من مشركي قريش ذكر تعالى نوحا وإبراهيم وكلاهما قد عانى ولاقى ما لم يلاقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليكون ذلك تسلية لهم وتخفيفا عنهم فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) وقوم نوح يومئذ هم البشرية جمعاء. إذ لم يكن غيرهم (فَلَبِثَ فِيهِمْ) أي مكث يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وترك الأصنام الخمسة التي كانت لهم وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكان هؤلاء الخمسة رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم ووضعوا لهم تماثيل بحجة أنها تذكرهم بالله فيرغبوا في الطاعة والعمل الصالح ثم زين لهم الشيطان عبادتهم فعبدوهم فبعث الله تعالى إليهم نوحا رسولا فدعاهم إلى عبادة الله وترك عبادة هؤلاء (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ (٢) سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) يدعوهم فلم يستجيبوا له (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فاستجاب الله له فأنجاه وأصحاب السفينة وهم المؤمنون وهلك في الطوفان زوجته وولده كنعان وسائر البشر إلا نوحا

__________________

(١) روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (أوّل نبي أرسل واختلف في سني عمره : فروى عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لمّا بعث الله نوحا إلى قومه وبعثه وهو ابن لخمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة فلما أتاه ملك الموت قال : يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا؟ قال مثل رجل بنى له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الآخر).

(٢) العدول عن السنة إلى العام حتى لا يحصل تكرار في لفظ السنة وهو من بلاغة الكلام.

١١٥

ومن معه في السفينة ، وكانوا قرابة الثمانين نسمة ، وخلف نوحا ثلاثة أولادهم سام وهو أبو العرب وفارس والروم وهم الجنس السامي وحام وهو أبو القبط والسودان والبربر ويافث وهو أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، هذا معنى قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ (١) ظالِمُونَ) أي لأنفسهم بالشرك. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) (٢) ومن بين ما فيها أبناؤه الثلاثة سام وحام ويافث ومنهم عمر الكون بالبشر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وقوله (وَجَعَلْناها آيَةً (٣) لِلْعالَمِينَ) أي حادثة الطوفان ومنها السفينة ومكث تلك المدة الطويلة مع قلة المستجيبين (آيَةً) أي عبرة (لِلْعالَمِينَ) أي للناس ليعتبروا بها فلا يعصوا رسلهم ولا يشركون بربهم هذا إذا اعتبروا وقليل من يعتبر.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في ارسال الرسل لهداية الخلق.

٢ ـ بيان قلة من استجاب لنوح مع المدة الطويلة فيكون هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدعاة من بعده.

٣ ـ بيان اهلاك الله تعالى الظالمين وإنجائه المؤمنين وهي عبرة للمعتبرين.

(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا

__________________

(١) الطوفان : مأخوذ من أطاف بالشيء يطيف وهو كطاف يطوف طوفا وطوفانا قال النحاس يقال : لكل كثير مطيف بالجميع. من مطر أو قتل أو موت طوفان.

(٢) في البخاري أن قتادة قال : بقيت السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة. وقيل : إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج ، وكان الجودي الذي رست فوقه قرب (باقردى) وهي قرية من جزيرة بن عمر بالموصل شرقي دجلة.

(٣) الضمير في : (وَجَعَلْناها) عائد إلى السفينة ، وما في التفسير أعم وأشمل.

١١٦

فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

شرح الكلمات :

(وَإِبْراهِيمَ) : أي واذكر إبراهيم على قراءة النصب لإبراهيم ، وعلى قراءة الرفع : ومن المرسلين إبراهيم.

(اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) : أي آمنوا به ووحدوه في عبادته واتقوا أن تشركوا به وتعصوه.

(أَوْثاناً) : أصناما وأحجارا وصورا وتماثيل.

(وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) : أي تختلقون الكذب فتقولون في الأصنام والأوثان آلهة وتعبدونها.

(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) : أي اطلبوا الرزق من الله الخلاق العليم لا من الأصنام والتماثيل المصنوعة المنحوتة بأيدي الرجال بالمعاول والفؤوس.

(وَاعْبُدُوهُ) : أي بالإيمان به وتوحيده واشكروه بطاعته.

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا) : أي يا أهل مكة بعد هذا الذي عرضنا عليكم من الآيات والعبر فقد كذب أمم من قبلكم.

(وَما عَلَى الرَّسُولِ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) : وقد بلغ وبين فبرئت ذمته وأنتم المكذبون ستحل بكم نقمة الله.

معنى الآيات :

هذا القصص معطوف على قصص نوح لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ولتذكير قريش بأنها في إصرارها على الشرك والتكذيب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائرة إلى ما صار إليه المكذبون من قبل إن لم تتب إلى الله وترجع إليه بالإيمان والطاعة وترك الشرك والمعاصي قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ) أي (١) واذكر يا رسولنا إبراهيم خليلنا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) البابليين ومن بينهم والده آزر يا قوم (اعْبُدُوا اللهَ) أي بتوحيده في عبادته (وَاتَّقُوهُ) بترك الشرك والعصيان وإلا حلّت بكم عقوبته ونزل بكم عذابه وقوله (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الإيمان والتوحيد والطاعة خير لكم من الكفر والشرك والعصيان. إذ الأول يجلب الخير والثاني يجلب الشر (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير

__________________

(١) ويجوز أن يكون منصوبا ب (أنجينا) معطوفا على الهاء.

١١٧

والشر وتفرقون بينهما وقوله عليه‌السلام (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) يخبرهم معرفا لهم بخطئهم فيقول (إِنَّما تَعْبُدُونَ (١) مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) أي أصناما (٢) وتماثيل وعبادة الأصنام والأوثان عبادة باطلة لا تجلب لكم نفعا ولا تدفع عنكم ضرا. إن الذي يجب أن يعبد الله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت السميع البصير. أما الأوثان فلا شيء في عبادتها إلا الضلال واتباع الهوى. وقوله لهم (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي وتصنعون كذبا تختلقونه اختلاقا عندما تقولون في التماثيل والاصنام إنها آلهة. وقوله عليه‌السلام لقومه (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) يخبرهم عليه‌السلام معرفا لهم بحقيقة هم عنها غافلون وهي أن الذين يعبدونهم من دون الله لا يملكون لهم رزقا لأنهم لا يقدرون على ذلك فما الفائدة إذا من عبادتهم وما الحاجة الداعية إليها لو لا الغفلة والجهل ، ولما أبطل لهم عبادة الأصنام أرشدهم إلى عبادة الله الواحد القهار فقال (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) إن كنتم عبدتم الأصنام لذلك فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فاطلبوا عنده الرزق فإنه مالكه والقادر على إعطائه (وَاعْبُدُوهُ) بالإيمان به وبرسوله وبتوحيده (وَاشْكُرُوا (٣) لَهُ) يرزقكم ويحفظ عليكم الرزق وقوله (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ذكّرهم بعلة غفلتهم ومصدر جهلهم وهي كفرهم بالبعث فأعلمهم أنهم إليه تعالى لا إلى غيره يرجعون. إذا فليتعرفوا إليه ويعبدوه طلبا لرضاه واكرامهم يوم يلقونه. وقوله تعالى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) أي يا أهل مكة رسولنا وتنكروا وحينا وتكفروا بلقائنا فلستم وحدكم في ذلك. (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) قوم نوح وعاد وفرعون وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وغيرهم (وَما عَلَى الرَّسُولِ) (٤) أي رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا البلاغ المبين وقد بلغكم وأنتم الآن بين خيارين لا ثالث لهما : الأول أن تتعظوا بما أسمعناكم وأريناكم من آياتنا فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا فتكملوا وتسعدوا وإما أن (٥) تبقوا على إصراركم على الشرك والكفر والعصيان فسوف يحل بكم ما حل بأمثالكم ، إذ كفاركم ليسوا بخير من كفار أولئكم الذين انتقم الله منهم وأذاقهم سوء العذاب. هذا ما دلت عليه الآية (١٨) وهي معترضة بين الآيات التي اشتملت على قصص

__________________

(١) (إِنَّما) : ما : كافة أوثانا منصوب ب (تَعْبُدُونَ).

(٢) قال أبو عبيدة : الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس والوثن ما اتخذ من حصى أو حجارة.

(٣) سلك ابراهيم في دعوة قومه هذه سبيل الاستدلال بالنعم الحسية لأنّ إثباتها أقرب إلى أذهان العوام ، وعدى الشكر باللام لما تفيده اللام من الاختصاص أي : الاستحقاق.

(٤) القصد من هذه الجملة : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إعلام المخاطبين بأن تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه نكاية به أو تشفّ منه ، فإن كان من خطاب الله تعالى لقريش فالمراد من الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان من كلام إبراهيم ، فالمراد به إبراهيم نفسه سلك فيه مسلك الإظهار في مقام الإضمار تنويعا للأسلوب.

(٥) أي : والثاني : أن تبقوا على إصراركم أعني الخيار الثاني بعد الأول.

١١٨

إبراهيم عليه‌السلام. وسر الاعتراض هو وجود فرصة في سياق الكلام قد تلفت أنظار القوم وتأخذ بقلوبهم إذ الآيات كلها مسوقة لهدايتهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب عبادة الله وتقواه طلبا للنجاة من الخسران في الدارين.

٢ ـ بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادة الله عن طريق الأدلة العقلية.

٣ ـ ما عبد الناس الأوثان إلا من جهلهم وفقرهم فلذا يجب أن يعلموا أن الله هو ربهم المستحق لعبادتهم وأن الله تعالى هو الذي يسد فقرهم ويرزقهم ومن عداه لا يملك ذلك لهم

٤ ـ وجوب شكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته وصرف النعم فيما من أجله أنعم بها على عبده.

٥ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأنيب المشركين من أهل مكة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

شرح الكلمات :

(أَوَلَمْ يَرَوْا) : أي ينظروا بأبصارهم فيعلموا بقلوبهم.

١١٩

(يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) : أي كيف يخلق المخلوق ابتداء.

(ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي ثم هو تعالى يعيده بعد بدئه وإفنائه يعيده لأن الإعادة أهون من البدء وقد بدأ وأفنى فهو بالضرورة قادر على الإعادة.

(إِنَّ ذلِكَ) : أي أن الخلق الأول والثانى هو الاعادة.

(عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي سهل لا صعوبة فيه ، فكيف إذا ينكر المشركون البعث.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي قل يا رسولنا لقومك المكذبين بالبعث سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الله الخلق وأنشأه ، تستدلون بذلك على قدرته عل البعث الآخر.

(ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) : أي يحيي الناس بعد موتهم وهو البعث الآخر الذي أنكره الجاهلون.

(وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) : أي ترجعون إليه لا إلى غيره أحياء كما كنتم فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم ، الحسنة بخير منها والسيئة بمثلها جزاء عادلا.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) : أي بغالبين ولا فائتين بالهروب فإن الله غالبكم.

(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : ليس لكم من ولي يتولاكم ولا نصير ينصركم من الله تعالى.

(يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) : أي من دخول الجنة لأنهم كافرون أعظم كفر وهو التكذيب بالقرآن والبعث الآخر.

معنى الآيات :

مازال السياق في تقرير أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث وقد قررت الآيات السابقة أصلي التوحيد والنبوة المحمدية وفي هذه الآيات تقرير الأصل الثالث وهو البعث والجزاء في

١٢٠