أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

(الْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير ، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير .. فالأول قال فيه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) أي غير حر من أحرار الناس ، (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) إذ هو مملوك لا حق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه (١) ، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء ، هذا طرف المثل ، والثاني (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) صالحا واسعا (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) ليلا ونهارا لأنه حر التصرف بوصفه مالكا (هَلْ يَسْتَوُونَ (٢)؟) الجواب لا يستويان .. إذا (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ (٣) لا يَعْلَمُونَ) والمثل مضروب للمؤمن والكافر ، فالكافر أسير للأصنام عبد لها لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة ، والجزاء فيها ، وأما المؤمن فهو حرّ يعمل بطاعة الله فينفق في سبيل الله سرا وجهرا يبتغي الآخرة والمثوبة من الله ، ذا علم وإرادة ، لا يخاف إلا الله ولا يرجو الا هو سبحانه وتعالى. وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (٧٦) فقال تعالى فيه (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) هو (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما (٤) أَبْكَمُ) ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يفهم غيره لأنه أبكم ، (وَهُوَ كَلٌّ عَلى (٥) مَوْلاهُ) أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء

__________________

(١) هذه الآية منزع الفقهاء في ملكية العبد وعدمها ، فذهب مالك إلى أنّ العبد يملك بإذن سيده ، وهو ناقص الملك ، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد : العبد لا يملك شيئا ، وقالوا : الرّق ينافي الملك ، وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (من أعتق عبدا وله مال) شاهد لمن قال يملك ملكا ناقصا.

(٢) لم يقل يستويان لأنّ من صالحة للواحد والجماعة.

(٣) لا يعلمون أن الله هو المستحق للحمد دون آلهتهم لأنّ الله تعالى هو المنعم بالخلق والرزق ، والأصنام لا تخلق ولا ترزق فلذا الحمد له وحده.

(٤) هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن. قاله قتادة وغيره.

(٥) أي : ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه.

١٤١

لا يأتي بخير ، وقد يأتي بشر ، أمّا النفع والخير فلا يحصل منه شيء.

وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها ، ولا تفهم عابديها شيئا وهي محتاجة إليهم في صنعها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء ، وهو قائم على كل شيء ، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين ، فالجواب ، لا يستويان بحال ، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير ، القوي ، القدير ، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم ، أمر يحمل على العجب ، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم.

وقوله تعالى في الآية (٧٧) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضِ) وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حكم عليه بالشقاوة ، ومن يهتدي ومن لا يهتدي ، والجزاء آت بإتيان الساعة (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) (٢) أي إتيانها (إِلَّا كَلَمْحِ (٣) الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) (٤) إذ لا يتوقف أمرها الا على كلمة (كُنْ) فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها ، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك قيام القيامة ، ومجيء الساعة. وقوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا (٥) تَعْلَمُونَ (٦) شَيْئاً) حقيقة لا تنكر ، الله الذى أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشرا ثم أذن بإخراجنا ، فأخرجنا ، وخرجنا لا نعلم شيئا قط ، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي ، فهل للأصنام شيء من ذلك ، والجواب لا ، لا وثانيا جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى ، إذ لو لا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذ ، إذ العدم خير منها. وقوله :

__________________

(١) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : اللام لام الملك ، والغيب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي : الأشياء الغائبة ، والغيب. ما غاب عن أعين الناس.

(٢) (السَّاعَةِ) : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.

(٣) اللّمح : النظر بسرعة يقال لمحه لمحا ولمحانا.

(٤) ليس (أَوْ) للشك وإنما هي بمعنى بل الانتقالية من شيء إلى آخر كقوله (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) أي : بل يزيدون.

(٥) البطون : جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة ، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.

(٦) الشكر : الاعتراف بالنعمة لله وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى.

١٤٢

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير .. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد الله؟!

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالما.

٢ ـ بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.

٣ ـ بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عبدتها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها.

ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله ، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه ، ورعايتهم ، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ

١٤٣

الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

شرح الكلمات :

(مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) : أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.

(ما يُمْسِكُهُنَ) : أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.

(مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) : أي مكانا تسكنون فيه وتخلدون للراحة.

(مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) : أي خياما وقبابا.

(يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) : أي ارتحالكم في أسفاركم.

(أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) : كبسط وأكسية تبلى وتتمزق وترمى.

ظلالا ومن الجبال أكنانا : أي ما تستظلون به من حر الشمس ، وما تسكنون به في غيران الجبال.

(وَسَرابِيلَ) : أي قمصانا تقيكم الحر والبرد.

(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) : أي دروعا تقيكم الضرب والطعان في الحرب.

(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) : أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى : (أَلَمْ (١) يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ (٢) فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَ (٣) إِلَّا اللهُ) فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده ، وفي طيرانه في جو (٤) السماء ، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآيات عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته

__________________

(١) قرىء بالتاء : ألم تروا وقرىء بالياء وهي قراءة الأكثر.

(٢) (مُسَخَّراتٍ) : أي : مذللات لأمر الله تعالى ، ومذللات لمنافعكم أيضا.

(٣) (ما يُمْسِكُهُنَ) أي : في حال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله عزوجل.

(٤) (جَوِّ السَّماءِ) هو الفضاء الذي بين السماء والأرض ، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر.

١٤٤

والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده ، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة سواه ، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم ، فلم يكن لهم في ذلك آية .. وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ (١) لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي موضع سكون وراحة ، (وَجَعَلَ لَكُمْ (٢) مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (بُيُوتاً) أي خياما وقبابا (تَسْتَخِفُّونَها) أي تجدونها خفيفة المحمل (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) في مكان واحد كذلك. وقوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أي جعل لكم منه (أَثاثاً) كالبسط الفرش والأكسية (متاعا) أي تتمتعون بها إلى حين بلاها وتمزقها (٣) وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من أشياء كثيرة (ظِلالاً) تستظلون بها من حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) (٤) تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في الجبال (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) قمصان (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والبرد (وَسَرابِيلَ) هي الدروع (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم ، وهكذا (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ليعدّكم للإسلام فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف إذ ليس عليك هداهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلغت وبينت. فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) أي نعمة الله عليهم كما ذكّرناهم بها (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) فيعبدون غير المنعم بها (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به.

__________________

(١) (جَعَلَ) : بمعنى أوجد وهذا شروع في تعداد النعم التي أنعم بها الخالق عزوجل على العباد ، والسكن : مصدر والمنة في كونه تعالى جعل الإنسان يسكن ويتحرّك ولو شاء لجعله متحرّكا دائما كالأفلاك في السماء أو جعله كالأرض ساكنا أبدا.

(٢) بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب.

(٣) في الآية دليل على حليّة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث : (أيّما إهاب دبغ فقد طهر).

(٤) الأكنان : جمع كن وهو : ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل.

١٤٥

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم ، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئا من الآيات ولا يبصرون.

٢ ـ مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئا منها وأكثرهم الكافرون.

٣ ـ مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست هداية القلوب وانما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

١٤٦

شرح الكلمات :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ) : أي اذكر يوم نبعث.

(شَهِيداً) : هو نبيها.

(لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي بالاعتذار فيتعذرون.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) : أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.

(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) : أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) : أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه ، ومعنى ضل غاب.

(عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) : أنه عقارب وحيات كالنّخل الطوال والبغال الموكفة.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) : أي القرآن.

(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) : أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.

معنى الآيات :

انحصر السياق الكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى : (يَوْمَ نَبْعَثُ) (١) أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (شَهِيداً) هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالاعتذار فيعتذرون (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٢) أي لا يطلب منهم العتبى (٣) أي الرجوع الى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك ، علهم يذكرون فيتعظون ، فيتوبون ، فينجون

__________________

(١) نظير هذه الآية آية النساء : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ..) الآية.

(٢) أي : لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأنّ الآخرة ليست دار تكليف ولا يمكنون من الرجوع إلى الدنيا فيتوبون.

(٣) العتبى : الرضا ، والفعل : عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه : إذا أزال الموجدة ورجع إلى مسرّته وفي الحديث : (لك العتبى حتى ترضى) والعتبى : رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب وهو المراد في الحديث.

١٤٧

ويسعدون. وقوله في الآية الثانية (٨٥) (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) أي يوم (١) القيامة (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون. اذكر هذا أيضا تذكيرا وتعليما ، واذكر لهم (إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين (رَبَّنا) أي يا ربنا (٢) (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي نعبدهم بدعائهم والإستغاثة بهم ، (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) فورا (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ.) (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي الإستسلام فذلوا لحكمه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم ، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحيانا بالترهيب والترغيب (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم ، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث (فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي يوم القيامة (عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ (٣) وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي على من أرسلت إليهم من أمتك. فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد ، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة .. وقوله تعالى في خطاب رسوله مقررا نبوته والوحي إليه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً (٤) لِكُلِّ شَيْءٍ) الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة (وَهُدىً) من كل ضلال (وَرَحْمَةً) خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون

__________________

(١) أي : عذاب جهنم بالدخول فيها.

(٢) أي : أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها ، وذلك لأنّ الله تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار ، روى مسلم :

(من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ..) الحديث ، وفي الترمذي : (فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون).

(٣) الشهداء : هم الأنبياء والعلماء ، فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى الله تقوم به الحجة لله تعالى فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل (يبعث امة وحده). ومثل زيد قس وورقة وسطيح.

(٤) التبيان : مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي : المبيّن لكل شيء.

١٤٨

رحمة عامة بينهم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١) أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة ، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على امتك أعظم شهادة وأكثرها أثرا على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.

٢ ـ براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.

٣ ـ زيادة العذاب لمن دعا الى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.

٤ ـ لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً

__________________

(١) خصّ المسلمون دون غيرهم لأنّ غيرهم أعرضوا عنه فحرموا الهدى والرحمة والبشرى في الدارين.

١٤٩

بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(بِالْعَدْلِ) : الإنصاف ومنه التوحيد.

(الْإِحْسانِ) : أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.

(وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) : أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.

(عَنِ الْفَحْشاءِ) : الزنا.

(يَعِظُكُمْ) : أي يأمركم وينهاكم

(تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون

(تَوْكِيدِها) : أي تغليظها

(نَقَضَتْ غَزْلَها) : أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.

(مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) : أي أحكام له وبرم.

(أَنْكاثاً) : جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.

(كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) : هي حمقاء مكة وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية.

(دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.

(أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) : أي أكثر منها عددا وقوة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (١) أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبيانا لكل شيء ، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم

__________________

(١) ورد في فضل هذه الآية أنّ عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال : ما أسلمت ابتداء إلّا حياء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان أخاه من الرضاعة حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : يا ابن أخي أعد فأعدت فقال : والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أصله لمورق وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر.

١٥٠

وتترك عبادة غيره لأن غيره لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله ، (وَالْإِحْسانِ) (١) وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقانا وجودة والإجتناب خوفا من الله حياء منه ، وقوله (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه ، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل (وَالْمُنْكَرِ) وهو كل ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة ، وينهى عن البغي (٢) وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنبوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ (٣) وَالْإِحْسانِ) (٤) إلى (تَذَكَّرُونَ) هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من خير إلا وأمرت به ولا من شر إلا ونهت عنه. وقوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماما أو عاهد أحدا على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقضه. «إذ لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» كما في الحديث الشريف .. وقوله تعالى (وَلا تَنْقُضُوا (٥) الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) الأيمان جمع يمين وهو الحلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي وكيلا ، أي أثناء حلفكم به تعالى ، فقد جعلتموه وكيلا ، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان وهو نكثها وعدم الإلتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية (٦). وقوله

__________________

(١) الإحسان مصدر أحسن إحسانا وهو متعدّ بنفسه نحو : أحسنت كذا إذا أتقنته وحسّنته وجوّدته ، ومتعدّ بحرف الجرّ نحو : احسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينفعه أو دفعت عنه ما يضرّه ، وكلا المعنيين مراد في الآية وما في حديث جبريل يتناول الأول لأن من راقب الله تعالى أتقن عمله وحسنه.

(٢) ورد في البغي : لا ذنب أسرع عقوبة من البغي ، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ، والباغي مصروع وقد وعد الله من بغي عليه بالنصر فى قوله : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ).

(٣) قال ابن مسعود رضي الله عنه : هذه الآية : أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب.

(٤) روي أنّ جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جور في شيء ، فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته ، وعزل العامل.

(٥) هذا في الأيمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث مسلم (لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلّا شدة وأبطل صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلف في الإسلام ، لأن الإسلام جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما هو مبيّن في شريعته.

(٦) أمّا إذا حلف العبد يمينا فرأى غيرها خيرا منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني).

١٥١

تعالى (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ (١) ما تَفْعَلُونَ) فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. وقوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) ، وهي امرأة بمكة (٢) حمقاء تغزل ثم تنكث (٣) غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي إفسادا وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها ، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي جماعة أكثر من جماعة رجالا وسلاحا أو مالا ومنافع. وقوله تعالى : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها ، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا تفعلوا إيثارا للدنيا عن الآخرة ، (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثم يحكم بينكم ويجزيكم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .. وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على التوحيد والهداية لفعل .. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها ، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى : (لَتُسْئَلُنَ) أي (٤) سؤال توبيخ وتأنيب (عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من سوء وباطل ، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) الآية (٩٠).

٢ ـ وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.

__________________

(١) هذه الجملة ذكرت علّة لتحريم نقض العهد فهي تحمل وعيدا شديدا وتهديدا كبيرا لمن ينقض العهد.

(٢) يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار ، وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما أبرمته من غزلها ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود وعهود.

(٣) النكث والجمع أنكاث : وهو النقض والحل بعد الإبرام.

(٤) اللام دالة على قسم محذوف نحو : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ).

١٥٢

٣ ـ تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.

٤ ـ تحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.

٥ ـ وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.

٦ ـ حرمة نقض الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.

٧ ـ من بايع أميرا أو عاهد أحدا يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبدا.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

شرح الكلمات :

(دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : أي لأجل الإفساد والخديعة.

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ) : أي العذاب.

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) : يفنى وينتهى.

(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : أي والحال أنه عند ما عمل صالحا كان مؤمنا ، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.

(حَياةً طَيِّبَةً) : في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.

(بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.

١٥٣

معنى الآيات :

ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى لهم (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) أي خديعة (بَيْنَكُمْ) لتتوصلوا بالأيمان إلى غرض دنيوي سافل ، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ (١) بَعْدَ ثُبُوتِها) بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع ، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث ، وتتحملون وزر ذلك ، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة ، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا (٢) بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعا ، لأن ما عندكم من مال أو متاع ينفد أي يفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) لا نفاذ له ، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني ، وقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على عهودهم (أَجْرَهُمْ) على صبرهم (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة ، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه واسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، ووعد ثان في قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ (٣) حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح ، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح ، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي ، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام (٤) وشراب ورضا ، هذا في

__________________

(١) هذه الجملة دلت على المبالغة في النهي اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ، إذ من وقع في ورطة يقال : زلت قدمه لأنّ القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرّ.

(٢) نهى تعالى المؤمنين عن الرّشا وأخذ الأموال على نقض العهد أي : لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الآية نكل وأقر لخصمه بالأرض.

(٣) اختلف في معنى الحياة الطيّبة فقال بعضهم : هي الرزق الحلال ، وقيل : هي القناعة وقيل : التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان الله تعالى ، وقيل : هي حلاوة الطاعة ، وقيل هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله.

(٤) روى مسلم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه).

١٥٤

الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع ، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك بر رحيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ الأيمان طريقا إلى الغش والخديعة والإفساد.

٢ ـ ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.

٣ ـ عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلا وتركا.

٤ ـ وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحا من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))

شرح الكلمات :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) : أي أردت أن تقرأ القرآن.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ) : أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك من وسواسه.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) : أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم ، ما داموا

١٥٥

متوكلين على الله.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) : أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) : أي جبريل عليه‌السلام.

(لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي على إيمانهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم ، فقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي إذا كنت قارئا عازما على القراءة فقل أعوذ بالله (١) من الشيطان الرجيم ، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك (٢) ، وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ) أي للشيطان (سُلْطانٌ) يعني تسلط وغلبة وقهر (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وهذه بشرى خير للمؤمنين (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) (٣) بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل (٤) ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ (٥) مُشْرِكُونَ). هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أي نسخنا حكما بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي (إِنَّما أَنْتَ) يا محمد (مُفْتَرٍ) تقول بالكذب والخرص ، أي يقول اليوم شيئا ويقول غدا خلافه. وقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ (٦) مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه‌السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا يتغير ، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.

__________________

(١) هذه كآية الوضوء : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ..) أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير وضوء فاغسلوا وجوهكم أي : توضؤوا.

(٢) لقد صحت الأحاديث الكثيرة في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذا بهذه الآية.

(٣) فائدة الاستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبّر.

(٤) قيل في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) : أي أنه لا يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.

(٥) الضمير في (بِهِ) عائد إلى الشيطان ويصح عوده على الله تعالى.

(٦) روح القدس : جبريل عليه‌السلام : (فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قط) رواه مسلم.

١٥٦

فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيمانا فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين ، وهو أي القرآن هدى من كل ضلالة. وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

٢ ـ بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.

٣ ـ بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.

٤ ـ بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.

٥ ـ بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ

١٥٧

وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(بَشَرٌ) : يعنون قينا (حدادا) نصرانيا في مكة.

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) : أي يميلون إليه.

(وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌ) : أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) : أي عما يراد بهم.

(لا جَرَمَ) : أي حقا.

(هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي لمصيرهم (١) إلى النار خالدين فيها أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالافتراء فقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ (٢) أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي يعلم محمدا بشر أي انسان من الناس ، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه (أَعْجَمِيٌ) (٣) لأنه عبد رومي ، (وَهذا) أي القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف

__________________

(١) أي : لكون مصيرهم إلى النار وأيّ خسران أعظم من خسران من دخل النار فخسر نفسه وأهله قال تعالى فيه : (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

(٢) اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل : اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة ، وقيل : اسمه عايش ، وقيل : اسمه يعيش وكان روميّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحيانا فقالوا قولتهم هذه.

(٣) العجمة : الإخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصح ولا يبين ومنه عجب الذنب لاستتاره والعجماء البهيمة والأعجمى من لا يتكلم العربية.

١٥٨

يتفق هذا مع ما يقولون انهم يكذبون لا غير ، وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) وهي نور وهدى وحجج قواطع ، وبرهان ساطع (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله (إِنَّما يَفْتَرِي (١) الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلا الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه ، فلذا لا يمنعه شيء عن الكذب ، أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبدا ، وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات الله وهم حقا الكاذبون. وقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ (٢) بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) (٣) على التلفظ بالكفر (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا يخامره شك ولا يجد اضطرابا ولا قلقا فقال كلمة الكفر لفظا فقط ، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه على كلمة الكفر فأذن له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات ، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام. وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون (وَسَمْعِهِمْ) فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى

__________________

(١) هذا جواب وصفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذب فأعلم تعالى أنّ الذي يفتري الكذب هو الكافر بآيات الله الكاذب الذي لا يعرف الصدق ابدا.

(٢) قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) : عائد إلى قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ). وقوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب أن يقول بعض ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أعطهم يا عمار) وهو تحت العذاب وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه لا يقتله ، وليكن المقتول ولا يقتل فلا يفد نفسه بأخيه حتى مجرّد الضرب لا يضربه.

(٣) أهل العلم على أنّ المكره على الطلاق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه لا شيء فيه.

١٥٩

الله تعالى (وَأَبْصارِهِمْ) فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون ، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا ، والعناد ، والمكابرة ، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أي عمّا خلقوا له ، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذاب أليم. وقوله تعالى (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمة توجه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله ، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.

٣ ـ المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب ، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا.

٤ ـ الرخصة (١) في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.

٥ ـ إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ

__________________

(١) وكذلك الرخصة في العتاق والطلاق والنكاح والحلف والحنث ما دام مكرها فلا يلزمه شيء لحديث : (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الحديث ، وكذا من أكره على تسليم زوجته فلا شيء عليه إذ أكره ابراهيم على ذلك وعصمه الله تعالى ومن صبر على ما أكره به من الضرب والتعذيب فله ذلك فقد صبر عبد الله بن حذافة السهمي على ألوان من التعذيب والتهديد على يد ملك الروم حيث أسر مع جمع من المسلمين فعذب ما شاء الله أن يعذّب ثم أطلق الأسرى ، وقبّل عمر رضي الله عنه رأسه إكراما له واعترافا بفضله لأنّ ملك الروم أخذ ما أكرهه عليه تقبيل رأسه فقبّله.

١٦٠