أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

شرح الكلمات :

(وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) : أي أطيعوه في أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.

(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) : أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح الأقوال والأعمال.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.

(حَقَّ جِهادِهِ) : أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد الكفار والشيطان والنفس والهوى.

(اجْتَباكُمْ) : أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.

(مِنْ حَرَجٍ) : أي من ضيق وتكليف لا يطاق.

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ) : أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا شريك له.

(وَفِي هذا) : أي القرآن.

(اعْتَصِمُوا بِاللهِ) : أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.

(وَنِعْمَ النَّصِيرُ) : أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.

معنى الآيات :

بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، نادى الربّ تبارك وتعالى المسلمين بعنوان الإيمان فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا ، (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) (١) أمرهم بإقام الصلاة (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية التعظيم خاشعين له غاية الخشوع (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر وضروب العبادات (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لتتأهلوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار.

__________________

(١) خصّ الركوع والسجود من بين أركان الصلاة لأنهما أشرف أجزائها وأدل على خضوع العبد لربّه وذلته له.

٥٠١

وقوله : (وَجاهِدُوا (١) فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) (٢) أي أمرهم ايضا بأمر هام وهو جهاد الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ومعنى حق جهاده أي كما ينبغي الجهاد من استفراغ الجهد والطاقة كلها نفسا ومالا ودعوة وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هذه منّة ذكّر بها تعالى المؤمنين حتى يشكروا الله بفعل ما أمرهم به أي لم يضيق عليكم فيما أمركم به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب ، وجعل الكفارة لبعض الذنوب ، ورخص للمسافر والمريض في قصر الصلاة والصيام ، ولمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله في التيمّم.

وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (٣) أي الزموا ملة أبيكم وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن وهو معنى قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) (٤) (الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) أي القرآن وقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين ليكون الرسول شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى (فَأَقِيمُوا (٥) الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وقضاءا وحكما ، وقوله تعالى : (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي سيدكم ومالك أمركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى) هو سبحانه وتعالى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان والتقوى.

__________________

(١) هذا من ذكر العام بعد الخاص ، والعبادة : الطاعة ولكن مع غاية التعظيم والحبّ للمطاع.

(٢) الجهاد هنا : قتال الكفار المعتدين والمانعين لدعوة الله وصد الناس عنها والعلّة فيه إكمال البشر وإسعادهم بالإسلام لله تعالى و (فِي) في قوله (فِي اللهِ) : تعليلية أي : لأجل الله أي : لإعلاء كلمة الله تعالى ، وفي الحديث الصحيح : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

(٣) هذا كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) فإنه مخصوص بالاستطاعة وقوله بعد : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) مخصّص له أيضا ، ويدخل في الأمر بالجهاد هنا : جهاد النفس والشيطان ، وكلمة الحق عند من ينكرها لحديث (كلمة عدل عند سلطان جائر).

(٤) الملّة : الدين والشريعة ونصب : (مِلَّةَ) : بإلزموا ونحوه ، والخطاب للعرب إذ إبراهيم أبو العرب المستعربة قاطبة ، وهو أيضا أبو أهل الكتاب وأبّ كل موحد أبوّة تشريف واتباع وتعظيم.

(٥) قوله تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) بعد ذكر المنن إشارة صريحة إلى وجوب شكر الله تعالى على نعمه ، وما شكر الله تعالى من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة كما أن من لم يتمسك بدين الله كافر غير شاكر.

٥٠٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.

٢ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

٣ ـ فضل الجهاد في سبيل الله وهو جهاد الكفار ، وان لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.

٤ ـ فضيلة (١) هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي عليه‌السلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وكان يقال للنبي عليه‌السلام أنت شهيد على قومك وقال الله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) دل على هذا قوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).

٥ ـ فرضية الصلاة ، والزكاة ، والتمسك بالشريعة.

__________________

(١) ذكر هذا ابن جرير الطبري رواية عن معمر وقتادة.

٥٠٣

الجزء الثامن عشر

سورة المؤمنون

مكية

وآياتها مائة وثماني عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) : أي فاز قطعا بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.

(فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) : أي ساكنون متطامنون لا يتلفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي ربهم.

(عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) : اللغو كل ما لا رضى فيه لله من قول وعمل وتفكير ، معرضون أي منصرفون عنه.

(لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) : أي مؤدون.

(لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان الفاحشة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : من الجواري والسّراري إن وجدن.

٥٠٤

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) : أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعيا.

(فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) : أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.

(راعُونَ) : أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.

(الْفِرْدَوْسَ) (١) : أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (٢) يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفا بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي :

(١) الخشوع في الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة ، ودونها أن يطمئن ولا يتلفت برأسه ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٣).

(٢) إعراضهم عن اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه لله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى إعراضهم عنه : إنصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه ، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

(٣) فعلهم الزكاة أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار ، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ).

(٤) حفظ فروجهم من كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، ولكن اللوم

__________________

(١) أخرج مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة).

(٢) روى أحمد والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب قوله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال : لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة : (قد أفلح المؤمنون) حتى ختم العشر.

(٣) كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يهاب الرحمن أن يمدّ بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا ، وأبصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) والجمهور على أن الخشوع في الصلاة أحد فرائضها.

٥٠٥

والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.

(٥) مراعاة الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خلف وقد تضمن هذا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون.

(٦) المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

فهذه ست صفات إجمالا وسبع صفات تفصيلا فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الخشوع في الصلاة.

٢ ـ تحريم نكاح المتعة لأن المتمتع بها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها الربع والثمن ، ولزوجها النصف والربع ، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد يكون شهرا أو أكثر أو أقل.

٣ ـ تحريم العادة السريّة وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.

٤ ـ وجوب أداء الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.

٥ ـ تقرير حكم التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ

٥٠٦

خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(مِنْ سُلالَةٍ) : السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من الطين لخلق آدم.

(نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) : النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل ، والقرار المكين الرحم المصون.

(الْعَلَقَةَ) : الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه بأصبعه كمح البيض (١).

(الْمُضْغَةَ) : قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.

(خَلْقاً آخَرَ) : أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنسانا.

(أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن الصانعين.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) (٢) يعني آدم عليه‌السلام (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشرا سويا ولله الحمد والمنة

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة : (قَدْ أَفْلَحَ) فهي من عطف جملة ابتدائية على مثلها : وهي كعطف قصة على أخرى ، وهذا شروع في الاستدلال على التوحيد والبعث والجزاء بمظاهر القدرة والعلم والحكمة ، وهي مقتضية لعقيدة كل من التوحيد والبعث الآخر حيث أنكرهما وكذّب بهما المشركون.

(٢) جائز أن يكون المراد بالإنسان آدم ، وأن يكون أحد ذريته إذ السلالة : الشيء المستل أي : المنتزع من غيره فالطينة مستلة من مادة الطين.

والمنيّ مستل كذلك من مادة ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دما ، وهذه السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية ، والأغذية أصلها من الأرض وقوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هذا طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم ، وسميت النطفة نطفة : لأنها تنطف أي : تقطر في الرحم في قناة معروفة وهي القرار المكين.

٥٠٧

قوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صلب آدم (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هو رحم حواء (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) المنحدرة من صلب ادم (عَلَقَةً) أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها بإصبعه ، (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ (١) لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) (٢) أي إنسانا آخر غير آدم الأب ، وهكذا خلق الله عزوجل آدم وذريته ، (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنسانا آخر بعد أن كانت جمادا لا روح فيها وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن الصانعين ، إذ لا خالق إلا هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن الخالقين.

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا فناء ولا بلاء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.

٢ ـ بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها.

٣ ـ بيان مآل الإنسان بعد خلقه.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.

__________________

(١) وقد أثبت علم الأجنة والتشريح أن النطفة في طورها الثاني تعلق بجدار الرحم طيلة طورها الثاني فهي بمعنى عالقة ولا منافاة بين كونها علقة وعالقة.

(٢) في الحديث الصحيح : (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن امه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ..) الحديث فإذا نفخ فيه الروح تهيأ للحياة والنماء وإليه الإشارة بقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) وروي أن يهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى ، وأن عليّا رد هذا وقال : لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع أي : الأطوار التي في هذه الآية.

٥٠٨

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(سَبْعَ طَرائِقَ) : أي سبع سموات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق فوق بعض.

(ماءً بِقَدَرٍ) : أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.

(مِنْ طُورِ سَيْناءَ) : جبل يقال له جبل طور سيناء.

(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) : أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.

(وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) : أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.

(فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) : الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل خلقها ومنافعها.

(مِمَّا فِي بُطُونِها) : أي من اللبن.

(مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) : كالوبر والصوف واللبن والركوب.

(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) : أي من لحومها.

(تُحْمَلُونَ) : أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.

٥٠٩

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر نعمه (١) تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ (٢) طَرائِقَ) أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقا فوق طبق وقوله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة ، وإلا لخرب كل شىء وفسد وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ (٣) وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب (لَكُمْ فِيها) أي في تلك البساتين (٤) (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب بالطائف.

وقوله : (وَشَجَرَةً (٥) تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي (تَنْبُتُ) (٦) (بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله : (٧) (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من ألبان تخرج من بين فرث ودم ، وقوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر. أفلا تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها فيعبد ويوحد في عبادته؟.

__________________

(١) وفي ذكر أدلة التوحيد إذ تقدم الاستدلال على التوحيد بخلق الإنسان وهذا استدلال بخلق العدالة العلوية.

(٢) الطرائق : جمع طريقة ، وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث فهل المراد بها هنا طرق الملائكة أو طرق سير الكواكب وهو سمتها وما تجري فيه أو هي السبع السموات ، ومعنى طرائق : أن بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين جعل أحدهما فوق الثاني ، ويكون المعنى طباقا وهذا هو الراجح. والله أعلم.

(٣) (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) منه ما هو ظاهر كماء الأودية ، والأنهار ، ومنه ما هو باطن ، وهو المياه الجوفية ، وإنّ الله تعالى على ذهابه من ظاهر الأرض كباطنها قدير ، ويومها تهلك البشرية ، وهذه الآية كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ).

(٤) جمع فاكهة وهي : ما يؤكل تفكّها بآكله أي : تلذّذا بطعمه من غير قصد القوت ، وما يؤكل لأجل الطعام يقال له : طعام ولا يقال له فاكهة.

(٥) (وَشَجَرَةً) : معطوفة على جنات أي : وأخرجنا لكم به شجرة.

(٦) الباء في (بِالدُّهْنِ) للمصاحبة نحو : خرج زيد بسلامة أي : مصحوبا بسلامة.

(٧) قرىء (نُسْقِيكُمْ) بضم النون من أسقاه ، وبفتحها من سقاه كذا.

٥١٠

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق السموات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله تعالى على عباده.

٣ ـ بيان منافع الزيت حيث (١) هو للدهن والائتدام والإستصباح.

٤ ـ فضل الله على العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها ، وفي السفن للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.

٥ ـ وجوب شكر الله تعالى على انعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

شرح الكلمات :

(اعْبُدُوا اللهَ) : أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.

(أَفَلا تَتَّقُونَ) : أي أتعبدون معه غيره فلا تخافون غضبه وعقابه.

(الْمَلَأُ) : أي أعيان البلاد وكبراء القوم.

__________________

(١) في الآية إشارة إلى أن شجر الزيتون أول ما وجد على الأرض وجد بطور سيناء ثم تناقله الناس من إقليم إلى آخر ، فقوله (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) إعلام بأول منبت لها.

٥١١

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) : أي ما نوح إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم إليه.

(أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) : أي يسودكم ويصبح آمرا ناهيا بينكم.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) : أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.

(رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) : أي مصاب بمس من جنون.

(فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) : أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو شفاءه.

معنى الآيات :

هذا السياق بداية عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليه‌السلام فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) (١) أي قبلك يا رسولنا فكذبوه. كما كذبك قومك وإليك قصته إذ قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة ، ولا تعبدوا معه غيره (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٢) أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.

فأجابه قومه المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء وأعيان ممن كفروا من قومه ما هذا أي نوح (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يسود (٣) ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي أن لا نعبد معه سواه (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) تخبرنا بذلك (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي ما نوح إلا رجل به مس من جنون ، وإلا لما قال هذا الذي يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا (فَتَرَبَّصُوا (٤) بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي انتظروا به أجله حتى يموت ، ولا تتركوا دينكم لأجله وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلا خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال ما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي (٥) بِما كَذَّبُونِ) أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.

__________________

(١) فوائد سرد القصص كثيرة منها : تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر مما يلقى من قومه ، ومنها : العظة والاعتبار بما جرى من أحداث ، ومنها تقرير التوحيد وإثبات النبوة المحمدية واللام في : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) موطئة للقسم أي : وعزّتنا لقد أرسلنا نوحا.

(٢) قرأ الجمهور بجرّ (إِلهٍ) ورفع (غَيْرُهُ) وقرأ بعضهم : بجر غيره لأنه نعت لإله المجرور بحرف الجر الزائد ورفع (غَيْرُهُ) هو على المحل إذ محل (إِلهٍ) الرفع وإنما منع منه حرف الجر الزائد.

(٣) قولهم : هذا ناتج عن نفسياتهم المتهالكة على حب الرئاسة والشرف الموهوم.

(٤) التربص : التوقف على عمل يراد عمله ، والتريث فيه لما قد يغني عنه.

(٥) (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة جوابا لسؤال مقدّر تقديره : لما كذب قومه ما ذا فعل؟ والجواب : دعا عليهم : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي).

٥١٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات النبوة المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلا من طريق الوحي.

٢ ـ تقرير التوحيد بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.

٣ ـ بيان سنة من سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.

٤ ـ بيان كيف يرد الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات كالعمالة لفلان والتملق لفلان ..

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

شرح الكلمات :

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ) : أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.

(بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) : أي بمرأى منا ومنظر ، وبتعليمنا إياك صنعها.

(وَفارَ التَّنُّورُ) : تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.

(فَاسْلُكْ فِيها) : أي أدخل في السفينة.

(وَأَهْلَكَ) : أولادك ونساءك.

(وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.

(وَقُلْ رَبِ) : أي وادعني قائلا يا رب أنزلني منزلا مباركا من الأرض.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي لدلائل وعبر.

٥١٣

(وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) : أي لمختبرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر قصة نوح عليه‌السلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحا عليه‌السلام دعا ربه مستنصرا إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلا : (رَبِّ انْصُرْنِي (١) بِما كَذَّبُونِ) فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي الخاص (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) أي السفينة (بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا رأى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وانثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه وأن يركب فيها أيضا أهله من زوجة وولد إلا من قضى الله بهلاكه ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعا. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٧) (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي بإهلاك الظالمين المشركين (وَفارَ التَّنُّورُ ، فَاسْلُكْ فِيها) أي في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ (٢) اثْنَيْنِ ، (٣) وَأَهْلَكَ) أي أزواجك وأولادك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي بإهلاكهم كامرأته ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ (٤) ظَلَمُوا) أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.

وقوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ (٥) أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي إذا ركبت واستقررت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦) وادعنا ضارعا إلينا قائلا (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً (٧) مُبارَكاً) أي من الأرض ، وأثن علينا

__________________

(١) الباء سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء ، وجملة (أَنِ اصْنَعِ) جملة مفسرة لجملة : (فَأَوْحَيْنا) لأنّ الوحي فيه معنى القول دون حروفه ، فأن تفسيرية قطعا.

(٢) الزوج : اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما ، والمراد به هنا : أزواج الحيوانات لحفظ نوعها حتى لا تنقرض بالطوفان.

(٣) قرأ حفص (مِنْ كُلٍ) بتنوين كل ، وقرأ نافع وغيره بلا تنوين أي : بإضافة اثنين إلى كل ، وتنوين كل تنوين عوض أي : من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.

(٤) أي : في شأنهم فإنهم قد قضى بإهلاكهم ولا رادّ لقضائه تعالى.

(٥) استويت : أي علوت فوقها واستقررت فيها ، وحرف الجر (عَلَى) مؤذن بالاستقرار والتمكن منه.

(٦) (الظَّالِمِينَ) : أي المشركين ، لأنّ الظلم هو الشرك ، والتنجية : الإنجاء من شرهم وأذاهم وشركهم وكفرهم.

(٧) المنزل بضم الميم : وفتح الزاي : مصدر الذي هو الإنزال ، وبفتح الميم وكسر الزاي هو مكان النزول أي : أنزلني موضعا مباركا ، والمنزل بفتح الميم والزاي معا : مصدر نزل نزولا ومنزلا.

٥١٤

خيرا فقل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (١) ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن ، والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهارا للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.

٣ ـ بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين.

٤ ـ سنية قول بسم الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.

٥ ـ استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.

٦ ـ بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤)

__________________

(١) في الآية تعليم للمؤمنين إذا ركبوا أو نزلوا أن يدعوا بهذا الدعاء بل حتى إذا دخلوا بيوتهم وسلموا فقد كان عليّ رضي الله عنه إذا دخل المسجد دعا بهذا الدعاء : (رَبِّ أَنْزِلْنِي ..) الخ.

٥١٥

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) : أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم عاد قوم هود.

(رَسُولاً مِنْهُمْ) : هو هود عليه‌السلام.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : أي قولوا لا إله إلا الله فاعبدوا الله وحده.

(وَأَتْرَفْناهُمْ) : أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.

(أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) : أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ) : أي بعد بعدا كبيرا وقوع ما يعدكم.

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) : أي ما هي إلا حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.

(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ) : أي ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا أي كذب. على الله تعالى.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة هود عليه‌السلام بعد قصة نوح عليه‌السلام أيضا فقال تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم (١) عاد قوم هود (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ (٢) رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود عليه‌السلام بأن قال لهم : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما

__________________

(١) وقيل هم قوم صالح بقرينة قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح إذ قال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) من سورة الحجر. ورشح هذا لأنّ فيها العبرة أكثر لوجود آثارهم في ديارهم شمال الحجاز إلّا أن ذكر عاد بعد قوم نوح هو الوارد في كل قصص القرآن وبترجيح الزمان إذ عاد أوّل أمّة أهلكت بعد قوم نوح. والله أعلم.

(٢) قوله : (فِيهِمْ) بدل إليهم : لأن هودا أو صالحا كان المرسل من أهل البلاد وفردا من أفرادهم فلا يحسن أن يقال : إلى إلّا إذا كان خارجا عنهم ليس من أفرادهم ، وذلك كما في أهل سدوم ، ونينوي والقبط فجاء التعبير بإلى نحو : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ).

٥١٦

لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذ لا يوجد لكم إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة بحال من الأحوال وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم عقوبته.

وقوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم (١) الله تعالى : بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ والشهوات : قالوا : وما ذا قالوا؟ : قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما هذا الرسول إلا بشر مثلكم (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من أنواع الطعام (وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) من ألوان الشراب (٢) أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم. وقالوا : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي خاسرون حياتكم ومكانتكم ، وقالوا (أَيَعِدُكُمْ (٣) أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) أي فنيتم وصرتم ترابا (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) أي أحياء من قبوركم. وقالوا : (هَيْهاتَ (٤) هَيْهاتَ) أي بعد بعدا كبيرا ما يعدكم به هود إنهاما (هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي (نَمُوتُ وَنَحْيا) (٥) جيل يموت وجيل يحيا (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وقالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى (٦) عَلَى اللهِ كَذِباً) أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم. وقالوا (ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم وما سيقوله هود عليه‌السلام سيأتي في الآيات بعد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل ، وما تبتدىء به دعوتهم وهو لا إله إلا الله.

__________________

(١) أي : وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا ، وصاروا يؤتون بالترفة وهي كالتحفة ، يقال : أترفه المال : إذا أبطره وأفسده.

(٢) في قولهم : يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون. هذه الجملة وإن كانت تعليلا لبشرية الرسول فإنها دالة على أنهم حقا مترفون منعّمون في ملاذ الأكل والشرب كأنّه لا هم لهم إلا ذاك ، كما قيل : من أحب شيئا أكثر من ذكره كما هي مجالس المترفين اليوم جل أحاديثهم حول الأكل والشرب ونحوهما.

(٣) الاستفهام للتعجيب ، والكلام انتقال من تكذيبهم بكونه رسولا إليهم إلى التكذيب بما أرسل به من الدين الحق.

(٤) الجمهور من النّحاة واللغويين : أن هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعد وهي مبنية على الفتح والكسر أيضا ولا تقال إلّا مكررة ، قال الشاعر :

فهيهات هيهات العقيق وأهله

هيهات خلّ بالعقيق نواصله

(٥) إن قيل : كيف قالوا : نموت ونحيا وهم منكرون للبعث؟ قيل في الجواب : إما أن يكون مرادهم نكون نطفا ميتة ثم نحيا ، وإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي : نحيا فيها ونموت نحو (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) وإما بموت الآباء وحياة الأبناء.

(٦) الافتراء : الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر ، وهو الاختلاق.

٥١٧

٢ ـ أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.

٣ ـ الترف يسبب كثيرا من المفاسد والشرور ، ولهذا يجب أن يحذر بالاقتصاد.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروبا من الاستقامة.

٥ ـ تكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلا من البشر ، دفعا للحق وعدم قبوله.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(عَمَّا قَلِيلٍ) : أي عن قليل من الزمن.

(لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) : ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) : أي صيحة العذاب والهلاك.

(فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) : كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات اليابس.

(فَبُعْداً) : أي هلاكا لهم.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا) : أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب.

(تَتْرا) : أي يتبع بعضها بعضا الواحدة عقب الأخرى.

(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي أهلكناهم وتركناهم قصصا تقص وأخبارا تتناقل.

٥١٨

معنى الآيات :

هذا ما قال هود (*) عليه‌السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين (قالَ رَبِ) أي يا رب (انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلا قليل زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء السيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) (١) أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عادا أهل قرون آخرين كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ (٢) أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ان كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (٣) أي يتبع بعضها بعضا (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله والإنابة إليه أهلكها ، وقوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) (٤) أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم (فَبُعْداً) أي هلاكا منا (لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.

__________________

(*) درج الجمهور من المفسرين على أن القصص المذكور هنا كما هو في سائر السور هو قصص هود عليه‌السلام ، وذهب ابن جرير وبعض آخر إلى أنه قصة صالح لقرينة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وقال الجمهور : يمكن أن تكون الصيحة ضمن عواصف الريح العقيم التي أرسلها تعالى على عاد قوم هود فأخذتهم فهلكوا بها والرياح عصفت بهم فمزقت وشتتت شملهم وتركتهم كأعجار نخل خاوية ثم تفتتوا وصاروا كالغثاء وهذا الجمع أحسن.

(١) في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز غير المخل وهو : فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم ثم أنشأنا.

(٢) من في قوله (مِنْ أُمَّةٍ) صلة زيدت لتقوية النفي وتوكيده ، والأصل ما تسبق أمّة.

(٣) (تترى) على وزن فعلى كدعوى وسلوى ، والألف فيه للتأنيث ، وأصله وترى من الوتر ، الذي هو الفرد أبدلت الواو تاء كما أبدلت في تراث من الورث ، وتجاه من الوجه ، ولا يقال : تترى إلا إذا كان هناك تعاقب وانقطاع ، وقرىء منونا تترى ، وهو منصوب على الحال في القراءتين معا.

(٤) جمع أحدوثة وهو ما يتحدّث به كأعاجيب جمع أعجوبة ، وهي ما يتعجّب منه ، ومثل هذا التعبير : أحاديث : لا يقال في الخير وإنما يقال في الشر لا غير لقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وقد يقال في الخير إذا كان مقيّدا بذكره نحو قول ابن دريد :

إنما المرء حديث بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعى

٥١٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لا سيما إن كانوا عبادا صالحين.

٢ ـ الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.

٣ ـ تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلا المؤمنون مع رسولهم.

٤ ـ كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكا عاما بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

شرح الكلمات :

(بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) : الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.

(وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) : أي علوا أهل تلك البلاد قهرا واستبدادا وتحكما.

(وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) : أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) : أي عيسى حجة وبرهانا على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.

(إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) : إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه وخضر.

٥٢٠