أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

وهو معنى قوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ (١) الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ (٢) كَلامَ اللهِ ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلام الله تعالى إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك. وقوله تعالى في الآية الثالثة (٧) (كَيْفَ (٣) يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هذا الاستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبدا وهم كافرون غادرون ، وقوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) هؤلاء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلاء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه. فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى لله تعالى لأنه تعالى يكره الغدر ويحب المتقين لذلك. وقوله تعالى (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) الاستفهام للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة ، (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) أي لا يراعوا الله تعالى ولا القرابة ولا الذمة بل يقتلوكم قتلا ذريعا ، وقوله تعالى (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) إخبار من الله تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم ، وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون بألسنتهم أي فلا تعتقده ولا تقره ، (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) لا يعرفون الطاعة ولا الالتزام لا بعهد ولا دين ، والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيرا لأرض الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون.

__________________

(١) أحد ، مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده والتقدير : وإن استجارك أحد من المشركين فأجره.

(٢) الآية دليل على أن ما يسمع من صوت القارىء للقرآن هو كلام الله تعالى فيقول العبد : سمعت كلام الله حقا وصدقا.

(٣) (كَيْفَ يَكُونُ) الخ كيف : للتعجب نحو قولك : كيف يسبقني فلان؟! في الآية إضمار كلمة غدر أي كيف يكون لهم عهد مع إضمارهم الغدر بكم.

٣٤١

٢ ـ تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة.

٣ ـ وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لأنها دار الإسلام.

٤ ـ إقام الصلاة شرط في صحة الإيمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن.

٥ ـ احترام الجوار ، والإقرار به ، وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة.

٦ ـ قبول طلب كل من طلب من الكافرين الإذن له بدخول بلاد الإسلام ليتعلم الدين الإسلامي.

٧ ـ القرآن كلام الله تعالى حقا بحروفه ومعانيه لقوله (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) الذي يتلوه عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨ ـ وجوب مراقبة الله تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

شرح الكلمات :

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) : (١) أي باعوا آيات الله وأخذوا بدلها الكفر.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) : أي أعرضوا عن سبيل الله التي هي الإسلام كما صدوا غيرهم أيضا.

__________________

(١) روي أنهم نقضوا عهدهم من أجل أكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان ومال صرفه لهم ليقفوا معه ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

٣٤٢

(ساءَ) : أي قبح.

(لا يَرْقُبُونَ) : أي لا يراعون.

(إِلًّا) : الإل : الله ، والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا.

(فَإِنْ تابُوا) : أي من الشرك والمحاربة.

(نَكَثُوا) : أي نقضوا وغدروا.

(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) (١) : أي انتقدوا الإسلام في عقائده أو عباداته ومعاملاته.

(أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) : أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المشركين ، وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله في الآية (٩) (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي باعوا الإيمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا غيرهم من أتباعهم عن الإسلام الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم. فلذا قال تعالى مقبحا سلوكهم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يراعون في أي مؤمن يتمكنون منه الله عزوجل ولا قرابة بينه وبينهم ، ولا معاهدة تربطهم مع قومه ، فقال تعالى (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) ووصفه تعالى إياهم بالاعتداء دال على أنهم لا يحترمون عهودا ولا يتقون الله تعالى فى شيء ، وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر والعصيان ، فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم حتى يلقوا السلاح ويسلموا لله ، أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إلا أن يتوبوا بالإيمان والدخول في الإسلام كما قال تعالى (فَإِنْ (٢) تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وقوله تعالى

__________________

(١) الطعن في الدين هو : استنقاصه ، وأصل الطعن : الضرب في الجسم بالرمح لا فساده ، واستعمل في الانتقاص للشخص والدين لإفساده. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طعن في إمارة أسامة لصغر سنة : (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة) في الصحيح والطاعنون : المنافقون ، واستدل بهذه الآية على كفر من طعن في الدين ، ووجوب قتله وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد ، وأنّ الذمي إذا طعن في الدين انتقضّ عهده ووجب قتله هذا مذهب الجمهور ، وأبو حنيفة يرى استتابته فإن تاب وإلّا قتل.

(٢) من فرّق بين ثلاثة فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة. من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول فإن الله تعالى قال : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ومن قال : أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ومن قال : أشكر الله ولا أشكر لوالدي فإن الله قال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ).

٣٤٣

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي نبين الآيات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على توحيد الله تعالى وتقرير نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الأحكام الشرعية في الحرب والسلم كما في هذا السياق وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأن الذين لا يعلمون من أهل الجهالات لا ينتفعون بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلال الشرك والأهواء وقوله تعالى في الآية الرابعة (١٢) (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ (١) مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق وعابوا الإسلام وطعنوا فيه فهم إذا أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بلا هوادة ، ولا تراعوا لهم أيمانا حلفوها لكم فإنهم لا أيمان لهم. قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا (٢) مثلكم أولياء الله لا أعداءه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق بالباطل ، واشتروا الضلالة بالهدى.

٢ ـ من كان الاعتداء وصفا له لا يؤمن على شيء ، ولا يوثق فيه في شيء ، لفساد ملكته النفسية.

٣ ـ أخوة الإسلام تثبت بثلاثة أمور التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. (٣)

٤ ـ الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال.

__________________

(١) النكث : النقض وأصله في كل ما فتل أو أبرم ثم حل ، واستعملت في الأيمان والعهود ، قال الشاعر :

وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها

فليس لمخضوب البنان يمين

(٢) نعم ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لم يبق منهم إلّا ثلاثة ، ولم يبق من المنافقين إلا أربعة : روى البخاري عن زيد بن وهب قال : كنا عند حذيفة فقال : ما بقي من أصحاب هذه الآية يعني : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ...) إلا ثلاثة ولا يبقى من المنافقين إلا اربعة فقال أعرابي : إنكم أصحاب محمد تخبرون أخبارا لا ندري ما هي؟ تزعمون ألّا منافق إلّا اربعة ، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلاقنا ـ نفائس أموالنا ـ قال حذيفة رضي الله عنه : أولائك الفساق ، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده ، أي : لذهاب شهوته وفساد معدته.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية حرّمت دماء أهل القبلة يعني قوله تعالى (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ).

٣٤٤

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(أَلا) : أداة تحضيض.

(نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) : نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها.

(هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) : من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلاث الحبس أو النفي أو القتل.

(أَوَّلَ مَرَّةٍ) : أي في بدر أو في ماء الهجير (١) حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة.

(وَيُخْزِهِمْ) : أي يذلهم ويهينهم.

(وَيَشْفِ صُدُورَ) : أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين.

(أَنْ تُتْرَكُوا) : أي بدون امتحان بالتكاليف كالجهاد.

__________________

(١) حوض من ماء واسع كبير يسقون منه تقاتلت عنده خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنو بكر حلفاء قريش وأعانت قريش حلفاءها بني بكر وبذلك نقضت عهدها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا يقول الخزاعي وافد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيّتونا بالهجير هجّدا

وقتلونا ركعا وسجدا

٣٤٥

(وَلِيجَةً) : أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن أمورهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة المذكورة وأمنهم فيها وهي أربعة أشهر ، وقد انسلخت فلم يبق إلا قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة المشركين وآثارها في ديار الله فقال تعالى حاضا المؤمنين مهيجا لهم (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم ، وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر ، إذ عيرهم نجت وأبوا إلا أن يقاتلوكم ، إذا فلم لا تقاتلونهم؟ أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفا إن كان هذا (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، لأن ما لدى الله تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فالله أحق أن يخشى ، هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٣) وهي قوله تعالى (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ) (١) (الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وفي الآية الثانية (١٤) يقول تعالى : (قاتِلُوهُمْ) وهو أمر صريح بالقتال ، وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية ، (٢) وقوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) هذه وإن لم تكن جزاء للأمر بالقتال كالأربعة التي قبلها. ولكن سنة الله تعالى أن الناس إذا رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى قوله تعالى (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تقرير للأمر بالقتال والنتائج الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب الله على من يشاء. وقوله تعالى في الآية (١٦) الأخيرة (أَمْ

__________________

(١) إذ كانوا السبب في خروجه من مكة مهاجرا كما أخرجوه من المدينة لقتالهم في بدر ولفتح مكة كما همّوا بإخراجه من المدينة هو وأصحابه في أحد والخندق وغير ذلك.

(٢) إذ قريش أعانت بني بكر على خزاعة التي هي حلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أنّ رجلا من بني بكر أنشد شعرا في هجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له بعض رجال خزاعة لئن أعدته لأكسرنّ فمك فأعاده فكسر فمه ، واندلعت الحرب بينهم فأعانت قريش بني بكر فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب النصرة فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجاله وكان فتح مكة.

٣٤٦

حَسِبْتُمْ (١) أَنْ تُتْرَكُوا) أي بدون امتحان. وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب ، من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة ان مكة فتحت وأن الإسلام عز فما هناك حاجة الى مطاردة فلول المشركين ، وهم يعلمون أن تكتلات يقودها الساخطون على الإسلام حتى من رجالات قريش يريدون الانقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم ، وهذا المعنى ظاهر من سياق الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) (٢) إذ هناك من اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين ، ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية ، ويقرر هذه الجملة التي ختمت بها الآية وهي قوله تعالى (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد.

٢ ـ وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته.

٣ ـ لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه.

٤ ـ من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى.

٥ ـ الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضا.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)

__________________

(١) (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم : هي المنقطعة بمعنى بل إضرابا عما سبق من الكلام وانتقالا إلى آخر ، والاستفهام للإنكار ، والحسبان بمعنى الظن والمعنى كيف تظنون أنكم تتركون بعد فتح مكة دون جهاد لأعداء الله ورسوله ، وهم ما زالوا يتآمرون ويتجمعون لقتالكم.

(٢) الوليجة : البطانة من الولوج في الشيء وهو الدخول فيه ، والمراد من هذا الرجل يتخذ من أعداء الإسلام صديقا يدخل عليه ويدخله عليه فيطلعه على أسرار المسلمين للنكاية بهم والتسلط عليهم لإضرارهم وإفسادهم وهلاكهم.

٣٤٧

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

شرح الكلمات :

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) : أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : أي بطلت فلا يثابون عليها ولا ينجحون فيها.

(يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) : أي بالعبادة فيها ، وصيانتها وتطهيرها.

(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) : أي لم يخف أحدا غير الله تعالى.

(فَعَسى) : عسى من الله تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة.

(الْمُهْتَدِينَ) : أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان.

معنى الآيتين :

لا شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن الله تعالى أبطل هذا الادعاء وقال (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) (١) أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يصح منهم ، وكيف وهم كفار شاهدون (٢) على أنفسهم بالكفر ، وهل الكافر بالله يعمر بيته وبما ذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما أنت؟ يقول يهودي ، وإذا سألت النصراني ، ما أنت؟ يقول نصراني ، وإذا سألت الوثني ما أنت؟ يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم (٣) بالكفر ، وقوله تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء في الكفر والضلال (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي

__________________

(١) قيل : إنّ العباس لما أسر في بدر عيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال لمن عيّره ، تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا! فقال علي : ألكم محاسن؟ قال : نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية ردّا عليه. فوجب على المسلمين تولي أحكام المساجد.

(٢) قيل الأصل : وهم شاهدون فحذف «وهم» فنصب (شاهِدِينَ) على الحال.

(٣) قال ابن عباس : شهادتهم بالكفر هي : سجودهم للأصنام مع إقرارهم بأنها مخلوقة والله خالقها.

٣٤٨

بطلت وضاعت لفقدها الإخلاص فيها لله تعالى (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لا يخرجون منها متى دخولها أبدا ، إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها. ثم قرر تعالى الحقيقة وهى أن الذين يعمرون (١) مساجد الله حقا وصدقا هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى ولا يخشون سواه هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى (فَعَسى (٢) أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) إلى ما هو الحق والصواب ، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة دخول الكافر المساجد إلا لحاجة وبإذن من المسلمين.

٢ ـ فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها.

٣ ـ فضيلة المسلم وشرفه ، إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إلا المسلم فإنه يقول : مسلم أي لله تعالى فهو إذا المؤمن وغيره الكافر.

٤ ـ وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية (٣) من الله تعالى.

٥ ـ أهل الأمن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الأربع المذكورة في الآية.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

__________________

(١) وردت أحاديث في فضل عمارة المساجد منها القوي ومنها الضعيف مجموعها يدل على المراد منها وهو حسن الظن بمن يعمر مساجد الله وأظهر حديث إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان.

(٢) قالت العلماء : «عسى من الله واجبة أي : ما يرجى بها واجب الوقوع ، وقيل : هي هنا بمعنى : خليق أي : فخليق أن يكونوا من المهتدين.

(٣) تساءل البعض وقالوا : قوله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) دال على أن المؤمن الكامل الإيمان لا يخشى إلا الله وإذا بالواقع أن الأنبياء يخشون الأعداء فضلا عن غيرهم فقال بعضهم معناه : أنهم لا يخشون إلا الله مما يعبد ، وقال بعضهم : أي لم يخف إلا الله في باب الدين. والجواب الصحيح أنّ الإنسان نبيا كان أو غيره من المؤمنين العاملين لا يخشون إلا الله تعالى فإذا خافوا عدوا ، ليس معناه أنهم خافوه لذاته وإنما خافوا من الله أن يكون سلطة عليهم فخوفهم عائد في الحقيقة إلى الله تعالى فهو الذي بيده الأمر ، والخوف منه لا من غيره.

٣٤٩

وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(سِقايَةَ الْحاجِ) : مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجانا.

(وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.

(لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) : إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئا.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.

(وَرِضْوانٍ) : أي رضا الله عزوجل عنهم.

(نَعِيمٌ مُقِيمٌ) : أي دائم لا يزول ولا ينقطع.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد (١) الحرام بالسقاية والحجابة

__________________

(١) روي عن السدي أنه قال : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلي بالإسلام والجهاد فصدق الله عليا وكذبهما أي بهذه الآية : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) الخ فأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.

وقيل أيضا : إن المشركين سألوا اليهود وقالوا : نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود مكرا وعنادا : أنتم أفضل وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته عما اختلفتم فيه. فأنزل الله عزوجل : (أَجَعَلْتُمْ ..) الآية. وحل الإشكال في هذه الأخبار : أن الآية تذكر دليلا لا أنها نزلت في ذلك الوقت.

٣٥٠

والسدانة على الإيمان والهجرة والجهاد فقال تعالى موبخالهم (أَجَعَلْتُمْ (١) سِقايَةَ الْحاجِ (٢) وَعِمارَةَ (٣) الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ) في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال ، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) هم (أَعْظَمُ دَرَجَةً) ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات الأربع ، وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة ، وأعظم من هذا ما جاء في قوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) وهي الجنة (وَرِضْوانٍ) منه تعالى وهو أكبر نعيم (وَجَنَّاتٍ) أي بساتين في الملكوت الأعلى (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) لا يحول ولا يزول وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبدا ، و (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة ، وأقربهم من الله منزلة من جمع الصفات الثلاث المذكورة في الآية (٢٠) وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.

٢ ـ فضل الهجرة والجهاد.

٣ ـ تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم.

٤ ـ حرمان الظالمين المتوغّلين في الظلم من هداية الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ

__________________

(١) أي : أجعلتم أهل سقاية الحاج ، أو أصحاب سقاية الحاج ، إذ حذف المضاف وهو : أهل أو أصحاب وبقي المضاف إليه وهو : سقاية فنصب انتصابه.

(٢) (الْحاجِ) : اسم جنس ناب مناب الحجاج جمع حاج.

(٣) وقرىء : سقاة بضم السين جمع ساق وعمرة : جمع عامر ككتبة جمع كاتب.

٣٥١

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

شرح الكلمات :

(أَوْلِياءَ) : جمع وليّ وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.

(اسْتَحَبُّوا) : أي أحبوا الكفر على الإيمان.

(الظَّالِمُونَ) : الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم.

(وَعَشِيرَتُكُمْ) : أي قرابتكم من النسب كالأعمام الأباعد وأبنائهم.

(اقْتَرَفْتُمُوها) : أي اكتسبتموها.

(كَسادَها) : بوارها وعدم رواجها.

(فَتَرَبَّصُوا) : أي انتظروا.

(حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) : أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة.

معنى الآيتين :

هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ (١)

__________________

(١) هذه الآية ما تضمنته من حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من أقرب الأقرباء وهو عام في الأمة إلى يوم القيامة ، وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها يدعوهم إلى الهجرة والتخلى عن بلاد الكفر.

٣٥٢

وَإِخْوانَكُمْ (١) أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا (٢) الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي اثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان فيقول (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء ، والنصرة موضع الخذلان. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم ، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى ، والتهديد والوعيد (قُلْ إِنْ كانَ (٤) آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فتركتم الهجرة والجهاد لذلك (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يوفقهم لسبل نجاتهم وسعادتهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.

٢ ـ من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.

٣ ـ فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال والذوات والصفات.

٤ ـ حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ

__________________

(١) لم يذكر الأبناء لأنّ العادة أنّ الأبناء تبع لآبائهم وذكر الآباء والإخوان ذكر لأقوى القرابة.

(٢) استحبوا : بمعنى أحبوا نحو : استجاب بمعنى : أجاب.

(٣) قال ابن عباس : من تولاهم هو مشرك مثلهم لأنّ الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه المقاطعة الإحسان والهبة للأقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت : يا رسول الله إنّ أمي قدمت عليّ راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال : صلي أمك. رواه البخاري.

(٤) هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة إيثارا لما ذكر تعالى على حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله تعالى إذ توعدهم تعالى بقوله : (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا ما سيحل بكم إن لم تتوبوا فتهاجروا وتجاهدوا.

٣٥٣

تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

شرح الكلمات :

(فِي مَواطِنَ) : المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة الإنسان.

(حُنَيْنٍ) : واد على بعد أميال يسيرة من الطائف.

(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) : أي كثرة عددكم حتى قال من قال : لن نغلب اليوم من قلة.

(فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) : أي لم تجز عنكم شيئا من الإجزاء إذ انهزمتم في أول اللقاء.

(وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) : أي لم تعرفوا أين تذهبون ، وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في مكان ضيق.

(بِما رَحُبَتْ) : أي على رحابتها وسعتها.

(أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) : أي الطمأنينة في نفوسهم ، فذهب القلق والاضطراب.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً) : أي من الملائكة.

(نَجَسٌ) : أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك.

(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) : عام تسعة من الهجرة.

٣٥٤

(عَيْلَةً) : أي فقرا وفاقة وحاجة.

معنى الآيات :

لما حرم الله على المؤمنين موالاة الكافرين ولو كانوا اقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة والجهاد ، وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه الآيات الثلاث أنه ناصرهم ومؤيدهم فلا يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد فقال تعالى (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (١) كبدر والنضير وقريظة والفتح وغيرها (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) (٢) حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكرا إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم وهو الاغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم : لن نغلب اليوم من قلة إذ كانوا اثني عشر (٣) ألفا وكان عدوهم أربعة آلاف فقط ، إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها وولوا مدبرين هاربين ولم يثبت إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدلدل) والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه ، ثم نادى منادي رسول الله : أن يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجرة بيعة الرضوان) هلموا. فتراجعوا إلى المعركة ودارت رحاها و (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً) تلامس القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات ، فصبروا وقاتلوا وما هى إلا ساعة وإذا بالعدو سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوما مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد الإبل اثني عشر ألف بعير ، ومن الغنم مالا يحصى ولا يعد. بهذا جاء قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٤) أي هاربين من العدو (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً) أي من الملائكة (لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي هوازن (وَذلِكَ) أي القتل والسبي (جَزاءُ الْكافِرِينَ) بالله ورسوله.

__________________

(١) المواطن : جمع موطن وهو مكان التوطّن أي : الإقامة ويطلق على موضع الحرب وموقعها.

(٢) خص يوم حنين بالذكر لما وقع فيه من الهزيمة في أوّل المعركة.

(٣) عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء وهزموا من أجل قول بعضهم : لن نغلب اليوم عن قلة وهو ما يسمى بالعجب وهو محبط للعمل.

(٤) روى مسلم عن ابن اسحق قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفّاء من الناس وحسّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك) قال البراء : كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به.

٣٥٥

وقوله تعالى (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ) على من يشاء (١) أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب الله على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لمن يتوب عليه من المشركين ماضى ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث. أما الآية الرابعة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (٢) فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) (٣) فإنه تعالى أمر المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرم كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها ، ومن يومئذ لم يدخل مكة مشرك ، وقوله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (٤) أي فقرا لأجل انقطاع (٥) المشركين عن الموسم حيث كانوا يجلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فامنعوا المشركين ولا تخافوا الفقر وقوله تعالى (إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) استثناء منه تعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة ، وكونه تعالى عليما حكيما يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئا إلا في موضعه فلا بد لمن أراد رحمة الله أو فضل الله أن يجتهد أن يكون أهلا لذلك ، بالإيمان والطاعة العامة والخاصة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين.

٣ ـ بيان الحكمة من القتال في سبيل الله تعالى.

٤ ـ تقرير نجاسة الكافر المعنوية.

__________________

(١) كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.

(٢) قيل : وصف المشرك بالنجس : لأنه جنب لا يغتسل من جنابة غسلا شرعيا فهو لذلك نجس ، وقيل : الشرك هو الذي جعله نجسا إذ لو أسلم زال عنه الوصف.

(٣) هو عام حجة الوداع وليس عام تسعة كما قال بعضهم.

(٤) قال الشاعر :

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

يقال : عال يعيل عيلة : إذا افتقر.

(٥) في الآية دليل على مشروعية الأخذ بالأسباب إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اعقلها وتوكل) قال بعضهم : الأسباب التي يطلب بها الرزق هي الجهاد وأكل الرجل من عمل يده التجارة ، الحرث ، والغرس ، التعليم للعلوم بالأجرة ، الاستدانة بنيّة رد الدين.

٣٥٦

٥ ـ منع دخول المشرك الحرم المكي كائنا من كان بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين.

٦ ـ لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربّه الخوف من الفاقة والفقر فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : أي إيمانا صحيحا يرضاه الله تعالى لموافقة الحق والواقع.

(وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) : أي كالخمر والربا وسائر المحرمات.

(وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) : أي الإسلام إذ هو الدين الذي لا يقبل دينا سواه.

(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي اليهود والنصارى.

(الْجِزْيَةَ) : أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة.

(عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) : أي يقدمونه بأيديهم لا ينيبون فيه غيرهم ، وهم صاغرون : أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام هذا.

معنى الآية الكريمة :

لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم

__________________

(١) وفسّر قوله : (عَنْ يَدٍ) بالقوة على دفع الجزية بأن يكون المطالب بها قادرا على أدائها لغناه وعدم فقره. وهو تفسير حق لأنّ الفقير منهم لا يطالب بالجزية في حال فقره ، وما في التفسير أصحّ.

٣٥٧

اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وجعل إعطاء الحزية غاية لنهاية القتال ، لا الإسلام ، لأن الإسلام يعرض أولا على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحفظوا أموالهم ، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية ، هذا ما تضمنته الآية الكريمة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١) بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (٢) حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر فكيف نفت الآية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بالله مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات تعالى الله عنها علوا كبيرا ، والنصارى يعتقدون أن الله حلّ في المسيح ، وإن الله ثالث ثلاثة والله ليس كذلك فهم إذا لا يؤمنون بالله تعالى كما هو الله الإله الحق ، فلذا إيمانهم باطل وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بالله لآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو آمنوا باليوم الآخر لأطاعوا الله ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الآخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقا كافرين غير مؤمنين ، وصدق الله العظيم حيث نفى عنهم الإيمان به وباليوم الآخر ، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.

هداية الآية الكريمة :

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإسلام وذلك من أجل إعدادهم للإسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.

٢ ـ الإيمان غير الصحيح لا يعتبر إيمانا منجيا ولا مسعدا.

٣ ـ استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.

__________________

(١) الآية صريحة في عدم اعتبار إيمان اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا يزكى النفس ويؤهل لدخول الجنة ، وهذا لأمرين : الأول : لما داخل إيمانهم من التحريف والتغيير فلم يكن إيمانهم بركني الإيمان العظيمين الإيمان بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا مقبولا شرعا فلذا عد كلا إيمان. والثاني : لأنهم لو آمنوا بالله ولقائه حق الإيمان لآمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به من الهدى ، ولا ستقاموا على شرع الله فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم.

(٢) المجوس والصابئة لم يذكرا في الآية ، والذي به العمل عند عامة الفقهاء أنهم يسنّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإدخالهم في ذمة المسلمين.

٣٥٨

٤ ـ مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة (١) في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(عُزَيْرٌ) : هو الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه ، واليهود يسمونه : عزرا.

(الْمَسِيحُ) : هو عيسى بن مريم عليهما‌السلام.

(يُضاهِؤُنَ) : أي يشابهون.

(قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي من آبائهم وأجدادهم الماضين.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) : أي لعنهم الله لأجل كفرهم.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق.

__________________

(١) تقدّر بدينار من الذهب ، وإن صالحهم الإمام عن أكثر فهم على ما صالحهم عليه.

٣٥٩

(أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) : الأحبار جمع حبر : علماء اليهود ، والرهبان جمع راهب عابد النصارى.

(أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) : أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلال وحرام.

(نُورَ اللهِ) : أي الإسلام لأنه هاد إلى الإسعاد والكمال في الدارين.

(بِأَفْواهِهِمْ) : أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه.

(رَسُولَهُ) : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيات :

لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم الإيمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه الآيات الثلاث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ (١) ابْنُ اللهِ) ونسبة الولد إلى الله تعالى كفر بجلاله وكماله (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ (٢) اللهِ) ونسبه الولد إليه تعالى كفر به عزوجل وبماله من جلال وكمال وقوله تعالى : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي ليس له من الواقع شيء إذ ليس لله تعالى ولد ، وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة ، وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط (يُضاهِؤُنَ) به (٣) أي يشابهون به (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (٤) وهم اليهود الأولون وغيرهم وقوله تعالى (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله تعالى وقوله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ (٥) وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٦) هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم وعبادهم والإذعان

__________________

(١) قرأ عاصم (عزير) بالتنوين ، وقرأ نافع بغير تنوين ، وقوله تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ) هو كقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ..) فهو لفظ عام ، والمراد به الخصوص إذ ما كلّ اليهود قالوا بهذه القولة ولا كل الناس وإنما بعضهم.

(٢) في الآية دليل على أن حاكي الكفر ، وهو منكر له بقلبه ولسانه لا يكفر.

(٣) يقال : امرأة ضهيأ : للتي لا تحيض ولا ثدي لها كأنها أشبهت الرجل.

(٤) أي : شابه قولهم قول الكافرين من قبلهم وهم أسلافهم الذين قلدوهم أو قول العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله. تعالى الله عن البنت والولد علوا كبيرا.

(٥) الحبر بكسر الحاء : المداد ، وبفتحها العالم ، والرهبان : جمع راهب مأخوذ من الرهبة ، والراهب الحق. هو من حمله خوف الله على أن يخلص له النية في القول والعمل ويجعل زمانه له وعمله له وأنسه به.

(٦) روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : (ما هذا يا عديّ اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) وسئل حذيفة رضي الله عنه عن قول الله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) هل عبدوهم؟ قال : لا ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه.

٣٦٠