أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما قابل به المشركون دعوة التوحيد من جلب كل قول وباطل ليصدوا عن سبيل الله وما زال هذا دأب المشركين إزاء دعوة التوحيد إلى اليوم وإلى يوم القيامة.

٢ ـ تقرير الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.

٣ ـ بيان حيرة المشركين إزاء دعوة الحق وضربهم الأمثال الواهية الرخيصة للصّدّ عن سبيل الله ، وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل والخيبة المرة.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

شرح الكلمات :

(تَبارَكَ) : أي تقدس وكثر خيره وعمت بركته.

(خَيْراً مِنْ ذلِكَ) : أي الذي اقترحه المشركون عليك.

(وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) : أي كثيرة لا قصرا واحدا كما قال المشركون.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) : أي لم يكن المانع لهم من الإيمان كونك تأكل الطعام وتمشي في

٦٠١

الأسواق بل تكذيبهم بالبعث والجزاء هو السبب في ذلك.

(تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) : أي صوتا مزعجا من تغيظها على أصحابها المشركين بالله الكافرين به.

(مُقَرَّنِينَ) : أي مقرونة أيديهم مع أعناقهم في الأصفاد.

(دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) : أي نادوا يا ثبورنا أي يا هلاكنا إذ الثبور الهلاك.

(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) : أي ثوابا على إيمانهم وتقواهم ، ومصيرا صاروا إليها لا يفارقونها.

(وَعْداً مَسْؤُلاً.) : أي مطالبا به إذ المؤمنون يطالبون به قائلين ربنا وآتنا ما وعدتنا والملائكة تقول ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الرد على مقترحات المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ قالوا لو لا أنزل إليه ملك ، أو يلقى إليه كنز وتكون له جنة يأكل منها فقال تعالى : لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (تَبارَكَ (١) الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي الذي اقترحوه وقالوا خذ لنفسك من ربك بعد أن رفضت طلبهم بترك دعوتك والتخلي عن رسالتك (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من خلال أشجارها وقصورها ، (٢) (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) لا قصرا (٣) واحدا كما قالوا ، ولكنه لم يشأ ذلك لك من هذه الدار لأنها دار عمل ليست دار جزاء وراحة ونعيم فربك قادر على أن يجعل لك ذلك ولكنه لم يشأه والخير فيما يشاءه فاصبر فإن المشركين لم يكن المانع لهم من الإيمان هو كونك بشرا تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، أو أن الله تعالى لم ينزل إليك ملكا بل المانع هو تكذيبهم بالساعة فعلة كفرهم وعنادهم هي عدم إيمانهم بالبعث والجزاء فلو آمنوا بالحياة الثانية لطلبوا كل سبب ينجي من عذابها ويحصل نعيمها (بَلْ كَذَّبُوا (٤) بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ) (٥) أي القيامة (سَعِيراً) أي نارا مستعرة أو هي دركة من دركات النار تسمى سعيرا.

__________________

(١) أي : إن شاء جعل لك خيرا من ذاك الذي اقترحه المشركون عليك وأن معنى لو الشرطية وجواب الشرط محذوف. أي :

لجعل ولكن لم يشأ ذلك لأنه غير لائق بمقامك في هذه الدار وهو لك في الآخرة.

(٢) قرىء ويجعل بالرفع على الاستئناف ، وقراءة الأكثر بالجزم على محل الشرط : إن شاء جعل لك.

(٣) القصر في اللغة : كل بناء رفيع عال حصين. وأما البيت فقد يكون من لبن وطين وقد يكون من شعر.

(٤) (بَلْ) : هنا للاضراب والانتقال. إضراب على جواب اقتراحهم ، وانتقال إلى ذكر علة كفرهم وعنادهم واقتراحهم ما اقترحوه ، وهو تكذيبهم بالبعث الآخر ، إذ هو سبب عنادهم وكفرهم وفسادهم.

(٥) (بِالسَّاعَةِ) : اسم غلب على عالم الخلود. تسمية باسم مبدئه وهو ساعة البعث.

٦٠٢

وقوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ (١) مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذا وصف للسعير وهو أنها إذا رأت أهلها من ذوي الشرك والظلم والفساد من مكان بعيد تغيظت عليهم تغيظا وزفرت زفيرا مزعجا فيسمعونه فترتعد له فرائصهم. (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) مشدودة أيديهم إلى أعناقهم بالأصفاد (دَعَوْا هُنالِكَ) أي نادوا بأعلى أصواتهم يا ثبوراه أي يا هلاكاه أحضر فهذا وقت حضورك : فيقال لهم : خزيا وتبكيتا وتحسيرا : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ، فهذا أوآن هلاككم وخزيكم وعذابكم وهنا يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) لأولئك المشركين المكذبين بالبعث والجزاء : (أَذلِكَ) أي المذكور من السعير والإلقاء فيها مقرونة الأيدي بالأعناق وهم يصرخون يدعون بالهلاك (خَيْرٌ أَمْ) (٢) (جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي التي وعد الله تعالى بها عباده الذين اتقوا عذابه بالإيمان به وبرسوله وبطاعة الله ورسوله قطعا جنة الخلد خير ولا مناسبة بينها وبين السعير ، وإنما هو التذكير لا غير وقوله : (كانَتْ لَهُمْ) أي جنة الخلد كانت لأهل الإيمان والتقوى (جَزاءً) أي ثوابا ، (وَمَصِيراً) يصيرون إليه لا يفارقونه وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي فيها من أنواع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن وقوله : (خالِدِينَ). أي فيها لا يموتون ولا يخرجون ، وقوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي تفضل ربك أيها الرسول بها فوعد بها عباده المتقين وعدا يسألونه إياه فينجزه لهم فهم يقولون : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، والملائكة تقول ربنا (وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن مرد كفر الكافرين وظلم الظالمين وفساد المفسدين إلى تكذيبهم بالبعث والجزاء

__________________

(١) إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم فقد ورد مرفوعا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا. قيل يا رسول الله ولها عينان؟ قال : أما سمعتم الله عزوجل يقول : إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول : وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر ، الحديث صححه ابن العربي في القبس.

(٢) إن قيل : كيف قال : (أَذلِكَ خَيْرٌ) ولا خير في النار؟ قيل : هذا من باب قول العرب : الشقاء أحبّ إليك أم السعادة؟ وقد علم أنّ السعادة أحب إليه. قال حسان :

أتهجوه ولست له بكفىء

فشركما لخيركما الفداء

وقطعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا شرّ فيه البتة.

٦٠٣

في الدار الآخرة فإن من آمن بالبعث الآخر سارع إلى الطاعة والاستقامة.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر بوصف بعض ما يتم فيه من الجزاء بالنار والجنة.

٣ ـ فضل التقوى وأنها ملاك الأمر فمن آمن واتقى فقد استوجب الدرجات العلى جعلنا الله تعالى من أهل التقوى والدرجات العلى.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

شرح الكلمات :

(يَحْشُرُهُمْ) : أي يجمعهم

(وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن

(أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) : أي طريق الحق بأنفسهم بدون دعوتكم إياهم إلى ذلك.

(سُبْحانَكَ) : أي تنزيها لك عما لا يليق بجلالك وكمالك.

(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) : أي بأن أطلت أعمارهم ووسعت عليهم أرزاقهم.

(وَكانُوا قَوْماً بُوراً) : أي هلكى ، إذ البوار الهلاك.

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) : أي ومن يشرك منكم أيها الناس.

٦٠٤

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) : أي بليّة فالغني مبتلى بالفقير ، والصحيح بالمريض ، والشريف بالوضيع فالفقير يقول ما لي لا أكون كالغني والمريض يقول مالي لا أكون كالصحيح ، والوضيع يقول ما لي لا أكون كالشريف مثلا.

(أَتَصْبِرُونَ) : أي اصبروا على ما تسمعون ممّن ابتليتم بهم ، إذ الاستفهام للأمر هنا.

(وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) : أي بمن يصبر وبمن يجزع ولا يصبر.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر لها في القيامة إذ إنكار هذه العقيدة هو سبب كل شر وفساد في الأرض فقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ (١) وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي اذكر يا رسولنا يوم يحشر الله المشركين وما كانوا يعبدونهم من دوننا كالملائكة والمسيح والأولياء والجن. (فَيَقُولُ) لمن كانوا يعبدونهم (أَأَنْتُمْ (٢) أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي ما أضللتموهم ولكنهم ضلوا طريق الحق بأنفسهم فلم يهتدوا إلى عبادتي وحدي دون سواي. فيقول المعبودون (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك وتقديسا عن كل ما لا يليق بجلالك وكمالك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) (٣) أي لا يصح منا اتخاذ أولياء من دونك فندعو عبادك إلى عبادتهم فنضلهم بذلك ، (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) يا ربنا (وَآباءَهُمْ) من قبلهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق فانغمسوا في الشهوات والملاذ (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) (٤) أي نسوا ذكرك وعبادتك وما جاءتهم به رسلك فكانوا بذلك قوما بورا أي هلكى خاسرين.

وقوله تعالى : (فَقَدْ (٥) كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) (٦) يقول تعالى للمشركين فقد كذبكم من كنتم

__________________

(١) قرأ الجمهور : (نحشرهم) بالنون للعظمة ، و (يقول) بالياء وهو التفات من التكلم إلى الغيبة حسن. وقرأ حفص وغيره بالياء في (يَحْشُرُهُمْ) و (فَيَقُولُ) معا وقرأ بعض بالنون فيهما معا.

(٢) الاستفهام تقريري للاستنطاق والاستشهاد.

(٣) الأولياء جمع ولي بمعنى التابع فإن الولي يرادف المولى فيصدق على كلا طرفي الولاء أي : على السيد والعبد ، والناصر والمنصور والمراد هنا من الولي : التابع.

(٤) قيل : الذكر : القرآن ، وقيل : الشكر على الإحسان ، وما في التفسير أشمل.

(٥) الفاء الفصيحة إذ أفصحت على جواب شرط محذوف تقديره :

إن قلتم هؤلاء آلهتنا فقد كذبوكم بما تقولون ، وقد جاء التصريح بما يدل على القول المحذوف في قول عباس بن الأحنف.

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

(٦) قرأ الجمهور بالباء وقرأ حفص بالتاء : (تَقُولُونَ).

٦٠٥

تشركون به ، فقامت الحجة عليكم فأنتم الآن لا تستطيعون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا أي ولا تجدون من ينصركم فيمنع العذاب عنكم.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) هذا خطاب عام لسائر الناس يقول تعالى للناس ومن يشرك منكم بي أي يعبد غيري نذقه أي يوم القيامة عذابا كبيرا وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) أي يا رسولنا (مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي (١) الْأَسْواقِ) إذا فلا تهتم بقول المشركين ما لهذا الرسول يأكل الطعام ولا تحفل به فإنهم يعرفون ذلك ولكنهم يكابرون ويجاحدون.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (٢) أي هذه سنتنا في خلقنا نبتلي بعضهم ببعض فنبتلي المؤمن بالكافر والغني بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع ، وننظر من يصبر ومن يجزع ونجزي الصابرين بما يستحقون والجزعين كذلك.

وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ) هذا الاستفهام معناه الأمر أي اصبروا إذا ولا تجزعوا أيها المؤمنون من أذى المشركين والكافرين لكم. وقوله تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع فاصبر ولا تجزع فإنها دار الفتنة والامتحان وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ يالهول الموقف إذا سئل المعبودون عمن عبدوهم ، والمظلومون عمن ظلموهم.

٣ ـ براءة الملائكة والأنبياء والأولياء من عبادة من عبدوهم.

٤ ـ خطورة طول العمر وسعة الرزق إذ غالبا ما ينسى العبد بهما ربه ولقاءه.

٥ ـ تقرير أن الدنيا دار ابتلاء فعلى أولى الحزم أن يعرفوا هذا ويخلصوا منها بالصبر والتحمل في ذات الله حتى يخرجوا منها ولو كفافا لا لهم ولا عليهم.

__________________

(١) أخرج مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).

(٢) هذه الجملة تذييلية الغرض منها التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين من أجل ما يلاقون من عناد المشركين وأذاهم.

والاستفهام في : (أَتَصْبِرُونَ) معناه الحث على الصبر والأمر به نحو قوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

أي : عما حرّم من الخمر والميسر.

٦٠٦

الجزء التاسع عشر

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

شرح الكلمات :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : أي المكذبون بالبعث إذ لقاء العبد ربه يكون يوم القيامة.

(لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) : أي هلّا أنزلت علينا ملائكة تشهد لك بأنك رسول الله.

(أَوْ نَرى رَبَّنا) : أي فيخبرنا بأنك رسوله وأن علينا أن نؤمن بك.

(اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) : أي في شأن أنفسهم ورأوا أنهم أكبر شيء وأعظمه غرورا منهم.

(وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) : أي طغوا طغيانا كبيرا حتى طالبوا بنزول الملائكة ورؤية الرب تعالى.

(وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) : أي تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم البشرى.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا) : أي عمدنا إلى أعمالهم الفاسدة التي لم تكن على علم وإخلاص.

(هَباءً مَنْثُوراً) : الهباء ما يرى من غبار في شعاع الشمس الداخل من الكوى.

(وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) : المقيل مكان الاستراحة في نصف النهار في أيام الحر.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر أقوال المشركين من قريش فقال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ لا

٦٠٧

يَرْجُونَ لِقاءَنا) (١) وهم المكذبون بالبعث المنكرون للحياة الثانية بكل ما فيها من نعيم وعذاب (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا أنزل الله علينا الملائكة تشهد لمحمد بالنبوة (أَوْ نَرى (٢) رَبَّنا) فيخبرنا بأن محمدا رسوله وأن علينا أن نؤمن به وبما جاء به ودعا إليه. قال تعالى (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٣) أي وعزتنا وجلالنا لقد استكبر هؤلاء المشركون المكذبون بالبعث في شأن أنفسهم ورأوا أنهم شيء كبير وعتوا أي طغوا طغيانا كبيرا في قولهم هذا الذي لا داعي إليه إلا الشعور بالكبر ، والطغيان النفسي الكبير ، وقوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) أي الذين يطالبون بنزولهم عليهم ، وذلك يوم القيامة. لا بشرى يومئذ للمجرمين أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والظلم الفساد : (وَيَقُولُونَ) أي وتقول لهم الملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما (٤) عليكم البشرى بل هي للمؤمنين المتقين.

وقوله تعالى (وَقَدِمْنا (٥) إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً (٦) مَنْثُوراً) أي وعمدنا إلى أعمالهم التي لم تقم على مبدأ الإيمان والإخلاص والموافقة للشرع فصيرناها هباء منثورا كالغبار الذي يرى في ضوء الشمس الداخل مع كوة أو نافذة لا يقبض باليد ولا يلمس بالأصابع لدقته وتفرقه فكذلك أعمالهم لا ينتفعون منها بشيء لبطلانها وعدم الاعتراف بها.

وقوله تعالى (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي أهلها الذين تأهلوا لها بالإيمان والتقوى يومئذ أي يوم القيامة الذي كذب به المكذبون خير مستقرا أي مكان استقرار وإقامة وأحسن مقيلا (٧)

__________________

(١) (لِقاءَنا) أي : لا يخافون لقاءنا ولا يأملونه ولا يبالون به ، وهذا كلّه ناتج عن تكذيبهم بالبعث والدار الآخرة.

(٢) لما كانت الحياة الدنيا حياة ابتلاء امتنع أن يعطيهم ما طلبوا إذ لو أراهم الله تعالى نفسه أو أراهم ملائكته لآمنوا وبطل حينئذ التكليف الذي أقام تعالى عليه الحساب والجزاء مع أن رؤية الله لا يقدرون عليها لكن على فرض لو أقدرهم الله عليها.

(٣) العتو : أشد الكفر وأفحش الظلم.

(٤) حراما محرما أن يدخل الجنة إلّا من شهد أن لا إله إلا الله وأقام شرائع الله ، وكذلك الحال يوم القيامة لا بشرى يومئذ للمجرمين : ومن شواهد أنّ حجرا بمعنى محرما وحراما قول المتلمس :

حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها

حجر حرام الا تلك الدهاريس

الدهاريس : الدراهم.

(٥) (قَدِمْنا) : عمدنا قال الشاعر :

وقدم الخوارج والضلال

إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال

(٦) تصغير هباء : هبي وواحده : هبأة ، وهمز في هباء لالتقاء الساكنين وجمع هباة : أهباء.

(٧) المقيل : الذي يؤوى إليه في وقت القيلولة للاستراحة فيه وفي الحديث : (قيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل) وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له ما أطول هذا اليوم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا).

٦٠٨

أي مكان استراحة من العناء في نصف النهار أي خير وأحسن من أهل النار المشركين المكذبين وفي هذا التعبير إشارة إلى أن الحساب قد ينقضي في نصف يوم الحساب وذلك أن الله سريع الحساب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه غلاة المشركين من قريش من كبر وعتو وطغيان.

٢ ـ إثبات رؤية الملائكة عند قبض الروح ، ويوم القيامة.

٣ ـ نفي البشرى عن المجرمين وإثباتها للمؤمنين المتقين.

٤ ـ حبوط عمل المشركين وبطلانه حيث لا ينتفعون بشيء منه البتة.

٥ ـ انتهاء حساب المؤمنين قبل نصف يوم الحساب الذي مقداره خمسون ألف سنة.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

شرح الكلمات :

(بِالْغَمامِ) : أي عن الغمام وهو سحاب أبيض رقيق كالذي كان لبني إسرائيل في التيه.

(الْمُلْكُ) : أي الملك الحق لله ولم يبق لملوك الأرض ومالكيها ملك في شيء ولا لشيء.

(عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) : أي صعبا شديدا.

(يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) : أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله.

٦٠٩

(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى النجاة بالإيمان والطاعة.

(لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) : أي أبي بن خلف خليلا صديقا ودودا.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) : أي عن القرآن وما يدعو إليه من الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.

(وَكانَ الشَّيْطانُ) : شيطان الجن وشيطان الإنس معا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القيامة وبيان أحوال المكذبين بها فقال تعالى (وَيَوْمَ) أي اذكر (يَوْمَ تَشَقَّقُ (١) السَّماءُ (٢) بِالْغَمامِ) أي عن الغمام ونزّل الملائكة تنزيلا وذلك لمجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. وقوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) (٣) أي الثابت للرحمن عزوجل لا لغيره من ملوك الدنيا ومالكيها ، وكان ذلك اليوم يوما على الكافرين (٤) عسيرا لا يطاق ولا يحتمل ما فيه من العذاب والأهوال وقوله (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) أي المشرك الكافر بيان لعسر اليوم وشدته حيث يعض الظالم على يديه تندما وتحسرا وأسفا على تفريطه في الدنيا في الإيمان وصالح الأعمال .. يقول يا ليتني أي متمنيا : (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ (٥) سَبِيلاً) أي طريقا إلى النجاة من هول هذا اليوم وذلك بالإيمان والتقوى. وينادي مرة أخرى قائلا (يا وَيْلَتى) أي يا هلكتي احضري فهذا وقت حضورك ، ويتمنى مرة أخرى فيقول (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ (٦) فُلاناً خَلِيلاً) وهو شيطان من الإنس أو الجن كان قد صافاه ووالاه في الدنيا فغرر به وأضله عن الهدى. فقال في تحسر (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي القرآن بعد إذ جاءني من ربي بواسطة الرسول وفيه هداي

__________________

(١) قرأ نافع تشّقّقّ بتشديد الشين والقاف ، وقرأ حفص : (تَشَقَّقُ) بتخفيف الشين وأصلها تتشقق فمن حذف إحدى التائين للتخفيف قرأ بتخفيف الشين ومن أدغم التاء في الشين شدّدها.

(٢) الباء : بمعنى عن نحو : رميت بالقوس وعن القوس ، والغمام : سحاب أبيض رقيق مثل الضباب هو الذي قال تعالى فيه : (هل أن ينظرون إلّا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام).

(٣) (الْحَقُ) : نعت للملك. المبتدأ والخبر : الجار والمجرور ، والجملة تتضمن إبطال أي ملك لأحد سوى الرحمن عزوجل إذ هو الملك الحق والمالك الحق.

(٤) مفهوم الخطاب أنه على المؤمنين غير عسير فهو إذا يسير وهو كذلك.

(٥) أهل التفسير على أن هذا الظالم هو عقبة بن أبي معيط وأنّ خليله أميّة بن خلف ، فعقبة قتله علي في أسرى بدر وأمية قتله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان هذا من دلائل النبوة. لأنه أخبر عنهما بهذا فقتلا كافرين إلى النار.

(٦) هذا هو عقبة بن أبي معيط وفلان هو : أمية بن خلف. في الآية دليل على وجوب البعد عن قرناء السوء ، وفي الحديث الصحيح : (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إمّا أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة) رواه مسلم.

٦١٠

وبه هدايتي ، قال تعالى (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (١) أي يورطه ثم يتخلى عنه ويتركه في غير موضع وموطن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر البعث والجزاء وبذكر أحوالها وبعض أهوالها.

٢ ـ إثبات مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة.

٣ ـ تندم الظلمة وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان والطاعة لله ورسوله.

٤ ـ بيان سوء عاقبة موالاة شياطين الإنس والجن وطاعتهم في معصية الله ورسوله.

٥ ـ تقرير مبدأ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ عقبة بن أبي معيط هو الذي أطاع أبي بن خلف حيث آمن ، ثم لامه أبىّ بن خلف فارتد عن الإسلام فهو المتندم المتحسر القائل (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ...).

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

__________________

(١) الخذول : كثير الخذلان ، وخذله : إذا ترك نصرته وهو قادر عليها فالخذل والخذلان : معناهما : ترك نصر المستنجد مع القدرة على نصره.

٦١١

شرح الكلمات :

(مَهْجُوراً) : أي شيئا متروكا لا يلفت إليه.

(هادِياً وَنَصِيراً) : أي هاديا لك إلى طريق الفوز والنجاح وناصرا لك على كل أعدائك.

(جُمْلَةً واحِدَةً) : أي كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور دفعة واحدة فلا تجزئة ولا تفريق.

(لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) : أي نقوي قلبك لتتحمل أعباء الرسالة وإبلاغها.

(وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) : أي أنزلناه شيئا فشيئا آيات بعد آيات وسورة بعد أخرى ليتيسر فهمه وحفظه.

(شَرٌّ مَكاناً) : أي ينزلونه وهو جهنم والعياذ بالله منها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحوال البعث الآخر الذي أنكره المشركون وكذبوا فقال تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ :) (١) (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) هذه شكوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقومه إلى ربه ليأخذهم بذلك. وهجرهم للقرآن تركهم سماعه وتفهمه والعمل بما فيه.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ (٢) جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي وكما جعلنا لك أيها الرسول أعداء لك من مجرمي قومك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا من مجرمي قومه ، إذا فاصبر وتحمل حتى تبلغ رسالتك وتؤدي أمانتك ، والله هاديك إلى سبيل نجاحك وناصرك على أعدائك. وهذا معنى قوله تعالى (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً). وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال المكذبون بالبعث المنكرون للنبوة المحمدية المشركون بالله آلهة من الأصنام هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة مع بعضه بعضا لا مفرقا آيات وسورا أي كما نزلت التوراة جملة واحدة والإنجيل والزبور وهذا من باب التعنت منهم والاقتراحات التي لا معنى لها إذ هذا ليس من شأنهم ولا مما يحق لهم الخوض فيه ، ولكنه الكفر والعناد. ولما كان هذا مما قد يؤلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد تعالى عليهم

__________________

(١) الرسول : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكو المشركين من قومه إلى ربه تعالى يوم القيامة لتحق عليهم كلمة العذاب.

(٢) هذه الجملة تحمل العزاء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتسلية من جراء ما يجد من قومه المكذبين المعادين المحاربين ، ومعنى الآية : وكما جعلنا لك عدوا من قومك وهو أبو جهل جعلنا لكل نبي عدوا.

٦١٢

بقوله (كَذلِكَ) (١) أي أنزلناه كذلك منجما ومفرقا لحكمة عالية وهي تقوية قلبك وتثبيته لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به ونزوله مرة بعد مرة أنفع من نزول المطر دفعة واحدة. وقوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي أنزله مرتلا أي شيئا فشيئا ليتيسر حفظه وفهمه والعمل به.

وقوله تعالى (وَلا يَأْتُونَكَ (٢) بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ (٣) تَفْسِيراً) هذا بيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا لا جملة واحدة وهو أنهم كلما جاءوا بمثل أو عرض شبهة ينزل القرآن الكريم بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم ، وإلغاء شبهتهم ، وإحقاق الحق في ذلك وبأحسن تفسير لما اشتبه عليهم واضطربت نفوسهم فيه وقوله تعالى (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُ (٤) سَبِيلاً) أي أولئك المنكرون للبعث المقترحون نزول القرآن جملة واحدة هم الذين يحشرون على وجوههم تسحبهم الملائكة على وجوههم إلى جهنم لأنهم مجرمون بالشرك والتكذيب والكفر والعناد. أولئك البعداء شر مكانا يوم القيامة ، وأضل سبيلا في الدنيا ، إذ مكانهم جهنم ، وسبيلهم الغواية والضلالة والعياذ بالله من ذلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من هجروا القرآن الكريم فلم يسمعوه ولم يتفهموه ولم يعملوا به ، وشكواه إياهم إلى الله عزوجل.

٢ ـ بيان سنة الله في العباد وهي أنه ما من نبي ولا هاد ولا منذر إلا وله عدوّ من الناس وذلك لتعارض الحق مع الباطل ، فينجم عن ذلك عداء لازم من أهل الباطل لأهل الحق.

٣ ـ بيان الحكمة في نزول القرآن منجما شيئا فشيئا مفرقا.

٤ ـ بيان أن المجرمين يحشرون على وجوههم لا على أرجلهم إلى جهنم إهانة لهم وتعذيبا.

__________________

(١) جائز أن يكون كذلك من كلام المشركين : أي : لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك أي : كالتوراة والإنجيل فيتم الوقف على كذلك ثم يبتدىء (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) وما في التفسير أولى.

(٢) هذا كقولهم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) وقولهم (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) كل هذا الذي قالوه ردّ عليهم وأبطله بالحجج القوية فأسكتهم وأبطل دعاويهم.

(٣) أي : بما يقطع حجتهم ويلقمهم الحجر فلا يستطيعون الرد أو القول.

(٤) (سَبِيلاً) منصوب على التمييز المحول عن فاعل ، أي : ضلّت سبيلهم.

٦١٣

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : أي التوراة.

(وَزِيراً) : أي يشد أزره ويقويه ويتحمل معه أعباء الدعوة.

(إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) : هم فرعون وآله.

(لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) : أي نوحا عليه‌السلام.

(وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) : أي علامة على قدرتنا في إهلاك وتدمير الظالمين وعبرة للمعتبرين.

(وَعاداً وَثَمُودَ) : أي اذكر قوم عاد وثمود إلخ ..

(وَأَصْحابَ الرَّسِ) : الرس بئر رس فيها قوم نبيهم ، أي رموه فيها ودسوه في التراب.

(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) : أي ودمرنا بين من ذكرنا من الأمم قرونا كثيرا.

(تَبَّرْنا تَتْبِيراً) : أي دمرناهم تدميرا.

(الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) : هي سدوم قرية قوم لوط.

(لا يَرْجُونَ نُشُوراً) : أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء الآخر.

٦١٤

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) هذا شروع في عرض أمم كذبت رسلها وردت دعوة الحق التي جاءوا بها فأهلكهم الله تعالى ليكون هذا عظة للمشركين لعلهم يتعظون فقال تعالى وعزتنا لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب الذي هو التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي معينا ، فقلنا أي لهما (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم فرعون (١) وملأه فأتوهم فكذبوهما فدمرناهم (٢) تدميرا كاملا حيث أغرقوا في البحر ، وقوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) أي اذكر قوم نوح أيضا فإنهم لما كذبوا الرسل (٣) أي كذبوا نوحا ومن كذب رسولا فكأنما كذب عامة الرسل أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم للناس بعدهم آية أي عبرة للمعتبرين وقوله (وَأَعْتَدْنا) أي (٤) وهيأنا للظالمين في الآخرة عذابا أليما أي موجعا زيادة على هلاك الدنيا ، وقوله (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) (٥) أي أهلكنا الجميع ودمرناهم تدميرا لما كذبوا رسلنا وردوا دعوتنا ، وقرونا أي وأهلكنا قرونا بين ذلك الذي ذكرنا كثيرا.

وقوله (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي إقامة للحجة عليهم فما أهلكناهم إلا بعد الإنذار والإعذار لهم. وقوله (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا لتكذيبهم رسلنا وردهم دعوتنا. وقوله : (وَلَقَدْ (٦) أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي ولقد مر أي كفار قريش على القرية التي أمطرت مطر السوء أي الحجارة وهي قرى قوم لوط سدوم وعمورة وغيرهما فأهلكهم لتكذيبهم رسولهم وإيتانهم الفاحشة وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في سفرهم إلى الشام وفلسطين. فيعتبروا بها فيؤمنوا وهو استفهام تقريري وإذ كانوا يمرون بها ولكنهم لم يعتبروا لعلة وهي أنهم لا يؤمنون بالبعث الآخر وهو معنى قوله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٧) فالذي لا يرجو أن يبعث ويحاسب ويجزى لا يؤمن ولا يستقيم أبدا.

__________________

(١) فرعون وهامان والقبط.

(٢) في الآية حذف وهو : ما قدرناه في التفسير أي فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.

(٣) ذكر الجنس وهو الرسل والمراد نوح وحده لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلّا نوح وحده.

(٤) وجائز أن يكون معنى الآية : هذه سبيلي في كل ظالم آخذه في الدنيا بالدمار والهلاك.

(٥) (الرَّسِ) : في اللغة البئر تكون غير مطوية والجمع رساس قال الشاعر :

تنابلة يحفرون الرسّاسا

يريد آبار المعادن.

(٦) اقتران الخبر بلام القسم لإفادة معنى التعجب من عدم اعتبارهم.

(٧) النشور : مصدر نشر الميت : أحياه قال الشاعر :

يا لبكر أنشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار

٦١٥

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم بعد الإنذار والإعذار إليها.

٢ ـ بيان عاقبة المكذبين وما حل بهم من دمار وعذاب.

٣ ـ بيان علة تكذيب قريش للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به وهي تكذيبهم بالبعث والجزاء فلهذا لم تنفعهم المواعظ ولم تؤثر فيهم العبر.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

شرح الكلمات :

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) : أي ما يتخذونك.

(إِلَّا هُزُواً) : أي مهزوءا به.

(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) : أي في دعواه لا أنهم معترفون برسالته والاستفهام للتهكم والاحتقار.

(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) : أي قارب أن يصرفنا عن آلهتنا.

(لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) : أي لصرفنا عنها.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أي أخبرني عمن جعل هواه معبوده فأطاع هواه. فهل تقدر على هدايته.

٦١٦

(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) : أي ما هم إلا كالأنعام في عدم الوعي والإدراك.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) يخبر تعالى رسوله عن أولئك (١) المشركين المكذبين بالبعث أنهم إذا رأوه في مجلس أو طريق ما يتخذونه إلا هزوا أي مهزوءا به احتقارا وازدراء له فيقولون فيما بينهم ، (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ (٢) رَسُولاً) وهو استفهام احتقار وازدراء لأنهم لا يعتقدون أنه رسول الله ويقولون (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) أي يصرفنا عن عبادة آلهتنا لو لا أن صبرنا وثبتنا على عبادتها. وهذا القول منهم ناتج عن ظلمة الكفر والتكذيب بالبعث وقوله تعالى (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) في الدنيا أو في الآخرة أي عند ما يعاينون العذاب يعرفون من كان أضل سبيلا هم أم الرسول والمؤمنون ، وفي هذا تهديد ووعيد بقرب عذابهم وقد حل بهم في بدر فذلوا وأسروا وقتلوا وتبين لهم أنهم أضل سبيلا من النبىّ وأصحابه. وقوله تعالى لرسوله وهو يسليه ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته (أَرَأَيْتَ (٣) مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أخبرني عمن جعل معبوده هواه فلا يعبد غيره فكلما اشتهى شيئا فعله بلا عقل ولا روية ولا فكر فقد يكون لأحدهم حجر يعبده فإذا رأى حجرا أحسن منه عبده وترك الأول فهذا لم يعبد إلا هواه وشهوته فهل مثل هذا الإنسان الهابط إلى مستوى دون البهائم تقدر على هدايته يا رسولنا؟ (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي حفيظا تتولى هدايته أم أنك لا تقدر فاتركه لنا يمضي فيه حكمنا.

وقوله (أَمْ تَحْسَبُ) أيها الرسول أن أكثر هؤلاء المشركين يسمعون (٤) ما يقال لهم ويعقلون ما يطلب منهم إن هم إلا (٥) كالأنعام فقط بل هم أضل (٦) سبيلا من الأنعام إذ الأنعام

__________________

(١) جواب (إِذا رَأَوْكَ) قوله : (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً).

(٢) (رَسُولاً) منصوب على الحال ، والعائد محذوف تقديره ، بعثه الله حال كونه رسولا.

(٣) الاستفهام للتعجيب أي : عجب الله تعالى رسوله من حال المشركين أي : من إضمارهم الشرك وإصرارهم عليه مع إصرارهم أن الله تعالى خالقهم ورازقهم ثم يعمد أحدهم إلى حجر يعبده. قال ابن عباس : الهوى إنه يعبد من دون الله ثم تلا هذه الآية : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وقد كان الرجل منهم إذا هوى شيئا عبده حتى إنه ليعبد الحجر أيّاما ثم يرى غيره فيترك الأول ويعبد الثاني.

(٤) أي : سماع قبول أو يتفكرون فيما تقول فيعقلونه.

(٥) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها في جواب سؤال لأنّ ما تقدّمها في إنكار سمعهم يثير في النفس سؤالا عن نفي سماعهم وفهمهم فأجيب (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ).

(٦) هم أضل من الأنعام لأنّ البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك بخلاف هؤلاء المشركين.

٦١٧

تعرف طريق مرعاها وتستجيب لنداء راعيها وهم على خلاف ذلك فجهلوا ربهم الحق ولم يستجيبوا لنداء رسوله إليهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلاقي في سبيل الدعوة من سخرية به واستهزاء.

٢ ـ يتجاهل الإنسان الضال الحق وينكره حتى إذا عاين العذاب عرف ما كان ينكر ، وآمن بما كان يكفر.

٣ ـ هداية الإنسان ممكنة حتى إذا كفر بعقله وآمن بشهوته وعبد هواه تعذرت هدايته وأصبح أضل من الحيوان وأكثر خسرانا منه.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) : أي ألم تنظر إلى صنيع ربك في الظل كيف بسطه. ولو شاء الله لجعله ساكنا : أي ثابتا على حاله في الطول والامتداد ولا يقصر ولا يطول.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) : أي علامة على وجوده إذ لو لا الشمس لما عرف الظل.

٦١٨

(ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) : أي أزلناه بضوء الشمس على مهل جزءا فجزءا حتى ينتهي.

ثم جعلنا الليل لباسا : أي يستركم بظلامه كما يستركم اللباس.

(وَالنَّوْمَ سُباتاً) : أي راحة لأبدانكم من عناء عمل النهار.

(وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) : أي حياة إذ النوم بالليل كالموت والانتشار بالنهار كالبعث.

(بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : أي مبشرة بالمطر قبل نزوله ، والمطر هو الرحمة.

(ماءً طَهُوراً) : أي تتطهرون به من الأحداث والأوساخ.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : أي بالزروع والنباتات المختلفة.

(أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) : أي حيوانا وأناسا كثيرين.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) : أي المطر فينزل بأرض قوم ولا ينزل بأخرى لحكم عالية.

(لِيَذَّكَّرُوا) : أي يذكروا فضل الله عليهم فيشكروا فيؤمنوا ويوحدوا.

(فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) : أي فلم يذكروا وأبى أكثرهم إلا كفورا جحودا للنعمة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلى (١) رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (٢) هذا شروع في ذكر مجموعة من أدلة التوحيد وهي مظاهر لربوبية الله تعالى المقتضية لألوهيته فأولا الظل وهو المشاهد من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس وقد مدّه الخالق عزوجل أي بسطه في الكون ، ثم تطلع الشمس فتأخذ في زواله وانكماشه شيئا فشيئا ، ولو شاء الله تعالى لجعله ساكنا لا يبارح ولا يغادر ولكنه حسب مصلحة عباده جعله يتقاصر ويقبض حتى تقف الشمس في كبد السماء فيستقر ثم لما تدحض الشمس مائلة إلى الغروب يفيء أي يرجع شيئا فشيئا فيطول تدريجيا لتعرف به ساعات النهار وأوقات الصلوات حتى يبلغ من الطول حدا كبيرا كما كان في أول النهار ثم يقبض قبضا يسيرا خفيا سريعا حين تغرب الشمس ويغشاه ظلام الليل. هذه آية من آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته بعباده تجلت في الظل الذي

__________________

(١) جائز أن تكون الرؤية هنا بصرية وعلمية معا إذ بالعين يشاهد الظل وزواله وبالقلب يعلم ذلك كذلك.

(٢) الظل بالغداء والفيء بالعشي قال الشاعر :

فلا الظل من برد الضحا نستطيعه

ولا الفيء من برد العشي نذوق

٦١٩

قال تعالى فيه (أَلَمْ تَرَ) أيها الرسول أي تنظر إلى صنيع ربك جل جلاله (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ينتقل ، (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) إذ بضوءها يعرف ، فلو لا الشمس لما عرف الظل وقوله تعالى (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) حسب سنته ففي خفاء كامل وسرعة تامة يقبض الظل نهائيا ويحل محله الظلام الحالك.

وثانيا : في الليل والنهار قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) (١) أي ساترا يستركم بظلامه كما تستركم الثياب ، (وَالنَّوْمَ (٢) سُباتاً) أي وجعل النوم قطعا للعمل فتحصل به راحة الأبدان (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٣) أي حياة بعد وفاة النوم فيتنشر فيه الناس لطلب الرزق بالعمل بالأسباب والسنن التي وضع الله تعالى لذلك.

وثالثا : إرسال الرياح للقاح السحب للإمطار لإحياء الأرض بعد موتها بالقحط والجدب قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) (٤) هو لا غيره من الآلهة الباطلة (أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي مبشرات بالمطر متقدمة عليه وهو الرحمة وهي بين يديه فمن يفعل هذا غير الله؟ اللهم إنه لا أحد.

ورابعا : إنزال الماء الطهور العذب الفرات للتطهير به وشرب الحيوان والإنسان قال تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٥) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي إبلا وبقرا وغنما (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وأناسا كثيرين وهم الآدميون ففي خلق الماء وإنزاله وإيجاد حاجة في الحيوان والإنسان إليه ثم هدايتهم لتناوله وشربه كل هذا آيات الربوبية الموجبة لتوحيد الله تعالى.

وخامسا : تصريف المطر بين الناس فيمطر في أرض ولا يمطر في أخرى حسب الحكمة الإلهية والتربية الربانية. قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ (٦) بَيْنَهُمْ) أي بين الناس كما

__________________

(١) قال ابن العربي ظنّ بعض الجهال أن كون الليل لباسا يجزىء من صلى فيه عاريا وهو لا يجزىء ولو أجزأ لأجزأ من أغلق باب غرفته وصلى عريانا.

(٢) أصل السبت : القطع والتمدد فهو بانقطاع البدن عن العمل تحصل له الراحة لذا قيل للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون ، وفي التمدد معنى الراحة.

(٣) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح يقول : (الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور).

(٤) قيل : إن تكوين الرياح سببه التقاء حرارة جانب من الجو ببرودة جانب آخر تنشأ السحب.

(٥) أكثر الفقهاء على أنّ الماء الطهور غير الطاهر فالطهور : هو الذي تزال به الأحداث بخلاف الطاهر فلذا كل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا.

(٦) وجائز أن يراد بقوله (صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) القرآن الكريم إذ جرى ذكره أول السورة وفي أثنائها أيضا.

٦٢٠