أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.

٢ ـ تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.

٣ ـ تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون.

٤ ـ الإعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه ، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادرا على ذلك فإن عجز فهو معذور.

(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

شرح الكلمات :

(اخْسَؤُا) : أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.

(فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) : هم المؤمنون المتقون.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) : أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.

(بِما صَبَرُوا) : أي على الإيمان والتقوى.

(هُمُ الْفائِزُونَ) : أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.

٥٤١

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١) هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (٢) وعلل تعالى لحكمه فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين يقوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وهو فريق المؤمنين المتقين (٣) يقولون (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح أعمالهم ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا وتسخرون (٤) منهم (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ) بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. (أَنَّهُمْ (٥) هُمُ الْفائِزُونَ) برضواني في جناتي لا غيرهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ).

٢ ـ فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.

٣ ـ حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.

٤ ـ فضيلة الصبر ولذا ورد أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.

__________________

(١) أي : أبعدوا في جهنم كما يقال لكلب : اخسأ أي : أبعد ، يقال : خسأ الكلب وأخساه لازم ومتعدّ. يروي عن ابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثمّ يرد عليهم (إنكم ماكثون) والصحيح أنه يجيبهم بعد ألف سنة ، وعندها ينقطع رجاؤهم ودعاؤهم ويقبل بعضهم على بعض فيتنابحون كالكلاب وقد أطبقت عليهم النار.

(٢) الظلم : وضع الشي في غير موضعه وعابد غير الله تعالى واضع العبادة في غير موضعها فلذا هو ظالم. والشرك : ظلم عظيم.

(٣) كبلال وصهيب وعمّار وخباب من فقراء المسلمين الذين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم ويسخرون منهم.

(٤) في الآية دليل على حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به.

(٥) قرىء بفتح الهمزة أي : لأنهم هم الفائزون وقرىء بكسرها على الابتداء.

٥٤٢

(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

شرح الكلمات :

(كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياء وأمواتا في قبوركم؟.

(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) : يريدون الملائكة التي كانت تعد ، وهم الكرام الكاتبون أو من يعد أما نحن فلم نعرف.

(خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) : أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) : أي تنزه الله عن العبث.

(لا بُرْهانَ لَهُ) : الجملة صفة ل «إلها آخر» لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.

(حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) : أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى : (قالَ كَمْ

٥٤٣

لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتا في قبوركم؟ فأجابوا قائلين (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ (١) يَوْمٍ فَسْئَلِ (٢) الْعادِّينَ) أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم ، وهذا الإضطراب منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولا وثانيا أهوال الموقف وصعوبة الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وقوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣) هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا ، فمدة حياتهم وموتهم إلى بعثهم ما هي إلا قليل وقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ (٤) أَنَّما خَلَقْناكُمْ (٥) عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يخلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب والنكاح كما هو ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله تعالى : (فَتَعالَى (٦) اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي لا معبود بحق إلا هو (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض ، ولم لا يكون العرش كريما وعظيما ومالكه جل جلاله هو مصدر كل كرم وخير وعظمة.

__________________

(١) هذا السؤال موجه للمشركين في عرصات القيامة ، والسؤال عن ليثهم في قبورهم وجائز أن يكون عن مدة حياتهم في الدنيا.

(٢) قيل : أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في قبورهم ، وقيل : استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده.

(٣) هذا بالنظر إلى الدار الآخرة لا يعتبر شيئا يذكر.

(٤) روي بضعف ان ابن مسعود مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه : (أَفَحَسِبْتُمْ) الآية إلى (الرَّاحِمِينَ) فبرأ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(ما ذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال).

(٥) أي : مهملين كما خلق البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها كقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).

(٦) (فتعالى الله) : أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد ، وعن أن يخلق شيئا عبثا أو سفها.

٥٤٤

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ) أي ومن يعبد مع الله إلها آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء أو النذر والذبح ، وقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ) أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده ، ومن أين يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر خسرانا مبينا لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبدا فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة بل حسبهم جهنم وبئس المهاد. وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) (١) أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء : رب اغفر لي وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين فأنت خير الغافرين والراحمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم هول يوم القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.

٢ ـ تنزه الله تعالى عن العبث واللهو واللعب.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ كفر وشرك من يدعو مع الله إلها آخر.

٥ ـ الحكم بخسران الكافرين وعدم فلاحهم.

٦ ـ استحباب الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.

__________________

(١) نظرت إلى حذف المفعول في : اغفر وارحم فانقدح في نفسي أن لحذفه سرا وهو : أن يكون عاما في المؤمنين والمؤمنات لقوله تعالى : (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات).

٥٤٥

سورة النّور (١)

مدنية وآياتها أربع وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

شرح الكلمات :

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) : أي هذه سورة أنزلناها.

(وَفَرَضْناها) : أي فرضنا ما فيها من أحكام.

(وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججا واضحات تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.

(الزَّانِيَةُ) : من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.

(مِائَةَ جَلْدَةٍ) : أي ضربة على جلد ظهره.

(رَأْفَةٌ) : شفقة ورحمة.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) : أي اقامة الحد عليهما.

__________________

(١) روي أن عمر رضي الله عنه : كتب يوما إلى أهل الكوفة. علّموا نساءكم سورة النور. كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور ، والغزل.

٥٤٦

(طائِفَةٌ) : أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى من الثلاثة.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) : أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلّا على مثله (١).

معنى الآيات :

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَفَرَضْناها) أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه وآداب وأخلاق وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ (٢) وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَ (٣) واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حرّان غير محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر عضوا أي جلدا غير مبرح ، وزادت السنة تغريب سنة ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) ، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حدّ الله تعالى وتحرموهما من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي فأقيموا عليهما الحد وقوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي إقامة الحد (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.

وقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها ، والزانية أيضا لا يطأها إلا زان مثلها أو مشرك (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا نزوج زانيا من عفيفة إلا بعد توبته (٤) ، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها (٥).

__________________

(١) أي : إلا مثل الواطىء يريد الزاني بالزانية والمشرك بالمشركة.

(٢) قرأ الجمهور برفع الزانية وقرأ : عيسى الثقفي بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه نحو : زيدا أضربه ، وتقدير الرفع : مما يتلى عليكم الزانية والزاني. على تقديم الخبر ، وقدمت الزانية لأنّ الزنى في النساء أعرّ وأقبح وأضر للحمل ، وال : في الزانية والزاني : للجنس ليعم سائر الزناة ، على مرور الأعصر والأيام.

(٣) لا خلاف في أنّ الذي يقوم بإقامة هذا الحد هو الإمام أو نائبه والسادة في العبيد ، وأن السوط يكون بين اللين والشدة وسطا بينهما ، ولا يتعدى هذا الحد إلا أن يجرؤ الناس على الجرائم ويكثر الشر والفساد فيعزرون بما يردعهم.

(٤) قيل : إن هذه الآية منسوخة بآية : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) وما في التفسير أولى وأظهر وبه العمل.

(٥) الجمهور على أن من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة وإذا زنت امرأة الرجل أو زنى هو لا يفسد نكاحهما.

٥٤٧

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرجم إن كانا حرين أو جلد خمسين (١) جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.

٢ ـ وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.

٣ ـ لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته ، ولا الزانية إلا بعد توبتها.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

شرح الكلمات :

(يَرْمُونَ) : أي يقذفون.

(الْمُحْصَناتِ) : أي العفيفات والرجال هنا كالنساء.

(فَاجْلِدُوهُمْ) : أي حدا عليهم واجبا.

(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) : لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) : فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.

معنى الآيتين :

بعد بيان حكم الزناة بين تعالى حكم القذف فقال : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) (٢) أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط

__________________

(١) لقوله تعالى من سورة النساء (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) والمراد به : الإماء والعبيد مثلهن ، ولما كان الموت لا ينصّف فعلم أنه الجلد خمسين جلدة.

(٢) قيل : خص النساء بهذا وإن كان الرجال يشاركونهن في الحكم لأنّ القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ومن حيث هو هوى الرجال.

٥٤٨

فيقذفه بهذه الكلمة (١) الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهودا أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية : وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي عن طاعة الله ورسوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) فيغفر لهم بعد التوبة (رَحِيمٌ) بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعد ما تابوا منه.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان حد القذف وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمنا أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغا عاقلا (٢) مسلما عفيفا أي لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها (٣).

٢ ـ سقوط عدالة القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.

٣ ـ قبول (٤) توبة التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)

__________________

(١) اختلف في التعريض هل يوجب الحد أو لا؟ فما لك يرى إيجابه إذا حصلت المعرة بالتعريض وإلا فلا وأخذ التعريض من آية : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قاله قوم شعيب لنبيهم شعيب عليه‌السلام تعريضا به لا مدحا له ومن أمثلة التعريض قول الشاعر :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

شبهه بالنساء.

وقال آخر :

قبيلة لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبّة خردل

اتهم القبيلة بالضعف وهو من أحوال النساء.

(٢) للقذف شروط تسعة : العقل والبلوغ وهما للقاذف والمقذوف سواء إذ هما شرط التكليف ، وشرطان في الشيء المقذوف به وهما أن يكون القذف بوطىء يوجب الحد وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه وخمسة في المقذوف وهي : العقل والبلوغ كما تقدّم والاسلام والحرية والعفة.

(٣) الجمهور على أنه لا حد على من قذف كتابيا ذكرا أو أنثى والاجماع على عدم إقامة الحد على من قذف كافرا لأنه لا يحرم الزنى فكيف يحد على من قذف به؟.

(٤) إن شهد أربعة وأقيم الحد على المقذوف ثم أقرّ أحد الشهود بأنه كان كاذبا فإن لأولياء الدم بين قتله وبين العفو عنه وبين أخذ ربع الدية منه. هذا مذهب مالك وبه قال أحمد رحمهما‌الله تعالى.

٥٤٩

وَالْخامِسَةُ أَنَّ (١) لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

شرح الكلمات :

(يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) : أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها ليس منه.

(إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) : أي فيما رماها به من الزنى.

(وَالْخامِسَةُ) : أي والشهادة الخامسة.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) : أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.

(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) : أي شهادتها أربع شهادات.

(وَالْخامِسَةَ) : هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.

معنى الآيات :

بعد بيان حكم حد القذف (٢) العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ (٣) أَزْواجَهُمْ) أي بالفاحشة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) (٤) أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع (٥) شهادات قائلا : أشهد (٦) بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس لي ويلتعن فيقول في الخامسة (لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي فيما رمى به زوجته. وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم ، أو تشهد أربع شهادات بالله أنها ما زنت ، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله

__________________

(١) قرأ الجمهور بتشديد (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) بلفظ المصدر في (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) وتقدر باء الجر قبل أنّ لأنها هي التي اقتضت فتح أنّ ، وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب بصيغة الماضي.

(٢) ويعرف باللعان : لأن كلا من الزوجين يلعن نفسه إن كان كذبا.

(٣) نزلت هذه الآيات في قضية عويمر العجلاني مع زوجته خولة بنت عاصم أو قيس. فقد جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك) فاذهب فأت بها فأتى بها وتلاعنا وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك.

(٤) حذف متعلق شهداء لظهوره من السياق أي : شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.

(٥) قامت الأربع شهادات مقام أربعة شهود الذين لا بد منهم في القذف بالفاحشة خاصة فشهادة القتل والسرقة وغيرها يكتفى بشاهدين وفي القذف لا بد من أربعة شهود.

(٦) سميت الأيمان هنا شهادة لأنها أقيمت مقام الشهود وأصبحت بدلا عنها.

٥٥٠

فتقول (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به ، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ (١) عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) جواب لو لا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد الكاذبين : ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا التشريع العادل الرحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم قذف الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.

٢ ـ بيان كيفية اللعان ، وأنه موجب لإقامة الحد ، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء عليها في الخامسة وقولها (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

٣ ـ في مشروعية اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)

__________________

(١) هذا تذييل لما مرّ من الأحكام العظيمة الدالة على تفضل الله على عباده المؤمنين بأفضل تشريع وأحسن حل لأخطر مشكلة اجتماعية.

٥٥١

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))

شرح الكلمات :

(بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ) : الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب ، والعصبة الجماعة.

(شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : الشر ما غلب ضرره على نفعه ، والخير ما غلب نفعه على ضرره ، والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) : أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.

(لَوْ لا) : أداة تحضيض وحث بمعنى هلّا.

(فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) : أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) : أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) : أي من صغائر الذنوب وهو عند الله من كبائرها لأنه عرض مؤمنة هي زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(سُبْحانَكَ) : كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.

(بُهْتانٌ عَظِيمٌ) : البهتان الكذب الذي يحيّر من قيل فيه.

(يَعِظُكُمُ اللهُ) : أي ينهاكم نهيا مقرونا بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبدا.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عدا إذ طائفة الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلا بعد جيل إلى اليوم إذ ورّث فيهم رؤوساء الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءا كبيرا سموه شيعة آل البيت تضليلا وتغريرا فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم

٥٥٢

الخوف من النار فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا شرف زوجها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنسبة زوجه إلى الفاحشة.

وخلاصة الحادثة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى غزوة بني المصطلق أو المريسيع ، ولما كان عائدا منها وقارب المدينة النبوية نزل ليلا وارتحل ، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضى الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه ، وما هي فيه ، لأنها ذكرت عقدا لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها وما زالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضى الله عنه وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيدا عنه حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أو ضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون آسفا لتخلف عائشة عن الركب قالت رضى الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المعسكر ، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وبراءة صفوان رضى الله عنه ، ومن خلال شرح الآيات تتضح جوانب القصة.

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ (١) جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) (٢) أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا القضية فلذا كان كذبهم إفكا وقوله : (عُصْبَةٌ) أي جماعة لا يقل عادة عددهم على عشرة أنفار إلا أن الذين روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر

__________________

(١) هذا كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا ، والإفك : الكذب الخالص الذي لا شبهة فيه يفاجأ به المرء فيبهته فيصير بهتانا وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو القلب ومن صوره أن يقال في الصادق كاذب والطاهر خبيث ونحو ذلك.

(٢) عصبة : خبر إنّ ، والعصبة : الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.

٥٥٣

مات على كفره ونفاقه ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها وحسان بن ثابت رضى الله عنه ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه ويعفو عنه.

وقوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ (١) مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة الله.

وقوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ (٢) ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم فقال عزوجل : (لَوْ لا) أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك ظننتم بأنفسكم خيرا إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة ، وقلتم لن يكون هذا وإنما هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم. وقوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ (٣) عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن جاء بالافك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلا عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في حكم الله. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ (٤) اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ (٥) فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) هذه منة من الله تحمل أيضا عتابا واضحا إذ بولوغكم في عرض أم المؤمنين ، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لو لا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم العذاب العظيم. وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يتلقاه بعضكم من بعض ، (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهذا عتاب وتأديب. وقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) ، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت أجمعين.

__________________

(١) الكبر : بكسر الكاف قراءة الجمهور ومعناه : أشد الشيء ومعظمه ، وقرىء كبره بضم الكاف.

(٢) كلام مستأنف مسوق لتوبيخ العصبة وفيه تربية للمسلمين وإرشاد لهم لما ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.

(٣) (لَوْ لا) : هذه مثل سابقتها حرف تحريض.

(٤) لو لا هذه حرف امتناع لوجود ، امتنع مس العذاب لوجود فضل الله ورحمته.

(٥) الإفاضة في القول : التوسع فيه مشتقة من إفاضة الماء على العضو.

٥٥٤

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ (١) قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه. وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع (سُبْحانَكَ) أي يا رب (بِهذا) أي الإفك (بُهْتانٌ عَظِيمٌ) بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.

وقوله : (يَعِظُكُمُ (٢) اللهُ) أي ينهاكم الله مخوفا لكم بذكر العقوبة الشديدة (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي طول الحياة فإياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقا وصدقا فلا تعودوا لمثله أبدا. وقوله : (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ قضاء الله تعالى للمؤمن كله خير له.

٢ ـ بشاعة الإفك وعظيم جرمه.

٣ ـ العقوبة على قدر الجرم كبرا وصغرا قلة وكثرة.

٤ ـ واجب المؤمن أن لا يصدق من يرمي مؤمنا بفاحشة ، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء على قولك فإن قال لا قال له إذا أنت عند الله من الكاذبين.

٥ ـ حرمة القول بدون علم والخوض في ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ

__________________

(١) (لَوْ لا) هنا بمعنى : هلا وهي للتوبيخ.

(٢) قال مالك : من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ومن سبّ عائشة كفر لأن عائشة برأها الله تعالى فمن سبّها بغير الفاحشة أدّب ومن سبّها بالفاحشة كفر لأنه كذّب الله تعالى.

٥٥٥

اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) : أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : جواب لو لا محذوف تقديره : لعاجلكم بالعقوبة أيها العصبة.

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : نزغاته ووساوسه.

(ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) : أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) : أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضى الله عنه.

(وَالسَّعَةِ) : أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.

معنى الآيات :

ما زال السياق في عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ (١) أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي تنتشر وتشتهر (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) أي في المؤمنين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم يتوبوا بإدخالهم نار جهنم ، وكفى بهذا الوعد زاجرا ورادعا وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين ، وأوجب رد الأمور إليه تعالى وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك

__________________

(١) روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (أيما رجل شد عضد امرىء من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع ، وأيما رجل قال شفاعة دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتتابع إلى يوم القيامة ، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء أن يشقيه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يرميه بها في النار ، ثم تلا مصداقه من كتاب الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) الآية.

٥٥٦

لعلمه المحيط بكل شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لهلكتم (١) بجهلكم وسوء عملكم. ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا (٢) خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر ، ففاصلوا هذا العدو ، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه وتعالى وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) وهذه منة أخرى وهي أنه لو لا فضل (٣) الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد ، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم ، فعلى الذين شعروا بكمالهم ؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم وأن يقللوا من لومهم وعتابهم ، فإنه لو لا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه اخوانهم ، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعا لله وشكرا له. وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب التزكية منه ، وهو تعالى يزكي من كان أهلا للتزكية ، ومن لا فلا ، لأنه السميع لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه والتذلل وقوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ (٤) مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ (٥) أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة

__________________

(١) (لهلكتم) هو جواب لو لا المحذوف والسر في حذفه أن تذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام والسياق.

(٢) في الآية إشارة أفصح من عبارة وهي : أنّ الظنون السيئة وحب الفاحشة وحب إشاعتها بين المؤمنين كل هذا من وساوس الشيطان وتزيينه للناس للفتنة والإفساد.

(٣) لو لا هنا : حرف امتناع لوجود امتنع عدم التزكية لوجود فضل الله تعالى ورحمته ، والجملة سيقت للامتنان على المؤمنين ليشكروا.

(٤) روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العشر آيات ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال في عائشة فأنزل الله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) إلى قوله (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدا. قال ابن المبارك. هذه أرجى آية في كتاب الله.

(٥) الفضل : الزيادة وهي ضد النقص. والسعة : الغنى والائتلاء : الحلف مأخوذ من الألية التي هي الحلف.

٥٥٧

وهو ابن خالته ، وكان رجلا فقيرا من المهاجرين ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما كان يرفده به من طعام وشراب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولى القربى أي أن يعطوا أصحاب القرابة ، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح ، وليعفوا أي وعليهم أن يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين ، وليصفحوا أي يعرضوا عما قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم ويسوءهم ولا سيما وقد تابوا وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ (١) اللهُ لَكُمْ؟) فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح وعفا وسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح. وتقرر بذلك أن من حلف يمينا على شيء فرأى غيره خيرا منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير.

وقوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره ، ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لقبح فاحشة الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أمورا منها وضع حد شرعي لها ، ومنع تزويج الزاني من عفيفة أو عفيفة من زان إلا بعد التوبة ، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين ، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين ، ومنها حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين. ومنها وجوب الإستئذان عند دخول البيوت المسكونة ، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية ، ومنها احتجاب المؤمنة عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها. ومنها وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم ، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.

__________________

(١) (أَلا تُحِبُّونَ) : الاستفهام للإنكار وهو مستعمل في التحضيض والحث على السعي تحصيلا للمغفرة بالعفو والصفح.

٥٥٨

٢ ـ حرمة إتباع الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.

٣ ـ متابعة الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر.

٤ ـ على من حفظهم الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى لا من أنفسهم.

٥ ـ من حلف على شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خير منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.

٦ ـ وجوب العفو والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

شرح الكلمات :

(يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) : أي العفيفات بالزنى.

(الْغافِلاتِ) : أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.

(الْمُؤْمِناتِ) : أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.

(يَعْمَلُونَ) : أي من قول أو عمل.

(يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) : أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.

(الْخَبِيثاتُ) : الخبيثات من النساء والكلمات.

٥٥٩

(لِلْخَبِيثِينَ) : للخبيثين من الرجال

(وَالطَّيِّباتُ) : من النساء والكلمات.

(لِلطَّيِّبِينَ) : أي من الرجال.

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) : أي صفوان بن المعطل وعائشة رضى الله عنهما أي مبرءون مما قاله عصبة الإفك.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ (١) الْمُحْصَناتِ (٢) الْغافِلاتِ (٣) الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هذه الآية وإن تناولت ابتداء عبد الله بن أبي فإنها عامة في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها (لُعِنُوا) أي أبعدوا من الرحمة الإلهية (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار ، وذلك (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من سوء الأفعال وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ (٤) يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق (٥) المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له والعبودية الكاملة له لا لغيره.

وقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) (٦) أي الخبيثات من النساء (٧) والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي ، (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعائشة رضى الله عنها وقوله : (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد للخبر السابق وقوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا

__________________

(١) هذه الجملة مستأنفة كجملة : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ..) وكلتا الجملتين تفصيل للموعظة في قوله تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(٢) الإجماع على أنّ حكم المحصنين من الرجال كالمحصنات من النساء في القذف بلا فرق قياسا واستدلالا وحكما وقضاء.

(٣) (الْغافِلاتِ) : هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به وذلك لسلامة صدورهن وبعدهن ـ بحكم إيمانهنّ ـ عن مواطن الريب.

(٤) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.

(٥) لوصف الله تعالى بالحق له معنيان جليلان. الأوّل : أنه بمعنى : الثابت الحق لأنّ وجوده واجب فذاته حق إذ لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. والثاني : أنه تعالى ذو الحق الواجب له على عباده وهو عبادته وحده دون سواه.

(٦) الابتداء بذكر الخبيثات لأنّ الغرض من الكلام الاستدلال على براءة عائشة أم المؤمنين واللام في للخبيثين : للاستحقاق.

(٧) المراد من الخبث والطيب : الصفات النفسية. الفواحش : صفات خبث والفضائل صفات طهر.

٥٦٠