أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض ، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها ، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها ، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من أجلها.

٢ ـ تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيدا جرزا وقاعا صفصفا لا يرى فيها عوج ولا أمت.

٣ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالايجاز والتفصيل.

٤ ـ تقرير التوحيد ضمن قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفا من الشرك والكفر.

٥ ـ استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الغار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

شرح الكلمات :

(نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) : أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.

(وَزِدْناهُمْ هُدىً) : أي إيمانا وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة.

٢٤١

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي شددنا عليها فقويت عزائمهم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر.

(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) : لن نعبد من دونه إلها آخر.

(لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ) : أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.

(عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) : أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم المشركين.

(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.

(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) : وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.

(مِرْفَقاً) : أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها فقال (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) (١) أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) (٢) ، جمع فتى (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.

وقوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قوّينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس لنا رب سواه ، لن ندعوا من دونه إلها مهما كان شأنه ، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذا شططا من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا (٣) مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ، لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي هلا يأتون عليهم بسلطان بيّن أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلا الله؟!

وقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ (٤) مِمَّنِ افْتَرى) ينفي الله عزوجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى

__________________

(١) الحق هنا بمعنى الصدق في الإخبار والباء في قوله (بِالْحَقِ) للملابسة أي : القصص المصاحب للصدق والنبأ : الخبر ذو الشأن والأهمية.

(٢) الجملة بيانية أي : مبينة للقصص.

(٣) (مِنْ) ابتدائية ، أي آلهة ناشئة من غير الله تعالى.

(٤) (مِنْ) اسم استفهام ، ومعناه الإنكار والنفي ، الانكار على من اتخذ آلهة دون الله تعالى ، والنفي لوجود آلهة حق مع الله تعالى.

٢٤٢

على الله كذبا باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم (١) : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من الأصنام والأوثان (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى «بنجلوس» (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر «دقينوس» (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فرارا بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.

٢ ـ تقرير زيادة الإيمان ونقصانه.

٣ ـ فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.

٤ ـ تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله على لسان أصحاب الكهف.

٥ ـ بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.

٦ ـ الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب.

٧ ـ تقرير فرض الهجرة في سبيل الله.

٨ ـ فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ

__________________

(١) أي : قالوا ما قالوه على سبيل النصح والمشورة الصائبة.

٢٤٣

باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

شرح الكلمات :

(تَزاوَرُ) : أي تميل.

(تَقْرِضُهُمْ) : تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.

(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.

(مِنْ آياتِ اللهِ) : أي دلائل قدرته.

(أَيْقاظاً) : جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.

(بِالْوَصِيدِ) : فناء الكهف.

(رُعْباً) : منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ (١) عَنْ كَهْفِهِمْ) أي تميل عنه ذات اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ (٢) مِنْهُ) أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها ، وقوله (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم (٣) ، وقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم ، وليستعذ به من الضلال المبين ، إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال ، وقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ (٤) رُقُودٌ) أي انك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظا

__________________

(١) (تَزاوَرُ) : تنتحى أو تميل من الازورار والزور : الميل ، والأزور من الناس : المائل النظر إلى ناحية وازورّ : مال ومنه قول عنترة :

فازورّ من وقع القنّا بلبانه

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

الللّبان : الصدر ، والتحمحم : صوت دون الصهيل.

(٢) الفجوة : والجمع فجوات وفجاء وهو المتسع.

(٣) والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء ، وتغير الأبدان والألوان والتأذي بحرّ أو برد.

(٤) (رُقُودٌ) جمع راقد كراكع وركوع ، وساجد وسجود ، والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه وفعل الله تعالى هذا لحكمة وهي : حتى لا تؤثر الأرض على أجسامهم فتبلى ، ولم يعرف كم مرّة يقلبون فيها في الشهر أو العام أو في أقل أو أكثر.

٢٤٤

أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسّون بأحد ولا يشعرون ، وقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي جهة اليمين (وَذاتَ الشِّمالِ) أي جهة الشمال حتى لا تعدو التربة على أجسادهم فتبليها. وقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي : وكلبهم الذي خرج معهم ، وهو كلب صيد (باسِطٌ ذِراعَيْهِ (١) بِالْوَصِيدِ) أي : بفناء الكهف. وقوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) لرجعت فارا منهم (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي خوفا وفزعا ، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم ، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه.

من هداية الآيات :

١ ـ بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.

٢ ـ تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله ، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.

٣ ـ بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ

__________________

(١) فناء عند مدخل الكهف فشبّه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.

٢٤٥

السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

شرح الكلمات :

(كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) : أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم (١) من رقادهم بعثا خارقا للعادة أيضا فكان في منامهم آية وفي إفاقتهم آية.

(كَمْ لَبِثْتُمْ) : أي في الكهف نائمين.

(يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) : لأنهم دخلوا الكهف صباحا واستيقظوا عشية.

(بِوَرِقِكُمْ) : بدراهم الفضة التي عندكم.

(إِلَى الْمَدِينَةِ) : أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.

(أَزْكى طَعاماً) : أي أيّ أطعمة المدينة أحلّ أي أكثر حلّيّة.

(وَلْيَتَلَطَّفْ) : أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.

(يَرْجُمُوكُمْ) : أي يقتلوكم رميا بالحجارة.

(أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أطلعنا عليهم أهل بلدهم.

(لِيَعْلَمُوا) : أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معا.

(إِذْ يَتَنازَعُونَ) : أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.

(فَقالُوا) : أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) : وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجدا يصلى فيه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى

__________________

(١) البعث : التحريك من سكون أي : كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا أي : ايقظناهم من رقادهم على ما كانوا عليه من ثيابهم وأحوالهم.

٢٤٦

ومنعناهم من وصول أحد إليهم ، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهما كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مرض للجميع وهو قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) فسلموا الأمر إليه ، وكانوا جياعا فقالوا لبعضهم (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ (١) هذِهِ) يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم. وقوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فلينظر الذي تبعثونه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار (فَلْيَأْتِكُمْ (٢) بِرِزْقٍ مِنْهُ) لتأكلوه سدا لجوعكم وليتلطف (٣) في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحدا وعلل لقوله هذا بقوله (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يطلعوا (يَرْجُمُوكُمْ) أو يقتلوكم رجما بالحجارة (٤) (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) ملة الشرك بالقسر والقوة. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك .. فكفرتم وأشركتم بربكم.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيمانا ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) (٥) أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح ، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى إلى اليوم ، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فاتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساما وأرواحا كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم. (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) وقوله تعالى : (إِذْ

__________________

(١) قال ابن عباس كان معهم دراهم فضة عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم والورق : الفضة ، وقرىء بكسر الراء وقرىء بسكونها.

(٢) في هذه الآية دليل على جواز الوكالة في كل مباح مأذون فيه وسواء كان الموكل عاجزا أو قادرا ورأى بعضهم أنّ القادر لا يوكل ، والصحيح جوازه ، وقد وكّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صحيح حاضر ، ووكّل عليّ رضي الله عنه ووكل كثير من الصحابة من ينوب عنهم في أمورهم.

(٣) الجمهور على أن نصف حروف القرآن التاء من قوله : وليتلّطف أي : نصف القرآن من الفاتحة إلى (وَلْيَتَلَطَّفْ) والنصف الآخر والأخير منها إلى الناس.

(٤) القتل بالرجم بالحجارة أشفى لصدور أهل الدين لأنهم يشاركون في القتل بالرجم.

(٥) أطلعنا عليهم. يقال عثر على كذا : وقف عليه برجله ومنه العثار للرجل وأعثر عليه : جعل غيره يعثر عليه بمعنى يقف عليه مطلعا عليه ظاهرا.

٢٤٧

يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معا. وقوله تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) وبحالهم.

وقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلما معهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١) أي للصلاة فيه وفعلا بنوه على مقربة من فم الغار بالكهف.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.

٢ ـ وجوب طلب الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.

٣ ـ الموت على الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبدا.

٤ ـ تقرير معتقد البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.

٥ ـ مصداق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لعن الله اليهود والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقوله «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة» (في الصحيحين).

٦ ـ مصداق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع». إذ قد بنى (٢) المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور. (٣)

__________________

(١) اتخاذ المساجد على القبور من عمل أهل الكتاب قبل هذه الأمّة ، وقد بيّن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحذّر منه وحرّمه على أمته لما يفضي به إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى فقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : (لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ أولائك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا تلك الصور أولائك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). وروى مسلم : (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) وفي الصحيحين : (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا).

(٢) روى الترمذي وصححه عن جابر رضي الله عنه قال : (نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو يبنى عليها وأن توطأ) وروى أبو دواود والترمذي وغيرهما أنّ عليا قال لأحد رجاله أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألّا تدع تمثالا إلّا طمسته ولا قبرا مشرفا إلّا سويته ولا صورة إلّا طمستها) والمراد بالمشرف : العالي المرتفع أما تسنيم القبر شبرا وأكثر ليعرف فلا بأس به.

(٣) ذكر القرطبي هنا أنّ الدفن في التابوت جائز لا سيما في الأرض الرخوة وقال : روي أنّ دانيال عليه‌السلام كان في تابوت من حجر وأنّ يوسف عليه‌السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج.

٢٤٨

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

شرح الكلمات :

(رَجْماً بِالْغَيْبِ) : أي قذفا بالظن غير يقين علم.

(ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) : أي من الناس.

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ) : لا تجادل في عدتهم.

(وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) : أي من أهل الكتاب ، الاستفتاء : الاستفهام والسؤال.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أي إلا أن تقول إن شاء الله.

(لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) : هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.

(لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي علم غيب السموات والأرض وهو ما غاب فيهما

(أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) : أي أبصر بالله واسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما أسمعه

(ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) : أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله أي من ناصر.

٢٤٩

(وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) : لأنه غني عما سواه ولا شريك له.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شأن أصحاب الكهف سيقول بعضهم بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخرهم خمسة سادسهم كلبهم (١) (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قذفا بالغيب من غير علم يقيني ، ويقول بعضهم هم سبعة وثامنهم كلبهم ، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال : (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس أنا من ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم والمعرفة ، وسكت عن الفريق الثالث ، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله أعلم. وقوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) (٢) أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا بينا لينا بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم ، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) (٣) أي في أصحاب الكهف (ثامِنُهُمْ) أي من أهل الكتاب (أَحَداً) وذلك لأنهم لا يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ (٤) إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلا أي سأفعل كذا إلا أن تقول إن شاء الله (٥) ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث : الروح ، وأصحاب الكهف وذي القرنين ، قال لسائليه : أجيبكم غدا انتظارا للوحي ولم يقل إن شاء الله ، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر ، وأنزل هذه السورة وفيها هذا التأديب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين لتخرج من الحرج.

أما الكفارة فلازمة إلا أن يكون الاستثناء متصلا بالكلام وقوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ

__________________

(١) أصل الرجم هو الرجم بالحجارة ونحوها والمراد به هنا ، رمي الكلام من غير روّية ولا تثبّت ، والمراد أنّ ما قالوه في بيان عددهم هو من باب القول بالظن بدون علم.

(٢) المراد : بالظاهر هو الذي لا سبيل إلى انكاره ولا يطول الخوض فيه.

(٣) الاستفتاء : طلب الفتيا وهي الخبر عن أمر لا يعلمه إلّا ذوو العلم روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل بعض نصارى نجران فنهي عن ذلك.

(٤) لشيء أي : في شيء أو لأجل شيء.

(٥) أي : إلّا أن تذكر مشيئة الله تعالى.

٢٥٠

رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأسدّ ما وعدتكم أن أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختبارا لي. وقوله تعالى : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ (١) سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقودا من ساعة دخلوه إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين بالحساب القمري.

وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولا وبقوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ثانيا وبقوله : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب فيهما ، ثالثا ، وبقوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه شيء من أمورهم وأحوالهم خامسا ، وقوله (ما لَهُمْ) أي لأهل السموات والأرض من دونه تعالى (مِنْ وَلِيٍ) أي ولا ناصر (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.

٢ ـ بيان عدد فتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.

٣ ـ من الأدب مع الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلا إلا قال بعدها إن شاء الله.

٤ ـ من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلا إذا كان متصلا بكلامه.

٥ ـ تقرير المدة التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ

__________________

(١) قرأ الجمهور (ثَلاثَ مِائَةٍ) بالتنوين و (سِنِينَ) منصوب على التمييز أو على البدلية ، فهو مجرور ، وقرأ خلافهم بإضافة ثلثمائة إلى سنين.

٢٥١

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

شرح الكلمات :

واتل ما أوحي إليك من الكتاب : أي اقرأ القرآن تعبدا ودعوة وتعليما.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها وأحكامها.

(مُلْتَحَداً) : أي ملجأ تميل إليه إحتماءا به.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) : أي إحبسها.

(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) : أي طاعته ورضاه ، لا عرضا من عرض الدنيا.

(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) : أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.

(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.

(مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) : أي جعلناه غافلا عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.

(وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) : أي ضياعا وهلاكا.

(أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) : حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.

٢٥٢

(بِماءٍ كَالْمُهْلِ) : أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء ثخنا رديئا.

(مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) : أي مارقّ من الديباج ، والاستبرق ما غلظ منه أي من الديباج.

معنى الآيات :

بعد نهاية الحديث عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال : (وَاتْلُ) (١) أي واقرأ (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) تعبدا به ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليما للمؤمنين بما جاء فيه من الهدى.

وقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقا وواقع صدقا فإن ربك (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.

وقوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي انك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه فنالك ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. (لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي موئلا تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) نزل هذا التوجيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع أولئك الفقراء المؤمنين (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عرضا من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في ليلهم ونهارهم.

وقوله تعالى : (وَلا تَعْدُ (٢)عَيْناكَ (٢) عَنْهُمْ) أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله (وَلا تُطِعْ (٣) مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) فجعلناه غافلا

__________________

(١) تضمنت هذه الآية : (وَاتْلُ) الخ الرد على المشركين إذ المعنى : لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض القرآن لأن فيها التعريض بآلهتهم والتنديد بها حتى طالبوك بأن تجعل بعض القرآن للثناء عليها أو عليهم.

(٢) لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.

(٣) روي أنها نزلت في أمية بن خلف الجمحي لأنه دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمر كرهه وهو إبعاد الفقراء وتقريب صناديد قريش.

٢٥٣

عن ذكرنا وذكر وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه. (وَكانَ أَمْرُهُ (١) فُرُطاً) أي ضياعا وهلاكا ، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ (٢) وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي هذا الذي جئت به وأدعو إليه من الايمان والتوحيد والطاعة لله بالعمل الصالح هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أيها الناس. (فَمَنْ شاءَ) الله هدايته فآمن وعمل صالحا فقد نجاه ومن لم يشأ الله هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.

وقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي جدرانها النارية. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من شدة العطش (يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) رديئا ثخنا (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل فيه ذم له. (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ) أي جهنم (مُرْتَفَقاً) في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحا وقد تضمنته الآيتان (٣١ ـ ٣٢) إذ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة دائمة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) وهي الأسرة بالحجلة (٣). ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله : (نِعْمَ الثَّوابُ) الذي أثيبوا به (وَحَسُنَتْ) الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها (حَسُنَتْ) (٤) (مُرْتَفَقاً) يرتفقون فيه وبه ، جعلنا الله من أهلها

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان خيبة وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.

__________________

(١) الفرط : الظلم والاعتداء وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأنّ الظلم سبق في الشر والظلم يؤدي إلى الهلاك والضياع والخسران.

(٢) الأمر في قوله (فَلْيُؤْمِنْ) و (فَلْيَكْفُرْ) للتسوية بينهما وليس في هذا إذن لهم بالكفر وإنما الخطاب للتهديد والوعيد لمن اختار الكفر على الإيمان بدليل الجملة التعليلية : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) الخ ، والمراد بالظالمين المشركون لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

(٣) (الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي مجموع سرير وحجلة ، والحجلة : قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها ولذلك يقال للنساء ربات الحجال فإذا وضع فيها سرير فهي أريكة يجلس فيها وينام.

(٤) (المرتفق) : محل الارتفاق ، وإطلاق المرتفق على النار تهكّم ، إذ النار لن تكون محل راحة وارتفاق أبدا بل هي دار شقاء وعذاب.

٢٥٤

٢ ـ الترغيب في مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.

٣ ـ على الداعي إلى الله تعالى أن يبين الحق ، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.

٤ ـ الترغيب والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.

٥ ـ عذاب النار شر عذاب ، ونعيم الجنة ، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلا هالك.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨))

شرح الكلمات :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) : أي اجعل لهم مثلا هو رجلين ... الخ

(جَنَّتَيْنِ) : أي بستانين.

(وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) : أي أحطناهما بنخل.

(آتَتْ أُكُلَها) : أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.

(وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) : أي ولم تنقص منه شيئا بل أتت به كاملا ووافيا.

٢٥٥

(خِلالَهُما نَهَراً) : أي خلال الأشجار والنخيل نهرا جاريا.

(وَهُوَ يُحاوِرُهُ) : أي يحادثه ويتكلم معه.

(وَأَعَزُّ نَفَراً) : أي عشيرة ورهطا.

(تَبِيدَ) : أي تفنى وتذهب.

(خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) : أي مرجعا في الآخرة.

(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ؟!) : الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.

(مِنْ نُطْفَةٍ) : أي مني.

(ثُمَّ سَوَّاكَ) : أي عدلك وصيرك رجلا.

(لكِنَّا) : أي لكن أنا ، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت لكنا.

(هُوَ اللهُ رَبِّي) : أي أنا أقول الله ربي.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك (اضْرِبْ (١) لَهُمْ) أي اجعل لهم مثلا : (رَجُلَيْنِ) مؤمنا وكافرا (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي أحطناهما بنخل ، (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) أي بين الكروم والنخيل (زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ (٢) آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص منه شيئا (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) ليسقيهما. (وَكانَ (٣) لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي في الكلام يراجعه ، ويفاخره : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) (٤) أي عشيرة ورهطا ، قال هذا فخرا وتعاظما. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) والحال أنه (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والكبر وقال : (ما أَظُنُ (٥) أَنْ تَبِيدَ هذِهِ) يشير إلى جنته (أَبَداً) أي لا تفنى. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ

__________________

(١) اختلف في تحديد الفريقين الذين ضرب لهما المثل ، وفي الرجلين اللّذين ضرب بهما المثل ، والظاهر أنّ الفريقين اللّذين ضرب لهما المثل هم المؤمنون والكافرون المستنكفون عن مجالسة المؤمنين ، وأما الرجلان فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما من بني اسرائيل وهو الظاهر والله أعلم.

(٢) قال سيبويه : أصل كلا كلو وأصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث.

(٣) (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ..) الجملة في محل نصب على الحال ، والثمر بضم الثاء والميم المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع مأخوذ من : ثمر ماله : إذا كثر ، وقرأ الجمهور بضم الثاء والميم وقرأ حفص بفتحهما.

(٤) أعزّ أي أشد عزّة ، والنفر : عشيرة الرجل الذين ينفرون معه للدفاع أو القتال والمراد بالنفر هنا أولاده.

(٥) الظنّ هنا بمعنى الاعتقاد ومعنى تبيد : تفنى وتهلك.

٢٥٦

قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) كما تقول أنت (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) (١) أي من جنتي (مُنْقَلَباً) أي مرجعا إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم (وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ)؟ وهو الله عزوجل حيث خلق أباك آدم من (تُرابٍ ثُمَّ مِنْ (٢) نُطْفَةٍ) أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أي لكن أنا أقول هو الله ربي ، (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) من خلقه في عبادته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني الخفية إلى الأذهان.

٢ ـ بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.

٣ ـ تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.

٤ ـ التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ

__________________

(١) قرأ الجمهور منهما بالتثنية وقرأ عاصم (مِنْها) بالإفراد.

(٢) النطفة : ماء الرجال مشتقة من النطف الذي هو السيلان.

٢٥٧

فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

شرح الكلمات :

(ما شاءَ اللهُ) : أي يكون وما لم يشأ لم يكن.

(حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) : أي عذابا ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضا لا يثبت عليها قدم.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) : أي غائرا في أعماق الأرض فلا يقدر على استنباطه وإخراجه.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) : أي هلكت ثماره ، فلم يبق منها شيء.

(يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : ندما وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.

(وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) : أي ساقطة على أعمدتها التي كان يعرش بها للكرم ، وعلى جدران مبانيها.

(فِئَةٌ) : جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.

(هُنالِكَ) : أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.

(الْوَلايَةُ) : أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.

(خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) : أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يعقب أي يحزي بخير.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله (ما شاءَ اللهُ) أي (١) كان (لا قُوَّةَ إِلَّا (٢) بِاللهِ) أي لا قوة لأحد على فعل شيء

__________________

(١) هذا وجه في إعراب (ما شاءَ اللهُ) ما : مبتدأ والخبر كان ، وهناك وجه آخر حسّنه بعضهم وهو : هذه الجنة ما شاء الله.

فما خبر عن مبتدإ محذوف ويجوز تقديره أيضا : الأمر الذي شاء الله إعطاءه.

(٢) قال مالك : ينبغي لكل من دخل داره أو بستانه أن يقول : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وروي أنه كان مكتوبا على باب وهب بن منبّه ما شاء الله لا قوّة إلا بالله ، وروى مسلم أنّ : لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وورد استحباب قول بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا قوة إلّا بالله.

٢٥٨

أو تركه إلا بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قال هذا المؤمن نصحا للكافر وتوبيخا له. ثم قال له (١) (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) اليوم (فَعَسى (٢) رَبِّي) أي فرجائي في الله (أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنة الكافر (حُسْباناً مِنَ (٣) السَّماءِ) أي عذابا ترمى به. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) : أي ترابا أملس لا ينبت زرعا ولا يثبت عليه قدم. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) الذي تسقى به غائرا في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى ، وهو معنى (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً).

وقوله تعالى : في الآيات (٤٠) ، (٤١) ، (٤٢) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلا ببستان الكافر فهلك بكل ما فيه من ثمر (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ندما وتحسرا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) من جهد ومال في جنته (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) جماعة قوية تنصره (مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ) المنهزم (مُنْتَصِراً) لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى : في نهاية المثل الذي هو أشبه بقصة (هُنالِكَ) أي يوم القيامة (الْوَلايَةُ) أي القوة والملك والسلطان (لِلَّهِ) أي المعبود (الْحَقِ) لا لغيره من الأصنام والأحجار (هُوَ) تعالى (خَيْرٌ ثَواباً) أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح. (وَخَيْرٌ) (٤) (عُقْباً) أي خير من يعقب أي يجزي بحسن العواقب

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مآل المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال ، وهو الجنة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وهو النار.

٢ ـ استحباب قول من أعجبه شيء : (ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فإنه لا يرى فيه مكروها إن شاء الله.

__________________

(١) (أَنَا) : ضمير فصل وأقل. مفعول ثان لترن وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا.

(٢) (عسى) للرجاء وهو طلب الأمر القريب الحصول وأراد به هنا الدعاء لنفسه وعلى صاحبه الكافر المشرك.

(٣) الحسبان : مصدر كالغفران وهو هنا وصف لمحذوف تقديره : هلاكا حسبانا أي : مقدّرا من الله تعالى ، وقيل هو اسم جمع حسبانة أي : صاعقة ، وقيل : اسم للجراد وهو محتمل لكل ما ذكر.

(٤) العقب : بمعنى العاقبة وقرىء : بضمتين عقب وقرىء بضم العين وسكون القاف بمعنى : عاقبة وهي آخرة الأمر وما يرجوه المرء من سعيه وعمله ولذا فسرت الآية بهو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به ، يقال : هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه : أي آخره.

٢٥٩

٣ ـ استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.

٤ ـ المخذول من خذله الله تعالى فإنه لا ينصر أبدا.

٥ ـ الولاية (١) بمعنى الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا موالاة غيره.

٦ ـ الولاية بمعنى الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

شرح الكلمات :

المثل : الصفة المعجبة.

(هَشِيماً) : يابسا متفتتا.

(تَذْرُوهُ الرِّياحُ) : أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.

(مُقْتَدِراً) : أي كامل القدرة لا يعجزة شيء.

(زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي يتجمل بما فيها.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.

(وَخَيْرٌ أَمَلاً) : أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.

معنى الآيات :

هذا مثل آخر مضروب أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.

__________________

(١) (الْوَلايَةُ) : بفتح الواو : الموالاة ، وبكسرها : الملك والسلطان.

٢٦٠