أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(لاعِبِينَ) : أي عابثين لا مقصد حسن لنا في ذلك.

(لَهْواً) : أي زوجة وولدا.

(مِنْ لَدُنَّا) : أي من عندنا من الحور العين أو الملائكة.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِ) : أي نرمي بالحق على الباطل.

(فَيَدْمَغُهُ) : أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك.

(فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) : أي ذاهب مضمحل.

(وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) : أي ولكم العذاب الشديد من أجل وصفكم الكاذب للديان بأنّ له زوجة وولدا وللرسول بأنه ساحر ومفتر.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خلقا وملكا وتدبيرا لا شريك له في ذلك.

(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) : أي لا يعيون ولا يتعبون فيتركون التسبيح.

(لا يَفْتُرُونَ) : عن التسبيح لأنه منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من التنفس ولا يشغله عنه شيء.

معنى الآيات :

كونه تعالى يهلك الأمم الظالمة بالشرك والمعاصي دليل أنه لم يخلق الإنسان والحياة

٤٠١

لعبا وعبثا بل خلق الإنسان وخلق الحياة ليذكر ويشكر فمن أعرض عن ذكره وترك شكره أذاقه بأساءه في الدنيا والآخرة وهذا ما دلت عليه الآية السابقة وقررته الآية وهي قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١) أي عابثين لا قصد حسن لنا بل خلقناهما بالحق وهو وجوب عبادتنا بالذكر والشكر لنا وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا (٢) أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي صاحبة أو ولدا كما يقول المبطلون من العرب القائلون بأن الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وكما يقول ضلّال النصارى أن الله اتخذ مريم زوجة فولدت له عيسى الابن ، تعالى الله عما يأفكون فرد تعالى هذا الباطل بالمعقول من القول فقال لو أردنا أن نتخذ لهوا نتلهى به من صاحبة وولد لاتخذنا من لدنا من الحور العين والملائكة ولكنا لم نرد ذلك ولا ينبغي لنا إنا نملك كل من في السموات ومن في الأرض عبيدا لنا فكيف يعقل اتخاذ مملوك لنا ولدا ومملوكة زوجة والناس العجزة الفقراء لا يجيزون ذلك فالرجل لا يجعل مملوكته زوجة له ولا عبده ولدا بحال من الأحوال وقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ (٣) فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) فتلك الأباطيل والترهات تنزل حجج القرآن عليها فتدمغها فإذا هي ذاهبة مضمحلة لا يبقى منها شيء (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أيها الكاذبون مما تصفون الله بالزوجة والولد والشريك والرسول بالسحر والشعر والكهانة والكذب العذاب لازم لكم من أجل كذبكم وافترائكم على ربكم ورسوله. وقوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) برهان آخر على بطلان دعوى أن له تعالى زوجة وولدا فالذي يملك من في السموات ومن في الأرض غنيّ عن الصاحبة والولد إذ الكل له ملكا وتصرفا. وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (٤) برهان آخر (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا

__________________

(١) ينفي تعالى أن يكون خلق السموات والأرض وما بينهما وما في السموات وما في الأرض من عجائب المخلوقات وبدائع الصناعات وما بين السماء والأرض من السحب والأمطار ورياح وأجواء الفضاء ينفي أن يكون هذا الخلق العظيم لعبا : أي : لهوا وعبثا بل خلق ما خلق لأعظم حكمة وأسماها وهي أن يعبد بذكره وشكره ، فلذا من كفر به تعالى فترك ذكره وشكره كان من شرّ خلقه واستوجب العذاب الأبدي الذي لا يخرج منه ولا يموت فيه ولا يحيى.

(٢) الآية ردّ على افتراءات المبطلين جهلة البشر الذين نسبوا لله تعالى الصاحبة والولد بغير علم من عقل ولا نقل.

(٣) الدمغ : شج الرأس حتى تبلغ الشجة الدماغ ، والباطل هو الشيطان والحق : القرآن ، في قول مجاهد إذ قال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.

(٤) (لا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع من الإعياء والتعب يقال : حسر البعير يحسر حسورا : أعيا وكلّ واستحسر وتحسر مثله.

٤٠٢

يَفْتُرُونَ) أي فكيف يفتقر إلى الزوجة والولد ، ومن عنده من الملائكة وهم لا يحصون عدا يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون منها ولا يتعبون من القيام بها ، يسبحونه الليل والنهار ، والدهر كله (لا يَفْتُرُونَ) أي لا يسأمون فيتركون التسبيح فترة بعد فترة للاستراحة ، إنهم في تسبيحهم وعدم سآمتهم منه وعدم انشغالهم عنه كالآدميين في تنفسهم وطرف أعينهم هل يشغل عن التنفس شاغل أو عن طرف العين آخر وهل يسأم الإنسان من ذلك والجواب لا ، فكذلك الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تنزه الرب تعالى عن اللهو واللعب والصاحبة والولد.

٢ ـ حجج القرآن هي الحق متى رمى بها الباطل دمغته فذهب واضحمل.

٣ ـ إقامة البراهين العقلية على إبطال الباطل أمر محمود ، وقد يكون لا بد منه.

٤ ـ بيان غنى الله المطلق عن كل مخلوقاته.

٥ ـ بيان حال الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم لله تعالى.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

٤٠٣

شرح الكلمات :

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) :

أي من معادنها كالذهب والفضة والنحاس والحجر.

(هُمْ يُنْشِرُونَ) : أي يحيون الأموات إذ لا يكون إلها حقا إلا من يحيي الموتى.

(لَوْ كانَ فِيهِما) : أي في السموات والأرض.

(لَفَسَدَتا) : أي السموات والأرض لأن تعدد الآلهة يقتضى التنازع عادة وهو يقضي بفساد النظام.

(فَسُبْحانَ اللهِ) : أي تنزيه لله عما لا يليق بحلاله وكماله.

(رَبِّ الْعَرْشِ) : أي خالقه ومالكه والمختص به.

(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي الله تعالى من صفات النقص كالزوجة والولد والشريك.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) : إذ هو الملك المتصرف ، وغيره يسأل عن فعله لعجزه وجهله وكونه مربوبا.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : أي على ما اتخذتم من دونه من آلهة ولا برهان لهم على ذلك فهم كاذبون.

(هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) : أي القرآن ذكر أمتى.

(وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) : أي التوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله الكل يشهد أنه لا إله إلا الله.

(لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) : أي توحيد الله ووجوبه على العباد فلذا هم معرضون.

(فَاعْبُدُونِ) : أي وحدوني في العبادة فلا تعبدوا معي غيري إذ لا يستحق العبادة سواي.

معنى الآيات :

يوبخ تعالى المشركين على شركهم فيقول : (أَمِ اتَّخَذُوا (١) آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) أي من أحجارها ومعادنها آلهة (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يحيون الموتى ، والجواب كلا إنهم لا يحيون والذي لا يحيي الموتى لا يستحق الألوهية بحال من الأحوال. هذا ما دل عليه قوله

__________________

(١) الاستفهام هنا للجحد والإنكار أي : لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء في وصف الآلهة من الأرض تهكّم بعابديها ظاهر وتأنيب عجيب.

٤٠٤

تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) وفي الآية الثانية (٢٢) يبطل تعالى دعواهم في اتخاذ آلهة مع الله فيقول : (لَوْ كانَ فِيهِما) (١) أي في السموات والأرض آلهة غير الله تعالى لفسدتا لأن تعدد الآلهة يقتضى التنازع (٢) والتمانع هذا يريد أن يخلق كذا وهذا لا يريده هذا يريد أن يعطى كذا وذاك لا يريده فيختل نظام الحياة وتفسد ، ومن هنا كان انتظام الحياة هذه القرون العديدة دالا على وحدة الخالق الواجب الوجود الذي تجب له العبادة وحده دون من سواه ، فلذا نزه تعالى نفسه عن الشريك وما يصفه به المبطلون من الزوجة والولد فقال : (فَسُبْحانَ (٣) اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) وقرر ألوهيته وربوبيته المطلقة بقوله : (لا يُسْئَلُ (٤) عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فالذي يفعل ولا يسأل لعلمه وقدرته وملكه هو الإله الحق والذي يسأل عن عمله لم فعلت ولم تركت ويحاسب عليه ويجزى به لن يكون إلا عبدا مربوبا ، وقوله في توبيخ آخر للمشركين : (أَمِ اتَّخَذُوا (٥) مِنْ دُونِهِ) عزوجل آلهة يعبدونها؟ قل لهم يا رسولنا هاتوا برهانكم على صدق دعواكم في أنها آلهة ، ومن أين لهم البرهان على احقاق الباطل؟ وقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ (٦) مَنْ مَعِيَ) أي من المؤمنين وهو القرآن الكريم به يذكرون الله ويعبدونه وبه يتعظون (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي التوراة والانجيل هل في واحد منها ما يثبت وجود آلهة مع الله تعالى. والجواب لا. إذا فما هي حجة هؤلاء المشركين على صحة دعواهم ، والحقيقة أن المشركين جهلة لا يعرفون منطقا ولا برهانا فلذا هم معرضون وهذا ما دل عليه قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ (٧) فَهُمْ مُعْرِضُونَ) فليسوا أهلا لمعرفة الأدلة والبراهين لجهلهم فلذا هم معرضون عن قبول التوحيد وتقرير أدلته وحججه وبراهينه.

__________________

(١) هذه الجملة مقررة لما أنكره تعالى على المشركين من اتخاذهم آلهة من الأرض مبيّنة وجه الإنكار شارحة له أي : يستحيل أن يوجد آلهة حق مع الله تعالى. والبرهان مذكور في التفسير.

(٢) هذا ما يسمى بدليل أو برهان التمانع وأنه وإن كان فيه ما يرده إلا أنه في الجملة دليل مسكت للخصم مقنع لذي العقول.

(٣) إظهار اسم الجلالة في مكان الإضمار كان لتربية المهابة منه عزوجل إذ كان المفروض أن يقول سبحانه.

(٤) قال ابن جريج : لا يسأله الخلق عن قضائه فيهم وهو يسألهم عن أعمالهم لأنهم عبيده وبهذا انهدّ معتقد المشركين والقدريين معا إذ الله لا يسأل عما يفعل وغيره يسأل فالذي يسأل ويحاسب ويجزي لن يكون إلها أبدا.

(٥) (أَمِ) بمعنى : بل والاستفهام التعجبي أي : بل اتخذوا من دون الله الهة يا للعجب فليأتوا إذا ببرهان عقلي على صحة دعواهم ومن أين لهم إذا أفلا يتوبون.

(٦) زيادة على إقامة بطلان الشرك بشهادة القرآن كتاب الله وشهادة الكتب السابقة وفيها التهديد والوعيد للمشركين.

(٧) قرأ الحق بالرفع ابن محيسن والحسن على تقدير هذا هو الحق وقرأ الجمهور بالنصب مفعول أي : لا يعلمون الحق الذي هو القرآن العظيم فهم لا يتأملونه فحججه وبراهينه على إبطال الشرك ظاهرة

٤٠٥

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ (١) رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فلو كان المشركون يعلمون هذا لما أشركوا وجادلوا عن الشرك ، ولكنهم جهلة مغررون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من أخص صفات الإله أن يخلق ويرزق ويحيي ويميت فإن لم يكن كذلك فليس بإله.

٢ ـ وحدة النظام دالة على وحدة المنظم ، ووحدة الوجود دالة على وحدة الموجد وهذا برهان التمانع الذى يقرر منطقيا وجود الله ووجوب عبادته وحده.

٣ ـ لا برهان على الشرك أبدا ، ولا يصح في الذهن وجود دليل على صحة عبادة غير الله تعالى.

٤ ـ القرآن والتوراة وكل كتب الله متضافرة على تقرير توحيد الله تعالى.

٥ ـ تقرير توحيد الله تعالى وإبطال الشرك والتنديد بالمشركين.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

__________________

(١) هذا برهان آخر على إبطال الشرك إذ عامة الرسل جاءت بالتوحيد بلا إله إلا الله ، فكيف يصح إذا إقرار الشرك والعمل به ، والآية كآية النمل : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).

٤٠٦

شرح الكلمات :

(وَلَداً) : أي من الملائكة حيث قالوا الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(سُبْحانَهُ) : تنزيه له تعالى عن اتخاذ الولد.

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) : هم الملائكة ، ومن كان عبدا لا يكون ابنا ولا بنتا.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) : أي لا يقولون حتى يقول هو وهذا شأن العبد لا يتقدم سيده بشيء.

(وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) : أي فهم مطيعون متأدبون لا يعملون إلا بإذنه لهم.

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) : أي إلّا لمن رضي تعالى أن يشفع له.

(مُشْفِقُونَ) : أي خائفون.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله كإبليس عليه لعائن الله.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) : أي لأنفسهم بالشرك والمعاصي.

معنى الآيات :

بعد أن أبطلت الآيات السابقة الشرك ونددت بالمشركين جاءت هذه الآيات في إبطال باطل آخر للمشركين وهو نسبتهم الولد لله تعالى فقال تعالى عنهم و (قالُوا (١) اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله فنزه تعالى نفسه عن هذا النقص فقال (سُبْحانَهُ) وأبطل دعواهم وأضرب عنها فقال (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢) أي فمن نسبوهم لله بنات له هم عباد له مكرمون عنده ووصفهم تعالى تعالى بقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) فهم لكمال عبوديتهم لا يقولون حتى يقول هو سبحانه وتعالى ، وهم يعملون بأمره فلا يقولون ولا يعملون إلا بعد إذنه لهم ، وأخبر تعالى أنه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (٣) وَما خَلْفَهُمْ) فعلمه عزوجل محيط بهم ولا يشفعون لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى أن يشفع (٤) له فقال تعالى :

__________________

(١) قيل : هذه الآية نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله تعالى وكانوا يعبدونهم يرجون شفاعتهم ، وفريتهم قائمة على أن الله تعالى أصهر إلى سروات الجنّ فأنجب الملائكة. تعالى الله علوا كبيرا.

(٢) (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي : بل هم عباد مكرمون ، فعباد : خبر لمبتدأ محذوف ومكرمون : نعت للخبر.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعلم ما عملوا وما هم عاملون كما يعلم ما بين أيديهم من الآخرة وما خلفهم من الدنيا.

(٤) قال ابن عباس : هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد : هم كل من رضي الله عنه. وهو أعم من الأوّل ، وأخص أيضا باعتبار جهتين.

٤٠٧

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وزيادة على ذلك أنهم (مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) خائفون ، وعلى فرض أن أحدا منهم قال إنى إله من (١) دون الله فإن الله تعالى يجزيه بذلك القول جهنم وكذلك الجزاء نجزي الظالمين أي أنفسهم بالشرك والمعاصي ، وبهذا بطلت فرية المشركين في جعلهم الملائكة بنات لله وفي عبادتهم ليشفعوا لهم عنده تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى من قبل المشركين وكذا اليهود والنصارى.

٢ ـ بيان كمال عبودية الملائكة لله تعالى وكمال أدبهم وطاعتهم لربهم سبحانه وتعالى.

٣ ـ بطلان دعوى المشركين في شفاعة الملائكة لهم ، إذ الملائكة لا يشفعون إلا لمن رضى الله تعالى أن يشفعوا له.

٤ ـ تقرير وجود شفاعة يوم القيامة ولكن بشروطها وهي أن يكون الشافع قد أذن له بالشفاعة ، وأن يكون المشفوع له من أهل التوحيد فأهل الشرك لا تنفعهم شفاعة الشافعين.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

__________________

(١) في الآية دليل على أن الملائكة وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون وليسوا مضطرين إلى العبادة اضطرارا بل شأنهم شأن المعصومين من الرسل يعبدون تعبّدا لا اضطرارا.

٤٠٨

شرح الكلمات :

(كانَتا رَتْقاً) : أي كتلة واحدة منسدة لا انفتاح فيها.

(فَفَتَقْناهُما) : أي جعلنا السماء سبع سموات والأرض سبع أرضين.

(رَواسِيَ) : أي جبالا ثابتة.

(أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) : أي تتحرك فتميل بهم.

(فِجاجاً سُبُلاً) : أي طرقا واسعة يسلكونها تصل بهم إلى حيث يريدون.

(لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) : إلى مقاصدهم في أسفارهم.

(وَهُمْ عَنْ آياتِها) : من الشمس والقمر والليل والنهار معرضون.

(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : الفلك كل شيء دائر.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ووجوب تنزيه الله تعالى عن صفات النقص والعجز فقال تعالى : (أَوَلَمْ (١) يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرون بتوحيد الله وقدرته وعلمه ووجوب عبادته إلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات العلوية والسفلية فالسموات والأرض كانتا كتلة واحدة من سديم فخلق الله تعالى منها السموات والأرضين كما أن السماء تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار ، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة الألوان والروائح والطعوم والمنافع ، وأن كل شيء حيّ في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات هو من الماء أليست هذه كلها دالة على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها؟

فما للناس لا يؤمنون؟ هذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى (٣٠) (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا (٢) رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ (٣) الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟) وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت كيلا تميد أي

__________________

(١) قرأ الجمهور (أَوَلَمْ يَرَ) بالواو بعد همزة الاستفهام ، وقرأ بعض : ألم ير بدون واو ، بمعنى يعلم.

(٢) (رَتْقاً) : الرتق : السدّ ضد الفتق ، يقال : رتقت الفتق ارتقه فارتتق. أي : التأم ، ومنه : امرأة رتقاء أي : منضمة الفرج غير مفتوق ، والمراد أنّ السموات والأرض كانت شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما وما في التفسير إشارة إلى ما اختاره ابن جرير الطبري وهو : أن السماء كانت رتقا لا تمطر والأرض كانت رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات والآية دالة على الوجهين والوجهان صحيحان.

(٣) (جَعَلْنا) بمعنى : خلقنا ، وهذا اللفظ صالح للدلالة على أنّ كل شيء في هذه المخلوقات من الحيوان والنبات خلق من الماء ، والثاني : أن حياة هذه المخلوقات تحفظ بالماء ، وفي الحديث : (كل شيء خلق من الماء). ذكره القرطبي رحمه‌الله تعالى.

٤٠٩

تتحرك وتضطرب بسكانها ، (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (فِجاجاً سُبُلاً) أي طرقا سابلة للسير فيها (لَعَلَّهُمْ (١) يَهْتَدُونَ) أي كي يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم ، وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ (٢) سَقْفاً مَحْفُوظاً) من السقوط ومن الشياطين. وقوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها) من الشمس والقمر والليل والنهار إذ هذه آيات قائمة بها (مُعْرِضُونَ) أي لا يفكرون فيها فيهتدوا إلى معرفة الحق عزوجل ومعرفة ما يجب له من العبادة والتوحيد فيها ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ (٣) وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤) أي كل من الشمس والقمر في فلك خاص به يسبح الدهر كله ، والفلك عبارة عن دائرة كفلكة المغزل يدور فيها الكوكب من شمس وقمر ونجم يسبح فيها لا يخرج عنها إذ لو خرج يحصل الدمار الشامل للعوالم كلها ، فسبحان العليم الحكيم ، هذه كلها مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي موجبة للتوحيد مقررة له ، ولكن المشركين عنها معرضون لا يفكرون ولا يهتدون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده والإيمان به وطاعته.

٢ ـ بيان الحكمة من خلق الجبال الرواسي.

٣ ـ بيان دقة النظام الإلهي ، وعظيم العلم والحكمة له سبحانه وتعالى.

٤ ـ إعراض أكثر الناس عن آيات الله في الآفاق كإعراضهم عن آياته القرآنية هو سبب جهلهم وشركهم وشرهم وفسادهم.

__________________

(١) رجاء أن يهتدوا في سيرهم إلى ما يرومون من الديار والبلاد ، ورجاء أن يهتدوا بذلك إلى الإيمان بالله وتوحيده.

(٢) سميت السماء سقفا لأنها مرفوعة فوق الأرض مظللّة لها كالسقف على الدّار.

(٣) هذه كلها منن الله تعالى على عباده وآيات قدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده وإعراض الناس عن النظر والتدبر هو الذي حرمهم هداية الله تعالى.

(٤) (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : هذه جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لمن سمع الآيات ، فتساءل عن الشمس والقمر وعن باقي الأجرام السماوية قائلا : كيف لا يقع بينها تصادم ولا يتخلّف بعضها فيحدث خلل في الكون والحياة فأجيب بقوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

٤١٠

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨))

شرح الكلمات :

(الْخُلْدَ) : أي البقاء في الدنيا.

(ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : أي مرارة مفارقة الجسد.

(وَنَبْلُوكُمْ) : أي نختبركم.

(بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) : فالشر كالفقر والمرض ، والخير كالغنى والصحة.

(فِتْنَةً) : أي لأجل الفتنة لننظر أتصبرون وتشكرون أم تجزعون وتكفرون.

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) : أي ما يتخذونك إلا هزوا أي مهزوءا بك.

(يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) : أي يعيبها.

(بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) : جيث أنكروا اسم الرحمن لله تعالى وقالوا : ما الرحمن؟

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) : حيث خلق الله آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل ، فورث بنوه طبع العجلة عنه.

(سَأُرِيكُمْ آياتِي) : أي سأريكم ما حملته آياتي من وعيد لكم بالعذاب في الدنيا والآخرة.

٤١١

معنى الآيات :

كأنّ المشركين قالوا شامتين إن محمدا سيموت ، وقالوا نتربص به ريب المنون فأخبر تعالى أنه لم يجعل لبشر من قبل نبيّه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكل نفس زائقة الموت ، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون يخلدون والجواب لا ، إذا فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٤) (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ (١) الْخالِدُونَ) وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) أي كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن ، والحكمة في ذلك أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله خيرا كان أو شرا ، دل عليه قوله بعد : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) من غنى وفقر ومرض وصحة وشدة ورخاء (فِتْنَةً) أي لأجل فتنتكم أي اختباركم ليرى الصابر الشاكر والجزع الكافر. وقوله تعالى : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي بعد الموت للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.

وقوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) يخبر تعالى رسوله بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا هزوا وذلك لجهلهم بمقامه وعدم معرفتهم فضله عليهم وهو حامل الهدى لهم ، وبين وجه استهزائهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي بعيبها وانتقاصها ، قال تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ (٣) هُمْ كافِرُونَ) أي عجبا لهم يتألمون لذكر ألهتم بسوء وهي محط السوء فعلا ، ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم سبحانه وتعالى حتى إنهم أنكروا أن يكون اسم الرحمن اسما لله تعالى وقالوا لا رحمن الا رحمن اليمامة.

وقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ (٤) مِنْ عَجَلٍ) قال تعالى هذا لما استعجل المشركون

__________________

(١) الاستفهام مقدّر أي : أفهم الخالدون؟ وهو للنفي والإنكار كقول الشاعر :

رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع

فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

أي : أهم؟ ومعنى رفوني سكّنوني يقال رفاه إذا سكنه.

(٢) يروى أن الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى أنشد واستشهد بالبيتين الآتيين :

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى

تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

(٣) عجبا لجهلهم وسوء فهمهم يعيبون من جحد إلهية أصنامهم وهم يجحدون إلهية الرحمن إنّ هذا لغاية الجهل والغرور.

(٤) إنّ طبع الإنسان العجلة إنه يستعجل الأشياء وإن كان فيها مضرّته ، ولفظ الإنسان جائز أن يكون المراد به جنس الإنسان أو آدم عليه‌السلام قال سعيد بن جبير لما دخل الروح في عين آدم نظر في ثمار الجنة ، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك قوله : تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).

٤١٢

العذاب وقالوا للرسول والمؤمنين : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فأخبر تعالى أن الاستعجال (١) من طبع الإنسان الذي خلق عليه ، وأخبرهم أنه سيريهم آياته فيهم بإنزال العذاب بهم وأراهم ذلك في بدر الكبرى وذلك في قوله (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي : فلا داعي إلى الاستعجال وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من جهة ، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى وإلا فالعاقل لا يطالب بالعذاب بل يطالب بالرحمة والخير ، لا بالعذاب والشر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال ما شاع من أن الخضر حيّ مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر.

٢ ـ بيان العلة من وجود خير وشر في هذه الحياة الدنيا وهي الاختبار.

٣ ـ بيان ما كان عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ تقرير حقيقة أن الإنسان مطبوع على العجلة فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان من أكمل الناس وأشرفهم.

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ

__________________

(١) العجلة : السرعة ، قيل : إن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهة ، فإذا فكر في شيء محبوب استعجل حصوله ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته ، ومن هنا كان عجولا.

٤١٣

الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

شرح الكلمات :

(لا يَكُفُّونَ) : أي لا يمنعون ولا يدفعون النار عن وجوههم.

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) : أي تأتيهم القيامة بغتة أي فجأة.

(فَتَبْهَتُهُمْ) : أي تحيرهم.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : أي يمهلون ليتوبوا.

وحاق بهم : أي نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون.

(مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) : أي من يحفظكم ويحرسكم.

(مِنَ الرَّحْمنِ) : أي من عذابه إن أراد إنزاله بكم.

(بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) :

أي هم عن القرآن معرضون فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.

(وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) : أي لا يجدون من يجيرهم من عذابنا.

معنى الآيات :

يقول تعالى (لَوْ (١) يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) المستعجلون بالعذاب المطالبون به حين أي الوقت الذي يلقون فيه في جهنم والنار تأكل وجوههم وظهورهم ، ولا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم منها ولا هم ينصرون بمن يدفع العذاب عنهم لو علموا هذا وأيقنوا به لما طالبوا بالعذاب ولا استعجلوا يومه وهو يوم القيامة ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ (٢) كَفَرُوا حِينَ (٣) لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وقوله تعالى :

__________________

(١) جواب لو : محذوف تقديره : لما استعجلوا أي : لو عرف هؤلاء المستعجلون وقت لا تزول فيه النار عن وجوههم وعن ظهورهم لما استعجلوا العذاب.

(٢) جواب لو : محذوف كما تقدم آنفا ، والغرض من حذفه تهويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب. وجملة : (لَوْ يَعْلَمُ ..) الخ مستأنفة استئنافا بيانيا.

(٣) (حِينَ) اسم زمان منصرف منصوب على المفعولية لا على الظرفية أي : لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذّبوا به.

٤١٤

(بَلْ تَأْتِيهِمْ (١) بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي أن القيامة لا تأتيهم على علم منهم بوقتها وساعتها فيمكنهم بذلك التوبة ، وإنما تأتيهم (بَغْتَةً) أي فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي فتحيرهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون ليتوبوا من الشرك والمعاصى فينجوا من عذاب النار ،

وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب هذا القول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعزية له وتسلية ليصبر على ما يلاقيه من استهزاء قريش به واستعجالهم العذاب ، إذ حصل مثله للرسل قبله فصبروا حتى نزل العذاب بالمستهزئين بالرسل عليهم‌السلام. وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ (٢) يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمطالبين بالعذاب المستعجلين له : (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي من يجيركم من الرحمن إن أراد أن يعذبكم ، إنه لا أحد يقدر على ذلك إذا فلم لا تتوبون إليه بالإيمان والتوحيد والطاعة له ولرسوله ، وقوله : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) إن علة عدم استجابتهم للحق هي إعراضهم عن القرآن الكريم وتدبر آياته وتفهم معانيه. وقوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ينكر تعالى أن يكون للمشركين آلهة تمنعهم من عذاب الله متى نزل بهم ويقرر أن آلهتهم لا تستطيع نصرهم (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (٣) أي وليس هناك من يجيرهم من عذاب الله من آلهتهم ولا من غيرها فلا يقدر أحد على إجارتهم من عذاب الله متى حل بهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن الساعة لا تأتي إلا بغتة.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان عليه الرسل من قبله وما لاقوه من أممهم.

__________________

(١) (بَلْ) : للاضراب الانتقالي من تهويل ما أعدّ لهم إلى التهديد بأن ذلك يحلّ بهم بغتة (أي فجأة).

(٢) (يَكْلَؤُكُمْ) : أي يحرسكم ويحفظكم إذ الكلاءة : الحفظ والحراسة يقال : كلاه الله كلاءة أي : حفظه وحرسه ومنه قول الشاعر :

إنّ سليمى والله يكلأها

ضنّت بشيء ما كان يرزؤها

والاستفهام في : من يكلأكم : للنفي.

(٣) فسر (يُصْحَبُونَ) بيمنعون ، ويجارون قال الشاعر :

ينادي بأعلى صوته متعوذا

ليصحب منها والرماح دواني

٤١٥

٤ ـ بيان عجز الهة المشركين عن نصرتهم بدفع العذاب عنهم متى حل بهم.

٥ ـ بيان أن علة إصرار المشركين على الشرك والكفر هو عدم إقبالهم على تدبر القرآن الكريم وتفكرهم في آياته وما تحمله من هدى ونور.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

شرح الكلمات :

(مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) : أي بما أنعمنا عليهم من الخيرات.

(حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) : فانغرّوا بذلك.

(نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) : أي بالفتح على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المؤمنين.

(إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) : أي بأخبار الله تعالى التي يوحيها إلي وليس هناك شيء من عندي.

(نَفْحَةٌ) : أي وقعة من عذاب خفيفة.

(يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) : أي يقولون يا ويلنا أي يا هلاكنا.

(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) : أي بالشرك والتكذيب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤١٦

(الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) : أي العادلة.

(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) : لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة.

(مِثْقالَ حَبَّةٍ) : أي زنة حبة من خردل.

(وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) : أي محصين لكل شيء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إبطال دعاوي المشركين فقال تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا (١) هؤُلاءِ) بما أنعمنا عليهم هم وآباؤهم فظنوا أن آلهتهم هي الحافظة لهم بل الله هو الحافظ (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) (٢) فانغروا بذلك. (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الجزيرة بلادهم (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بدخول أهلها في الإسلام بلدا بعد بلد. (أَفَهُمُ (٣) الْغالِبُونَ)؟ الله هو الغالب حيث مكن لرسوله والمؤمنين وفتح عليهم ، ثم أمر رسوله أن يقول لهم أيها المكذبون إنما أنذركم العذاب وأخوفكم من عاقبة شرككم بالوحي الإلهي لا من تلقاء نفسي ، وقوله تعالي : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) فالصم لحبهم الباطل الذي هم عليه لا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم فحبهم للشرك وآلهته جعلهم لا يسمعون فاستوى انذارهم وعدمه وقوله تعالى : (وَلَئِنْ (٤) مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) أي وقعة خفيفة من العذاب لصاحوا يدعون بالويل على أنفسهم قائلين (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٥) فكيف بهم إذا وضعت الموازين العدل ليوم القيامة حيث لا تظلم نفس شيئا وإن قل وإن كان مثقال حبة من حسنة أو سيئة أتينا بها ووزناها (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٦) أي محصين لأعمال العباد لعلمنا المحيط بكل شيء وقدرتنا التي لا يعجزها شيء .. ألا فلنتق الله أيها العقلاء!!

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أهل مكة. أي : بسطنا لهم ولآبائهم نعيمها.

(٢) (طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم؟ فانغروا وأعرضوا عن تدبّر حجج الله عزوجل.

(٣) المس : اتصال بظاهر الجسم ، والنفحة : المرّة من النفح في العطية ، يقال : نفحه بشيء إذا أعطاه. وما في التفسير مغن عن هذا.

(٤) هذا اعتراف منهم في حين لا ينفع الاعتراف.

(٥) قيل : يجوز أن يكون لكل عامل ميزان خاص به فتكثر الموازين كما قال الشاعر :

ملك تقوم الحادثات لعدله

فلكل حادثة لها ميزان

(٦) ضمير الجمع في (حاسِبِينَ) : مراعى فيه ضمير العظمة ، وهو منصوب على الحال أو التمييز لكفى

٤١٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ طول العمر والرزق الواسع كثيرا ما يسبب الغرور لصاحبه.

٢ ـ حب الشيء يعمي صاحبه حتى لا يرى إلا ما أحبه ويصمه بحيث لا يسمع إلا ما أحبه.

٣ ـ بيان ضعف الإنسان وأن أدنى عذاب ينزل به لا يتحمله ويصرخ داعيا يا هلاكاه.

٤ ـ تقرير البعث والحساب والجزاء.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

شرح الكلمات :

(الْفُرْقانَ) : التوراة لأنها فارقة بين الحق والباطل كالقرآن.

(وَضِياءً) : أي يهدي إلى الحق في العقائد والشرائع.

(وَذِكْراً) : أي موعظة.

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي يخافون ربهم وهم لا يرونه في الدنيا فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل حرام.

(وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) : أي وهم من أهوال يوم القيامة وعذابه خائفون.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) : أي القرآن الكريم تنال بركته قارئه والعامل به.

(أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) : الاستفهام للتوبيخ يوبخ تعالى من أنكر أن القرآن كتاب الله.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أنه آتى موسى وهارون (١) الفرقان أي الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون

__________________

(١) وفسر الفرقان بالتوراة أيضا وهو حق أيضا وجائز أن يكون النصر ، إذ معنى الفرقان : أنه ما يفرّق به بين الحق والباطل بالقول أو العمل.

٤١٨

وبين باطل فرعون ، كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان وآتاهما التوراة ضياء يستضاء بها في معرفة الحلال والحرام والشرائع والأحكام وذكرا أي موعظة للمتقين ، ووصف المتقين بصفتين : الأولى أنهم يخشون ربهم أي يخافونه بالغيب (١) أي وهم لا يرونه والثانية : أنهم مشفقون (٢) من الساعة أي مما يقع فيها من أهوال وعذاب وقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) يشير الى القرآن الكريم ويصفه بالبركة فبركته لا ترفع فكل من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات لا تنقضى عجائبه ولا تكتنه أسراره ولا تكتشف كل حقائقه ، هدى لمن استهدى ، وشفاء لمن استشفى وقوله تعالى : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٣) يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود إذ كانوا يسألونهم عما في كتابهم ، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم فيه ذكرهم وشرفهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه ومحمد وأمته بانزال التوراة على موسى والقرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان صفات المتقين وهم الذين يخشون ربهم بالغيب فلا يعصونه بترك واحب ولا بفعل محرم : وهم دائما في اشفاق وخوف من يوم القيامة.

٣ ـ الاشادة بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركا.

٤ ـ توبيخ وتقريع من يكفر بالقرآن وينكر ما فيه من الهدى والنور.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣)

__________________

(١) قال القرطبي : (بِالْغَيْبِ) أي : غائبين لأنهم لم يروا الله تعالى بل عرفوا بالنظر والاستدلال أنّ لهم ربّا قادرا يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس ، والباء في : (بِالْغَيْبِ) بمعنى الفاء أي : يخشونه تعالى في الغيب.

(٢) الإشفاق : هو رجاء حادث مخوف.

(٣) الاستفهام للتعجب والتوبيخ.

٤١٩

قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

شرح الكلمات :

(رُشْدَهُ) : أي هداه بمعرفة ربّه والإيمان به ووجوب طاعته والتقرب إليه.

(التَّماثِيلُ) : جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه إنسان أو حيوان.

(الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) : أي مقبلون عليها ملازمون لها تعبدا.

(أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) : أي الهازلين غير الجادين فيما يقولون أو يفعلون.

(رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ) : أي المستحق للعبادة مالك السموات والأرض.

(الَّذِي فَطَرَهُنَ) : أي أنشأهن خلقا وإيجادا على غير مثال سابق.

(لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) : أي لأحتالن على كسر أصنامكم وتحطيمها.

(جُذاذاً) : فتاتا وقطعا صغيرة.

(إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) : إلا أكبر صنم لهم فإنه لم يكسره.

(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) : كي يرجعوا إليه فيؤمنوا بالله ويوحّدوه بعد أن يظهر لهم عجز آلهتهم.

معنى الآيات :

على ذكر ما منّ به تعالى على موسى وهارون ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إيتائه إياهم التوراة والقرآن ذكر أنه امتن قبل ذلك على إبراهيم فآتاه رشده في صباه فعرفه به وبجلاله وكماله ووجوب

٤٢٠