أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

بحواسكم بالسؤال عنهما والنظر إليهما ، (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من فرج الله ورحمته وعلل للنهي فقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ) (١) أي من فرجه ورحمته (إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

وامتثل الأبناء أمر الوالد وذهبوا إلى مصر وانتهوا إليها ونزلوا بها وأتوا الى دار العزيز (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا) ما أخبر تعالى به عنهم (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا (٢) وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) أي من الجدب والقحط والمجاعة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي دراهم رديئة مدفوعة لا تقبل كما تقبل الجيدة منها (فَأَوْفِ (٣) لَنَا الْكَيْلَ) بها (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بقبولها على رداءتها (إِنَّ اللهَ يَجْزِي (٤) الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به خيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شدة الحزن تعرض صاحبها للحرض أو الموت.

٢ ـ تحرم الشكوى لغير الله عزوجل.

٣ ـ حرمة اليأس من الفرج عند الشدة والرحمة عند العذاب.

٤ ـ جواز الشكوى إذا كان المراد بها الكشف عن الحال للاصلاح أو العلاج كأن يقول المحتاج إني جائع أو عار مثلا وكأن يقول المريض للطبيب أشكو ألما في بطني أو رأسي مثلا.

٥ ـ فضل الصدقة وثواب المتصدقين.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ

__________________

(١) الجملة تعليلية للنهي المتقدم ، وهو اليأس من روح الله وهو رحمة الله وفرجه.

(٢) أي : أصابهم الضرّ.

(٣) جملة تعليلية لاستدعائهم التصدق عليهم.

(٤) قال مالك : في الآية دليل على أنّ أجرة الكيال والوزان على البائع ، إذ هو باع شيئا لا بد وأن يبرزه ويفصله لمن اشتراه.

٦٤١

عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) : أي لا تعلمون ما يؤول إليه أمر يوسف.

(قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) : أي أنعم علينا بأن جمع بيننا بعد افتراق طويل أنتم سببه.

(مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) : أي يتق الله فيخافه فلا يعصيه ويصبر على ما يناله من وصب ونصب.

(لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) : أي فضلك علينا بما منّ عليك من الإنعام والكمال.

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) : أي لا عتب عليكم ولا لوم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع يوسف وإخوته ، إنه لما وصلوا إليه من أرض كنعان بأمر والدهم وشكوا إليه ما هم فيه من ضيق الحال إذ قالوا له : قد مسنا الضر (١) وجئنا ببضاعة (٢) مزجاة ، لما سمع منهم ذلك رق قلبه وارفضّت عيناه بالدموع وأراد أن ينهي التكتم الذي كان عليه وهو إخفاء حاله عليهم فقال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) (٣) ذكرهم

__________________

(١) في الآية دليل على جواز الشكوى عند الضرّ بل يتعين على العبد إذا خاف على نفسه الضرر من جوع أو مرض أن يشكو ذلك لرفعه.

(٢) بضاعة مزجاة : البضاعة : القطعة من المال يقصد بها شراء شيء يقال : أبضعت الشيء واستبضعته أي : جعلته بضاعة ، والمزجاة : المدفوعة التي لا تقبل من الإزجاء الذي هو السوق بدفع ، ومنه قوله تعالى : (يُزْجِي سَحاباً) يريدون أنها بضاعة رديئة.

(٣) كأنه يقول : أنا يوسف أنا المظلوم أنا المراد قتله.

٦٤٢

بما صنعوا به من إلقائه في الجب وبيعه عبدا وبذلك فرقوا بينه وبين والده وأخيه شقيقه وقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي بما يصير إليه أمر يوسف وهنا قالوا في اندهاش وتعجب : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) فأجابهم قائلا بما أخبر تعالى به عنه (قالَ أَنَا يُوسُفُ (١) وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي أنعم علينا فجمع بيننا على أحسن حال ثم قال : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أي يتق الله يخافه فيقيم فرائضه ويتجنب نواهيه ويصبر على ذلك وعلى ما يبتليه به (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٢) أي في طاعة ربهم والإسلام له ظاهرا وباطنا. وهنا قالوا له ما أخبر به تعالى عنهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (٣) أي بالعلم والعمل والفضل (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) فيما فعلنا بك ، فكان هذا توبة منهم فقال لهم : (لا تَثْرِيبَ (٤) عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي لا عتب ولا لوم ولا ذكر لما صنعتم لأنه يؤذي (يَغْفِرُ (٥) اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) سأل الله تعالى له ولهم المغفرة وأثنى على الله تعالى بأنه أرحم الراحمين متعرضا لرحمته تعالى له ولإخوته. ثم سألهم عن والده فأخبروه أنه قد عمي من الحزن عليه فقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (٦) أي يرجع بصيرا كما كان (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٧) يريد أبويه والنساء والأطفال والأحفاد. وهو تحول كامل للأسرة الشريفة من أرض كنعان إلى أرض مصر تدبيرا من الله العزيز الحكيم.

هداية الآيات

__________________

(١) الجملة تعليلية ، والمعلل له محذوف هو جواب الشرط تقديره : ينعم الله تعالى عليه وينصره ويكرمه ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

(٢) آثره بكذا : إذا فضّله به ، والمصدر : الإيثار ، واسم الفاعل مؤثر.

(٣) التثريب : التوبيخ ، والتقريع ، واللوم ، وفي الحديث الصحيح : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها) أي : لا يعيّرها. قال الشاعر :

فعفوت عنهم غير مثرّب

وتركتهم لعقاب يوم سرمد

(٤) لا يصحّ تعليق اليوم بيغفر الله إذ لا يعلم الغفران متى يتم لهم فكيف يصح أن يقال : يغفر الله لكم اليوم أو غدا؟ بل يتعلق اليوم بكلمة لا تثريب.

(٥) قال عطاء الخرساني : طلب الحوائج من الشباب أسهل منها من الشيوخ ألم تر إلى قول يوسف : يغفر الله لكم. وقال يعقوب : سوف استغفر لكم ربي.

(٦) لا شك أنّ هذا العلم حصل ليوسف بوحي من الله تعالى ، ولعل يوسف نبىء ساعتئذ وأراد يوسف بإلقاء القميص على وجه أبيه المفاجأة السارة لتكون سببا في رجوع البصر.

(٧) قال مسروق : كانوا ثلاثة وتسعين نسمة ما بين رجل وامرأة.

٦٤٣

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ أن المعاصي لن تكون إلا نتيجة للجهل بالله تعالى وجلاله وشرائعه ووعده ووعيده.

٢ ـ فضل التقوى والصبر وما لهما من حسن العاقبة.

٣ ـ فضل الصفح والعفو وترك عتاب القريب إذا أساء.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠))

٦٤٤

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) : أي خرجت من عريش مصر متوجهة إلى أرض فلسطين.

(إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) : أشتمها لأن الريح حملتها إليه بأمر الله تعالى.

(لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) : أي تسفّهون ، لصدقتموني فإني وجدت ريح يوسف.

(إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) : أي خطإك بإفراطك في حب يوسف.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) (١) : هو يهودا الذي حمل إليه القميص الملطخ بالدم الكذب.

(فَارْتَدَّ بَصِيراً) : أي رجع بصيرا.

(سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) : أجّل الاستغفار لهم إلى آخر الليل أو إلى ليلة الجمعة.

(عَلَى الْعَرْشِ) : أي السرير.

(وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) : أي سجدوا له تحية وتعظيما.

(مِنَ الْبَدْوِ) : أي البادية ، بادية الشام.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ) : أي أفسد.

(لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) : أي لطيف في تدبيره لمن يشاء من عباده كما لطف بيوسف.

معنى الآيات :

هذه أواخر قصة يوسف عليه‌السلام ، إنه بعد أن بعث بقميصه إلى والده وحمله أخوه يهودا ضمن القافلة المتجهة إلى أرض كنعان ، ولما فصلت (٢) العير من عريش مصر حملت ريح الصبا ريح يوسف إلى إبيه قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ (٣) لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تسفهون لصدقتموني (٤) فإني أجدها فقال الحاضرون مجلسه من أفراد الأسرة والذين لم يعلموا بخبر يوسف بمصر قالوا له : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٥) أي من خطإك بإفراطك

__________________

(١) (أَنْ) : مزيدة.

(٢) فصلت : بمعنى : انفصلت ، وبانت وبعدت من المكان الذي كانت فيه كقوله تعالى (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ).

(٣) الريح : الرائحة ، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسّة الشمّ.

(٤) لصدّقتموني : جواب لو لا ، وهو يخاطب أحفاده أي : أولاد أولاده ، والتفنيد النسبة إلى الفند محرّك الفاء والنون وهو اختلال العقل من الهرم ونحوه قال الشاعر :

يا عاذليّ دعا الملام وأقصرا

طال الهوى وأطلتما التفنيدا

(٥) أي : لفي ذهاب عن طريق الحق والصواب ، والقائلون ليعقوب هذا هم أحفاده أو بعض الأقارب لجهلهم بمقام يعقوب ، وهي عبارة فيها خشونة لكن من الجائز أن تكون في عرفهم لا خشونة فيها ولا إساءة أدب.

٦٤٥

في حب يوسف. وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيرا كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذى أخبر تعالى به في قوله : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم من لطف الله وحسن تدبيره ورحمته وإفضاله ما لا تعلمون. وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ، قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). أجّل لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذا لأمر يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم ، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط ، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) أي ضمّهما إلى موكبه (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا (وَرَفَعَ) يوسف (أَبَوَيْهِ) أمه وأباه (عَلَى الْعَرْشِ) سرير الملك (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحية وتشريفا. (١) وهنا قال يوسف (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين. وقوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي (٢) مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ (٣) مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) هذا ثناء على الله بنعمه وتذكير للحاضرين بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن. ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان. ونسب الإساءة التي كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفا للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته ، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة (إِنَّ رَبِّي (٤) لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي بخلقه

__________________

(١) على عادة أهل ذلك الزمان ، وهو سجود تحية لا عبادة.

(٢) أحسن بي وإليّ بمعنى واحد أي قدم أي صنع إليّ معروفا. بجلب خير أو دفع ضير.

(٣) أي : البادية ، والبدو ضدّ الحضر ، والاسم مشتق من البدوّ الذي هو الظهور والنزغ عبارة عن ادخال الفساد في النفس ، شبه بنزغ الراكب الدابة وهو يريدها تسرع.

(٤) اللطف : التدبير الملائم ، واللطيف : صاحب اللّطف.

٦٤٦

(الْحَكِيمُ) في تدبيره وصنعه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آية عظيمة هي حمل الريح ريح (١) يوسف على مسافات بعيدة.

٢ ـ آية أخرى هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن ألقي القميص على وجهه.

٣ ـ كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه على أولاده إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم.

٤ ـ مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلا.

٥ ـ صدق رؤيا يوسف عليه‌السلام إذ تمت حرفيا فجلس يوسف على عرشه وخر له أبواه وإخوته ساجدين.

٦ ـ قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة.

٧ ـ تجليات الألطاف الإلهية والرحمات الربانية في هذه القصة في مظاهر عجيبة.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

شرح الكلمات :

(رَبِ) : أي يا رب خالقي ورازقي ومالك أمري ومعبودي الذي ليس لي معبود سواه.

(مِنَ الْمُلْكِ) : أي من بعض الملك إذ أصبح ملكا لمصر فقط.

(تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : تعبير الرؤا.

(فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالقهما على غير مثال سابق.

(أَنْتَ وَلِيِّي) : أي متولي أمري في الحياتين الدنيا والآخرة.

__________________

(١) أي : رائحته.

٦٤٧

معنى الآية الكريمة :

هذا آخر الحديث عن قصة يوسف ، إنه بعد أن جمع الله تعالى شمله بكافة أفراد أسرته وفتح عليه من خزائن رحمته ما فتح ، وانقلبت الإحراقات : إحراقات الإلقاء في الجب ، والبيع رقيقا بثمن بخس ، وفتنة امرأة العزيز ، والسجن سبع سنين ؛ انقلبت إلى اشراقات ملكا ودولة ، عزا ورفعة ، مالا وثراء ، اجتماعا ووئاما ، وفوق ذلك العلم اللدنى والوحي الإلهي وتأويل الأحاديث. وبعد أن قبض الله تعالى والده وتاب على إخوته وهيأهم للنبوة ونبأهم. تاقت نفس يوسف إلى الملكوت الأعلى إلى الجيرة الصالحة إلى رفقة الأخيار آبائه الأطهار ابراهيم وإسحق ويعقوب رفع يديه إلى ربه وقال : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ (١) الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي (٢) مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واستجاب الله تعالى دعاءه فلم يلبث إلا قليلا حتى وافاه الأجل فارتحل والتحق بأبائه وصالحي إخوانه فسلام عليه وعليهم وعلى كل صالح في الأرض والسماء ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ مشروعية دعاء الله تعالى والتوسل إليه بأسمائه وصفاته.

٢ ـ مشروعية العزوف عن الدنيا والرغبة عنها عند حصولها والتمكن منها.

٣ ـ فضل الشوق إلى الله والحنين إلى رفقة الصالحين في الملكوت الأعلى.

٤ ـ مشروعية سؤال الموت إن لم يكن لضر أو ملل من العبادة ، أو رغبة في الراحة لحديث «لا يسألن أحدكم (٣) الموت لضر نزل به» وهو صحيح. ولكن شوقا إلى الله تعالى والالتحاق بالصالحين ، (٤) عزوفا عن هذه الدار وشوقا إلى الأخرى دار السّلام.

__________________

(١) (مِنَ) : للتبعيض ، إذ ملك مصر محدود ، ولم يملك يوسف على غيره ، ومن في قوله : (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) للجنس أولى مما تكون للتبعيض.

(٢) قال قتادة : لم يتمن الموت أحد نبي ولا غيره إلّا يوسف عليه‌السلام حين تكاملت عليه النعّم ، وجمع له الشمل اشتياقا إلى لقاء ربه عزوجل ، وردّ الجمهور هذا وقالوا : إنّما تمنى الموت على الإسلام وما ذكرته في التفسير أرجح وأوضح.

(٣) في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم احيني ما كانت الحياة خير لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) رواه مسلم.

(٤) قيل : كان عمره يوم مات : مائة عام وسبع سنين ، وخلف من الولد ثلاثة : افراثيم ، ومنشا ، ورحمة.

٦٤٨

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦))

شرح الكلمات :

(ذلِكَ) : اشارة إلى ما قص تعالى على رسوله من قصة يوسف وإخوته.

(مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) : أي أخبار الغيب.

(وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) : أي لدى إخوة يوسف.

(إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) : أي اتفقوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب.

(وَهُمْ يَمْكُرُونَ) : أي يحتالون على إخراجه وإلقائه في الجب.

(عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : أي على القرآن وإبلاغه من ثواب أي مال.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : أي ما هو إلا ذكر أي موعظة يتعظ بها المؤمنون.

معنى الآيات :

بعد ما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض إذ لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئا ، لا سيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل وبعضها فى ظلام البئر وبعضها وراء الستور ، وبعضها فى طبقات السجون وبعضها في قصور الملوك وبعضها في الحضر وبعضها في البدو ، وبعد تطاول الزمن وتقادم العصور. بعد أن قص ما قص قال لرسوله

٦٤٩

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) (١) أي من أخبار الغيب (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي نعلمك به بطريق الوحي (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول ، وما كنت لدى إخوة يوسف فى الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصا منه حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم وذهب بعطفه وحنانه دونهم. وقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) يخبره تعالى أن الإيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كاف في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإيمان بما جئت به وتدعو إليه ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين ، ولذلك عوامل من أبرزها أن الإيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد ، لا سيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية ومن قبل ذلك أن من كتب الله شقاءه لا يؤمن بحال ، ولذا فلا تحزن ولا تكرب ، وقوله تعالى : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) (٣) أي على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال إذ لو كنت سائلهم أجرا على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان ذلك مانعا من قبول ما تدعوهم إليه ، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجانا فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم فهم عاملون للوصول إليه.

وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى أي موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصيرة والإيمان من العالمين ممن هيأهم الله تعالى للسعادة والكمال ، وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي (٤) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وكثير من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها

__________________

(١) هذا الكلام تذييل للقصة بعد انتهائها. إتماما للفائدة منها ، والغيب ما غاب عن علم الناس ، وأصل الغيب مصدر غاب يغيب غيبا ، فسمي به الشيء الغائب

(٢) في الآية تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا آلمه عدم إيمان قريش بعد أن سألوه عن هذه القصة ليؤمنوا فلمّا قصها عليهم لم يؤمنوا فآلمه ذلك.

(٣) (مِنْ) صلة لتقوية النفي.

(٤) أصل : (كَأَيِّنْ) : أي. فدخلت عليها كاف التشبيه ، وبنيت معها فصار معناها (كم) قال القرطبي : قد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

٦٥٠

في السموات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار ، والأرض كالجبال والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون. وقوله تعالى في الآية الأخيرة (١٠٦) (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله ربا خالقا رازقا إلا وهم مشركون به أصناما وأوثانا يعبدونها وهي حقيقة قائمة لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال الله ، ولكن هو به مشرك يعبد معه غيره وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم ، وكثير من أهل الجهل فى هذه الأمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم مؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة.

٢ ـ بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون فلا يحزن الداعي ولا يكرب.

٣ ـ دعوة الله ينبغي أن تقدم إلى الناس مجّانا ، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه.

٤ ـ ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية.

٥ ـ بيان حقيقة ثابتة وهي أن غير أهل التوحيد وإن آمنوا بالله ربا خالقا رازقا مدبرا أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وعباداته.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في تلبية المشركين : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

٦٥١

سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) : أي نقمة من نقمه تعالى تغشاهم (١) أي تحوط بهم.

(بَغْتَةً) : فجأة وهم مقيمون على شركهم وكفرهم.

(هذِهِ سَبِيلِي) : أي دعوتي وطريقتي التي أنا عليها.

(عَلى بَصِيرَةٍ) : أي على علم يقين مني.

(وَسُبْحانَ اللهِ) : أي تنزيها لله وتقديسا أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه.

(مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : من أهل المدن والأمصار لا من أهل البوادي.

(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : أي الله تعالى بأداء فرائضه وترك نواهيه.

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أي أفلا يعقل هؤلاء المشركون هذا الذي يتلى عليهم ويبين لهم فيؤمنوا ويوحدوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان بالوحي الإلهي والتوحيد والبعث والجزاء وهي أركان الدين العظمى ، فقال تعالى : أفأمن هؤلاء المشركون والذين لا يؤمن (أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والذين يمرون بالكثير من آيات الله وهم معرضون ، أفأمن هؤلاء (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) أي عقوبة من عذاب تغشاهم وتجللهم بالعذاب الذي لا

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : مجلّلة ، وهو معنى تعظيمهم ، وتحوط بهم من كل جوانبهم بحيث لا ينجون منها.

٦٥٢

يطاق (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي القيامة (بَغْتَةً) (١) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئها فتعظم البلية وتشتد عليهم الرزية ، وكيف يأمنون وهل يوجد من يؤمنهم غير الله تعالى فما لهم إذا لا يؤمنون ولا يتقون حتى ينجوا مما يتوقع لهم؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٧) أما الثانية فقد أمر الله تعالى رسوله أن يواصل دعوته دعوة الخير هو والمؤمنون معه فقال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) أي قل أيها الرسول للناس هذه طريقتي في دعوتي إلى ربي بأن يؤمن به ويعبد وحده دون سواه. (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) (٢) أي على علم يقين بمن أدعو إليه وبما أدعو به وبالنتائج المترتبة على هذه الدعوة ، (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من المؤمنين كلنا ندعو إلى الله على بصيرة.

وقوله تعالى : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي وقل سبحان الله أي تنزيها له عن أن يكون له شريك أو ولد ، وقل كذلك معلنا براءتك من الشرك والمشركين (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). هذا ما دلت عليه الآية الثانية. أما الآية الثالثة فإن الله تعالى يخبر رسوله بأنه ما أرسل من قبله من الرسل وهم كثر إلا رجالا أي لا نساء ولا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٣) أي الأمصار والمدن ، وهذا إبطال لإنكارهم أن يكون الرسول رجلا من الناس ، وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي هؤلاء المكذبون من قريش وغيرهم (فِي الْأَرْضِ) للاعتبار (فَيَنْظُرُوا) (٤) كيف كان عاقبة من سبقهم من الأمم كعاد وثمود فإنا أهلكناهم ونجينا أهل الإيمان والتوحيد من بينهم مع رسلهم هذه النجاة ثمرة من ثمرات الإيمان والتقوى ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) (٥) (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) فإنها دار النعيم المقيم والسلامة من الآهات والعاهات والكبر والهرم والموت والفناء.

وقوله تعالى في نهاية الآية (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦) يوبخ أولئك المشركين المصرين على

__________________

(١) (فَيَنْظُرُوا) إلى مصارع الأمم المكذبة لأنبيائهم وما جاءوهم به من الهدى ودين الحق من أجل هدايتهم ، وسعادتهم.

(٢) (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) مبتدأ وخبر ، وهل الإضافة هنا كما هي في يوم الخميس وبارحة الأولى؟ خلاف ويرجح أحد الرأيين فقول الشاعر :

ولو أقوت عليك ديار عبس

عرفت الذل عرفان اليقين

أي : عرفانا يقينيا. قال النحاس : إضافة الشيء إلى نفسه محال ، لأنّ الشيء يضاف إلى غيره ليعرّف به الأجود أن يقال : الصلاة الأولى.

(٣) قرىء : أفلا يعقلون : بالياء والتاء في السبع.

(٤) منصوب على الحال ، ومعناه إصابة من غير توقع (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : توكيد لمعنى بغتة. هذا كقوله تعالى (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

(٥) أي : على يقين وحق كقولهم : فلان مستبصر بهذا الأمر.

(٦) قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ردّ على القائلين (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ).

٦٥٣

التكذيب والشرك على عدم تعقلهم وتفهمهم لما يتلى عليهم وما يسمعون من الآيات القرآنية وما يشاهدون من الآيات الكونية.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من العقوبات المترتبة على الشرك والمعاصي.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث الآخر.

٣ ـ تعين الدعوة إلى الله تعالى على كل مؤمن تابع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ تعين العلم اليقيني للداعي إلى الله إذ هو البصيرة المذكورة في الآية.

٥ ـ وجوب توحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.

٦ ـ الرسالة من خصوصيات الرجال وليس في النساء رسولة. (١)

٧ ـ بيان ثمرات التوحيد والتقوى في الدنيا والآخرة.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

شرح الكلمات :

(اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) : أي يئسوا من إيمان قومهم.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) : أي ظن الأمم المرسل إليهم أن الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به

__________________

(١) حديث : (إن في النساء أربع نبيّات حواء وآسية وأم موسى ومريم) حديث ضعيف لا يصح ، وهو معارض لهذه الآية وآيات أخرى.

٦٥٤

من النصر.

(وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) : أي عذابنا الشديد.

(عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي وأجرموا على غيرهم بصرفهم عن الإيمان.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) : أي الرسل عليهم‌السلام.

(ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) : أي ما كان هذا القرآن حديثا يختلق.

(تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي ما قبله من الكتب الإلهية إذ نزل مصدقا لها في الإيمان والتوحيد.

معنى الآيتين

ما زال السياق في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا) أي ما زال من أرسلنا من رسلنا يدعون إلينا ويواصلون دعوتهم ويتأخر نصرهم حتى يدب اليأس إلى قلوبهم (١) ويظن أتباعهم أنهم قد أخلفوا ما وعدوا به من نصرهم وإهلاك أعدائهم (جاءَهُمْ) بعد وجود اليأس نصرنا (٢) (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). هذا ما جاء في الآية الأولى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) وهم أهل الشرك والمعاصي.

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ (٣) عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي كان في قصص الرسل مع أممهم بذكر أخبارهم وتبيان أحوالهم من نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين عبرة يعتبر (٤) بها المؤمنون فيثبتون على إيمانهم ويواصلون تقواهم لربهم بأداء فرائضه واجتناب نواهيه.

وأولوا الألباب هم أصحاب العقول ، وقوله تعالى : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي لم يكن هذا القرآن العظيم بالحديث الذي في إمكان الإنسان أن يكذب ويختلق مثله بحال من

__________________

(١) أي : من إيمان قومهم ، لأنّ الله تعالى لم يعلمهم أنّ قومهم سيؤمنون حتى لا يصح منه ظن عدم إيمانهم.

(٢) المراد بالنصر : العذاب ، فلما جاء العذاب بعد طول انتظار نجى الله تعالى رسله والمؤمنين ، وأهلك أعداءه وأعداءهم الكافرين.

(٣) يدخل أوّلا قصة يوسف ، وإخوته ثم باقي القصص.

(٤) فكرة وتذكرة وعظة.

٦٥٥

الأحوال ولكنه أي القرآن هو (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي تقدم في النزول عليه كالتوراة والإنجيل فهو مصدق لهما في أصول الإيمان والتوحيد ولا يتنافى معهما وهذا أكبر دليل على أنه وحي إلهي مثلهما ، وليس بالكلام المختلق كما يقول المبطلون ، وقوله تعالى : (وَتَفْصِيلَ (١) كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي كما هو مصدق لما بين يديه هو أيضا يفصل كل شيء تحتاج إليه البشرية في دينها المزكي لأنفسها الموجب لها رحمة ربها ورضاه عنها وهدى ينير الطريق فيهدي من الضلالة ورحمة تنال المؤمنين به العاملين به المطبقين لشرائعه وأحكامه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في تأخر النصر على رسله وعباده المؤمنين زيادة في الإعداد والتمحيص ثم يأتي نصر الله فيعز أولياء الله ويذل أعداءه.

٢ ـ التنديد بالإجرام وهو الإفساد للعقائد والأخلاق والشرائع والأحكام.

٣ ـ بيان فضل القرآن وما فيه من الهدى والرحمة لمن طلب ذلك منه.

٤ ـ المؤمنون باعتبار أنهم أحياء هم الذين ينتفعون بهداية القرآن ورحمته.

__________________

(١) أي : مما يحتاج إليه البشر من الحلال والحرام ، والشرائع والأحكام.

٦٥٦

فهرس المجلد الثاني

الجزء السابع................................................................... ٤

سورة المائدة من الآية (٨٢)..................................................... ٤

سورة الأنعام من الآية (١).................................................... ٣٤

الجزء الثامن................................................................ ١٠٥

سورة الأنعام من الآية (١١١)............................................... ١٠٥

سورة الأعراف من الآية (١)................................................. ١٥٠

الجزء التاسع................................................................ ٢٠٣

سورة الأعراف من الآية (٨٨)............................................... ٢٠٣

سورة الأنفال من الآية (١).................................................. ٢٨٢

الجزء العاشر................................................................ ٣٠٩

سورة الأنفال من الآية (٤١)................................................ ٣٠٩

سورة التوبة من الآية (١).................................................... ٣٣٥

الجزء الحادي عشر......................................................... ٤١٤

سورة التوبة من الآية (٩٣).................................................. ٤١٤

سورة يونس من الآية (١)................................................... ٤٤٤

سورة هود من الآية (١)..................................................... ٥١٨

الجزء الثاني عشر........................................................... ٥٢٢

سورة هود من الآية (٦)..................................................... ٥٢٢

سورة يوسف من الآية (١).................................................. ٥٩١

الجزء الثالث عشر.......................................................... ٦٢٢

سورة يوسف من الآية (٥٣)................................................. ٦٢٢

الفهرس..................................................................... ٦٥٩

٦٥٧