أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

الله تعالى.

(بِما أَخْلَفُوا اللهَ) : أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى به.

(سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) : أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه ، وما يتناجون به فيما بينهم.

(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) : يعلم كل غيب في الأرض أو في السماء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف (١) آخر منهم قد عاهد الله تعالى لئن أغناهم من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقّنه في طريق البر والخير ، فلما أعطاهم الله ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا ، وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى وصلاح ، وهم معرضون. فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) (٢) لا يفارقهم حتى يلقوا ربهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ (٣) اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ (٤) مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ). أما الآية الأخيرة (٧٨) وهي قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟؟) فإنها تضمنت توبيخ الله تعالى للمنافقين الذين عاهدوا الله وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه تعالى علام الغيوب ، وإلا كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن ، وويل لهم حيث لازمهم ثمرته وهو النفاق حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين.

__________________

(١) قال قتادة : هذا رجل من الأنصار قال : لئن رزقني الله شيئا لأدين فيه حقه ولأتصدقن فلما آتاه الله ذلك فعل ما قصّ عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور.

(٢) (نِفاقاً) نكرة أي : نفاقا ما من نوع من أنواع النفاق وليس هو نفاق الكفر وإنّما هو نفاق العمل.

(٣) الآية صريحة ودلالتها واضحة في أنّ أحد أفراد المؤمنين سأل الله المال سواء بواسطة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأن قال له ادع الله لي ، أو سأل بنفسه وقطع عهدا لربه بما ذكر في الآية ، ولما أخلف ما عاهد الله عليه أصيب بمرض النفاق في قلبه ـ والعياذ بالله تعالى ـ وهل هو ثعلبة بن حاطب أو غيره أما ثعلبة فقد شهد بدرا ، وأهل بدر ذكر لهم وعد عظيم ، فلا يصح أن يكون أحدهم وقع في هذه الفتنة وإن كان غيره فهو حق ، وجائز أن يكون هذا الغير اسمه ثعلبة فتشابه الاسم بالاسم فظن أنه البدري وليس هو والله أعلم. هذا والله إني لخائف من هذه الآية أن تنطبق عليّ فاللهم عفوك وغفرانك لي.

(٤) صيغة الجمع تدل على أن من عاهد الله لم يكن فردا واحدا بل كان جماعة ولذا قال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومعتب بن قشير إلّا أن قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) يتنافى مع كونهم منافقين ، إلّا أن يقال : زادهم نفاقا خلفهم هذا على نفاقهم الأول. والله أعلم.

٤٠١

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود (١) الله تعالى.

٢ ـ ذم البخل وأهله.

٣ ـ تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة.

٤ ـ جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل.

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى إذ لو راقب هؤلاء المنافقون (٢) الله تعالى لما خرجوا عن طاعته.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

شرح الكلمات :

(يَلْمِزُونَ) : أي يعيبون ويطعنون.

__________________

(١) اختلف في نية الطلاق أو الصدقة بدون أن يلفظ هل يلزمه ما نواه بقلبه أو لا يلزمه ، الراجح : أنه لا يلزمه ما لم يتلفظ به والدليل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنّ الله تجاوز لأمتى عمّا حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) رواه الترمذي وقال فيه حسن صحيح ، والشاهد في قوله : (أو تتكلم به) والعمل بهذا عند أهل العلم.

(٢) جاء في الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) وفي حديث آخر : (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) واختلف العلماء في تأويل هذين الحديثين ، وقسموا النفاق إلى اعتقادي وعملي ، فالاعتقادي : ما كان صاحبه كافرا بالله ورسوله مكذبا لهما ، والعملي : ما كان صاحبه مؤمنا مصدقا ولكن يأتي هذه المحظورات جهلا وفسقا. وهذا صحيح. ولكن لا يتأتى لعبد يؤمن بالله ورسوله أن يتعمد الكذب على المسلمين وإخلاف الوعد لهم ، والغدر بهم ، وخيانتهم في أماناتهم والفجور في التخاصم معهم ، ومن هنا كان المطلوب اجراء الخبر على ظاهره ما دام العبد يتعمد هذه المحظورات نكاية بالمسلمين وبغضا لهم وعدم اعتراف بحقوقهم وظلما واعتداء عليهم ، إذ مثل هذا لا يكون معه إيمان بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٠٢

(الْمُطَّوِّعِينَ) : أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة.

(إِلَّا جُهْدَهُمْ) : إلا طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به.

(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) : أي يستهزئون بهم احتقارا لهم.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) : أي اطلب لهم المغفرة أو لا تطلب.

(لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوارهم فقد أخبر تعالى أن (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ (١) الْمُطَّوِّعِينَ (٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ (٣) فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب الأليم. وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل بمال كثير لمزوه وقالوا مراء ، وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا : الله غني عن صاعك هذا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن استغفاره لهم وعدمه سواء فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ (٤) أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وبين علة ذلك بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ،) وهذه العلة كافية في عدم المغفرة لهم لأنها الكفر والكافر مخلد في النار. وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فلا يتوبوا فقال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لأن الفسق قد أصبح وصفا لازما لهم فلذا هم لا يتوبون ، وبذلك حرموا هداية الله تعالى.

__________________

(١) أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أمرنا بالصدقة فكنا نحامل على ظهورنا فتصدق أبو عقيل بنصف صاع ، قال : وجاء انسان بشيء أكبر منه فقال المنافقون إنّ الله لغني عن صدقة هؤلاء ، وما فعل هذا الآخر إلّا رياء فنزلت : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ..) الآية.

(٢) أصل المطوّعين : المتطوعين ادغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما وهم : الذين يفعلون الشيء تبرعا من غير أن يجب عليهم.

(٣) الجهد : شيء قليل يعيش به المقل والجهد والجهد بالفتح أيضا : الطاقة والسخرية : الاستهزاء ، وعاملهم الله تعالى بالمثل فسخر منهم وهم لا يشعرون.

(٤) بيد أنه لما نزلت الآيات الفاضحة للمنافقين جاء بعضهم يعتذرون ويطلبون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم فاستغفر لهم رحمة بهم فأعلمه ربّه تعالى أنّ استغفاره لهؤلاء المنافقين مهما بلغ من الكثرة لا ينفعهم وذلك لكفرهم ونفاقهم وفسقهم.

٤٠٣

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة لمز المؤمن والطعن فيه.

٢ ـ حرمة السخرية بالمؤمن.

٣ ـ غيرة الله على أوليائه حيث سخر الله ممن سخر من المطوعين.

٤ ـ من مات على الكفر لا ينفعه الاستغفار له ، بل ولا يجوز الاستغفار له.

٥ ـ التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

شرح الكلمات :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) : أي سرّ الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالُوا : لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) : أي قال المنافقون لبعضهم بعضا لا تخرجوا للغزو في الحر.

(لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) : أي لو كانوا يفقهون أسرار الأمور وعواقبها ونتائجها لما قالوا : لا تنفروا في الحر ولكنهم لا يفقهون.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا) : أي في الدنيا ، وليبكوا كثيرا في الدار الآخرة.

٤٠٤

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) : أي من المنافقين.

(فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) : أي المتخلفين عن تبوك من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبرا عنهم (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) (١) أي سر المتخلفون (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ (٢) رَسُولِ اللهِ) أي بقعودهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في سبيله ، وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم وكفرهم وقولهم (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر ، قالوا هذا لبعضهم بعضا وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) فلماذ لا يتّقونها بالخروج في سبيل الله كما يتقون الحر بعدم الخروج ، وقوله تعالى (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي لما تخلفوا عن الجهاد لأن نار جهنم أشد حرا ، ولكنهم لا يفقهون وقوله تعالى (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) أي (٣) في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات (وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) أي يوم القيامة لما ينالهم من الحرمان والعذاب ، وذلك كان (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الشر والفساد ، وقوله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) (٤) أي فإن ردك الله سالما من تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك لغزو وجهاد (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وعلة ذلك (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٥) أي من النساء

__________________

(١) (الْمُخَلَّفُونَ) هم المتركون في المدينة تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون لأنهم غير أهل لصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذا كره الله انبعاثهم فثبظهم أما هم فإنهم فرحوا بتخلفهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفاقهم وفسقهم.

(٢) (خِلافَ) لغة في خلف ، واختير لفظ خلاف إشارة إلى أنّ المنافقين يحبّون مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، وقعودهم وإن كان بإذن فإنه مخالف لإرادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالنفير العام وجاءوا هم يستأذنون في القعود.

(٣) (فَلْيَضْحَكُوا) أمر ، ومعناه التهديد أي : فليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في الآخرة كثيرا ، أو هو أمر بمعنى الخبر وهو صحيح إذ هذا هو حالهم ومنتهى أمرهم.

(٤) قوله : (إِلى طائِفَةٍ) دليل على أن من المتخلفين ما كانوا منافقين ككعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع العامري.

(٥) (الْخالِفِينَ) جمع خالف ، كأنهم خلفوا الخارجين في ديارهم ، واختيار لفظ الخالفين يحمل سبّا لهم وعيبا ، إذ الخالفون النساء ، وخلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم ، ومنه خلف اللبن : إذا فسد بطول المكث في الإناء ، وفي هذا دليل على أن استصحاب المخذل الفاسد في الغزوات لا يليق.

٤٠٥

والأطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول الله وكراهيتهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من علامات النفاق الفرح بترك طاعة الله ورسوله.

٢ ـ من علامات النفاق كراهية طاعة الله ورسوله.

٣ ـ كراهية الضحك والإكثار منه. (١)

٤ ـ تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

شرح الكلمات :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ) : أي صلاة الجنازة.

(وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) : أي لا تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين.

(وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) : أي خارجون عن طاعة الله ورسوله.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) : أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك ، وإن كانت هذه الآية

__________________

(١) صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى) وورد أن كثرة الضحك تميت القلب وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جل ضحكه الابتسام.

٤٠٦

نزلت في (١) شأن عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبد الله جاءه فقال يا رسول الله إن أبي قد مات فأعطني قميصك (٢) أكفنه فيه «رجاء بركته» وصل عليه واستغفر له يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القميص وقال له إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال بل خيرني فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم. فصلى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ (٣) ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي لا تتول دفنه والدعاء له بالتثيبت عند المسألة. وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) ، وقوله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) أي لا تصل (٤) على أحد منهم مات يا رسول الله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) فتصلي عليهم إني إنما أعطيتهم ذلك لا كرامة لهم وإنما لأعذبهم بها في الدنيا بالغموم والهموم (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) أي ويموتوا (وَهُمْ كافِرُونَ) فسينقلون إلى عذاب أبدي لا يخرجون منه ، وذلك جزاء من كفر بالله ورسوله.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة الصلاة على الكافر مطلقا.

٢ ـ حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له.

__________________

(١) روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) وما في التفسير من خبر ابن أبيّ رواه مسلم.

(٢) فإن قيل : كيف يعطي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه ليكفن فيه رئيس المنافقين وكيف صلى عليه واستغفر له وهو يعلم أنّه منافق؟ والجواب : أما اعطاؤه ثوبه ليكفن فيه فقد سبق أن أعطى عبد الله بن أبي ثوبا للعباس عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحفظ له هذه اليد فأعطاه ثوبه وأما الصلاة عليه فقد كانت قبل نهي الله تعالى عنها ، وأما الاستغفار فقد خير فيه بقوله (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فرأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في استغفاره استئلافا للقلوب ففعل.

(٣) في الآية دليل على فرضية الصلاة على أموات المسلمين ، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم ، وفي الآية إحدى موافقات عمر رضي الله عنه إذ أنزل الله تعالى هذا الحكم وهو ترك الصلاة على المنافقين بعد أن قال عمر : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ، فالصلاة هنا هي الدعاء والاستغفار فلما صلى عليه نزلت الآية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ ..) الخ فترك الصلاة على المنافقين.

(٤) صلاة الجنازة هي : أن يكبر ثم يقرأ الفاتحة ثم يكبر ويصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يكبر ويدعو للميت ، ثم يكبر الرابعة ويسلم لفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا وقوله : (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود ، ويستحب أن يقف الإمام عند رأس الرجل ، وعجيزة المرأة ، لورود الحديث بذلك في مسلم وأبي داود.

٤٠٧

٣ ـ كراهة الصلاة على أهل الفسق دون الكفر.

٤ ـ حرمة الإعجاب بأحوال الكافرين المادية.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

شرح الكلمات :

(اسْتَأْذَنَكَ) : أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف.

(أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) : أي أولو الثروة والغنى.

(ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) : أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والأطفال والنساء.

(مَعَ الْخَوالِفِ) : أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب.

٤٠٨

(طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعا عليها فحجبتها المعرفة.

(لَهُمُ الْخَيْراتُ) : أي في الدنيا بالنصر والغنيمة. وفي الآخرة بالجنة والكرامة فيها.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالسلامة من المخوف والظفر بالمحبوب.

(الْمُعَذِّرُونَ) : أي المعتذرون.

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ) : أي ولم يأت الى طلب الإذن بالقعود عن الجهاد منافقوا الأعراب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى (وَإِذا أُنْزِلَتْ (١) سُورَةٌ) أي قطعة من القرآن آية أو آيات (أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ (٢) رَسُولِهِ) أي تأمر بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ) (٣) أي من المنافقين (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) أي المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والأطفال قال تعالى : في عيبهم وتأنيبهم (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي طبع الله على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذا هم لا يفقهون معنى الكلام وإلا لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر بالإيمان والجهاد يأتون في غير حياء ولا كرامة يستأذنون في البقاء مع النساء (لكِنِ (٤) الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ولم يستأذنوا ففازوا بكرامة الدنيا

__________________

(١) السورة. طائفة من آيات القرآن لها مبدأ ومختم ، والمراد بالسورة هنا : هذه السورة (التوبة) أو بعض آياتها الآمرة بالجهاد والإيمان.

(٢) (أَنْ آمِنُوا) أن : تفسيرية فسرت مضمون السورة وهو الإيمان والجهاد.

(٣) أي : في القعود والتخلف عن الجهاد وهم أصحاب القدرة على الجهاد لصحة أجسامهم وكثرة أموالهم أما العجزة فإنهم غير مأمورين بالجهاد ، والطول معناه : الغنى والقدرة المالية.

(٤) قوله : (لكِنِ) الخ استدراك بيّن فيه تعالى حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وأنها أكمل الأحوال بعد ذكر حال المنافقين وما هم عليه من صفات النقص إذ أخبر أنهم لجبنهم يطلبون القعود عن الجهاد وأنهم لما ران على قلوبهم من أوضار الكفر والفسق لا يفقهون الكلام ولا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم بخلاف الرسول والمؤمنين فقد ذكر صفاتهم الكمالية ، وهي الجهاد بالمال والنفس وما فازوا به من عظيم الخيرات ، وما آلوا إليه من الفلاح وهو النجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب.

٤٠٩

والآخرة قال تعالى (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) (١) أي في الدنيا بالانتصارات والغنائم وفي الآخرة بالجنة ونعيمها ورضوان الله فيها. وقال (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون بالسلامة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلاح بقوله في الآية (٨٩) فقال (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم بأنه الفوز فقال (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). هذا ما دلت عليه الآيات الأربع أما الآية الخامسة (٩٠) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن منافقي الأعراب أي البادية ، فقال تعالى (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) (٢) أي المعتذرون ادغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من الأعراب أي من سكان البادية كأسد وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الإذن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة ، وقد يكونون معذورين حقا وقد لا يكونون كذلك. وقوله (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في دعوى الإيمان بالله ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون منافقون ، فلذا قال تعالى فيهم (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا وفي الآخرة ، إن ماتوا على كفرهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن هو مصدر التشريع الإلهي الأول والسنة الثاني.

٢ ـ مشروعية الاستئذان للحاجة الملحة.

٣ ـ حرمة الاستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه.

٤ ـ حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من الإمام.

٥ ـ فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.

٦ ـ بيان عظم الأجر وعظيم الجزاء لأهل الإيمان والجهاد.

__________________

(١) الخيرات : جمع خير على غير قياس كسرادقات ، وحمامات جمع سرادق وحمام.

(٢) (الْمُعَذِّرُونَ) هذا اللفظ صالح لأن يكون المراد به المعتذرون لعلل قامت بهم وصالح لأن يكون المراد به المعذرون وهم الذين لا عذر لهم ويعتذرون بغير حق موجب للعذر يقال : عذر فلان : إذا قصّر في الواجب واعتذر بدون عذر قام به. وهذا من بلاغة القرآن ، اللفظ الواحد منه يحتمل وجهين وكلاهما حق ومراد.

٤١٠

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))

شرح الكلمات :

(عَلَى الضُّعَفاءِ) : أي كالشيوخ. ولا على المرضى : كالعمى والزمنى

(حَرَجٌ) : أي إثم على التخلف.

(إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) : أي لا حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا لله ورسوله وذلك بطاعتهم لله ورسوله مع تركهم الإرجاف والتثبيط.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) : أي من طريق إلى مؤاخذتهم.

(لِتَحْمِلَهُمْ) : أي على رواحل يركبونها.

(تَوَلَّوْا) : أي رجعوا الى بيوتهم.

(تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) : أي تسيل بالدموع الغزيرة حزنا على عدم الخروج.

معنى الآيتين :

لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الأليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه الآيات أنه لا حرج على أصحاب الأعزار وهم الضعفاء ، كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج (١) والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم لله ورسوله فقال عز

__________________

(١) شاهده من سورة الفتح : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

٤١١

وجل (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) أي إثم (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (١) ومعنى النصح لله ورسوله طاعتهما في الأمر والنهي وترك الإرجاف والتثبيط والدعاية المضادة لله ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل الله وقوله تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لأنه أولا بعذر شرعي (٢) وثانيا هم مطيعون لله ورسوله وثالثا قلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال ، كما ليس من سبيل (عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) إلى الجهاد معك في سيرك (قُلْتَ) معتذرا إليهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم (٣) حزنا (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) في سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة. رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ لا حرج على أصحاب الأعذار الذين ذكر الله تعالى في قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وفي هذه الآية (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) حرج وبشرط طاعة الله والرسول فيما يستطيعون والنصح (٤) لله والرسول بالقول والعمل وترك التثبيط والتخذيل والإرجاف من الإشاعات المضادة للإسلام والمسلمين.

__________________

(١) قال القرطبي : (نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) إذا عرفوا الحق وأحبّوا أولياءه وأبغضوا أعداءه ، ومع قبول أعذار أصحاب الأعذار فقد خرج ابن ام مكتوم إلى أحد وهو رجل أعمى ، وطلب أن يعطى الراية ليحملها ، وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج خرج إلى أحد فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إنّ الله قد عذرك) فقال : والله لأحفرنّ بعرجتي هذه في الجنة.

(٢) روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلّا وهم معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال : حبسهم العذر؟)

(٣) (حَزَناً) منصوب على أنه مفعول لأجله ، وجملة : (وَأَعْيُنُهُمْ) : حال من (تَوَلَّوْا).

(٤) النصح : إخلاص العمل من الغش يقال : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (الدين النصيحة ـ ثلاثا ـ قلنا لمن يا رسول الله قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ذكر القرطبي معاني هذه النصائح بالتفصيل عند تفسير هذه الآية فليرجع إليها من طلب ذلك.

٤١٢

٢ ـ مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين

٣ ـ بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار من الإيمان واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولاء ورقة القلوب وصفاء الأرواح.

اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك.

٤١٣

الجزء الحادي عشر

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّمَا السَّبِيلُ) : أي الطريق إلى المعاقبة.

(أَغْنِياءُ) : واجدون لأهبة الجهاد مع سلامة أبدانهم.

(الْخَوالِفِ) : أي النساء والأطفال والعجزة.

(إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) : أي إذا عدتم إليهم من تبوك ، وكانوا بضعا وثمانين رجلا.

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) : أي لن نصدقكم فيما تقولون.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ) : أي يوم القيامة.

(إِذَا انْقَلَبْتُمْ) : أي رجعتم من تبوك.

٤١٤

(لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) : أي لا تعاقبوهم.

(رِجْسٌ) : أي نجس لخبث بواطنهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في المخلّفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى (إِنَّمَا (١) السَّبِيلُ) أي الطريق إلى عقاب المخلّفين على الذين يستأذنونك في التخلّف عن الغزو وهم أغنياء أي ذوو قدرة (٢) على النفقة والسير (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) أي النساء (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بسبب ذنوبهم فهم لذلك لا يعلمون أن تخلفهم عن رسول الله لا يجديهم نفعا وأنه يجرّ عليهم البلاء الذي لا يطيقونه. هؤلاء هم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم ، لا على الذين لا يجدون ما ينفقون ، وطلبوا منك حملانا فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزنا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٣) أما الآيات الثلاث بعدها فهي في المخلّفين من المنافقين يخبر تعالى عنهم فيقول (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من غزوكم. قل لهم يا رسولنا لا تعتذروا لأننا لا نؤمن لكم أى لا نصدقكم فيما تقولونه ، لأن الله تعالى قد نبّأنا من أخباركم (٣) وسيرى الله عملكم (٤) ورسوله. إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم لله ، أو أصررتم على كفركم ونفاقكم ، وستردّون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل. وقوله تعالى (سَيَحْلِفُونَ (٥) بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين فيقول سيحلف لكم هؤلاء المخلّفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم فأعرضوا (٦) عنهم أي لا تؤاخذوهم ولا تلتفوا إليهم إنهم رجس أي نجس ، ومأواهم جهنم جزاء لهم بما كانوا يكسبونه من

__________________

(١) أي : العقوبة والإثم.

(٢) هؤلاء هم المنافقون تردد ذكرهم تنديدا بهم وكشفا لحالهم وتحذيرا من سلوكهم.

(٣) أي : أطلعنا على سرائركم وما تخفي نفوسكم.

(٤) أي : ما تستأنفونه من أعمال بعد اليوم صالحة أو طالحة.

(٥) أي : بأنهم ما قدروا على الخروج لأعذار لهم يدّعونها كذبا لتصفحوا عنهم ، وتتركوا لومهم وعتابهم.

(٦) الفاء تفريعية أي : إذا كانوا يريدون الإعراض عنكم فأعرضوا عنهم وجملة : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) : تعليلية أي علة للإذن لهم بالإعراض عنهم يريد : إنهم ذوو رجس.

٤١٥

الكفر والنفاق والمعاصي. وقوله تعالى (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) (١) معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئا لأنهم فاسقون والله لا يرضى عن القوم الفاسقين وما دام لا يرضى عنهم فهو ساخط عليهم ، ومن سخط الله عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم وعدمه سواء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا سبيل إلى أذيّة المؤمنين الصادقين إذا تخلّفوا فإنهم ما تخلفوا إلا لعذر. وإنما السبيل على الأغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم.

٢ ـ مشروعية الاعتذار على شرط أن يكون المرء صادقا في اعتذاره.

٣ ـ المنافقون كالمشركين رجس أي نجس لأن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة خبيثة أيضا إذ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم.

٤ ـ حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه ، إذ يجب بغضه فكيف يرضى عنه ويحب؟

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

شرح الكلمات :

__________________

(١) المراد به : عبد الله بن أبيّ إذ حلف أن لا يتخلّف بعد اليوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب أن يرضى عنه.

٤١٦

(الْأَعْرابُ) (١) : جمع أعرابي وهو من سكن البادية.

(أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) : أي من كفار ومنافقي الحاضرة.

(وَأَجْدَرُ) (٢) : أي أحق وأولى.

(حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ) : أي بشرائع الإسلام.

(مَغْرَماً) : أي غرامة وخسرانا.

(وَيَتَرَبَّصُ) : أي ينتظر.

(الدَّوائِرَ) : جمع دائرة : ما يحيط بالإنسان من مصيبة أو نكبة.

(دائِرَةُ السَّوْءِ) : أي المصيبة التي تسوءهم ولا تسرهم وهي الهلاك.

(قُرُباتٍ) : جمع قربة وهي المنزلة المحمودة.

(وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) : أي دعاؤه لهم بالخير.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الآية الأولى (٩٧) يخبر تعالى أن الأعراب (٣) وهم سكان البادية من العرب أشد كفرا ونفاقا من كفار الحضر ومنافقيهم. وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي من الأحكام (٤) والسنن وذلك لبعدهم عن الاتصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع ، وما قضى به هو العدل الواجب. وقوله تعالى في الآية الثانية (٩٨) (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) (٥) أي من بعض الأعراب من يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمته وخسارة لحقته في ماله وذلك لأنه لا يؤمن بالثواب والعقاب الأخروي

__________________

(١) والعرب : جيل من الناس واحدهم عربي وهم أهل الأمصار ، والعرب العاربة : هم الخلص ، والمستعربة هم الذين ليسوا بخلّص كأولاد اسماعيل عليه‌السلام ، ويعرب بن قحطان هو أوّل من تكلّم بالعربية وهو أبو اليمن كلها.

(٢) (أَجْدَرُ) مأخوذ من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء.

(٣) لمّا ذكر تعالى حال منافقي الحضر ذكر هنا حال منافقي البادية ليعرف الجميع.

(٤) وكذلك لا يعلمون حجج الله تعالى في ألوهيته وبعثة رسوله لقلّة نظرهم وسوء فهمهم ، ولذا لا حق لهم في الفيء ، والغنمية إلا أن يجاهدوا أو يتحولوا إلى الحواضر ويتركوا البادية لحديث مسلم. واختلف في صحة شهادة البادي على الحاضر ، والراجح أنها تصح إذا كان عدلا. وتكره إمامتهم لأهل الحضر عند مالك ، وذلك لجهلهم بالشريعة وتركهم الجمعة.

(٥) أي غرما وخسرانا ، وأصله لزوم الشيء ، ومنه (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي : لازما.

٤١٧

لأنه كافر بالله ولقاء الله تعالى. وقوله عزوجل (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي وينتظر بكم أيها المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن الانفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة والنازلة من الأحداث وقوله تعالى (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) هذه الجملة دعاء عليهم. جزاء ما يتربصون بالمؤمنين. وقوله (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لأقوالهم عليم بنياتهم فلذا دعا عليهم بما يستحقون. وقوله تعالى في الآية الثالثة (٩٩) (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (٢) وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) (٣) إخبار منه تعالى بأن الأعراب ليسوا سواء بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند الله أي قربا يتقرب بها إلى الله تعالى ، ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير ، كقوله لعبد الله بن أبي أوفى : اللهم صل على آل أبي أوفى ، وقوله تعالى (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم وصارت قربة (٤) لهم عنده تعالى ، وقوله تعالى (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) بشرى لهم بدخول الجنة ، وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يؤكد وعد الله تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم أولا ، ويدخلهم الجنة ثانيا هذه سنته تعالى في أوليائه ، يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن سكان البادية يحرمون من كثير من الآداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود إلا إذا كان فرارا من الفتن.

٢ ـ من الأعراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إلا أن كفار البادية ومنافقيها أشد كفرا ونفاقا لتأثير البيئة.

٣ ـ فضل النفقة في سبيل الله والإخلاص فيها لله تعالى.

__________________

(١) قرىء السّوء بالفتح والضم إلا قوله : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) فإنه بالفتح لا غير ، إذ السوء بالضم : المكروه ، والسوء بالفتح : الفساد. امرؤ سوء : أي : فاسد.

(٢) قيل : هم بنو مقرّن من مزينة.

(٣) صلوات الرسول هي استغفاره ودعاؤه لهم بالخير والبركة.

(٤) أي : تقرّبهم من الله تعالى.

٤١٨

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

شرح الكلمات :

(وَالسَّابِقُونَ) : أي إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد.

(اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) : أي في أعمالهم الصالحة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه.

(وَرَضُوا عَنْهُ) : بما أنعم عليهم من جلائل النعم وعظائم المنن.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) : أي حول المدينة من قبائل العرب.

(مَرَدُوا) : مرقوا وحذقوه وعتوا فيه.

(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) : الأولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ (١) الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) وهم الذين سبقوا غيرهم

__________________

(١) (السَّابِقُونَ) هم الذين صلّوا إلى القبلتين وأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون من المبشرين بالجنة ثم أهل بدر ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوات بالحديبية ، وأفضلهم أبو بكر على الإطلاق.

(٢) (الْأَنْصارِ) : هم من أسلم من الأوس والخزرج بالمدينة ولم يعرفوا في الجاهلية بهذا الاسم وإنما سماهم الله تعالى به في الإسلام.

٤١٩

إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد ، والذين اتبعوهم (١) في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الجميع رضي الله عنهم بإيمانهم وصالح أعمالهم ، ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك المذكور من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم ، والفوز السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم ، هذا ما دلت عليه الاية الأولى (١٠٠) وأما الآية الثانية فقد تضمنت الإخبار بوجود منافقين في الأعراب (٢) حول المدينة ، ومنافقين في داخل المدينة ، إلا أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا لا يعرفون ، لكن الله تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا (٣) عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ، وقوله تعالى (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم ، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم ، وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٠٢) (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٤) هؤلاء أناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلطوا عملا صالحا وهو إيمانهم وجهادهم وإسلامهم وعملا سيئا وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر ، فقوله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إعلامهم بتوبة الله تعالى عليهم فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحل رباطهم وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا.

__________________

(١) التابعون : جمع تابع أو تابعي ، وهم الذين صحبوا الصحابة ، وأكبر التابعين : الفقهاء السبعة وهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير ، وخارجة بن زيد ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود ، وسليمان بن يسار. وكلهم من المدينة النبوية وأفضل نساء التابعين حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبد الرحمن وأم الدرداء.

(٢) الأحياء الذين كانوا حول المدينة هم : مزينة وجهينة وأسلم ، وغفار وأشجع ولحيان وعصيّة وكان منهم منافقون.

(٣) يقال : مرد على الأمر : إذا مرن عليه ودرب به ، ومنه الشيطان المارد سئل حذيفة عن المنافقين فأخبر أنهم اثنا عشر. ستة ماتوا بالدبيلة وأربعة ماتوا موتا عاديا.

(٤) (خَلَطُوا) يريد خلطوا حسنات أعمالهم الصالحة بسيئات التخلف عن الغزو والإنفاق في الجهاد والسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك. وعسى : فعل رجاء وهي في كلام الله تعالى كناية عن وقوع المرجو لا محالة.

٤٢٠