أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات صفة الكلام لله تعالى بندائه موسى عليه‌السلام.

٢ ـ لا بأس بإبداء التخوف عند الإقدام على الأمر الصعب ولا يقدح فى الإيمان ولا في التوكل.

٣ ـ مشروعية طلب العون والمساعدة من المسئولين إذا كلفوا المرء بما يصعب.

(قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(قالَ) : أي قال فرعون ردا على كلام موسى في السياق السابق.

(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) : أي في منازلنا وليدا أي صغيرا قريبا من أيام الولادة.

(وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) : أي أقمت بيننا قرابة ثلاثين سنة وكان موسى يدعى ابن فرعون لجهل الناس به ورؤيتهم له في قصره يلبس ملابسه ويركب مراكبه.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) : أي قتلت الرجل القبطي.

(وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) : أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد.

(وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) : إذ لم يكن عندي يومئذ من علم ربي ورسالته ما عندي الآن.

(أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي هل تعبيدك لبني إسرائيل يعد نعمة فتمن بها علي؟

٦٤١

معنى الآيات

ما زال السياق والحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن فرد فرعون على موسى بما أخبر تعالى به عنه في قوله (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ (١) فِينا وَلِيداً) أي أتذكر معترفا أنا ربيناك وليدا أي صغيرا وأنت في حال الرضاع (وَلَبِثْتَ فِينا) أي في قصرنا مع الأسرة المالكة (سِنِينَ) ثلاثين سنة قضيتها من عمرك في ديارنا (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) (٢) أي الشنعاء (الَّتِي فَعَلْتَ) وهي قتل موسى القبطي (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي لنعمنا عليك الحاجد بها ، كان هذا رد فرعون فلنستمع إلى رد موسى عليه‌السلام كما أخبر به الله تعالى عنه في قوله : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً) أي يومئذ (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين لأنه لم يكن قد علمنى ربي ما علّمنى الآن وما أوحى إلي ولا أرسلني إليكم (٣) رسولا (فَفَرَرْتُ (٤) مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) من أجل قتلي النفس التي قتلت وأنا من الجاهلين (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي علما نافعا يحكمني دون فعل ما لا ينبغي فعله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٥) أي من أنبيائه ورسله إلى خلقه ثم قال له ردا على ما امتن به فرعون بقوله (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) فقال (وَتِلْكَ (٦) نِعْمَةٌ) أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي استعبدتهم أي اتخذتهم عبيدا لك يخدمونك تستعملهم كما تشاء كالعبيد لك ولم تستعبدني أنا لاتخاذك إياي ولدا حسب زعمك فأين النعمة التي تمنها علي يا فرعون ، نترك رد فرعون إلى الآيات التالية.

__________________

(١) الاستفهام للتقرير ومعناه المنّ على موسى والاحتقار له.

(٢) الفعلة : المرة وبالكسر : الهيئة وقرأ الجمهور (فَعْلَتَكَ) وهي المرة من الفعل ، وشاهد الفعلة بالكسر للهيئة قول الشاعر :

كأن مشيتها من بيت جارتها

مرّ السحابة لا ريث ولا عجل

يذكره بقتله القبطي تخويفا له وتهديدا.

(٣) كان خروج موسى من مصر إلى أن عاد إليها أحد عشر عاما إلا أشهرا.

(٤) أي : فررت منكم إلى أرض مدين.

(٥) بناء على أنه قضى ثلاثين سنة في مصر وأحد عشر عاما خارجها فقد نبيء على رأس الأربعين وهي سنة الله تعالى في الرسل.

(٦) حرف الاستفهام مقدر أي : أو تلك كما هو في التفسير والاستفهام إنكاري أي ينكر موسى على فرعون أن يكون استعباد بني اسرائيل نعمة تعدّ عليهم وهذا التقدير أولى من قول : (إن موسى اعترف لفرعون بنعمة التربية من حيث استعبد غيره وتركه هو لم يتعبده) ومن اعترض بأن همزة الاستفهام لا تحذف إذا لم يكن في الكلام أم الدالة عليها محجوج بشواهد كثيرة منها قول الشاعر :

لم أنس يوم الرحيل وقفتها

وجفنها من دموعها شرق

وقولها والركاب واقفة

تركتني هكذا وتنطلق

والشاهد في قوله : تركتني إذ الأصل : أتركتني فحذفت همزة الاستفهام مع عدم (أم).

٦٤٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قبح جريمة القتل عند كافة الناس مؤمنهم وكافرهم وهو أمر فطري.

٢ ـ جواز التذكير بالإحسان لمن أنكره ولكن لا على سبيل الامتنان فإنه محبط للعمل.

٣ ـ جواز إطلاق لفظ الضلال على الجهل كما قال تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) كم قال موسى (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين قبل أن يعلمني ربي.

٤ ـ مشروعية الفرار من الخوف إذا لم يكن في البلد قضاء عادل ، وإلا لما جاز الهرب من وجه العدالة.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) : أي الذي قلت إنك لرسوله من أي جنس هو؟

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) : أي خالق ومالك السموات والأرض وما بينهما.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) : بأن السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات مخلوقة قائمة فخالقها ومالكها هو رب العالمين.

(لِمَنْ حَوْلَهُ) : أي من أشراف قومه ورجال دولته.

(أَلا تَسْتَمِعُونَ) : أي جوابه الذي لم يطابق السؤال في نظره.

٦٤٣

(أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) : أي أتسجنني ولو جئتك ببرهان وحجة على رسالتي.

(فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي فأت بهذا الشيء المبين إن كنت من الصادقين فيما تقول.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لما قال موسى (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) في أول الحوار قال فرعون مستفسرا في عناد ومكابرة (وَما رَبُ (١) الْعالَمِينَ)؟ أي أيّ شيء هو أو من أي جنس من أجناس المخلوقات فأجابه موسى بما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبُ (٢) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق السموات والأرض وخالق ما بينهما. ومالك ذلك كله ، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأن كل مخلوق لا بد له من خالق خلقه ، وهو أمر لا تنكره العقول. وهنا قال فرعون في استخفاف وكبرياء لمن حوله من رجال دولته وأشراف قومه : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٣) كأن ما قاله موسى أمر عجب أو مستنكر فعرف موسى ذلك فقال (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الكل مربوب له خاضع لحكمه وتصرفه. وهوا اغتاظ فرعون فقال (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أراد أن ينال من موسى لأنه أغاظه بقوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فرد موسى أيضا قائلا (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) أي رب الكون كله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي ما تخاطبون به ويقال لكم وفي هذا الجواب ما يتقطع له قلب فرعون فلذا رد بما أخبر به تعالى عنه في قوله (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي) أي ربا سواي (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي لأسجننك وأجعلك في قعر تحت الأرض مع المسجونين فرد موسى عليه‌السلام قائلا (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ (٤) مُبِينٍ) أي أتسجنني ولو

__________________

(١) لما غلب فرعونه في جداله لموسى استفهم بقوله : (فما رب العالمين) وهو استفهام عن جنس ولم يستفهم عن ربّ العالمين تجاهلا منه ومكابرة فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) وكان المطلوب أن يقول : ومن ربّ العالمين؟ ولكنه العلو والتكبر.

(٢) لمّا علم موسى جهل فرعون وتجاهله أجابه بما يلقمه الحجر ويبطل دعواه في أنّ الربوبية تكون لبشر أو حجر فقال : (رَبُّ السَّماواتِ ...) الخ.

(٣) استفهم اللعين استفهام تعجّب وتهكم مستخفا بجواب موسى قائلا (أَلا تَسْتَمِعُونَ) أي إلى قول هذا الذي زعم إبطال عقيدتكم وعقيدة آبائكم ، ولذا أجاب موسى بتقرير جوابه الأوّل وهو مفحم مبطل لدعوى ربوبية فرعون.

(٤) في جواب موسى عليه‌السلام هذا تلطّف بفرعون وطمع في إيمانه لما بهره به من الردود المحكمة والإجابات المفحمة.

٦٤٤

جئت بحجة بينة وبرهان ساطع على صدقي فيما قلت وأدعوكم إليه؟ وهنا قال فرعون ما أخبر تعالى به (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما تدعي وتقول

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الربوبية المقتضية للألوهية من طريق هذا الحوار ليسمع ذلك المشركون ، وليعلموا أنهم مسبوقون بالشرك والكفر وأنهم ضالون.

٢ ـ سنة أهل الباطل أنهم يفجرون في الخصومة وفي الحديث (وإذا خاصم فجر) (١).

٣ ـ أهل الكبر والعلو في الأرض إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد واستخدام القوة.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))

__________________

(١) نصّ الحديث الشريف كما هو في الصحيح : (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر).

٦٤٥

شرح الكلمات :

(ثُعْبانٌ مُبِينٌ) : أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا شك.

(وَنَزَعَ يَدَهُ) : أي أخرجها من جيبه بعد أن أدخلها فيه.

(لَساحِرٌ عَلِيمٌ) : أي متفوق في علم السحر.

(أَرْجِهْ وَأَخاهُ) : أي أخرّ أمرهما.

(حاشِرِينَ) : أي جامعين للسحرة.

(سَحَّارٍ عَلِيمٍ) : أي متفوق في الفن أكثر من موسى.

(يَوْمٍ مَعْلُومٍ) : هو ضحى يوم الزينة عندهم.

(هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) : أي اجتمعوا كي نتبع السحرة على دينهم إن كانوا هم الغالبين.

(وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : أي لكم الأجر وهو الجعل الذي جعل لهم وزادهم مزية القرب منه.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لقد تقدم في السياق أن فرعون طالب موسى بالإتيان بالآية أي الحجة على صدق دعواه وها هو ذا موسى عليه‌السلام يلقي عصاه أمام فرعون وملائه فإذا هي ثعبان ظاهر لا شك فيه ، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين لا يشك في بياضها وأنه بياض خارق للعادة هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٣٢) والثانية (٣٣) (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ (١) مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ (٢) بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) واعترف فرعون بأن ما شاهده من العصا واليد أمر خارق للعادة ولكنه راوغ فقال (إِنَّ هذا) أي موسى (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي ذو خبرة بالسحر وتفوق فيه قال هذا للملأ حوله كما قال تعالى عنه (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وقوله تعالى عنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) قال فرعون هذا تهيجا للملأ ليثوروا ضد موسى عليه‌السلام وهذا من المكر السياسي إذ جعل القضية

__________________

(١) الثعبان : الحية الضخمة الطويلة ، و (مُبِينٌ) بمعنى بيّن لا خفاء فيه ولا غموض (وَنَزَعَ يَدَهُ) أي أخرجها من قميصه بسرعة وشدّة إذ هذا ما يدل عليه لفظ النزع ، ولم يذكر المنزع منه لدلالة اللفظ عليه أي : من جيب قميصه.

(٢) إذا : هي الفجائية ومعنى : (لِلنَّاظِرِينَ) أي : مما يقصده الناظرون لما فيه من العجب ، وكان جلد موسى أسمر وكانت اليد بيضاء فكان ذلك آية أخرى.

٦٤٦

سياسية بحتة وأن موسى يريد الاستيلاء على الحكم والبلاد ويطرد أهلها منها بواسطة السحر ، وقال لهم كالمستشير لهم (فَما ذا تَأْمُرُونَ؟) فأشاروا عليه بما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أي أخر أمرهما (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ) أي مدن المملكة رجالا (حاشِرِينَ) أي جامعين (يَأْتُوكَ) أيها الملك (بِكُلِّ سَحَّارٍ (١) عَلِيمٍ) أي ذو خبرة في السحر متفوقة ، وفعلا أخذ بمشورة رجاله (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لموعد معلوم وهو ضحى يوم العيد عندهم واستحثوا الناس على الحضور من كافة أنحاء البلاد وهو ما أخبر تعالى به في قوله (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ (٢) السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) فنبقى على ديننا ولا نتبع موسى وأخاه على دينهما الجديد (إِنْ كانُوا) أي السحرة (هُمُ الْغالِبِينَ) وهذا من باب الاستحثاث والتحريض على الالتفات حول فرعون وملائه. وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) أي من كافة أنحاء البلاد قالوا لفرعون ما أخبر تعالى به عنهم (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) (٣) أي جعلا (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟) فأجابهم فرعون قائلا (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ (٤) الْمُقَرَّبِينَ) أي زيادة على الأجر مكافأة أخرى وهي أن تكونوا من المقربين لدينا ، وفي هذا إغراء كبير لهم على أن يبذلوا أقصى جهدهم في الانتصار على موسى عليه‌السلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات المعجزات للأنبياء كمعجزة العصا واليد لموسى عليه‌السلام.

٢ ـ مشروعية استشارة الأمير رجاله في الأمور ذات البال.

٣ ـ ثبوت السحر وأنه فن من فنون المعرفة وإن كان تعلمه وتعليمه محرمين

٤ ـ إعطاء المكافأة للفائزين في المباراة وغيرها ومن ذلك السباق في الإسلام.

__________________

(١) (سَحَّارٍ) فيه وصف ثابت دال على تعاطيه للمهنة ورسوخه فيها كنجار وخياط وبناء والوصف بعليم : فيه الحث على الإتيان بالمهرة من السحرة لعظم الموقف.

(٢) دلت الفاء على الفورية واللام كذلك في الميقات أي : لأوّل الوقت كقوله : (الصلاة لوقتها) أي : في أول وقتها ، وقوله (لِلنَّاسِ) المراد بالناس أهل بلاده ، والاستفهام في (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) للاستحثاث على الاجتماع.

(٣) سؤال السحرة الأجر إدلال بخبرتهم والتذكير بالحاجة إليهم لعلمهم بأن فرعون حريص على غلبهم لموسى ، وخافوا أيضا أن يستخدمهم فرعون بدون أجر لأنّ الحال حال التعبئة العامة للدفاع عن المعتقدات وأهلها فلذا شرطوا أجرهم قبل الشروع في العمل.

(٤) (إِذاً) أي : إذا كنتم فعلا غالبين إنّ لكم لأجرا عظيما.

٦٤٧

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) : أمرهم بالإلقاء توسلا إلى ظهور الحق.

(ما يَأْفِكُونَ) : أي ما يقلبونه بتمويههم من أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى.

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) : أي لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يأتي بواسطة السحر.

(مِنْ خِلافٍ) : أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى.

(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) : أي لأشدنكم بعد قطع أيديكم وأرجلكم من خلاف على الأخشاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى عليه‌السلام وفرعون عليه لعائن الرحمن إنه بعد إرجاء السحرة فرعون وسؤالهم له : هل لهم من أجر على مباراتهم موسى إن هم غلبوا وبعد أن طمأنهم فرعون على الأجر والجائزة قال لهم موسى (أَلْقُوا (١) ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من الحبال والعصي في الميدان (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم

__________________

(١) جاء في سورة الأعراف أن السحرة عرضوا على موسى أن يلقى عصاه أو يلقوا حبالهم وعصيّهم وهنا قال لهم موسى عليه‌السلام (أَلْقُوا) بناء على عرضهم ذلك.

٦٤٨

الغالبون وفعلا انقلبت الساحة كلها حيات وثعابين حتى أوجس موسى في نفسه خيفة فأوحى إليه ربه تعالى أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون. هذا معنى قوله تعالى في هذا السياق (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ (١) فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٢) ومعنى تلقف ما يأفكون أي تبتلع في جوفها من طريق فمها كل ما أفكه أي كذبه وافتراه السحرة بسحرهم من انقلاب الحبال والعصي حيات وثعابين ، وقوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي أنهم لاندهاشهم وما بهرهم من الحق ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله تعالى مؤمنين به ، فسئلوا عن حالهم تلك فقالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وهنا خاف فرعون تفلت الزمام من يده وأن يؤمن الناس بموسى وهرون ويكفروا به فقال للسحرة : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) بذلك أي كيف تؤمنون بدون إذني؟ على أنه يملك ذلك منهم وهي مجرد مناورة مكشوفة ، ثم قال لهم (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي انه لما كان استاذكم تواطأتم معه على الغلب فأظهرتم أنه غلبكم ، تمويها وتضليلا للجماهير .. ثم تهددهم قائلا (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣) عقوبتي لكم على هذا التواطؤ وهي (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أقطع من الواحد منكم يده اليمنى ورجله اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) فلا أبقي منكم أحدا إلا أشده على خشبة حتى يموت مصلوبا ، هل فعل فرعون ما توعد به؟ الله أعلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لم يبادر موسى بإلقاء عصاه أولا لأن المسألة مسألة علم لا مسألة حرب ففي الحرب تنفع المبادرة بافتكاك زمام المعركة ، وأما في العلم فيحسن تقديم الخصم ، فإذا أظهر ما عنده كر عليه بالحجج والبراهين فأبطله وظهر الحق وانتصر على الباطل ، هذا الأسلوب الذي اتبع موسى بإلهام من ربه تعالى.

__________________

(١) يبدو أن الباء في قولهم (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) هي كالباء في بسم الله للاستعانة والتبرّك لا للقسم وهذا أولى بالمقام من الحلف على شيء لا يملكه المرء ، وتكون جملة : (إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا وليست جواب قسم إلّا أنها حملت معنى القسم بما فيه من المؤكدات كأنهم قالوا إنّا وربّنا لغالبون.

(٢) قرأ نافع تلقف بتشديد القاف ، والأصل : تتلقف فحذفت إحدى التائين تخفيفا ، وقرأ حفص (تَلْقَفُ) بتخفيف القاف من : لقف الشيء يلقفه لقفا : إذا أخذه بسرعة.

(٣) اللام للقسم. وبم يقسم فرعون؟ يقسم بحسب عادته في إيمانه فقد يقسم بعزّته.

٦٤٩

٢ ـ مظهر من مظاهر الهداية الإلهية هداية السحرة إذ هم فى أول النهار سحرة كفرة وفي آخره مؤمنون بررة.

٣ ـ ما سلكه فرعون مع السحرة كله من باب المناورات السياسية الفاشلة.

(قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠))

شرح الكلمات :

(لا ضَيْرَ) : أي لا ضرر علينا.

(مُنْقَلِبُونَ) : أي راجعون بعد الموت وذلك يسر ولا يضر.

(أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) : أي رجوا أن يكفر الله عنهم سيئاتهم لأنهم سبقوا بالإيمان.

(أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) : السرى المشي ليلا والمراد من العباد بنو إسرائيل.

(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) : أي من قبل فرعون وجيوشه.

(لَشِرْذِمَةٌ) : أي طائفة من الناس.

(لَغائِظُونَ) : أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا.

(حاذِرُونَ) : أي متيقظون مستعدون.

(وَمَقامٍ كَرِيمٍ) : أي مجلس حسن كان للأمراء والوزراء.

(كَذلِكَ) : أي كان إخراجنا كذلك أي على تلك الصورة.

(مُشْرِقِينَ) : أي وقت شروق الشمس.

٦٥٠

معنى الآيات :

قوله تعالى (قالُوا لا ضَيْرَ) (١) هذا قول السحرة لفرعون بعد أن هددهم وتوعدهم (قالُوا لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا بتقطيعك أيدينا وأرجلنا وتصليبك إيانا (إِنَّا إِلى (٢) رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إن كل الذي تفعله معنا إنك تعجل برجوعنا إلى ربنا وذاك أحب شيء إلينا. وقالوا (إِنَّا نَطْمَعُ (٣) أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) أي ذنوبنا (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) في هذه البلاد برب العالمين رب موسى وهرون.

بعد هذا الانتصار العظيم الذي تم لموسى وهرون أوحى تعالى إلى موسى (أَنْ أَسْرِ (٤) بِعِبادِي) أي امش بهم ليلا (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي من قبل فرعون وجنوده. وعلم فرعون بعزم موسى على الخروج ببني إسرائيل فأرسل في المدائن (٥) وكانت له مآت المدن حاشرين من الرجال أي جامعين وكأنها تعبئة عامة. يقولون محرضين (إِنَ (٦) هؤُلاءِ) أي موسى وبني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ) أي طائفة أفرادها قليلون (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي (٧) لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا (وَإِنَّا) أي حكومة وشعبا (لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي متيقظون مستعدون فهلم إلى ملاحقتهم وردهم إلى الطاعة. وعجل تعالى بالمسرة في هذا الخبر فقال تعالى (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي آل فرعون (مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ) أي كنوز الذهب والفضة التي كانت مدفونة تحت التراب ، إذ الطمس كان على العملة فسدت وأما مخزون الذهب والفضة فما زال تحت الأرض ، إذ الكنز يطلق على المدفون تحت الأرض وإن كان شرعا هو الكنز ما لم تؤد زكاته سواء كان تحت الأرض أو فوقها.

وقوله تعالى (كَذلِكَ) أي إخراجنا لهم كان كذلك ، (وَأَوْرَثْناها) (٨) أي تلك النعم بنى إسرائيل أي بعد هلاك فرعون وجنوده أجمعين. وقوله تعالى (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي فاتبع آل فرعون بنى إسرائيل أنفسهم في وقت شروق الشمس ليردوهم ويحولوا بينهم

__________________

(١) الضير : مرادف الضرّ يقال : ضاره يضيره بمعنى ضرّه يضره سواء.

(٢) الجملة تعليلية لنفيهم الضرر عليهم.

(٣) لفظ الطمع يطلق ويراد به الظنّ الضعيف غالبا ويراد به الظن القوي أيضا كقول إبراهيم عليه‌السلام : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

(٤) قرأ نافع أن اسر بهمزة وصل إذ هو من سرى يسري وحركت النون لالتقاء الساكنين. وقرأ عاصم : (أَنْ أَسْرِ) بسكون أن وقطع همزة أسر لأنّه من أسرى ، وأسرى وسرى بمعنى واحد.

(٥) المدائن جمع مدينة وهي البلد العظيم.

(٦) الإشارة بهؤلاء فيه إيماء بتحقير شأن بني اسرائيل ، والشرذمة الطائفة القليلة العدد.

(٧) الغيظ : أشدّ الغضب ، وغائظون : اسم فاعل من : غاظه بمعنى أغاظه أي : أغضبه أشدّ الغضب.

(٨) يرى بعضهم أن الله أورث بني اسرائيل نعما نظير ما كان لفرعون وقومه بدليل آية الدخان : (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وبدليل أنّ بني إسرائيل ما رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها والله أعلم.

٦٥١

وبين الخروج من البلاد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قوة الإيمان مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه.

٢ ـ حسن الرجاء في الله والطمع في رحمته ، وفضل الأسبقية في الخير.

٣ ـ مشروعية التعبئة العامة واستعمال أسلوب خاص في الحرب يهديء من مخاوف الأمة حكومة وشعبا.

٤ ـ دمار الظالمين وهلاك المسرفين في الكفر والشر والفساد.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

شرح الكلمات :

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) : أي رأى بعضهما بعضا لتقاربهما والجمعان جمع بني إسرائيل وجمع فرعون.

(إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) : أي قال أصحاب موسى من بني إسرائيل إنا لمدركون أي سيلحقنا فرعون وجنده.

(قالَ كَلَّا) : أي قال موسى عليه‌السلام كلا أي لن يدركونا ولن يلحقوا بنا.

(فَانْفَلَقَ) : أي انشق.

(فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ) : أي شقّ أي الجزء المنفرق والطود : الجبل.

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) : أي قربنا هنا لك الآخرين أي فرعون وجنده.

٦٥٢

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) : أي عظة وعبرة توجب الإيمان برب العالمين برب موسى وهرون.

معنى الآيات :

هذا آخر قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون قال تعالى في بيان نهاية الظالمين وفوز المؤمنين (فَلَمَّا تَراءَا) (١) (الْجَمْعانِ) جمع موسى وجمع فرعون وتقاربا بحيث رأى بعضهما بعضا (قالَ أَصْحابُ مُوسى) أي بنو إسرائيل (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي خافوا لما رأوا جيوش فرعون تتقدم نحوهم صاحوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فطمأنهم موسى بقوله (كَلَّا) (٢) أي لن تدركوا ، وعلل ذلك بقوله (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) إلى طريق نجاتي قال تعالى (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ) أي اضرب بعصاك البحر فضرب امتثالا لأمر ربه فانفلق البحر فرقتين كل فرقة (٣) منه كالجبل العظيم (وَأَزْلَفْنا) (٤) أي قربنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي أدنينا هناك الآخرين وهم فرعون وجيوشه (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي من بني إسرائيل (أَجْمَعِينَ) (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) المعادين لبني إسرائيل وهم فرعون وجنده. قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من إهلاك فرعون وإنجاء موسى وبني إسرائيل (لَآيَةً) أي علامة واضحة بارزة لربوبية الله وألوهيته وقدرته وعلمه ورحمته وهي عبرة وعظة أيضا للمعتبرين ، وما كان أكثر قومك (٥) يا محمد مؤمنين مع موجب الإيمان ومقتضيه لأنه سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.

وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك يا محمد لهو الغالب على أمره الذي لا يمانع في شيء يريده ولا يحال بين مراده الرحيم بعباده فاصبر على دعوته وتوكل عليه فإنه ناصرك ومذل أعدائك.

__________________

(١) الترائي : تفاعل إذ هو من الجانبين كل جانب رأى الثاني.

(٢) ردع موسى عليه‌السلام بقوله كلّا الظانين أنّ فرعون مدركهم وعلل لعدم إدراك فرعون بقوله : (إن معي ربي سيهدين) أي : سيبيّن لي سبيل النجاة فنسلكه فننجوا بإذن الله.

(٣) (الفرق) : القسم من الشيء المنفلق ، وعليه فالفرقة : القسمة من البحر التي كانت كالجبل العظيم. ولذا قال ابن عباس : صار البحر اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق أي : لكل قبيلة من قبائل بني اسرائيل طريق خاص بها فالبحر انقسم قسمين كان ما بين جانبيه كالفج العظيم ، وفي ذلك الفجّ كانت طرق بني اسرائيل.

(٤) (أَزْلَفْنا) أي : جمعنا وقرّبنا فرعون وملأه لإغراقهم وإهلاكهم وسميت مزدلفة ليلة جمع : لازدلافها : أي لقربها من منى أو عرفات وسميت ليلة جمع لاجتماع الحجاج فيها ، قال الشاعر :

وكل يوم مضى أو ليلة سلفت

فيها النفوس إلى الآجال تزدلف

(٥) القرطبي رحمه‌الله تعالى رد الضمير في قوله تعالى : (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إلى فرعون وملئه فقال : لأنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل وابنته آسيا امرأة فرعون ... الخ في حين أن أكثر المفسرين على أنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو وجه العبرة من السياق.

٦٥٣

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ظهور آثار الاستعباد في بني إسرائيل متجلية في خوفهم مع مشاهدة الآيات.

٢ ـ ثبوت صفة المعية الإلهية في قول موسى (إِنَّ مَعِي رَبِّي) إذ قال له عند إرساله (إِنَّنِي مَعَكُما).

٣ ـ ثبوت الوحي الإلهي.

٤ ـ آية انفلاق البحر من أعظم الآيات.

٥ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة مثل هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بوحي خاص.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

شرح الكلمات :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) : أي اقرأ يا رسولنا على قومك خبر إبراهيم وشأنه العظيم.

(لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) : أي آزر والبابليين.

٦٥٤

(فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) : أي فنقيم أكثر النهار عاكفين على عبادتها.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا) : أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر بل وجدنا آباءنا لها عابدين فنحن تبع لهم.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) : أي أعداء لي يوم القيامة إذا أنا عبدتهم لأنهم يتبرءون من عابديهم.

(إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) : فإن من يعبده لا يتبرأ منه يوم القيامة بل ينجيه من النار ويكرمه بالجنة.

(فَهُوَ يَهْدِينِ) : أي إلى ما ينجيني من العذاب ويسعدني في دنياي وأخراي.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) : أي يميتني عند انتهاء أجلي ، ثم يحييني ليوم الدين.

(يَوْمَ الدِّينِ) : أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة والبعث الآخر.

معنى الآيات :

هذا بداية قصص إبراهيم عليه‌السلام والقصد منه عرض حياة إبراهيم الدعوية على مسامع قريش قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علهم يتعظون بها فيؤمنوا ويوحدوا فيسلموا ويسلموا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (١) أي اقرأ على قومك من قريش خبر إبراهيم في الوقت الذي قال لأبيه وقومه (ما تَعْبُدُونَ) مستفهما إياهم ليرد على جوابهم وهو أسلوب حكيم في الدعوة والتعليم يسألهم ويجيبهم بناء على مقتضى سؤالهم فيكون ذلك أدعى للفهم وقبول الحق : (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً) أي في صور تماثيل (فَنَظَلُّ لَها (٢) عاكِفِينَ) فنقيم أكثر النهار عاكفين حولها نتقرب إليها ونتبرك بها خاشعين خاضعين عندها. ولما سمع جوابهم وقد صدقوا فيه قال لهم (هَلْ (٣) يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) أي إذ تدعونها (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إن طلبتم منهم منفعة (أَوْ يَضُرُّونَ) إن طلبتم منهم أن يضروا أحدا تريدون ضره أنتم؟ فأجابوا قائلين في كل ذلك لا ، لا ، لا. وإنما وجدنا آباءنا كذلك

__________________

(١) (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) قصته مع قومه والهمزة الثانية تخفف وهو أجود من تحقيقها. نبأ ابراهيم أو نبأ إبراهيم ، والمقصود من تلاوة هذه القصة طلب هداية قريش إلى الحق بإسماعهم أخبار الأولين ومشاهدة ما دار من جدال بين الرسل وأممهم.

(٢) (فَنَظَلُ) هذا اللفظ يدل أنهم يقضون فترة طويلة من النهار عاكفين حولها لعبادتها وأمّا في الليل فيعبدون الكواكب لمشاهدتها والتماثيل إنما هي صور لها فإذا غابت عبدوا صورها بالنهار.

(٣) أراد أي : ابراهيم بقوله : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) فتح باب المجادلة ليصل إلى إقناعهم إن شاء الله ذلك ، وليست هذه أوّل محاجة بل حاج ابراهيم أباه على انفراد وحاجه هذه المرة مع قومه ولا شك أن الحجاج دام سنوات فما ذكر هنا غير ما ذكر في الصافات والأنبياء ومريم.

٦٥٥

يفعلون ففعلنا مثلهم اقتداء بهم واتباعا لطريقتهم ، وهنا صارحهم إبراهيم بما يريد أن يفهموه عنه فقال (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الذين هم أجدادكم الذين ورث عنهم آباؤكم هذا الشرك والباطل (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) أي أعداء لي وذلك يوم القيامة إن أنا عبدتهم معكم ، لأن كل من عبد من دون الله يتبرأ يوم القيامة ممن عبده ويعلن عداوته له طلبا لنجاة نفسه من عذاب الله. وقوله (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) فإنه لا يكون عدوا لمن عبده بل يكون ودودا له رحيما به. ألا فاعبدوه يا قوم واتركوا عبادة من يكون عدوا لكم يوم القيامة!!

ثم أخذ إبراهيم يذكر ربه ويثني عليه ويمجده تعريفا به وتذكيرا لأولئك الجهلة المشركين فقال (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ (١) يَهْدِينِ) أي إلى طريق نجاتي وكمالي وسعادتي وذلك ببيانه لي محابه لآتيها ، ومساخطه لأتجنبها ، (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي يغذونى بأنواع الأطعمة ويسقيني بما خلق ويسر لي من أنواع الأشربة من ماء ولبن وعسل ، (وَإِذا مَرِضْتُ) بأن اعتل جسمي وسقم فهو لا غيره يشفيني ، (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) يوم يريد إماتتي عند انتهاء ما حدد لي من أجل تنتهي به حياتي ، ثم يحييني يوم البعث والنشور ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) (٢) أي يسترها ويمحو أثرها من نفسي يوم الدين أي يوم الجزاء والحساب على عمل الإنسان في هذه الدار إذ هي دار عمل والآخرة دار جزاء.

وإذا قيل ما المراد من الخطيئة التي ذكر إبراهيم لنفسه؟ فالجواب إنها الكذبات الثلاث التي كانت لإبراهيم طوال حياته الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) والثانية (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) والثالثة قولي للطاغية إنه أخي ولا تقولي إنه زوجي ، هذه الكذبات التي كانت لإبراهيم فهو خائف منها ويوم القيامة لما تطلب منه البشرية الشفاعة عند ربها يذكر هذه الكذبات ويقول إنما أنا من وراء وراء فاذهبوا إلى موسى.

ألا فليتعظ المؤمنون الذين كذبهم لا يعد كثرة!!

__________________

(١) حذفت الياء في (يَهْدِينِ) و (يَسْقِينِ) و (يَشْفِينِ) و (يُحْيِينِ) لأنّ الحذف في رؤوس الآي حسن لتتفق كلهما.

(٢) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال : لا إنّه لم يقل يوما رب اغفر لي (خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

٦٥٦

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بذكر هذا القصص.

٢ ـ تقرير التوحيد بالحوار الذي دار بين إبراهيم إمام الموحدين وقومه المشركين.

٣ ـ بيان أن كل من عبد معبودا غير الله تعالى سيكون له عدوا لدودا يوم القيامة.

٤ ـ بيان أن العكوف على الأضرحة والتمرغ في تربتها وطلب الشفاء منها شرك.

٥ ـ بيان الاسلوب الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى من طريق السؤال والجواب.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) : أي يا رب أعطني من فضلك حكما أي علما نافعا وارزقني العمل به.

(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) : لأعمل عملهم في الدنيا وأكون معهم في الدار الآخرة.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) : أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي بعدي (وَاغْفِرْ لِأَبِي) : كان هذا منه قبل أن يتبين له أنه عدو لله.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) : أي لا تفضحني.

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : أي من الشرك والنفاق.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) : أي أدنيت وقربت للمتقين.

٦٥٧

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) : أي أظهرت وجليت للغاوين.

(هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) : أي بدفع العذاب عنكم.

معنى الآيات :

هذا آخر قصص إبراهيم وخاتمته لما ذكر إبراهيم قومه ووعظهم رفع يديه إلى ربه يسأله ويتضرع إليه فقال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي علما نافعا يمنعني من فعل ما يسخطك عني ويدفعني إلى فعل ما يرضيك عني ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) في أعمالهم الخيرية في الدنيا وبمرافقتهم في الجنة. (١) (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ (٢) صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي من عبادك المؤمنين ، (وَاجْعَلْنِي (٣) مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) الذين يرثونها بالإيمان والتقوى بعد فضلك عليهم ورحمتك بهم ، (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بك وبمحابك ومكارهك فما عبدوك ولا تقربوا إليك. وكان هذا من إبراهيم قبل العلم بأن أباه عدو لله حيث سبق له ذلك أزلا ، إذ قد تبرأ منه بعد أن علم ذلك وقوله (وَلا تُخْزِنِي) أي لا تذلني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) وهو يوم القيامة (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ) (٤) (سَلِيمٍ) أي لكن من أتى الله أى جاءه يوم القيامة وقلبه سليم من الشرك والنفاق فهذا ينفعه عمله الصالح لخلوه مما يحبطه وهو الشرك والكفر الظاهر والباطن وقوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت وأدنيت للمتقين الله ربهم فلم يشركوا به في عبادته ولم يجاهروا بمعاصيه ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) (٥) أي أظهرت وارتفعت (لِلْغاوِينَ) أي أهل الغواية والضلالة في الدنيا من المشركين والمسرفين في الإجرام والشر والفساد (وَقِيلَ لَهُمْ) أي سئلوا فى عرصات القيامة (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ أروناهم (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) مما أنتم فيه

__________________

(١) وفي أعالي الدرجات.

(٢) وقد استجاب الله تعالى له حيث اجتمع اهل الأديان على الثناء عليه والانتساب إلى ملته وإن كانوا مبطلين لما خالطهم من الشرك وها هي ذي أمة الإسلام لا تصلي صلاة إلّا وتصلي عليه وعلى آله فهذا ذكر حسن خالد وثناء عطر باق قال مالك : لا بأس أن يحب المرء أن يثني عليه صالحا ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى لهذه الآية وغيرها نحو :

(سيجعل لهم الرحمن ودا) (وألقيت عليك محبة مني).

(٣) في هذا ردّ على من زعم أنه لا يسأل الله جنة ولا يستجيره من النار.

(٤) السليم من الشك والشرك وأمراض الكبر والحسد والعجب والغل ولأنه إذا سلم القلب سلمت الجوارح لحديث : (ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) (من الصحيح).

(٥) أي : تظهر جهنم لأهلها قبل أن يدخلوها حتى يستشعروا الروع والحزن كما يستشعر أهل الجنة المسرة والفرح قبل دخولها. إذ الجنة تزلف والجحيم تبرز ، وهذا في عرصات القيامة.

٦٥٨

فيدفعون عنكم العذاب ، (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لأنفسهم فيدفعون عنها العذاب إن كانوا من أهل النار لأنهم رضوا بأن يعبدوا ودعوا الناس إلى عبادتهم كالشياطين والمجرمين من الإنس والجن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الجنة تورث ويذكر تعالى سبب إرثها وهو التقوى في قوله (تِلْكَ الْجَنَّةُ) (١) (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).

٢ ـ مشروعية الاستغفار للوالدين إن ماتا على التوحيد.

٣ ـ بطلان الانتفاع يوم القيامة بغير الإيمان والعمل الصالح بعد فضل الله ورحمته.

٤ ـ الترغيب في التقوى والتحذير من الغواية.

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

شرح الكلمات :

(فَكُبْكِبُوا فِيها) : أي ألقوا على وجوههم في جهنم ودحرجوا فيها حتى انتهوا الى قعرها.

(وَالْغاوُونَ) : جمع غاو وهو الفاسد القلب المدنس الروح من الشرك والمعاصي.

(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) : أي أتباعه وأنصاره وأعوانه من الإنس والجن.

__________________

(١) الآية من سورة مريم عليهاالسّلام.

٦٥٩

(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي في العبادة فعبدناكم كما يعبد الله جل جلاله.

(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) : أي يهمه أمرنا وتنفعنا صداقته نحتمى به من أن نعذب.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) : أي رجعة إلى الدنيا لنؤمن ونوحد ونعبد ربنا بما شرع لنا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَكُبْكِبُوا) (١) بعد ذلك الاستفهام التوبيخي التقريعي الذي تقدم في قوله تعالى (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)؟ وفشلوا في الجواب ولم يجيدوه إذ هو غير ممكن فأخبر تعالى عنهم بأنهم كبكبوا في جهنم ـ أي كبوا على وجوههم ودحرجوا فيها هم والغاوون جمع غاو أي فاسد العقيدة والعمل وجنود إبليس أجمعون من أتباع الشيطان وأعوانه من دعاة الشرك والمعاصي والجريمة في الأرض من الإنس والجن قوله تعالى (قالُوا (٢) وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) أي وهم في جهنم يختصمون كل واحد يحمل الثاني التبعة والمسؤولية فقال المشركون لمن أشركوا بهم (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ظاهر بين لا يختلف فيه ، وذلك إذ كنا (٣) (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) عزوجل فنعبدكم معه ، (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) وهم دعاة الشرك والشر والضلال الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها ، وأجرموا علينا فأفسدوا نفوسنا بالشرك والمعاصي ، وقوله تعالى (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) هذا قولهم أيضا قرروا فيه حقيقة أخرى وهي أنه ليس لهم في هذا اليوم من شافعين يشفعون لهم عند الله تعالى لا من الملائكة ولا من الإنس والجن إذ لا شفاعة تنفع من مات على الشرك والكفر ، وقولهم ولا صديق حميم أي وليس لنا أي من صديق حميم تنفعنا صداقته وولايته.

وقالوا متمنين بعد اليأس من وجود شافعين (فَلَوْ أَنَّ لَنا (٤) كَرَّةً) أي رجعة إلى دار الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فنؤمن ونوحد ونتبع الرسل. وهذا آخر ما أخبر تعالى به عنهم من كلامهم في

__________________

(١) (فَكُبْكِبُوا) أي : كبّوا فيها كبا بعد كبّ لأنّ كبكبوا مضاعف : كبّوا بالتكرير نحو : كفكف الدمع أي : كفّه مرة بعد مرة.

(٢) من الجائز أن يكون هذا من كلام ابراهيم إلّا أن كونه من كلام الله تعالى موعظة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى وقد استظهره ابن عطية رحمه‌الله تعالى وجملة (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) حالية ، وجملة تالله الخ مقول القول.

(٣) (إِذْ) ظرفية وليست تعليلية أي : الوقت الذي كنا نسويكم بربّ العالمين ، وهذا الكلام منهم كلام متندم حزن على ما فاته وصدر منه كقول أبي بكر وقد أمسك بلسانه وقال له : أنت أوردتني الموارد وكقوله : يا لسان قل خيرا تغنم واسكت عن شرّ تسلم.

(٤) (فَلَوْ) حرف تمن وأصلها : لو الشرطية لكنها تنوسي منها معنى الشرط إذ المراد : لو رجعنا إلى الدنيا لآمنا وعملنا صالحا ، ولما لم يقصد تعليق الامتناع على الامتناع تمحضت لو للتمني.

٦٦٠