أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

شرح الكلمات :

(فَانْتَبَذَتْ بِهِ) : فاعتزلت به.

(مَكاناً قَصِيًّا) : أي بعيدا من أهلها.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) : أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.

(إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) : لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.

(نَسْياً مَنْسِيًّا) : أي شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها) : أي عيسى عليه‌السلام بعدما وضعته.

(تَحْتَكِ سَرِيًّا) : أي نهرا يقاله سري.

(رُطَباً جَنِيًّا) : الرطب الجني : ما طاب وصلح للإجتناء.

(فَكُلِي وَاشْرَبِي) : أي كل من الرطب واشربي من السري.

(وَقَرِّي عَيْناً) : أي وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.

(نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) : أي إمساكا عن الكلام وصمتا.

٣٠١

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمرا مقضيا ونفخ في كم درعها أو جيب قميصها فحملته (١) فورا (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي فاعتزلت به في مكان بعيد (٢) (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) (٣) أي ألجأها وجع النفاس (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه ، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به : (قالَتْ يا لَيْتَنِي (٤) مِتُّ قَبْلَ هذا) أي الوقت الذي أصبحت فيه أم ولد ، (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٥) أي شيئا متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا (فَناداها) عيسى (٦) عليه‌السلام (مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي) يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي نهر ماء يقال له سري ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر ، (وَقَرِّي عَيْناً) أي طيبي نفسا وافرحي بولدك ، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما هو إلّا أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي : هذا هو الظاهر لأنّ الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ) والفاء للترتيب والتعقيب.

(٢) انتحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس : إلى أقصى الوادي وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فرارا من تعبير قومها بالولادة من غير أب.

(٣) يقال : جاء به وأجاءه إلى موضع كذا : اضطره وألجأه.

(٤) تمني الموت لا يجوز لحديث : (لا يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به) الحديث وتمنّته مريم عليهاالسّلام لا لصالح نفسها ولكن لله تعالى ، وذلك أنها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتعيّر فتفتن بذلك ، وهذا لله ، وثانيا خافت أن يقع بعض الناس في البهتان والنسبة إلى الزنى فيهلكون. وهذا أيضا لله لا لها.

(٥) النسي : الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل ونحوهما ، ويجمع النسي على أنساء قال الكميت رضي الله عنه :

أتجعلنا جسرا لكب قضاعة

ولست بنسي في معدّ ولا دخل

والنسي أيضا : خرق الحيض التي ترمى بدمها من الحيض.

(٦) قرأ نافع من بكسر الميم حرف جر ، وقرأ حفص (مِنْ) بفتحها ، اسم موصول والمراد بالموصول عيسى عليه‌السلام ناداها قبل أن ترضعه من تحتها تعجيلا للمسرة والبشرى لها به فأن في ألا تحزني تفسيرية لأنّ النداء قول.

٣٠٢

هداية الايات

من هداية الآيات :

١ ـ من مظاهر قدرة الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.

٢ ـ إثبات كرامات الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن ، وأثمر لها النخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.

٣ ـ تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب (١) الجني إذ هذا في استطاعتها.

٤ ـ مشروعية النذر إلا أنه بالامتناع (٢) عن الكلام منسوخ في الإسلام.

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣))

__________________

(١) قالت العلماء : أكل الرطب للنفساء من أنفع الأغذية لها نظرا إلى أنّ الله تعالى اختاره لمريم عليهاالسّلام.

(٢) قولها (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) فسر الصوم بالصمت كما في التفسير وأولى من هذا أن يكون صوم النذر في دينهم مستلزما للصمت وعدم الكلام ، والسياق دالّ عليه ظاهر فيه ، وما زال النصارى يعتبرون الصمت عبادة فيصمتون دقائق على أرواح موتاهم ونسخ الإسلام هذا كما في الصحيح حيث أمر من نذر أن لا يتكلم أن يتكلم ، ومن سنن الهدى في الاسلام الامتناع عن الكلام القبيح في الصيام لحديث الصحيح : (إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرىء قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم) وهو كقول مريم : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ..

٣٠٣

شرح الكلمات :

(فَأَتَتْ بِهِ) : أي بولدها عيسى عليه وعليهاالسّلام.

(جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (١) : أي عظيما حيث أتيت بولد من غير أب.

(يا أُخْتَ هارُونَ) : أي يا أخت الرجل الصالح هارون.

(امْرَأَ سَوْءٍ) : أي رجلا يأتي الفواحش.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) : أي إلى عيسى وهو في المهد.

(آتانِيَ الْكِتابَ) : أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلا.

(مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) : أي حيثما وجدت كانت البركة فيّ ومعي ينتفع الناس بي.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) : أي محسنا بها مطيعا لها لا ينالها مني أدنى أذى.

(جَبَّاراً شَقِيًّا) : ظالما متعاليا ولا عاصيا لربي خارجا عن طاعته.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة مريم مع قومها : إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به قومها وما ان رأوهما حتى قال قائلهم : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما وهو إتيانك بولد من غير أب. (يا أُخْتَ هارُونَ) (٢) نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون : (ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ) يأتي الفواحش (وَما كانَتْ أُمُّكِ) «حنة» (بَغِيًّا) أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر وينبئكم بالحق ، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة.

__________________

(١) (فَرِيًّا) : أي : مختلقا مفتعلا من الافتراء الذي هو الكذب يقال : فرى وأفرى : كذب ومن كراماتها أن امرأة مدّت لها يدها لتضرّبها أصيبت بالشلل الفوري فحملت كذلك وقالت لها : أخرى ما أراك إلّا زنيت فأخرسها الله فورا فصارت لا تتكلم ومن ثمّ ألانوا لها الكلام واحترموها.

(٢) من الجائز أن يكون لمريم أخ صالح من أبيها أو من أبويها نسبوها إليه ومن الجائز أن تنسب إلى هارون الرسول عليه‌السلام كقول العرب يا أخا تميم ويا أخا العرب ، وما في التفسير إجمال يشمل الكلّ فتأمّل ، وفي الآية دليل على جواز التسمية بالأنبياء والصالحين ، ولا خلاف فى ذلك.

٣٠٤

فردوا عليها مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ (١) فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟) فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في قوله : (قالَ إِنِّي (٢) عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا (٣) بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) (٤) فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به ، وكان عيسى كما أخبر عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئا كان عبدا لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى بني إسرائيل وكان مباركا يشفي المرضى ويحيي الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيما للصلاة مؤديا للزكاة طوال حياته وما كان ظالما ولا متكبرا عاتيا ولا جبارا عصيا. فعليه كما أخبر السّلام أي الأمان التام يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن في قبره ويوم يبعث حيا فلا يحزنه الفزع الأكبر ، ويكون من الآمنين السعداء في دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبودية عيسى ونبوته عليهما‌السلام.

٢ ـ آية نطق عيسى في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.

٣ ـ وجوب بر الوالدين بالاحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.

٤ ـ التنديد بالتعالى والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ

__________________

(١) (كانَ) : هنا زائدة للتوكيد ، ومن : مبتدأ والخبر في المهد و (صَبِيًّا) : حال من الموصول.

(٢) قيل : لما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه وقال مشيرا بسبابته اليمنى : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى ، وفي هذا ردّ على الذين ألّهوه وعبدوه من دون الله تعالى.

(٣) البرّ : بمعنى البار وخص بهذه الصفة لأنّ قومهم قل فيهم البرور بالوالدين وكثر فيهم العقوق نظرا إلى فشو الباطل فيهم ورقة حبل الدين بينهم ، والجبّار : المتكبر على الناس الغليظ في معاملتهم ، والشقي ضدّ السعيد.

(٤) لما قال ما قال في المهد : إني عبد الله .. إلى قوله : (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) لم يتكلم حتى بلغ سن التكلم.

٣٠٥

فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) : أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن مريم.

(قَوْلَ الْحَقِ) : أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.

(يَمْتَرُونَ) : يشكون.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) : أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولدا وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.

(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.

(صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) : أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا ، وقال النصارى هو الله وابن الله تعالى الله عما يصفون.

(مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : هو يوم القيامة.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) : أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) : أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة وذلك عند ما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.

٣٠٦

معنى الآيات :

بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجابا معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال : إني عبد الله ، فبين تعالى أن جبريل بشرها ، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها : أن لا تحزني ، وأرشدها إلى القول الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب ، وهو أن تشير إليه تطلب منهم أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبيا ومباركا وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيا وأنه بر بوالدته ، ولم يكن جبارا شقيا فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية (٣٤) (ذلِكَ) أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، وما أخبرتكم به هو (قَوْلَ (١) الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة وقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه ، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليه‌السلام كان بكلمه الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢). وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير ، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله : سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣). هذا من قول (٤) عيسى عليه‌السلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله مع الله وأخبرهم

__________________

(١) قرأ الجمهور برفع قول وقرأ عاصم بنصبها ، فأما الرفع فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أو وصف لعيسى أو بدل منه ، وأمّا النصب فعلى الحال من اسم الإشارة.

(٢) في هذا ردّ على النصارى القائلين بأن المكوّن بأمر التكوين من غير سبب معتاد لا يكون إلّا ابن الله تعالى فبيّنت الآية أنّ أصول الموجودات كلها كانت بأمر التكوين فهل يقال فيها أبناء الله؟! والجواب قطعا لا ، وعليه فقد بطل قولهم : عيسى ابن الله لأنّه كان بكلمة التكوين.

(٣) جملة : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) تذييل وفذلكة لما سبق من الكلام وإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف وجوهه ، في تقرير الحق وإبطال الباطل.

(٤) نعم الظاهر أنه من قول عيسى عليه‌السلام ، والجمل قبله من قوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) اعتراض بين قول عيسى الأوّل : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وبين قوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ).

٣٠٧

أنّ الله تعالى هو ربه وربهم فليعبدوه جميعا بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلا هو سبحانه وتعالى ، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران وقوله تعالى في الآية (٣٧) (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) (١) أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله ، ومن قائل هو ابن الله ومن قائل هو وامه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بنسبتهم الولد والشريك لله ، والويل واد في جهنم فهم إذا داخلوها لا محالة ، وقوله (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر قدرها.

وقوله تعالى في الآية (٣٨) (أَسْمِعْ (٢) بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا ، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصارا وسمعا ، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر ، وقوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله ونزلت بها كتبه.

وقوله تعالى في آية (٣٩) (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (٣) إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يأمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عند ما يتوارث الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة ، والمشركون يرثون منازل

__________________

(١) (مِنْ) : زائدة واختلاف الأحزاب ، وجهه : أن اليهود قادحون والنصارى مادحون ، فاليهود قالوا : ساحر وابن زنية ، والنصارى فرقة : قالت هو الله وأخرى قالت : ابن الله ، وثالثة قالت : ثالث ثلاثة ، وهذه الفرق هي الملكانية ، واليعقوبية ، والنسطورية ثم تشعبت وأشهرها الآن : الملكائية أي الكاتوليك واليعقوبية : أي أرثذوكس والاعتراضية أي : البروتستانت.

(٢) هذا الكلام ظاهر أنه أمر لحمل السامع على التعجب من حال المذكورين ، ومعناه الخبر أي : لا أحد أسمع منهم ولا أبصر يوم يقفون في عرصات القيامة ، ويشاهدون النار ويسمعون زفيرها.

(٣) روي في مسند أحمد وفي الصحيحين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنّه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرونه ويقولون : نعم هذا الموت. قال : فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت. قال : فيؤمر به فيذبح. قال. ويقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ..) الآية.

٣٠٨

الموحدين في النار ، وعند ما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ، وينادي مناد يا أهل الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم هذا معنى قوله تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ (١) نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها ، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا أنه حكم بفناء ، هذه المخلوقات وأن يوما سيأتي يفنى فيه كل من عليها ، والجميع سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به ، ولذا فلا تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله ، وليس كما قال اليهود ، ولا كما قالت النصارى.

٢ ـ استحالة اتخاذ الله الولد وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.

٣ ـ تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه‌السلام.

٤ ـ الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه‌السلام.

٥ ـ بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.

٦ ـ تقرير فناء الدنيا ، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ

__________________

(١) هذه الجملة ذيّل بها الكلام السابق فتمت به القصة وضمير (نَحْنُ) للتأكيد والأرض : المراد بها ما فيها من غير العقلاء (وَمَنْ عَلَيْها) المراد بهم العقلاء وهم البشر.

٣٠٩

إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))

شرح الكلمات :

(اذْكُرْ فِي الْكِتابِ) : أي في القرآن.

(إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) : أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.

(يا أَبَتِ) : يا أبي وهو آزر.

(صِراطاً سَوِيًّا) : أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.

(لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) : أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة الأصنام.

(عَصِيًّا) : أي عاصيا لله تعالى فاسقا عن أمره.

(فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) : أي قريبا منه قرينا له فيها أي النار.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاذْكُرْ) يا نبينا (فِي الْكِتابِ) أي القرآن الكريم (إِبْراهِيمَ) خليلنا (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) أي صادقا في أقواله وأعماله بالغا مستوى عظيما في الصدق (نَبِيًّا) من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة للمؤمنين. واذكره (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر (يا أَبَتِ (١) لِمَ تَعْبُدُ) أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) لا يدفع عنك ضرا ولا يجلب لك نفعا فأي حاجة لك إلى عبادته (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ (٢) الْعِلْمِ) أي من قبل ربي تعالى (ما لَمْ يَأْتِكَ) أنت (فَاتَّبِعْنِي) فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه (أَهْدِكَ صِراطاً (٣) سَوِيًّا) أي مستقيما يفضي

__________________

(١) الاستفهام للإنكار أي : لأيّ شيء تعبد.

(٢) أي : من اليقين والمعرفة بالله وبما يكون بعد الموت ، وأنّ من عبد غير الله يعذّب ابدا.

(٣) أرشدك إلى دين قيّم فيه نجاتك وسعادتك.

٣١٠

بك إلى السعادة والنجاة ، (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع ، (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (١) أي عاصيا أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) (٢) إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك عذاب من الرحمن (فَتَكُونَ) أي بذلك (لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي قريبا منه قرينا له في جهنم فتهلك وتخسر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بالدعوة إليه.

٢ ـ كمال إبراهيم بذكره في الكتاب.

٣ ـ بطلان عبادة غير الله تعالى.

٤ ـ عبادة الأوثان والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

__________________

(١) الجملة تعليلية للنهي عن عبادة الشيطان واتباع وسوسته وما يدعو إليه من الشرك.

(٢) أي : إني أخاف أن تموت على الكفر فيمسك العذاب الأليم.

٣١١

شرح الكلمات

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) : أي عن التعرض لها وعيبها.

(لَأَرْجُمَنَّكَ) : بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.

(وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (١) : أي سليما من عقوبتي

(سَلامٌ عَلَيْكَ) : أي أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.

(إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) : أي لطيفا بي مكرما لي يجيبني لما أدعوه له.

(عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) : بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.

(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) : بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.

(وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته قومه.

(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) : خيرا كثيرا المال والولد بعد النبوة والعلم.

(لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) : أي رفيعا بأن يثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة إبراهيم مع أبيه آزر إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر رادا عليه بعبارات خالية من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى عنه في قوله : في الآية (٤٦) (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أي أكاره لها تعيبها ، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أى عن التعرض لها بأي سوء (٢) (لَأَرْجُمَنَّكَ) بأبشع الألفاظ وأقبحها ، (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٣) أي وابعد عني مادمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب ابراهيم المؤمن الموحد أجاب بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية (٤٧) (قالَ سَلامٌ (٤) عَلَيْكَ) (٥) أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك

__________________

(١) (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي : اتركني وشأني وابعد عنّي طويلا تسلم من عقوبتي.

(٢) أي : كعيبها وشتمها.

(٣) وقيل في معناه : اجتنبني سالما قبل أن تصيبك عقوبتي ، وقيل : اهجرني طويلا.

(٤) هذا يسمى سلام المتاركة ، وليس هو بالتحية وهل يجوز بدء الكافر بالسلام؟ في المسألة خلاف ، والراجح : جواز السّلام إذا كان لغرض سليم ككونه جارا لك أو رفيقا أو مصاحبا لك في عمل أو لك إليه حاجة وما إلى ذلك إذ سلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جماعة فيهم مشركون كما في الصحيح ، وأمّا حديث : (لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام) فهو إذا لم يكن هناك غرض صحيح.

(٥) (سَلامٌ) : نكرة وصح الابتداء بها لما فيها من معنى التخصيص فقاربت لذلك المعرفة وصحّ الابتداء بها. و (عَلَيْكَ) الخبر.

٣١٢

فيما كرهت مني قط وسأقابل إساءتك بإحسان (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك (إِنَّهُ كانَ) سبحانه وتعالى (بِي حَفِيًّا) لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.

وقوله تعالى حكاية عن قيل ابراهيم : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أذهب بعيدا عنكم تاركا لكم ولما تعبدون من دون الله من أصنام وأوثان ، (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (١) أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبرا عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى ديار القدس تاركا أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته وهما إسحق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولا ، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة الوالد ابراهيم وولداه اسحق ويعقوب بن اسحق عليهم‌السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولد والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وهو ابن ولده إسحق (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا). وقوله تعالى عنهم (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم وولديه إكراما من الله تعالى وإنعاما عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الفرق بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام ، وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة الكلام.

٢ ـ مشروعية سلام المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد

__________________

(١) أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال ، وفي قوله تعالى (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) وهنا له دليل يرجح هذا القول. والله أعلم.

٣١٣

بذلك تحيته ولكن تركه وما هو فيه.

٣ ـ مشروعية الهجرة وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.

٤ ـ الترغيب في حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير وإفضال.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) : أي في القرآن تشريفا وتعظيما.

(مُوسى) : أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه‌السلام.

(مُخْلَصاً) : أي مختارا مصطفى على قراءة فتح اللام «مخلصا» وموحدا لربه مفردا اياه بعبادته بالغا في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.

(جانِبِ الطُّورِ) : الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.

(وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) : أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجيا لنا مكلما من قبلنا.

(أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) : إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبّأه وأرسله معه إلى فرعون.

معنى الآيات :

هذا موجز قصة موسى عليه‌السلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاذْكُرْ) في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد واليقين موسى ابن عمران انه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي مختارا مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو ذكرنا وشكرنا ذكرنا بالسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون من سوانا ، وكان موسى كذلك ، وقوله تعالى : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبيا رسولا نبأناه

٣١٤

وأرسلناه إلى فرعون وملائه ، (وَنادَيْناهُ) (١) وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن (٢) حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) فصار يناجينا فنسمعه كلامنا ونسمع (٣) كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم ، وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ (٤) رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله معه رسولا وما كان هذا إلا برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها بالاجتهاد في العبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الإخلاص ، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهرا وباطنا.

٢ ـ إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى.

٣ ـ بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين باستجابة دعائه بأن جعل أخاه هارون رسولا نبيا.

٤ ـ تقرير أن كل رسول نبيا والعكس لا أي ليس كل نبي رسولا.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ

__________________

(١) قيل : كان هذا الكلام والمناجاة ليلة الجمعة. ذكره القرطبي.

(٢) هو بالنسبة إلى يمين موسى عليه‌السلام أما الجبل فلا يمين له ولا شمال «ابن جرير الطبري».

(٣) أي : من غير وحي بل كفاحا وجها لوجه بلا واسطة.

(٤) وذلك حين سأل ربه قائلا : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) الآية.

٣١٥

أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) : أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما‌السلام.

(صادِقَ الْوَعْدِ) : لم يخلف وعد قط.

(بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) : أي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

(مَرْضِيًّا) : أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.

(إِدْرِيسَ) : هو جد أبي نوح عليه‌السلام.

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) : إلى السماء الرابعة.

(إِسْرائِيلَ) : أي يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم‌السلام.

(وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) : أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) : أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.

(سُجَّداً وَبُكِيًّا) : جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.

معنى الآيات :

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وابراهيم وموسى اذكر كذلك اسماعيل (١) فإنه (كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) (٢) لم يخلف وعدا قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجىء وهو قائم في مكانه ينتظره ، (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) نبأه تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى :

__________________

(١) هو إسماعيل بن إبراهيم والذي أمّه هاجر عليهما‌السلام ولا التفات إلى قول من قال : إنه إسماعيل بن حزقيل الذي بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلد رأسه. الخ كما في القرطبي.

(٢) في الآية دليل على وجوب صدق الوعد وفي الحديث : (إنّ الخلف من آيات النفاق). وقد انتظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام وهو مقيم في مكان ينتظر من واعده اللقاء فيه وذلك قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه أبو داود والترمذي ، والرجل هو : أبو الحمساء وقال له : يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك!!

٣١٦

(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها ، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم ، وقوله : (كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين ، ومعنى (كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا (١) من قبل ربه عزوجل. وقوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) (٢) وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه (كانَ صِدِّيقاً) كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط ، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبيا من أنبياء الله ، وقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) إلى السماء الرابعة (٣) في حياته كما رفع تعال عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) كأدريس (٤) ، (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي في الفلك كابراهيم ، (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) كاسحق واسماعيل ، (وَإِسْرائِيلَ) أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ، (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والاخلاص لنا فيها (وَاجْتَبَيْنا) لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥) أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الأختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج (خَرُّوا سُجَّداً) لله ربهم (وَبُكِيًّا) عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.

__________________

(١) قيل : إنّ اسماعيل عليه‌السلام لم يعد شيئا إلّا وفّى به وهو صحيح يقتضيه ظاهر الآية الكريمة ، وقد قيل العدة دين ، وفي الأثر : وأي المؤمن واجب. والوأي. الوعد. قال الشاعر :

متى يقل حرّ لصاحب حاجة

نعم يقضها والحر للوأي ضامن

وقال مالك : إذا سأل الرجل الرجل شيئا فوعده ثمّ بدا له عدم إنجاز ما وعد لا شيء عليه ولا يقضي عليه بذلك لأنّ العدة بخير من باب الإحسان وليس على المحسنين من سبيل.

(٢) قيل : إنّ إدريس هو أوّل من خط بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.

(٣) كما في حديث المعراج في رواية مسلم وجاء فيه : (لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة.)

(٤) فنال ادريس الشرف بالقرب من آدم ، ونال ابراهيم الشرف بالقرب من نوح ونال إسماعيل الشرف واسحق ويعقوب بالقرب من ابراهيم عليهم‌السلام أجمعين.

(٥) البكيّ : مصدر من مصادر بكى يبكي بكاء وبكىّ وبكيّا ، ويكون البكي جمع باك نحو : قعود ، وقاعد وسجود جمع ساجد وأصل بكي : بكوي على وزن فعول فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.

٣١٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبىء محمدا ويرسله.

٢ ـ فضيلة الأمر بالصلاة والزكاة.

٣ ـ فضيلة الوفاء بالوعد والصدق في القول والعمل.

٤ ـ سنية السجود لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها. (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)

٥ ـ فضيلة البكاء حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكيّ يعني البكاء.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣))

شرح الكلمات :

(فَخَلَفَ) (١) : أي عقب سوء.

(أَضاعُوا الصَّلاةَ) : أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.

(اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) : انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.

(يَلْقَوْنَ غَيًّا) : أي واديا في جهنم يلقون فيه.

(وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) : أي لا ينقصون شيئا من ثواب حسناتهم.

__________________

(١) الخلف : بإسكان اللام خلف سوء وبفتحها خلف خير وصلاح.

٣١٨

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) : أي إقامة دائمة.

(بِالْغَيْبِ) : أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في السماء وهم في الأرض.

(مَأْتِيًّا) : أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتيا لا محالة.

(لَغْواً) : أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.

(بُكْرَةً وَعَشِيًّا) : أي بقدرهما في الدنيا وإلا فالجنة ليس فيها شمس فيكون فيها نهار وليل.

(مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي من كان في الحياة الدنيا تقيا لم يترك الفرائض ولم يغش المحارم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم ، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم (أَضاعُوا (١) الصَّلاةَ) فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) (٢) فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا ، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين ، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى أنهم (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) بعد دخولهم نار جهنم. والغي : ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم (٣) ، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيرا ما توجد الآبار في الأودية.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل صالحا فأدى الفرائض وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التابئون المنيبون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) مع سلفهم

__________________

(١) جائز أن يراد بهذا الخلف السيء كل من أضاع الصلاة بتركها أو بعدم إقامتها بإخلاله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها ، واتبع الشهوات من أهل الكتاب ومن المسلمين.

(٢) اتباع الشهوات لازم لإضاعة الصلاة لقول عمر : من أضاعها فهو لما سواها أضيع ، ولأنّ اقام الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : غيّ : واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعدّ الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا لا ينزع عنه ، ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة ادخلت على زوجها ولدا ليس منه.

٣١٩

الصالح ، (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئا من ثواب أعمالهم.

وقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة أبدية (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي كونهم مارأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبدا لا بد من الحصول عليه ومعنى مأتيا يأتيه صاحبه قطعا.

وقوله تعالى في الآية (٦٢) (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام اللهم إلا السّلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.

وقوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام والشراب (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا ليل في الجنة ولا نهار (١) ، وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.

وقوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) (٢) آية (٦٣) يشير تعالى إلى الجنة دار السّلام تلك الجنة العالية (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) منهم ، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجرا من الفجار ، إذ هذا معنى التوارث : هذا يرث هذا وذاك يرث ذا ، إذ ما من إنسان إلا وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة ونزل في منزلته ، ومن كفر وأشرك وعمل سوءا دخل النار ونزل في منزله فيها ، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.

__________________

(١) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنّما هم في نور أبدا وإنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب). ذكره أبو الفرج ابن الجوزي ، والمهدوي وغيرهما «القرطبي».

(٢) الجملة مستأنفة ، واسم الإشارة فيها للتنويه بها وبعلو مقامها وعظم الكرامة فيها لأهل التقوى.

٣٢٠