أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٩٢

شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) : من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) : أي تفضلا منه وامتنانا ببيان السبيل القاصده وهي الإسلام.

(وَمِنْها جائِرٌ) : أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.

(وَمِنْهُ شَجَرٌ) : أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.

(فِيهِ تُسِيمُونَ) : ترعون مواشيكم.

(مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) : أي بإذنه وقدرته.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى : (وَالْخَيْلَ (١) وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم

__________________

(١) قيل : واحد الخيل : خائل ، وقيل : هو اسم جنس لا واحد له ، وهذه الثلاثة : الخيل والبغال والحمير لم تدخل في لفظ الأنعام ، ونصب : (وَالْخَيْلَ) على تقدير : (وخلق الخيل).

١٠١

إياها إذ قال : (لِتَرْكَبُوها (١) وَزِينَةً) أي ولأجل أن تكون زينة لكم في حياتكم وقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه. وقوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) (٢) ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام ، في حين ان ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) وقوله (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه ، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية (١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥) إذ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) (٣) تشربون منه وتتطهرون ، (وَمِنْهُ) أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر (٤) لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله (فِيهِ تُسِيمُونَ) (٥) أي فى ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية اي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ) أي بما أنزل من السماء من ماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به

__________________

(١) أخذ مالك من قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) : حرمة أكل لحوم الخيل ووافقه أبو حنيفة ، وأجاز الجمهور أكلها لأنّ الآية لم تحرّم شيئا وإنّما ذكرت فائدة من فوائدها وهي الركوب ، ومن أدلة الجمهور : الحديث الصحيح من ذلك قول الصحابي نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن لنا في لحوم الخيل). وقال جابر رضي الله عنه : (كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وحديث مسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت : (فجزرنا فرسا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن بالمدينة وأكلناه).

(٢) أي : على الله بيان قصد السبيل ، والسبيل هو الإسلام ، أي : بيان شرائعه وأحكامه وحكمه ومواعظه بواسطة كتبه ورسله. وقصد السبيل : استقامته كما أن جائر السبيل : هو الحائد عن الاستقامة.

(٣) الشراب : اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين. الأولى : الشراب والثانية : إنبات النبات وهما نعمتان.

(٤) لفظ الشجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبا.

(٥) الإسامة : إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي يقال : سامت الماشية إذا رعت وأسامها : إذا رعاها.

١٠٢

(لَآيَةً) أي علامة واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره. ولكن (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون. أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبه آية فى الكون كله وهم يعيشون فيه. وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الليل للسكون والراحة ، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبدا إلى أن يأذن الله بانتهائهما وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها ، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب ، وقوله (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ (١) بِأَمْرِهِ) كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالا للسماء التي هي سقف دارنا هذه .. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم (لَآياتٍ) عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها ، ولكن (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون ، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى : (وَما (٢) ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) (٣) وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق العجيب (لَآيَةً) أي دلالة واضحة على وجود الخالق عزوجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كون الخيل (٤) والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل

__________________

(١) (مُسَخَّراتٌ) : أي : مذللّات لمعرفة الأوقات ونضج الثمار ، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.

(٢) الذرء : الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس الإنبات فقط.

(٣) المخلوقات قسمان : قسم منها مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار ، وقسم غير مذلل ولا مسخر ، وشاهد هذا : قول كعب الأحبار : لو لا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا فقيل له وما هن؟ قال : أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ.

(٤) ما في الآية : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) ما يدل على وجوب الزكاة فيها ، وفي الحديث الصحيح : (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) رواه مالك.

١٠٣

لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل ، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.

٢ ـ الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلا منه ورحمة وما عداه فهى سبل جائرة عن العدل والحق.

٣ ـ فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ (١) الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

شرح الكلمات :

(حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) : هي اللؤلؤ والمرجان.

(مَواخِرَ فِيهِ) : أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.

__________________

(١) تسخير البحر : هو تمكين البشر من التصرف فيه ، وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره وهي نعمة إذ لو شاء الله لسلّط البحر على العباد لأغرقهم.

١٠٤

(مِنْ فَضْلِهِ) : أي من فضل الله تعالى بالتجارة.

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.

(لا تُحْصُوها) : أي عدا فتضبطوها فضلا عن شكرها للمنعم بها عزوجل.

(ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) : من المكر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة ، إذ الخطاب يتناولهم أولا ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سر وعلانية فى أي أحد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) وهو كل ماء غمر كثير عذبا كان أو ملحا وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً (١) طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه ، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم (٢). وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى أيها الناظر الى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا) أي سخّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وحوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها فى مرضاته وقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) (٣) أي ألقى في الأرض جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كي لا تميد بكم ، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله : (وَأَنْهاراً) أي وأجرى لكم أنهارا في الأرض كالنيل والفرات

__________________

(١) قسّم مالك اللحم ثلاثة أقسام وهي : لحم ذوات الأربع ، ولحم ذوات الريش ، ولحم ذوات الماء ، ومنع بيع الجنس الواحد بجنسه متفاضلا أو نسيئة.

(٢) الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للأحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله) ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم.

(٣) في هذه الآية دليل على استعمال الأسباب إذ كان الله قادرا على سكونها دون الجبال ، ومع هذا أرساها ، وسكنها بالجبال تعليما لعباده للأخذ بالأسباب ، و (رَواسِيَ) جمع راس ، على غير قياس ، كفوارس ، وعواذل جمع فارس وعاذل.

١٠٥

وغيرهما (وَسُبُلاً) أي وشّق لكم طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى منازلكم في بلادكم وقوله (وَعَلاماتٍ) أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية ، وقوله (وَبِالنَّجْمِ) أي وبالنجوم (١) (هُمْ يَهْتَدُونَ) فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية (١٧) (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب. وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) بعد ما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها ، ولذا قال (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ولو لا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم فى شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عزوجل وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذا حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم ، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالاية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان العلة فى الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق ليشكر.

__________________

(١) وقد يراد بالنجم : الجدي خاصة لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس وقد سأله عن النجم فقال له : (هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم) وكون المراد بالنجم النجوم لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

١٠٦

٢ ـ إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر.

٣ ـ لا زكاة فى اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.

٤ ـ المقارنة بين الحي الخلاق العليم ، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يخلق ليس كمن لا يخلق.

٥ ـ عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر ، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(وَهُمْ يُخْلَقُونَ) : أي يصورون من الحجارة وغيرها.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.

١٠٧

(قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) : أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.

(وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) : لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.

(لا جَرَمَ) : أي حقا.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي أكاذيب الأولين.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) : أي ذنوبهم يوم القيامة.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) : أي بئس ما يحملون من الأوزار.

معنى الآيات :

في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ (١) دُونِ اللهِ) أي تعبدونهم أيها المشركون (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ، وقوله (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢) أي لا يعلمون (٣) متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة ، وقوله (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له ، وهو الله جل جلاله ، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى ، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يدبّر ولا يحيي ولا يميت فتأليهه سفه وضلال ، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا ، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبينه آيات القرآن الكريم ، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن

__________________

(١) قرأ عامة القراء (يَدْعُونَ) بالتاء لأن ما قبله خطاب ، وقرىء عن عاصم وحفص بالياء ، وهي قراءة يعقوب أيضا.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرّؤون من عبدتها ، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار.

(٣) عبّر عنهم بصيغة من يعقل لأن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى ، وتقرّبهم إلى الله زلفى.

١٠٨

قبول الحق والإذعان له. وقوله تعالى : (لا جَرَمَ (١) أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢) أي حقا ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون .. ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم ، وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣) يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤) أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها ، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله ، قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة ، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي : انّ من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء ، وكذا من دعا إلى (٥) هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء. وقوله تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي قبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بطلان الشرك وتقرير التوحيد.

٢ ـ التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.

__________________

(١) (لا جَرَمَ) : كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، يقال : فعلوا كذا وكذا فيجاب بكلمة لا جرم أنهم سيندمون.

(٢) أي : فهو لا يثيبهم ولا يثني عليهم خيرا ، وفي الحديث الصحيح : (إنّ المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم). قالت العلماء : كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر ، وهو أصل العصيان كله.

(٣) قيل : إن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل : أساطير الأولين. والآية تشمله وغيره ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة.

(٤) الأساطير : الأباطيل ، والترهات ، و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : خبر والمبتدأ الذي أنزله أي : الذي أنزله أساطير الأوّلين.

(٥) وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أحورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).

١٠٩

٣ ـ التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.

٤ ـ بيان اثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.

٥ ـ بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ

١١٠

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

شرح الكلمات :

(مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.

(فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) : أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.

(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) : أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.

(كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) : أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه ، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.

(قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي الأنبياء والمؤمنون.

(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : بالشرك والمعاصي.

(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : أي استسلموا وانقادوا.

(فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) : مثوى المتكبرين : أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلا.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي اتقوا الشرك والمعاصي.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) : أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوا بها وفق مراد الله تعالى.

(حَسَنَةٌ) : أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.

(وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) : أي الجنة دار السّلام.

(طَيِّبِينَ) : أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.

(يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : أي يقول لهم ملك الموت «عزرائيل» وأعوانه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) : أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.

(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) : أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عزوجل.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.

١١١

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عزوجل ومكروا برسلهم ، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار ، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه .. وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (١). وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (٢) أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون اوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ (٣) الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الإعتذار بالكذب وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فترد عليهم الملائكة قائيلن : (بَلى) أي كنتم تعملون السوء (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويقال لهم أيضا (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي أبواب طبقاتها (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ) جهنم (مَثْوَى) أي مقاما ومنزلا (الْمُتَكَبِّرِينَ) عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من

__________________

(١) أي : من حيث ظنوا أنهم في أمان ، وقال ابن عباس يعني البعوضة التي أهلك الله تعالى بها النمرود الكنعاني.

(٢) قرىء (تُشَاقُّونَ) بفتح النون وبكسرها على الاضافة ، كما قرأ شركائي ابن كثير : شركاي بفتح الياء وبدون همزة.

(٣) قيل : الآية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفا من المشركين ، ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك.

١١٢

دعوة الإسلام فيقولون له : (خَيْراً) أي أنزل خيرا لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.

كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين ، ذكر جزاء المحسنين. فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس الى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا (حَسَنَةٌ) وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة (١) ، ولدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.

وقوله تعالى : (جَنَّاتُ (٢) عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (٣) أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله : (يَقُولُونَ) أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٤) تحييهم وفى ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بأرواحهم اليوم

__________________

(١) مع الفتح والنصر والغنائم أيضا إذ الكل حسنة عظيمة.

(٢) (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : بدل من قوله : (دار المتقين).

(٣) طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضا طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد.

(٤) قال ابن المبارك : إذا استقنعت نفس العبد المؤمن «أي : اجتمعت في فيه تريد الخروج» جاءه ملك الموت فقال له : السّلام عليك وليّ الله الله يقرأ عليك السّلام ، ثمّ قرأ هذه الآية : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) الخ ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال : ربّك يقرئك السّلام.

١١٣

وبأجسامهم غدا يوم القيامة. وقوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالايمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عزوجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات (٣١ ، ٣٢) وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئا ايمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم الآخر. (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بإبادتهم واستئصالهم ، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) تعالى في ذلك أبدا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ) أي جزاء سيئات (ما عَمِلُوا) من الكفر والظلم (وَحاقَ بِهِمْ) أي نزل بهم وأحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.

من هداية الآيات :

١ ـ سوء عاقبة المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.

٢ ـ بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.

٣ ـ فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.

٤ ـ بيان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.

٥ ـ تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.

٦ ـ إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله ، فلا ينبغي أن يرى أحدا من أهل الدنيا خيرا منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.

٧ ـ سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقة الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.

١١٤

٨ ـ بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت ، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.

٩ ـ إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لغلائها ، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.

١٠ ـ ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب ، عاجلا أو آجلا فهو نازل بهم حتما مقضيا إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

١١٥

شرح الكلمات :

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم كفار قريش ومشركوها.

(وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) : كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ) : أي ما على الرّسل إلا البلاغ فالإستفهام للنفي.

(وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) : أي عبادة الأصنام والأوثان.

(حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) : أي وجبت في علم الله أزلا.

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.

(بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) : أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعدا وأحقه حقا. فهو كائن لا محالة.

(يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.

(أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) : أي في قولهم «لا نبعث بعد الموت».

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مخبرا عنهم (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي مع الله آلهة أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعزّى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئا فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى ، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعا عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى ، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلا على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله ، فدل ذلك قطعا على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى فى سورة الأنعام ردا على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ (١)

__________________

(١) الإشارة بذلك إلى الإشراك وتحريمهم أشياء من تلقاء أنفسهم أي : كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ممن مكروا برسلهم وأهلكم الله جل جلاله.

١١٦

مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة قالوا قول هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب. وقوله (فَهَلْ (١) عَلَى الرُّسُلِ (٢) إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وانما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير .. فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (٣٥) وقوله في الآية الثانية (٣٦) (وَلَقَدْ (٣) بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسره بعبادة الله تعالى وحده ، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان الى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق اوليائه من (٤) الناس من جهة أخرى.

وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ) أي من الأمم المرسل إليهم (مَنْ هَدَى اللهُ) فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد ، (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ (٥) الضَّلالَةُ) أزلا في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلّ ضلالا لا أمل في هدايته. وقوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أمر لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمر لهم أن يسيروا في الأرض جنوبا أو شمالا فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال ، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمّ عنه : (إِنْ تَحْرِصْ) يا رسولنا

__________________

(١) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذا جاء الاستثناء بعده أي : ما على الرسل إلا البلاغ ، أي : ليس عليهم هداية الخلق إذ لا يملكون ذلك ولم يكلفوا به وإنما كلفوا بالبلاغ والبيان.

(٢) في الآية : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ ...) تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليم وفيها أيضا التحريض بإبلاغ المشركين.

(٣) هذا الكلام معطوف على قوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متضمن بيانا لسنة الله تعالى في إرسال الرسل لاحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين ، وهلاك الكافرين المكذّبين.

(٤) أولياء الشيطان : هم الكهان ودعاة الضلال الذين يصدّون عن سبيل الله بتزيين الباطل وتحسين الشرك والخرافة.

(٥) في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى : (حَقَّتْ) : وجبت له أزلا في كتاب المقادير.

١١٧

(عَلى هُداهُمْ) أي هدايتهم إلى الحق (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ (١) يُضِلُ) فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع الى ربك في غير حرص يضر بك وقوله (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله ، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله. وقوله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسران وحرمان. وقوله تعالى في الآية (٣٨) (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ (٢) جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة ، ومعنى (أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (٣) أي حلفوا أشد الأيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله (بَلى) أي تبعثون وعد الله حقا فلا بد ناجز (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤) فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) فلو لا البعث الآخر ما عرف المحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولا. وثانيا : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) (٥) في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون : إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون ، نقول له كن

__________________

(١) قرىء في السبع يهدي بضم الياء مبنيّا للمجهول وقرىء : (يَهْدِي) بفتح الياء مبنيّا للمعلوم وقراءة لا يهدي هي التي فسر بها في التفسير. وقراءة يهدي ، أي : أن الله إذا كتب على عبد شقاء لا يهديه للخلاص منه.

(٢) روي أن رجلا من المسلمين كان له دين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلامه : والذي أرجوه بعد الموت ، أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بالله : لا يبعث الله من يموت ، فنزلت الآية.

(٣) ذكر القرطبي عن قتادة أن رجلا قال لابن عباس : إنّ ناسا يزعمون أنّ عليا مبعوث بعد الموت قبل الساعة يتأوّلون هذه الآية فقال ابن عباس : كذب أولائك إنّما هذه الآية عامة للناس فلو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.

(٤) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك).

(٥) أي : في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه ، وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضا.

١١٨

فيكون فورا ، والبعث الآخر من ذلك. هذا ما دل عليه قوله في الآية (٤٠) (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا أراد شيئا علمه أولا ثم قال له كن فهو يكون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.

٢ ـ تفسير لا إله إلا الله.

٣ ـ التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.

٤ ـ بيان بعض الحكم في البعث الآخر.

٥ ـ لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده ، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) : أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرة لدينه وإقامته بين الناس.

__________________

(١) قال أهل العلم في الآية دليل على عدم خلق القرآن إذ لو كان مخلوقا لكان قوله : (كُنْ) مخلوقا ، ولا حتاج إلى قول ثان ، والثاني يحتاج إلى ثالث وتسلسل وهذا محال وفيها دليل على أن الله مريد لجميع الحوادث خيرها وشرها نافعها وضارها ، والدليل أنّ من رأى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين إما لكونه جاهلا لا يدري وإما لكونه مغلوبا لا يطيق وهذا محال في حقه سبحانه وتعالى وبذلك تأكد أن الله مريد لكل ما يجري من أحداث في الملكوت وحكمته لا يخلو منها شيء.

١١٩

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : أي لننزلنهم دارا حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) : أي أيها الشاكّون فيما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشرا مثله.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) : أي أرسلناهم بشرا بالبينات والزبر (١) لهداية الناس.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) : أي القرآن.

(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) : علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل ، البيان.

معنى الآيات :

إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم ، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعا على الهجرة من دار الكفر فقال عزوجل (وَالَّذِينَ هاجَرُوا (٢) فِي اللهِ) أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي من قبل المشركين (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلهم ولنسكننهم (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقا حسنا هذا بالنسبة لمن نزلت (٣) فيهم الآية ، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي في العيش والرزق (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) المعد لمن هاجر في سبيل

__________________

(١) (الزُّبُرِ) : الكتب.

(٢) أي : تركوا الوطن ، والأهل ، والقرابة كما تركوا السيئات. ومعنى : في الله أي : لأجل الله إذ بدار الكفر لا يتمكنون من عبادة الله تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا لله أي لعبادته التي خلقهم من أجلها.

(٣) قيل : نزلت الآية في صهيب وبلال وعمار ، وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى هاجروا ، ويدخل في هذا أيضا أبو جندل وغيره.

١٢٠