أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

السّلام : فقال : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) (١) أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد. فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن يقوله : فقال (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) أي بالعذاب الله إن شاء ذلك. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي فائتين الله ولا هاربين منه. وقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ (٢) هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). أي إن نصحي لا ينفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى يهلكوا (٣) ضالين فيشقوا في الدار الآخرة. وقوله تعالى : (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل. بشرط الأسلوب الحسن.

٢ ـ إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يشأه لم يكن.

٣ ـ لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له.

٤ ـ ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله. إلّا قول الله أعلم به.

(أَمْ يَقُولُونَ (٤) افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)

__________________

(١) (جادَلْتَنا) أي : خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها ، والجدل في لغة العرب : المبالغة في الخصومة. مأخوذ من الجدل : الذي هو شدّة الفتل ، وقالوا في الصقر أجدل : لشدته في الطيران.

(٢) فيه الرد على بطلان مذهب المعتزلة ، والقدرية إذ زعموا أن الله لا يريد أن يعصي العاصي ولا أن يكفر الكافر ولا أن يغوي الغاوي وتجاهلوا أنه لا يقع في ملك الله إلا ما يريد ، ولا يقع شيء إلّا بإذنه فهو الهادي لمن شاء هدايته ، والمضل لمن شاء إضلاله. ولكن كلا من هدايته وإضلاله يتمان حسب سنته في الهداية والإضلال فلا يظلم ربّك أحدا.

(٣) ومن فسّر (أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : يهلككم : أراد أنّ الهلاك سبب للإغواء ، فمن أغواه أهلكه ، إذ لا يهلك إلّا الغاوي.

(٤) شرح هذه الآية في (ص ٥٤٥) وأخرت على أنها معترضة لقصة نوح عليه‌السلام.

٥٤١

وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))شرح الكلمات :

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) : أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الاعلام السريع الخفي.

(فَلا تَبْتَئِسْ) : لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم.

(الْفُلْكَ) : أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها.

(سَخِرُوا مِنْهُ) : أي استهزئوا به كقولهم : تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه.

(يُخْزِيهِ) : أي يذله ويهينه.

(وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) : أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه.

معنى الآيات :

عاد السياق بعد الاعتراض بالآية (٣٥) إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ (١) لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ (٢) قَدْ آمَنَ). وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا

__________________

(١) (أَنَّهُ) في موضع رفع نائب فاعل لأوحي أي : أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه ومعنى الكلام : الإياس من إيمانهم ، واستدامة كفرهم تحقيقا للوعيد بنزول العذاب بهم.

(٢) روي أنّ رجلا من قوم نوح مرّ بنوح وهو يحمل طفله فلما رأى الطفل نوحا قال لأبيه ناولني حجرا فناوله إياها فرمى بها نوحا فأدماه ، فأوحى الله تعالى إلى نوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ..)

٥٤٢

خمسين عاما أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس (١) أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق. وقوله تعالى في الآية الثانية (٣٧) (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا. إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم ، لأنا قضينا بإهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ (٢) وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مرّ عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح أصبحت نجارا أو وهل تنقل البحر إليها ، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عليه‌السلام بقوله (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) أي منا. فسوف تعلمون أي مستقبلا من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه ، ويحل (٣) عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهى أبدا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد.

٢ ـ بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه‌السلام.

٣ ـ بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي.

٤ ـ بيان صدق وعد الله رسله.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها

__________________

(١) الابتئاس : افتعال من البؤس الذي هو الهمّ والحزن. قال الشاعر :

وكم من خليل أو حميم رزأته

فلم أبتئس والرزء فيه جليل

(٢) اختلفت الأقوال في مدّة صنع السفينة ، أكثرها أنها : أربعون سنة. وجائز أن تكون أكثر ، لأنّ عمل فرد واحد في صنع سفينة يتطلب وقتا طويلا أمّا حجمها فيدل على كبره ما حمل فيها ، إذ حمل فيها كل مؤمن ومؤمنة ومن كل زوجين اثنين ، فحجمها لا شك أنه واسع كبير ، وقيل : كانت السفينة ثلاث طبقات : السفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للإنس ، والعليا للطيور. والله أعلم ، والحديث عن طول السفينة وعرضها ومادتها كله من باب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.

(٣) أي : يجب عليه وينزل به.

٥٤٣

مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(فارَ التَّنُّورُ) : أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز.

(زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين.

(وَأَهْلَكَ) : أي زوجتك وأولادك.

(مَجْراها وَمُرْساها) : أي اجراؤها وإرساؤها.

(فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) : الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع.

(يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) : يمنعني من الماء أن يغرقني.

(وَغِيضَ الْماءُ) : أي نقص بنضوبه في الأرض.

(عَلَى الْجُودِيِ) : أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل.

(بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أي هلاكا لهم.

٥٤٤

شرح الكلمات :

(أَمْ يَقُولُونَ) : أي بل يقولون افتراه.

(افْتَراهُ) : أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه.

(فَعَلَيَّ إِجْرامِي) (١) : أي عاقبة الكذب الذي هو الإجرام تعود عليّ لا على غيري.

(وَأَنَا بَرِيءٌ) : أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته.

(مِمَّا تُجْرِمُونَ) : أى على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان.

معنى الآية :

هذه الآية الكريمة أوقعها الله منزلها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه ، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه ، وذلك لبعده في التاريخ فقصّ النبيّ له اليوم دليل على أنه نبي يوحى إليه ، فلذا قال أم يقولون افتراه (٢) أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعلىّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم.

٢ ـ قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى.

٣ ـ تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.

__________________

(١) الإجرام : مصدر أجرم يجرم إجراما : إذا اقترف السيئات وجرم الثلاثي كأجرم الرباعي ، قال الشاعر وهو أحد لصوص بني سعد :

طريد عشيرة ورهين جرم

بما جرمت يدي وجنى لساني

(٢) فسرت الآية في التفسير بالقول الراجح وهو : أنّ المراد بمن يقول افتراه : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والآية معترضة أحاديث قصة نوح وذهب بعضهم نقلا عن ابن عباس أنها من محاورة نوح عليه‌السلام مع قومه : واستظهروها من أجل السياق السابق واللاحق والله أعلم.

٥٤٥

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك المشركين ، وفار (١) التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين (٢) اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكرا وأنثى. وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان. ومن آمن (٣) أي واحمل من آمن من سائر الناس ، (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي نحو من ثمانين رجلا وأمرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٠) أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحا قال لجماعة المؤمنين (ارْكَبُوا فِيها) أي في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها (٤) وَمُرْساها) أي باسم الله تجري وباسم الله ترسو أي تقف (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا.

وقوله تعالى في الآية الثالثة (٤٢) (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان ، وهو في هذه الساعة في معزل (٦) اي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره (٧) فقال له (يا بُنَيَّ ارْكَبْ (٨) مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلا

__________________

(١) الفوران : غليان القدر ، ويطلق على نبع الماء بشدّة تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلى ، والتنور : اسم لموقد النار للخبز.

(٢) قرأ حفص (مِنْ كُلٍ) بتنوين كل فالتنوين عوض عن مضاف إليه أي : من كل المخلوقات ، و (زَوْجَيْنِ) مفعول ل (احمل) ، واثنين : نعت له وقرأ الجمهور بإضافة كلّ إلى زوجين ، والمراد بالزوجين هنا : الذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوانات.

(٣) ومن آمن : أي : كل المؤمنين.

(٤) جائز أن يكون القائل : (ارْكَبُوا فِيها) الله جلّ جلاله ، وجائز أن يكون نوحا عليه‌السلام والركوب : العلو على ظهر شيء ، وقال : فيها ، ولم يقل عليها لأنها ظرف لهم يدخلون فيها.

(٥) قرأ الجمهور بضم الميم في كل من مجراها ، ومرساها ، وهما مصدران من : أجرى وأرسى ، وقرأ عاصم بفتح ميم مجراها ، وضم ميم مرساها كالجمهور ، ولم يفتح ميم مرساها لاشتباهه. حينئذ المرسى مكان الرسو ، وقرىء مجريها ، ومرسيها باسم الفاعل أي : بسم الله مجريها ومرسيها.

(٦) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

(٧) وقيل : في معزل أي : من دين أبيه.

(٨) قرأ حفص : (يا بُنَيَ) بفتح الياء المشددة وكسرها غير عاصم.

٥٤٦

(سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي يمنعني منه حتى لا أغرق ، فأجابه نوح قائلا (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي بعذاب الكافرين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي الله فهو المعصوم. قال تعالى (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي بين الولد العاق والوالد الرحيم (فَكانَ) أي الولد (مِنَ الْمُغْرَقِينَ). وقوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) أي اشربيه وابتلعيه ، ويا سماء اقلعي أي من الصب والإمطار ، والآمر للأرض والسماء هو الله تعالى. (وَغِيضَ الْماءُ) أي نقص ونضب. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) (١) أي ورست السفينة بركابها على الجودي وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا لهم فلم يبق منهم أحدا إذ أخذهم الطوفان وهم ظالمون بدأ الطوفان أول يوم من رجب واستمر ستة أشهر حيث رست السفينة في أول محرم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان ينجي ، والكفر يهلك ويردي.

٢ ـ مشروعية التسمية عند الركوب في سفينة أو غيرها.

٣ ـ عقوق الوالدين كثيرا ما يسب الهلاك في الدنيا ، أما عذاب الآخرة فهو لازم له.

٤ ـ مظهر من مظاهر رحمة الوالد بولده.

٥ ـ مظاهر عظمه الرب تعالى وإطاعة الخلق أمره حتى الأرض والسماء.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ

__________________

(١) (الْجُودِيِ) أحد جبال ثلاثة أكرمهم الله تعالى ، الجودي بإرساء السفينة عليه ، وطور سينا : بمناجاة موسى عليه ، وحراء بتعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ونزول جبريل عليه فيه.

٥٤٧

تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(مِنْ أَهْلِي) : أي من جملة أهلي من ازواج وأولاد.

(وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) : أي الثابت الذي لا يخلف.

(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) : أي إن سؤالك هذا إياي عمل غير صالح.

(أَعِظُكَ) : أي أنهاك وأخوفك من أن تكون من الجاهلين.

(مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي من الذين لا يعرفون جلالي وصدق وعدي ووفائي فتسألني ما ليس لك به علم.

(سَنُمَتِّعُهُمْ) : أي بالأرزاق والمتع إلى نهاية آجالهم ثم يحل بهم عذابي وهم الكفرة.

(لِلْمُتَّقِينَ) : أي الذين يتقون الله فيعبدونه ولا يشركون به شيئا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى ، (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي دعاه سائلا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي (١) وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ،) وهذا كان منه حال الإركاب في الفلك ، وامتناع ولده كنعان من الركوب أي رب إن ولدي كنعان من زوجتي ومن جملة أولادي ، وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي ومن معي من المؤمنين ، (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) أي الذي لا خلف فيه ابدا ، (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أعلمهم وأعدلهم ، وهذا ابني قد استعصى عنّي ولم يركب معي وسيهلك مع الهالكين إن لم ترحمه يا رب

__________________

(١) أي : الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق ، وسأل نوح ربّه نجاة ولده لقوله تعالى (وَأَهْلَكَ) وكان كنعان يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

٥٤٨

العالمين فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله الحق : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدتك بإنجائهم لأنه على غير دينك وعلى خلاف منهجك ، (إِنَّهُ عَمَلٌ (١) غَيْرُ صالِحٍ) أي إن سؤالك هذا إليّ بإنجاء ولدك وهو كافر على غير ملتك ، وقد أعلمتك إني مغرق الكافرين. سؤالك هذا عمل غير صالح يصدر عنك : (إِنِّي أَعِظُكَ) أي أنهاك وأخوفك (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فتسألني ما ليس لك به علم. قال نوح (رَبِ) أي يا رب إنّي أعوذ بك أي استجير وأتحصن بك أن أسألك بعد الآن ما ليس لي به علم. وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين أي الذين غبنوا أنفسهم حظوظها فهلكوا ، فأجابه الرب (٢) تعالى (يا نُوحُ اهْبِطْ) من السفينة أنت ومن ومعك من المؤمنين بسلام منا أي بأمن منا وتحيات ، وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي من ذريّة من معك ، فلا تخافوا جوعا ولا شقاء ، وأمم من ذريّة من معك سنمتعهم متاع الحياة الدنيا بالأرزاق ثم يمسهم منا عذاب أليم يوم القيامة لأنهم ينحرفون عن الإسلام ويعيشون على الشرك والكفر. وهذا من علم الغيب الذي أخبر الله تعالى به فكان كما أخبر فقد نشأت أجيال وأجيال من ذريّة نوح منهم الكافر ومنهم المؤمن وفي الجميع ينفذ حكم الله ويتم فيهم وعده ووعيده. وقوله تعالى في الآية (٤٩) وهي الأخيرة في هذا السياق يقول تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) (٣) (نُوحِيها) أي هذه القصة التي قصصناها عليك من أنباء الغيب الذي لا يعلم تفصيله إلا الله نوحيها إليك ضمن آيات القرآن ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على وجه التفصيل من قبل هذا القرآن إذا فاصبر يا رسولنا على أذى قومك مبلغا دعوة ربك حتى يأتيك نصرنا فإن العاقبة (٤) الحسنى الحميدة دائما للمتقين ربهم بطاعته والصبر عليها حتى يلقوه مؤمنين صابرين محتسبين.

__________________

(١) قرأ ابن عباس ، وعروة وعكرمة ، ويعقوب ، والكسائي : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : إن ابنك عمل عملا غير صالح ، وهو الكفر والتكذيب وقرأ الباقون (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أي : ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف كقول الشاعر :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي إقبال وإدبار

أي : ذات إقبال وإدبار.

(٢) وجائز أن يكون القائل : (اهْبِطْ) : الملائكة عليهم‌السلام بإذن الله تعالى.

(٣) اشتملت الآية على ثلاثة أمور هي : الامتنان والصبر ، والتسلية ، فالامتنان في قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ) والموعظة في قوله (فَاصْبِرْ) الخ .. والتسلية في قوله ، (إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ).

(٤) العاقبة في الدنيا بالظفر ، وفي الآخرة بالفوز وهو النجاة من النار ، ودخول الجنة.

٥٤٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ رابطة الإيمان والتقوى أعظم من رابطة النسب.

٢ ـ حرمة العمل بغير علم فلا يحل القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.

٣ ـ ذم الجهل وأهله.

٤ ـ شرف نوح عليه‌السلام وانه أحد أولى العزم من الرسل.

٥ ـ بيان العبرة من القصص القرآني وهي تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٦ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها ببرهان عقلي وهو الإخبار بالغيب الذي لا يعلم إلا من طريق الوحي.

٧ ـ بيان فضل الصبر ، وأن العاقبة الحميدة للمتقين وهم أهل التوحيد والعمل الصالح.

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) : أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم في النسب لا في الدين أخاهم هودا. وهود من قبيلة عاد وعاد من ولد سام بن نوح عليه‌السلام.

(اعْبُدُوا اللهَ) : أي اعبدوه وحده ولا تعبدوا معه غيره.

(ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : أي ليس لكم معبود بحق يستحق عبادتكم غيره.

٥٥٠

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) : أي ما أنتم في تأليه غير الله من الأوثان إلا كاذبون.

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) : أي لا أطلب منكم أجرا على إبلاغي دعوة التوحيد إليكم.

(فَطَرَنِي) : أي خلقني.

(مِدْراراً) : أي كثيرة الدرور للمطر النازل منها.

(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) : أي ولا تعرضوا عن دعوة التوحيد مجرمين على أنفسكم بالشرك بالله.

معنى الآيات :

هنا شروع في قصة هود مع قومه عاد بعد قصة نوح عليه‌السلام ومغزى القصة تقرير توحيد الله ونبوة رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ (١) هُوداً) أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد (٢) أخاهم هودا وهو أخوهم في النسب وأول من تكلم بالعربية فهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم هود ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي قال هود لقومه بعد أن أرسله الله إليهم يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه غيره فإنه ما لكم من إله غير (٣) الله سبحانه وتعالى. وقوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) أي ما أنتم في عبادة غير الله من الأصنام والأوثان إلّا كاذبون ، إذ لم يأمركم الله تعالى ربكم بعبادتها ، وإنما كذبتم عليه في ذلك. وقوله (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) يريد لا أسألكم على دعوتي إياكم إلى توحيد ربكم لتكملوا بعبادته وتسعدوا أجرا أي مالا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أي ما أجري إلا على الله الذي خلقني. وقوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤) أي أفلا تعقلون أنّي لو كنت أبغي بدعوتي إلى التوحيد أجرا لطلبت ذلك منكم ، غير أني لم أطلب من غير ربي أجرا فبان بذلك صدقي في دعوتكم ونصحي لكم.

وقوله تعالى عن قيل هود (يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) يخبر تعالى أن هودا نادى قومه فقال يا قوم استغفروا ربكم أي آمنوا به واطلبوا منه المغفرة لذنوبكم ، ثم توبوا إليه أي ارجعوا إلى عبادته وحده بما شرع لكم على لسان نبيكم ، واتركوا عبادة غيره يكافئكم بأن

__________________

(١) وجائز أن تكون أخوة بني آدم إذ الكل من آدم عليه‌السلام.

(٢) هما : عادان ، الأولى والثانية لقوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) فهؤلاء هم عاد الأولى ، وأمّا الأخرى فالله أعلم بها.

(٣) يصح في : غيرالجر والرفع والنصب ، فالجرّ على اللفظ ، والرفع على الموضع والنصب على الاستثناء.

(٤) وجائز أن يكون (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لما جرى لقوم نوح لمّا كذّبوا الرسل ، وما في التفسير أولى وأكثر فائدة.

٥٥١

يرسل السماء عليكم مدرارا (١) أي بالأمطار المتتالية بعد الذي أصابكم من الجفاف والقحط والجدب ، ويزدكم قوة روحية إلى قوتكم المادية ، وقوله (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ينهاهم ناصحا لهم أن يرفضوا نصيحته ويرجعوا إلى عبادة الأوثان فيجرموا على أنفسهم بإفسادها بأوضار الشرك والعصيان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الرسل من نوح إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدة وهي : أن يعبد الله وحده.

٢ ـ تقرير مبدأ لا إله إلا الله.

٣ ـ المشركون والمبتدعون الكل مفترون على الله كاذبون حيث عبدوه بما لم يشرع لهم.

٤ ـ وجوب الإخلاص في الدعوة.

٥ ـ فضل الاستغفار ووجوب التوبة.

٦ ـ تقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولا بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧))

__________________

(١) أي : كثيرة المطر المتتابع الذي يتلو بعضه بعضا ، يقال : درّت السماء تدرّ فهي مدرار ، وكان قوم هود أهل بساتين وزروع حياتهم متوقفة على المطر.

٥٥٢

شرح الكلمات :

(بِبَيِّنَةٍ) : أي بحجة وبرهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وحده.

(وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) : أي عبادة آلهتنا لأجل قولك إنها لا تستحق أن تعبد.

(إِلَّا اعْتَراكَ) : أي أصابك.

(بِسُوءٍ) : أي بخبل فأنت تهذي وتقول ما لا يقبل ولا يعقل.

(ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) : أي لا تمهلون.

(آخِذٌ بِناصِيَتِها) : أي مالكها وقاهرها ومتصرف فيها. فلا تملك نفعا ولا ضرا إلا بإذنه.

(إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي على طريق الحق والعدل.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أصلها تتولوا فعل مضارع حذفت منه إحدى التائين ومعناه تدبروا.

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) : أي رقيب ولا بد انه يجزي كل نفس بما كسبت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة هود مع قومه إذ أخبر تعالى عن قيل قوم هود إلى هود فقال (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة أو برهان على صحة ما تدعونا إليه من عبادة الله وترك عبادة آلهتنا والاعتراف بنبوتك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا) أي عبادتها (عَنْ قَوْلِكَ) أي من أجل قولك انها لا تستحق أن تعبد لكونها لا تنفع ولا تضر ، (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمتابعين لك على دينك ولا مصدقين لك فيما تقول (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ (١) بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) أي ما نجد ما نقول فيك إلا أن بعض آلهتنا التي تسبها وتشتمها قد أصابتك بسوء بخبل وجنون فأنت تهذر وتهذي ولا تدري ما تقول. فأجابهم قائلا (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فأعلن براءته في وضوح من آلهتهم وأنه لا يخافها إبطالا لدعواهم أنّها أصابته بسوء ، وأعلمهم أنه يشهد الله على ذلك ، ثم أمرهم أن يشهدوا هم كذلك. (٢) وقوله (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله من سائر الآلهة والشركاء ثم تحداهم مستخفا

__________________

(١) عراه واعتراه بمعنى واحد ، وهو : أصابك ، يقال : اعتراني كذا ، أي ، أصابني ، كما يقال : عراني نعاس أو تفكير أي : أصابني.

(٢) ما أمرهم بالشهادة لكونهم أهلا لها ، وإنما زيادة في التقرير ، وخالف بين الفعلين حتى لا يسوي بين شهادة الله تعالى وشهادتهم.

٥٥٣

بهم وبآلهتهم ، فقال (فَكِيدُونِي (١) جَمِيعاً) أي احتالوا على ضري ثم لا تنظرون أي لا تؤخرون ولا تمهلون ، ثم كشف لهم عن مصدر قوته وهو توكله على ربّه فقال (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي فوضت أمري إليه وجعلت كل ثقتي فيه فهو لا يسلمني إليكم ولا يخذلني بينكم. ثم أعلمهم بإحاطة قدرة الله بهم وقهره لهم فقال (ما مِنْ (٢) دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) (٣) أي قاهر لها متحكم فيها يقودها حيث شاء وينزل بها من العذاب ما يشاء ، ثم أعلمهم أن ربّه تعالى على طريق العدل والحق فلا يسلط أعداءه على أوليائه ، فقال (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلذا أنا لست بخائف ولا وجل ثم قال لهم (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي فإن تدبروا عن الحق وتعرضوا عنه فغير ضائري ذلك إذ أبلغتكم ما أرسلني به ربي إليكم وسيهلككم ويستخلف قوما غيركم ، (٤) ولا تضروه شيئا من الضرر لا قليلا ولا كثيرا ، (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي رقيب ، وسيجزي كلا بما كسب بعدله ورحمته. وله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مدى مجاحدة ومكابرة المشركين في كل زمان ومكان.

٢ ـ تشابه الفكر الشركي وأحوال المشركين إذ قول قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ ..) الخ. يردده جهلة المسلمين وهو فلان ضربه الولي الفلاني.

٣ ـ مواقف أهل الإيمان واحدة فما قال نوح لقومه متحديا لهم قاله هود لقومه.

٤ ـ تقرير مبدأ أن كل شيء في الكون خاضع لتدبير الله لا يخرج عما أراده له أو به.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ

__________________

(١) في قوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) علم من أعلام النبوة ، إذ لا يقدر فرد أن يقول لأمّة بكاملها : افعلي بي من الشر والأذى ما تستطيعين إلّا أن يكون نبيّا عالما بقدرة الله تعالى على حفظه وحمايته ، وقد وقف هذا الموقف نوح من قبل ووقفه محمد بعد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم تسليما.

(٢) كل ما فيه روح يقال له دابّ ، والتاء فيه : للمبالغة ، فيقال : دابة مبالغة في الدبيب.

(٣) الناصية : ما انسدل من شعر الرأس على الجبهة ، والأخذ : الإمساك ، وهذا كناية عن التمكن والقدرة الكاملة على التصرف في المخلوقات.

(٤) أي : يخلق من هم أطوع لله تعالى منكم فيعبدونه ويوحدّونه.

٥٥٤

مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) : أي بعذابهم وهي الريح الصرر.

(بِرَحْمَةٍ مِنَّا) : أي بفضل منا ونعمة.

(جَبَّارٍ عَنِيدٍ) : أي مستكبر عن الحق لا يذعن له ولا يقبله.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) : أي ولعنة في يوم القيامة.

(أَلا بُعْداً لِعادٍ) : أي هلاكا لعاد وإبعادا لهم من كل رحمة.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى هود وقومه قال تعالى (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (١) (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ (٢) مِنَّا) أي بلطف وفضل ونعمة (وَنَجَّيْناهُمْ (٣) مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) هو عذاب يوم القيامة فهما نجاتان نجاة في الدنيا من عذاب الريح العقيم الصرر التي دمرت كل شيء بأمر ربها ونجاة من عذاب النار يوم القيامة وهي أعظم. وقوله تعالى (وَتِلْكَ عادٌ) أي هذه عاد قوم هود جحدوا بآيات (٤) ربهم فلم يؤمنوا وعصوا رسله أي هودا وجمع لأن من كذب برسول كأنما كذب بكل الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥) أي اتبعوا أمر دعاة الضلالة من أهل الكبر والعناد للحق فقادوهم إلى سخط الله وأليم عقابه وقوله (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي اتبعهم الله غضبه وسخطه وهلاكه ، ويوم القيامة كذلك وأشد. ويختم الحديث عن هذه القصة بقول الله تعالى (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي جحدوه فلم يعترفوا بألوهيته

__________________

(١) بهلاك عاد.

(٢) في صحيح مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة).

(٣) قيل : كانوا ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف نسمة ما بين رجل وامرأة.

(٤) المراد من الآيات : المعجزات وأنكروها.

(٥) العنيد والعنود ، والعاند والمعاند : المعارض ، المخالف.

٥٥٥

وعبادته (أَلا بُعْداً) (١) أي هلاكا لعاد قوم هود. فهل يعتبر مشركو قريش بهذه القصة فيؤمنوا ويوحدوا فينجوا ويفلحوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد إذ القصة كلها مسوقة لذلك.

٢ ـ بيان سنة الله في الأولين وهي انه يبعث الرسل مبشرين ومنذرين فإن استجاب المرسل إليهم سعدوا ، وإن لم يستجيبوا يمهلهم حتى تقوم الحجة عليهم ثم يهلكهم ، وينجي المؤمنين.

٣ ـ التنديد بالكبر والعناد إذ هما من شر الصفات الخلقية في الإنسان.

٤ ـ اتباع الطغاة والظلم والكفر والفساد لا تقود إلا إلى الدمار والخسار.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣))

شرح الكلمات :

(وَإِلى ثَمُودَ) : أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود.

(أَخاهُمْ صالِحاً) : أي في النسب لأنه من قبيلة ثمود ، بينه وبين ثمود أبي القبيلة خمسة أجداد.

__________________

(١) والبعد : التباعد عن الخير أيضا.

٥٥٦

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ) : أي جعلكم عمارا فيها تعمرونها بالسكن والإقامة فيها.

(قَرِيبٌ مُجِيبٌ) : أي من خلقه ، إذ العوالم كلها بين يديه ومجيب أي لمن سأله.

(مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) : أي قبل أن تقول ما قلت كنا نرجو أن تكون سيدا فينا.

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : أي على علم بربي علمنيه سبحانه وتعالى فهل يليق بي أن أعبد غيره.

(غَيْرَ تَخْسِيرٍ) : أي خسار وهلاك.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة صالح مع قومه إذ قال تعالى مخبرا عن إرساله إلى قومه (وَإِلى ثَمُودَ) (١) (أَخاهُمْ صالِحاً) أي وأرسلنا إلى قبيلة ثمود بالحجر بين الحجاز والشام أخاهم في القبيلة لا في الدين صالحا. فقال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) فناداهم بعنوان القومية جمعا لقلوبهم على ما يقول لهم فقال (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) أي آمنوا به ووحدوه في عبادته فلا تعبدوا معه أحدا. إذ ليس لكم من إله غيره. إذ هو ربكم أي خالقكم ورازقكم ومدير أمركم. (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم منها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ (٢) فِيها) أي جعلكم تعمرونها بالسكن فيها والعيش عليها ، إذا فاستغفروه بالاعتراف بألوهيته ثم توبوا إليه فاعبدوه وحده ولا تشركوا في عبادته أحدا. وقوله (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) أخبرهم بقرب الربّ تعالى من عباده وإجابته لسائليه ترغيبا لهم في الإيمان والطاعة ، وترك الشرك والمعاصي. هذا ما تضمّنته الآية الأولى (٦١) أما الآية الثانية فقد تضمنت رد القوم عليه عليه‌السلام إذ قالوا بما اخبر تعالى عنهم (يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي كنا نأمل فيك الخير ونرجو أن تكون سيدا فينا حتى فاجأتنا بما تدعونا إليه من ترك آلهتنا لإلهك ثم أنكروا عليه دعوته فقالوا (أَتَنْهانا (٣) أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وأخبروه أنهم

__________________

(١) اختلف في صرف ثمود فمن القراء من صرفه ابدا وإلى ثمود بالجر والتنوين ومنهم من صرفه في موضع من القرآن ومنه في موضع آخر ولكل فيما رآه وجه صحيح.

(٢) استعمر بمعنى أعمر كاستجاب بمعنى أجاب أعمركم جعلكم تعمرونها فأنتم عمارها إلى نهاية آجالكم المحددة لكم ، وليس هذا من باب استسهل الشيء إذا وجده سهلا واستصعبه إذا وجده صعبا فإن الله تعالى لا يعجزه شيء وفي الآية دليل على العمرى وهو أن يقول مالك لآخر أعمرتك داري فتصبح له واختلف هل تبقى لذريته بعد موته أو هي له ما دام حيا فإذا مات عادت لمن أعمره إياها مذهبان مشهوران وفي الحديث العمرى جائزة والعمرى لمن وهبت له.

(٣) الاستفهام للإنكار.

٥٥٧

غير مطمئنين إلى صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله تعالى فقالوا (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي موقع في الريب وهو اضطراب النفس وعدم سكونها إلى ما قيل لها أو أخبرت به هذا ما تضمنه الآية الثانية (٦٢) أما الآية الثالثة (٦٣) فقد تضمنت دعوة صالح لقومه بأسلوب رفيع رغبة منه في إقامة الحجة عليهم لعلهم يؤمنون ويوحدون إذ قال بما أخبر الله تعالى في قوله : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على علم يقيني بالإيمان بربي ووجوب عبادته وتوحيده وآتاني منه رحمة وهي النبوة والرسالة ، فمن ينصرني (١) من الله إن عصيته اللهم إنه لا أحد أبدا إذا فإنكم ما تزيدونني إن أنا أطعتكم في ترك عبادة ربّي والرضا بعبادة آلهتكم إلا خسارا (٢) وضلالا في هذه الحياة وفي الحياة الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وحدة الوسيلة والغاية عند كافّة الرسل فالوسيلة عبادة الله وحده ، والغاية رضا الله والجنة.

٢ ـ تقديم الاستغفار على التوبة في الآية سره إن المرء لا يقلع عن ذنبه حتى يعترف به.

٣ ـ بيان سنة في الناس وهي أن المرء الصالح يرجى في أهله حتى إذا دعاهم إلى الحق وإلى ترك الباطل كرهوه وقد يصارحونه بما صارح به قوم صالح نبيّهم إذ قالوا (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا).

٤ ـ حرمة الاستجابة لأهل الباطل بأي نوع من الاستجابة ، إذ الاستجابة لا تزيد العبد إلا خسارا.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ

__________________

(١) الاستفهام للنفي أي لا أحد ينصرني.

(٢) اختلف في توجيه قوله عليه‌السلام فما تزيدونني غير تخسير فمن قائل : غير بصيرة بخسارتكم ومن قائل التخسير لهم لا له عليه‌السلام وأوجه الأقوال ما في التفسير وأشكل لفظ زيادة التخسير والخروج منه أنه يعرض بهم فأفهمهم أنهم في خسران كقوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ثم بشركهم يزدادون خسرانا وتخسيرا أعظم.

٥٥٨

أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

شرح الكلمات :

(آيَةً) : أي علامة على صدقي فيما جئتكم به من أنه لا إله إلا الله.

(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) : أي اتركوها ترعى في المراعي غير المحميّة لآحد ،

(بِسُوءٍ) : أي كضربها أو قتلها ، أو منعها من الماء الذي تشرب منه.

(فَعَقَرُوها) : أي قتلوها بالعقر الذي هو قطع قوائمها بالسيف.

(تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) : أي ابقوا في دياركم تأكلون وتشربون وتتمتعون في الحياة ثلاثة أيام.

(وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) : أي صادق لم أكذبكم فيه ولم يكذبني ربي الذي وعدكم به.

(فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) : أي ساقطين على ركبهم ووجوههم.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : أي كأن لم يكونوا بها أمس ولم تعمر بهم يوما.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن صالح وقومه. إنه لما دعاهم صالح إلى توحيد الله تعالى كذبوه وطالبوه بما يدل على صدق ما دعا إليه فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به في هذه الآية (وَيا قَوْمِ) (١) (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وذلك أنهم سألوا أن يخرج لهم ناقة من جبل أشاروا

__________________

(١) هذه ناقة الله لكم آية مبتدأ وخبر وآية منصوب على الحال.

٥٥٩

إليه فدعا صالح ربّه فاستجاب الله تعالى له وتمخض الجبل عن ناقة عشراء هي عجب في خلقتها وكمالها فقال عندئذ (يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ) أضافها إلى الله لأنها كانت بقدرته ومشيئته (لَكُمْ آيَةً) أي علامة لكم على صدق ما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان ، فذروها (١) تأكل في أرض الله أي خلّوها تأكل من نبات الأرض من المراعي العامة التي ليست لأحد ، ولا تمسوها بسوء كعقرها أو ذبحها وقتلها فيأخذكم عذاب قريب (٢) قد لا يتأخر أكثر من ثلاثة أيام. فكذبوه فعقروها فلما رأى ذلك قال لهم بأمر الله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ (٣) ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) أي عيشوا فيها. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي ذلك الوعد وعد صادق غير مكذوب فيه. هذا ما دلت عليه الآيتان (٦٤ ـ ٦٥) وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي لما اكتملت المدة التي حددت لهم وجاء أمر الله بعذابهم نجى الله تعالى رسوله صالحا والمؤمنين برحمة منه أي بلطف ونعمة منه عزوجل وقوله (وَمِنْ خِزْيِ (٤) يَوْمِئِذٍ) أي ونجاهم من ذل ذلك اليوم وعذابه ، وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي إن ربك يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوي إذا بطش عزيز غالب لا يغلب على أمر يريده. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (٦٦) وأما الآيتان بعد فقد أخبر تعالى فيهما عن هلاك ثمود بقوله (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٥) (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي إنّ الذين أشركوا بربهم وكذبوا بآياته أخذتهم الصيحة فانخلعت لها قلوبهم فهلكوا وأصبحوا في ديارهم جاثمين على ركبهم كأن لم يغنوا بديارهم ولم يعمروها قال تعالى (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) أي هلاكا لثمود ، وبهذا التنديد والوعيد بعد الهلاك والعذاب المخزي انتهت قصة صالح مع قومه ثمود الذين آثروا الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إعطاء الله تعالى الآيات للمطالبين بها لا يستلزم الإيمان بها.

__________________

(١) ذروها أمر ، وماضيه وذر شاذ وكذا اسم الفاعل فلا يقال وذر فهو واذر ، والمستعمل منه المضارع والأمر لا غير. ومعناه ترك وبه استغنى عن وذر.

(٢) أي من يوم قتلها وهو كذلك فلم يتأخر.

(٣) ليتمتع كل واحد منكم في داره عن ثلاثة أيام إذ عقروا الناقة يوم الأربعاء فأصبحوا يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة وأصبحوا يوم الجمعة وهو اليوم الثاني من أيام التمتع في ديارهم ووجوههم محمرة وأصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة وأخذوا صباح الأحد.

(٤) من فضيحته وذلته وقرأ نافع بنصب يومئذ وقرأ غيره بكسرها على الإضافة.

(٥) جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فخروا على الأرض جاثمين جثوم الطير على الأرض إذا الصقت بطونها بها وسكنت لا تتحرك.

٥٦٠