أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(بِما تَسْعى) : أي سعيها في الخير أو في الشر.

(فَتَرْدى) : أي تهلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة (٨) كان قوله تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تقريرا للتوحيد وإثباتا له وفي هذه الآية (٩) يقرره تعالى عن طريق الإخبار عن موسى ، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله إلا هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ) (١) أي يا نبينا (حَدِيثُ مُوسى (٢) إِذْ رَأى ناراً ،) وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له نارا (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل ، (امْكُثُوا) أي ابقوا هنا فقد آنست نارا أي أبصرتها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) فنوقد به نارا تصطلون بها أي تستدفئون بها ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها) أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة (٣) تتلألؤ نورا (نُودِيَ يا مُوسى) أي ناداه ربه تعالى قائلا يا موسى (٤) (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله تعالى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (٥) أي إليك وهو : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني وحدي ، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٦) ، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر الله تعالى وكان بذلك كافرا لربه تعالى. وقوله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) (٧) أي ان الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء

__________________

(١) هذا الاستفهام أريد به التشويق لما يلقى لعظيم فائدته ، وهل هنا بمعنى قد المفيدة للتحقيق هي كما في قوله : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) أي قد أتى.

(٢) الحديث : الخبر ، ويجمع على غير قياس : أحاديث ، وقيل : واحده أحدوثة واستغنوا به عن جمع فعلاء لأن فعيل يجمع على فعلاء. كرحيم ورحماء وسعيد وسعداء وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر قد حدث في الخارج.

(٣) قيل : هي شجرة عنّاب.

(٤) قرأ حمزة وحده ، وانّا اخترناك بضمير العظمة.

(٥) في هذه الآية إشارة إلى أن التعارف بين المتلاقين حسن فقد عرفه تعالى بنفسه في أوّل لقاء معه ، روى أنه وقف على حجر واستند على حجر ووضع يمينه على شماله ، وألقى ذقنه على صدره وهذه حالة الاستماع المطلوبة من صاحبها.

(٦) استدل مالك على أن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مستدلا بقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) أي : لأول وقت ذكرك لها والسنة صريحة في هذا إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها فلا كفارة لها إلا ذاك)

(٧) الساعة علم بالغلبة على ساعة البعث والحساب.

٣٤١

آتية لا محالة. من أجل مجازاة العباذ على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر ، وقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا ، وقوله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها فَتَرْدى) ينهى تعالى موسى أن يقبل صدّ صاد من المنكرين للبعث متّبعي الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى أي يهلك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تقرير التوحيد وإثباته ، وأن الدعوة إلى لا إله إلا الله دعوة كافة الرسل.

٣ ـ إثبات صفة الكلام لله تعالى.

٤ ـ مشروعية التبرك بما جعله الله تعالى مباركا ، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول وتعليمه.

٥ ـ وجوب إقام الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.

٦ ـ بيان الحكمة في إخفاء الساعة مع وجوب اتيانها وحتميته.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ

٣٤٢

مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) : الاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.

(أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) : أي أعتمد عليها.

(وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) : أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.

(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) : أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على عاتقه ، وقتل الهوام.

(حَيَّةٌ تَسْعى) : أي ثعبان عظيم ، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير المسمى بالجان.

(سِيرَتَهَا الْأُولى) : أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حيّة.

(إِلى جَناحِكَ) : أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.

(بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) : أي رسولا إليه.

(إِنَّهُ طَغى) : تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلا : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١)؟) يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة ، فإذا تحولت إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون وملائه. وأجاب موسى ربه قائلا : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُ (٢) بِها عَلى غَنَمِي) يريد يخبّط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) (٣) أي حاجات

__________________

(١) الجملة معطوفة على الجمل قبلها ، وهي استفهامية أي : وما التي بيمينك؟ والمقصود تقرير الأمر حتى يقول موسى :

هي عصاي.

(٢) في هذه الآية دليل على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه. وفي الحديث وقد سئل عن ماء البحر فقال : (هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته) فزاد جملة : (الحل ميتته) وقوله للتي سألته قائلة : ألهذا حج؟ قال : نعم ولك أجر) فزاد (ولك أجر) وفي البخاري : باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل.

(٣) الواحد : مأربة مثلثة الراء.

٣٤٣

(أُخْرى) (١) كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عزوجل (أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها) من يده (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢) أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى بالجان فخاف موسى منها وولى هاربا فقال له الرب تعالى : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٣) أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ) أي اليمنى (إِلى جَناحِكَ) (٤) الأيسر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص وفعل فضم يده تحت عضده إلى ابطه ثم استخرجها فإذا هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر ، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد ، وقوله تعالى (آيَةً أُخْرى) أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) ، أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) لما اراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولا إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد بالشام وقوله (إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز قدره ، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية والألوهية إذ فقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلا ممن يوحى إليه.

٢ ـ استحباب تناول الأشياء غير المستقذرة باليمين.

٣ ـ مشروعية حمل العصا. (٥)

__________________

(١) أطنب موسى في الجواب طلبا لمزيد الأنس بالوقوف بين يدي ربّه يناجيه ويوحي إليه.

(٢) الحيّة : اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عضّ بنابيه قتل المعضوض.

(٣) السيرة في الأصل : هيئة السير ونقلت إلى العادة والطبيعة.

(٤) الجناح : العضد وما تحته من الإبط فهو مع اليد كجناح الطائر.

(٥) كان خطباء العرب يحملونها في أثناء الخطاب يشيرون بها ، وكره هذا الشعوبيون من غير العرب وهم محجوجون بفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وللعصا فوائد كثيرة آخر فوائدها أنها تذكر بالسفر إلى الآخرة.

٣٤٤

٤ ـ سنة رعي الغنم للأنبياء.

٥ ـ مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.

٦ ـ آية موسى في انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.

٧ ـ بيان الطغيان : وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

شرح الكلمات :

(اشْرَحْ لِي صَدْرِي) : أي وسعه لي لأتحمل الرسالة.

(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) : أي سهله حتى أقوى على القيام به

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) (١) : أي حبسة حتى أفهم من أخاطب.

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) : أي قوي به ظهري.

(وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) : أي اجعله نبيا كما نبأتني (٢)

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في حديث موسى عليه‌السلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وارسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب به إلى أرض القدس قال موسى عليه‌السلام لربه تعالى (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) لأتحمل أعباء الرسالة (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) أي سهل مهمتي عليّ وارزقني العون

__________________

(١) أصل العقدة : موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر وهي فعلة كغرفة وشرفة أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف ويقال : حبسة فشبه موسى حبسة لسانه بالعقدة في الحبل ونحوه.

(٢) يقال : ما برّ أخ أخاه كما برّ موسى أخاه هارون إذ طلب له أشرف مطلب الرسالة والنبوة.

٣٤٥

عليها فإنها صعبة شاقة. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه بتدبير الله عزوجل حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع جواهر في طبق وجمر في طست وتقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما شئت ، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله ، وقدم لموسى الطبق والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون ويبين فيفهم قوله ، وبذلك يؤدي رسالته. هذا معنى قوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) (١).

وقوله تعالى فيما أخبر عن موسى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ (٢) أَهْلِي هارُونَ أَخِي) أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معينا على تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (٣) أي قوّ به ظهري. وقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبيا رسولا. وعلل موسى عليه الصلاة والسّلام لطلبه هذا بقوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ (٤) كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) ، وقوله (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شىء من أمرنا وهذا من موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به وبأخيه وبحالهما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب اللجأ إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.

٢ ـ مشروعية الأخذ بالأهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.

٣ ـ فضيلة التسبيح والذكر ، والتوسل بأسماء الله وصفاته.

__________________

(١) اختلف في هل انحلّت تلك العقدة أو لم تنحل ، والصحيح أنها انحلّت إجابة الله تعالى لدعوة موسى إذ قال : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وأما قول فرعون : ولا يكاد يبين فهو تكرار لما سبق ولأجل الانتقاص من كمال موسى عليه‌السلام.

(٢) الوزير : المؤزار كالأكيل للمؤاكل ، وفي حديث النسائي : (من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه).

(٣) الأزر : الظهر من موضع الحقوين ، والأزر : القوة أيضا وآزره أي : قواه ، وقيل : الأزر العون ، ومنه قول أبي طالب.

أليس أبونا هاشم شدّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

(٤) في هذه الآية دليل على فضل التسبيح والذكر إذ لو لا أنّ موسى علم حب الله تعالى لهما لما توسل بهما لقضاء حاجته.

٣٤٦

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

شرح الكلمات :

(قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ) (١) : أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة لسانك ، وتنبئة أخيك.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) : أي انعمنا عليك مرة أخرى قبل هذه.

(ما يُوحى) : أي في شأنك وهو قوله : أن اقذفيه الخ.

(فِي التَّابُوتِ) : أي الصندوق.

(فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) : أي في نهر النيل.

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢) : تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.

(عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) : ليكمل له رضاعه

(وَقَتَلْتَ نَفْساً) : هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو في بيت فرعون.

(فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) : إذ استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك منهم.

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) : أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.

__________________

(١) سؤل بمعنى مسؤول كخبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول.

(٢) الصنع هنا : بمعنى التربية والتنمية.

٣٤٧

(جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) (١) : أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) : أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباء منا لك لتحمل رسالتنا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليه‌السلام سأل ربه أمورا لتكون عونا له على حمل رسالته فأجابه تعالى بقوله : في هذه الآية (٣٦) (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قد أعطيت ما طلبت ، (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل (٢) (إِذْ أَوْحَيْنا (٣) إِلى أُمِّكَ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) أي في الصندوق (٤) (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) أي نهر النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي (٥) وَعَدُوٌّ لَهُ) فهذه النجاة نعمة ، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك ، ونعمة أخرى وهي : من أجل أن تربّى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك وتقر عينها ولا تحزن على فراقك ، وهو ما تضمنه قوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) (٦) فتقول : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لكم أي لا رضاعه وتربيته. (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) ، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك النفس وائتمار آل فرعون على قتلك (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (٧) أي ابتليناك ابتلاء عظيما وها هي ذي خلاصته في الأرقام التالية :

١ ـ حمل امك بك في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.

٢ ـ إلقاء أمك بك في اليم.

٣ ـ تحريم المراضع عليك حتى رجعت إلى أمك.

٤ ـ أخذك بلحية فرعون وهمه بقتلك.

__________________

(١) كما قال الشاعر :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى موسى ربه على قدر

(٢) أوحى الله تعالى إلى أم موسى : (أَنِ اقْذِفِيهِ ..) الآية.

(٣) هذا إلهام لها أو منام إذ لم تكن نبيّة اجماعا.

(٤) الساحل : الشاطىء ، وهو ساحل معهود وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة. واللام في (فليلقه) لام التكوين الإلهي.

(٥) هذا العدو : فرعون عدو الله تعالى وعدو موسى وبني اسرائيل.

(٦) أخت موسى تسمى مريم بنت عمران.

(٧) الفتون : مصدر كالدخول والخروج وهو كالفتنة ، وهي اضطراب حال المرء في مدة حياته.

٣٤٨

٥ ـ قتلك القبطي وائتمار آل فرعون بقتلك.

٦ ـ إقامتك في مدين وما عانيت من آلام الغربة.

٧ ـ ضلالك الطريق بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.

هذه بعض ما يدخل تحت قوله تعالى : وفتناك فتونا وقوله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) (١) ترعى غنم شعيب عشرا من السنين (ثُمَّ جِئْتَ) من مدين إلى طور سينا (عَلى قَدَرٍ) منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته.

واصطنعتك لنفسي أي خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدّرته لك لأحمّلك عبء الرسالة إلى فرعون وبني إسرائيل :

إلى فرعون لتدعوه إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر لطف الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.

٢ ـ مظاهر اكرام الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليه‌السلام.

٣ ـ آية حب الله تعالى لموسى ، وأثر ذلك في حب الناس له.

٤ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليه‌السلام.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ

__________________

(١) مدين أحد أبناء إبراهيم عليه‌السلام ، وأهل مدين : أي : البلاد التي سميت باسم ابن ابراهيم هم قوم شعيب ، والبلاد على ساحل البحر الأحمر جنوب العقبة.

٣٤٩

وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

شرح الكلمات :

(بِآياتِي) : أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.

(وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) : أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما على أداء رسالتكما.

(إِنَّهُ طَغى) : تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.

(قَوْلاً لَيِّناً) : أي خاليا من الغلظة والعنف.

(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) : أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم ويرسل معكما بني إسرائيل.

(يَفْرُطَ عَلَيْنا) : أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعوه ونبين له.

(أَوْ أَنْ يَطْغى) : أي يزداد طغيانا وظلما.

(أَسْمَعُ وَأَرى) : أي اسمع ما تقولانه وما يقال لكما ، وأرى ما تعملان وما يعمل لكما.

(فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم ابراهيم.

(بِآيَةٍ) : أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولا ربك حقا وصدقا.

(وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) : أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى ، إذ الهدى إيمان وتقوى.

(مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) : أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.

معنى الكلمات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في

٣٥٠

الآية السابقة أنه صنعه لنفسه ، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء ، ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي (١) وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) (٢) وبين لهما إلى من يذهبا وعلة ذلك فقال : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان كفار ادعى أنه رب وإله ، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٣) أي رجاء أن يتذكر معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع نفسه فيؤمن ويهتدي (٤) أو يخشى العذاب ان بقى على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل ويرسلهم معكما ، فأبدى موسى وأخوه هارون تخوفا فقال ما أخبر تعالى به عنهما في قوله : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل ، (أَوْ أَنْ يَطْغى) (٥) أي يزداد طغيانا وظلما. فطمأنهما ربهما عزوجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما فقال لهما : (لا تَخافا) أي من فرعون وملائه : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) اسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فاتياه إذا ولا تترددا فقولا أي لفرعون (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) أي إليك (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لنخرج بهما حيث أمر الله ، (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال وأحطها ، (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ (٦) رَبِّكَ) أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك بالعدل والتوحيد

__________________

(١) يروى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الآيات التسع. وهذا باعتبار ما يكون وإلا فما حصل هو آية العصا واليد لا غير.

(٢) ولا تنيا ؛ أي : ولا تضعفا. يقال : وني يني ونىّ أي : ضعف في العمل. أي : لا تني أنت وأبلغ هارون أن لا يني.

(٣) لعلّ : حرف ترج ولكن هي هنا بالنسبة إلى موسى وهارون معناه : لعل رجاء كما وطمعكما. فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر.

(٤) لقد تذكر فرعون وخشي وذلك ساعة غرقه ولم ينفعه ذلك إذ قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل.

(٥) قوله تعالى : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ) الخ هذه بداية كلام موسى وهارون بعد أن انتهى كلام موسى مع ربّه وحده. قبل أن يصل إلى مصر ، ومعنى : يفرط يبادر بعقوبتهما ويعجلها ، يقال : فرط منه أمر أي : بدر ، وأفرط : أسرف وفرّط : ترك وأضاع ، وفي الآية دليل عدم المؤاخذة بالخوف مما من شأنه أن يخاف ، ولكن لا يمنع من عبادة الله تعالى التي هي علّة الخلق والوجود.

(٦) هي اليد والعصا.

٣٥١

وينهاك عن الظلم والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع الهدى الذي جئناك به ، فاتبع الهدى تسلم (١) ، وإلا فأنت عرضة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه (قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) أي أوحى إلينا ربنا ، (أَنَّ الْعَذابَ (٢) عَلى مَنْ كَذَّبَ) بالحق الذي جئناك به (وَتَوَلَّى) عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياء وعنادا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم شأن الذكر بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلا وتركا.

٢ ـ وجوب مراعاة الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم.

٣ ـ تقرير معية الله تعالى مع أوليائه وصالحى عباده بنصرهم وتأييدهم.

٤ ـ تقرير أن السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.

٥ ـ شرعية إتيان الظالم وأمره ونهيه والصبر على اذاه.

٦ ـ عدم المؤاخذة على الخوف حيث وجدت اسبابه.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

__________________

(١) والسّلام هنا ليس سلام تحية.

(٢) قوله تعالى : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذّبوا ولم يتولوا.

٣٥٢

شرح الكلمات :

(أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) : أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.

(ثُمَّ هَدى) : أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) : أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن ادلائه بالحجج حتى لا يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) : أي علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه لا يعنينا

(فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي) : أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم

(وَلا يَنْسى) : بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر لعذاب فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.

(مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) : مهادا ، فراشا وسلك : سهل ، وسبلا طرقا.

(أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) : أزواجا : أصنافا : شتى : مختلفة الألوان والطعوم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.

(لِأُولِي النُّهى) : أي أصحاب العقول لأن النهية العقل وسمى نهية لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ) : أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند البعث يوم القيامة.

(تارَةً أُخْرى) : أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقا من طين الأرض وهذه اخراجا من الأرض.

معنى الآيات :

السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه‌السلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون ودعواه إلى الله تعالى ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادىء لين كما أمرهما الله تعالى : فقالا له : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ

٣٥٣

كَذَّبَ وَتَوَلَّى)؟ ولم يقولا له لا سلام عليك ، ولا أنت مكذب ومعذب ، وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟) أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى (١) كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب ، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفا موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال : (فَما (٣) بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان.

وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) (٤) (، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥) فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها ، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلا بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا مبسوطة للحياة عليها (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي سهل لكم للسير عليا طرقا تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا (٦) بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي بالمطر ازواجا أي أصنافا من نبات شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله

__________________

(١) أعلمه عليه‌السلام بأنّ ربه تعالى يعرف بصفاته لا بذاته ولا باسم يعرف به ولم يقل له موسى : إنه الله ، لأنّ الاسم العلم لا يهدي إلى معرفته تعالى كما تهدي إليه الصفات العلى التي لا يقدر فرعون على جحدها وإنكارها.

(٢) قال ابن عباس : أعطى كل زوج من جنسه ثمّ هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وقال مجاهد : اعطى كل شيء صورته ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. قال الشاعر :

وله في كل شيء خلقه

وكذا الله ما شاء فعل

(٣) البال : الحال أي : ما حالها وما شأنها؟ فأعلمه موسى عليه‌السلام أنّ علمها عند الله أي : إن ما سألت عنه من علم الغيب الذي استأثر الله به دون سواه.

(٤) في هذه الآية دليل على مشروعية كتابة العلوم وتدوينها ، حتى لا تنسى فتضيع وفي الحديث شاهد آخر ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده. إن رحمتي تغلب غضبي).

(٥) الضلال : الخطأ في العلم شبّه بخطإ الطريق ، والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في الذهن.

(٦) في الكلام التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم والخطاب تنويعا للأسلوب وتحريكا للضمير الجامد.

٣٥٤

تعالى تتميما لكلام موسى وتذكيرا لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات وارعوا إبلكم واغنامكم وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وانه بذلك مستحق للعبادة دون سواه إلا أن هذه الدلائل لا يعقلها إلا اصحاب العقول وذوو النهى فهم الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى : (مِنْها) أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي بخلق أصلكم الأول وهو آدم ، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون فيها ، (وَمِنْها (١) نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٢) أي مرة أخرى وذلك يوم القيامة إذ نبعثكم من قبوركم أحياء للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تعين إجابة السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.

٢ ـ تقرير مبدأ من حسن (٣) إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

٣ ـ تنزه الرب تعالى عن الخطأ والنسيان.

٤ ـ الاستدلال بالآيات الكونية على الخالق عزوجل وقدرته وألوهيته.

٥ ـ احترام العقول وتقديرها لأنها تعقل (٤) صاحبها دون الباطل والشر.

٦ ـ تسمية العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.

__________________

(١) بمناسبة ذكر دلائل وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته دون سواه ذكّرهم بعقيدة البعث والجزاء مستدلّا عليها بقدرة الله تعالى وعلمه.

(٢) تجمع التارة على تارات كالمرة على المرّات ، والتارة : اسم جامد غير مشتق.

(٣) هذا حديث الصحيح : (من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

(٤) تعقل : أي : تحجزه أو تصرفه عما يضرّ حالا أو مآلا.

٣٥٥

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠))

شرح الكلمات :

(أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) : أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب العالمين.

(مِنْ أَرْضِنا) : أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.

(بِسِحْرِكَ يا مُوسى) : يشير إلى العصا واليد البيضاء.

(مَكاناً سُوىً) : أي مكان عدل بيننا وبينك ونصف ، صالحا للمباراة بحيث يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.

(يَوْمُ الزِّينَةِ) : أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.

(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) : أي وأن يؤتى بالناس من كل انحاء البلاد للنظر في المباراة.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) : أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في كبرياء وإعراض.

(فَجَمَعَ كَيْدَهُ) : أي ذوى كيده وقوته من السحرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة

٣٥٦

أخرى فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أي أرينا فرعون (آياتِنا كُلَّها) أي أدلتنا وحججنا (١) على أن موسى وهارون رسولان من قبلنا أرسلناهما إليه ، فكذب برسالتهما وأبى الاعتراف بهما ، وقال ما أخبر تعالى به عنه : (قالَ أَجِئْتَنا) (٢) أي يا موسى (لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أي منازلنا وديارنا ومملكتنا (بِسِحْرِكَ) الذي انقلبت به عصاك حية تسعى ، (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) نتقابل فيه ، (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (٣) عدلا بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به عنه فقال : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل ، (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (٤) أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل أنحاء المملكة وهنا (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كبر فرعون وصلفه وطغيانه.

٢ ـ للسحر آثار وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.

٣ ـ مشروعية المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.

٤ ـ مشروعية اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ

__________________

(١) أي : الدالة على وجود الله تعالى ووجوب ألوهيته وعلى صحة نبوّة موسى وهارون.

(٢) لما رأى الآيات وبهرته احتال في دفعها اللعين بدعواه انّ موسى جاء ليخرج فرعون وقومه من بلادهم ليستقل بها دونهم ، وهذا من الكذب السياسي الممقوت.

(٣) قرأ حفص (سُوىً) كطوى بضم السين ، وقرأ نافع سوى بكسرها كطوى ، والكسر أفصح. أي : وسطا في المدينة لا يشق على من يأتيه.

(٤) اختار موسى اليوم والساعة ، وهي : الضحى لعلمه أنه سيغلب السحرة وينهزمون أمامه ، فأحب أن يكون الوقت مناسبا بكثرة المتفرّجين ووضوح الرؤية لهم في شباب النهار (الضحى)

٣٥٧

وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦))

شرح الكلمات :

(وَيْلَكُمْ) : دعاء عليهم معناه : ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.

(فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) : أي يهلككم بعذاب من عنده.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ) : أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوى) : وهي قولهم : ان هذان لساحران يريدان الخ ...

(بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) : أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) : أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.

قد أفلح من استعلى : أي قد فاز من غلب.

(إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) : أي عصاك.

فخيل إليه أنها تسعى : أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى ، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام والسحرة الذين جمعهم فرعون

٣٥٨

للمباراة فأخبر تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون : (وَيْلَكُمْ (١) لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب (فَيُسْحِتَكُمْ (٢) بِعَذابٍ) أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال ، (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله :

(فَتَنازَعُوا (٣) أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) وقوله (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله : (إِنْ (٤) هذانِ لَساحِرانِ) أي موسى وهارون (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي دياركم المصرية ، (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) (٥) أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما على ما جاءا به ويدينون بدينهما ، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم ، (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) واحدا متراصا ، (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي غلب ، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا بأمر فرعون : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) عصاك ، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى : (بَلْ أَلْقُوا) ، فالقوا عندئذ (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) وكانت ألوفا فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد).

__________________

(١) الويل : الهلاك وهو شبه مصدر ، ونصبه إما على تقدير : ألزمهم الله أو على النداء أي : يا ويلهم. كقوله : (يا ويلنا من بعثنا).

(٢) سحت وأسحت بمعنى ، وأصله من استقصاء الشعر في إزالته قرأ أهل الكوفة : (فيسحتكم) بضم الياء من أسحت ، وقرأ أهل الحجاز بفتح الياء من : سحت قال الشاعر :

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلّا مسحتا أو مجلّفا

والشاهد في : مسحت من أسحت.

(٣) التنازع : مشتق من جذب الدلو من البئر وجذب الثوب من الجسد والتنازع تفاعل إذ كل ذي رأي يريد نزع رأي صاحبه لرأيه لما يراه من الصواب.

(٤) قراءة الجمهور بكسر إنّ وتشديد النون ، وبلغ الخلاف في هذا الحرف أشدّه فبلغوا فيه إلى ستة تخريجات أمثلها : أن (إن) حرف جواب بمعنى نعم قال الشاعر :

ويقلن شيب علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

والشاهد في إنه جواب لما في البيت من كلام ، والهاء في إنه هاء السكت ، وشاهد آخر وهو : أنّ عبد الله بن الزبير قال لأعرابي استجداه فلم يعطه : إنّ وراكبها. لما قال الأعرابي : لعن الله ناقة حملتني إليك. فقوله : إنّ : أي : نعم وراكبها أي : ملعون كذلك.

(٥) المثلى : مؤنث : الأمثل ، من المثالية التي هي حسن الحال. أراد فرعون إثارة الحمية في قومه ليدافعوا عن عاداتهم وشرائعهم وأخلاقهم.

٣٥٩

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الكذب على الله تعالى ، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.

٢ ـ من مكر الانسان (١) وخداعه أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفا من التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.

٣ ـ معية الله تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة التي تقال. لا سيما في موقف كهذا.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))

شرح الكلمات :

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) : أي أحس بالخوف في نفسه.

(أَنْتَ الْأَعْلى) : أي الغالب المنتصر.

(تَلْقَفْ) : أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي

(كَيْدُ ساحِرٍ) : أي كيد سحر لا بقاء له ولا ثبات.

__________________

(١) المراد به الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولقائه ولا يتحلى بالصبر والتقوى.

٣٦٠