أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

في ختام الآية (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إشارة الى ما يعطيه الله تعالى أهل التقوى في الآخرة وهو الجنة ورضوانه على أهلها ، ولنعم الأجر الذي من أجله يعمل العاملون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تحريم الخيانة مطلقا وأسوأها ما كان خيانة لله ورسوله.

٢ ـ في المال والأولاد فتنة قد تحمل على خيانة الله ورسوله ، فيلحذرها المؤمن.

٣ ـ من ثمرات التقوى تكفير السيآت وغفران الذنوب ، والفرقان وهو نور في القلب يفرق به المتقى بين الأمور المتشابهات والتي خفي فيها وجه الحق والخير.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) : أي يبيتون لك ما يضرك.

(لِيُثْبِتُوكَ) : أي ليحبسوك مثبتا بوثاق حتى لا تفر من الحبس.

(أَوْ يُخْرِجُوكَ) : أي ينفوك بعيدا عن ديارهم.

(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) : أي يدبرون لك السوء ويبيتون لك المكروه ، والله تعالى يدبر لهم ما يضرهم أيضا ويبيت لهم ما يسوءهم.

(آياتُنا) : آيات القرآن الكريم.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : الأساطير جمع أسطوره ما يدون ويسطر من أخبار الأولين.

٣٠١

معنى الآيات :

يذكر تعالى رسوله والمؤمنين بنعمة من نعمه تعالى عليهم فيقول لرسوله واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) إذا اجتمعت قريش في دار الندوة وأتمرت في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفكرت ومكرت فأصدروا (١) حكما بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثوا من ينفذ جريمة القتل فطوقوا منزله فخرج النبي (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن رماهم بحثية من تراب قائلا شاهت الوجوه ، فلم يره أحد ونفذ وهاجر إلى المدينة وهذا معنى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) فكان في نجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يد قريش نعمة عظمى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر المؤمنين والحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى في الآية الثانية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا (٣) مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذا الخبر تنديد بموقف المشركين ذكر بعد ذكر مؤامراتهم الدنية ومكرهم الخبيث حيث قرروا قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر تعالى أنهم إذا قرأ عليهم الرسول آيات الله المبينة للحق والمقررة للايمان به ورسالته بذكر قصص الأولين قالوا (سَمِعْنا) ما تقرأ علينا ، (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي الذي تقول (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أخبار السابقين من الأمم سطرت وكتبت فهي تملى عليك فتحفظها وتقرأها علينا وكان قائل هذه المقالة الكاذبة النضر بن الحارث عليه لعائن الله ، إذ مات كافرا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ التذكير بنعم الله تعالى على العبد ليجد العبد في نفسه داعية الشكر فيشكر.

٢ ـ بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة الإسلام حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ بيان موقف المشركين من الدعوة الإسلامية ، وانهم بذلوا كل جهد في سبيل انهائها والقضاء عليها.

__________________

(١) كان حكم القتل باقتراح ابليس إذ جاءهم وهم يتشاورون في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار عليهم وهو في صورة شيخ نجدي فقبلوا ما أشار به عليهم من القتل فأخذوا برأيه وتركوا ما أشار به بعضهم من النفي والحبس.

(٢) بعد أن ترك عليا نائما على فراشه مسجى ببرد أخضر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) من بين القائلين : النضر بن الحارث إذ كان قد خرج إلى الحيرة في تجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة وكسرى ، وقيصر ، وأخذ يقصّ تلك الأخبار ويقول : هذه مثل الذي يقصّ محمد من أخبار الماضين. وكذب فأين ما يقصه القرآن وما يوسوس به الشيطان.

٣٠٢

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(اللهُمَ) : أي يا الله حذفت ياء النداء من أوله وعوض عنها الميم من آخره.

(إِنْ كانَ هذا) : أي الذي جاء به محمد ويخبر به.

(فَأَمْطِرْ) : أنزل علينا حجارة.

(يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : يمنعون الناس من الدخول إليه للاعتمار.

(مُكاءً وَتَصْدِيَةً) : المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في التنديد ببعض أقوال المشركين وأفعالهم فهذا النضر (١) بن الحارث القائل في الآيات السابقة (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يخبر تعالى عنه أنه قال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) أي القرآن (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ

__________________

(١) وقاله أيضا أبو جهل وهو دال على مدى عناد المشركين في مكة ومكابرتهم وحسدهم أيضا.

٣٠٣

السَّماءِ) فنهلك بها ، ولا نرى محمدا ينتصر (١) دينه بيننا. (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) حتى نتخلص من وجودنا. فقال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ (٢) وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣) فوجودك بينهم أمان لهم (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إذ كانوا إذا طافوا يقول بعضهم غفرانك ربنا غفرانك ، ثم قال تعالى (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أيّ شيء يصرف العذاب عنهم وهم يرتكبون أبشع جريمة وهي صدهم الناس عن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت الحرام ، فقد كانوا يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت والصلاة في المسجد الحرام. (٤) وقوله تعالى (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) رد على مزاعمهم بأنهم ولاة الحرم والقائمون عليه فلذا لهم أن يمنعوا من شاءوا ويأذنوا لمن شاءوا فقال تعالى ردا عليهم (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي أولياء المسجد الحرام ، كما لم يكونوا أيضا أولياء الله إنّما أولياء الله والمسجد الحرام المتقون الذين يتقون الشرك والمعاصي (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هذا لجهل بعضهم وعناد آخرين. وقوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) إذ كان بعضهم إذا طافوا يصفقون ويصفرون كما يفعل بعض دعاة التصوف حيث يرقصون وهم يصفقون ويصفرون ويعدون هذا حضرة أولياء الله ، والعياذ بالله من الجهل والضلال وقوله تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أذاقهموه يوم بدر إذ أذلهم فيه وأخزاهم وقتل رؤساءهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للحق وكراهية له حتى سألوا العذاب العام ولا يرون راية الحق تظهر ودين الله ينتصر.

__________________

(١) ذكر القرطبي الحكاية التالية قال : حكي أن ابن عباس لقيه يهودي فقال له من أنت؟ قال : من قريش. فقال أنت من القوم الذين قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) الآية فهلّا عليهم أن يقولوا : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له إنّ هؤلاء قوم يجهلون قال ابن عباس : وأنت يا اسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه ، وانجى موسى وقومه حتى قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) فقال لهم موسى (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) فأطرق اليهودي ملجما.

(٢) روى مسلم أنه لما قال أبو جهل. اللهم إن كان هذا هو الحق .. الآية نزلت هذه الآية : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ).

(٣) دليله أنهم لما خرج من بينهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذبهم الله بالقتل في بدر وسني القحط الجدب.

(٤) أي انهم مستحقون العذاب ولكن لكل أجل كتاب فإذا حان أوانه عذّبوا.

٣٠٤

٢ ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمان أمته من العذاب فلم تصب هذه الأمة بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة.

٣ ـ فضيلة الاستغفار وأنه ينجى من عذاب الدنيا والآخرة.

٤ ـ بيان عظم جرم من يصد عن المسجد الحرام للعبادة الشرعية فيه.

٥ ـ بيان أولياء الله تعالى والذين يحق لهم أن يلوا المسجد الحرام وهو المتقون.

٦ ـ كراهية الصفير (١) والتصفيق ، وبطلان الرقص في التعبد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي كذبوا بآيات الله ورسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش

(ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) : أي شدة ندامة.

(ثُمَّ يُغْلَبُونَ) : أي يهزمون.

(لِيَمِيزَ) : أي ليميز كل صنف من الصنف الآخر.

(الْخَبِيثَ) : هم أهل الشرك والمعاصي.

(مِنَ الطَّيِّبِ) : هم أهل التوحيد والأعمال الصالحة.

(فَيَرْكُمَهُ) : أي يجعل بعضه فوق بعض في جهنم.

__________________

(١) الصفير : تفسير للمكاء في الآية وهو مأخوذ من صوت طائر يسمى المكاء قال الشاعر :

إذا غرّد المكاء في غير روضة

فويل لأهل الشاء والحمرات

٣٠٥

معنى الآية الكريمة :

ما زال السياق في التنديد بالمشركين وأعمالهم الخاسرة يخبر تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل مكة من زعماء قريش (يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) فى (١) حرب رسول الله والمؤمنين للصد عن الإسلام المعبر عنه بسبيل الله يقول تعالى (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) (٢) أي ندامة شديدة لسوء العاقبة التي كانت لهم في بدر وأحد والخندق إذ أنفقوا على هذه الحملات الثلاث من الأموال ما الله به عليم ، ثم خابوا فيها وخسروا وبالتالي غلبوا وانتهى سلطانهم الكافر وفتح الله على رسوله والمؤمنين مكة وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي من مات منهم على الكفر (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون ، وعلة هذا الجمع أن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب فالطيبون وهم المؤمنون الصالحون يعبرون الصراط الى الجنة دار النعيم ، وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه إلى بعض فيركمه جميعا كوما واحدا فيجعله في جهنم. وقوله تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إشارة الى الذين أنفقوا أموالهم للصد عن سبيل الله وماتوا على الكفر فحشروا إلى جهنم وجعل بعضهم الى بعض ثم صيروا كوما واحدا ثم جعلوا في نار جهنم هم الخاسرون بحق حيث خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وكل شيء وأمسوا في قعر جهنم مبلسين والعياذ بالله من الخسران المبين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل الله بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم القيامة.

٢ ـ كل كافر خبيث وكل مؤمن طيب.

٣ ـ صدق وعد الله تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا في حرب الإسلام وضياع ذلك كله وخيبتهم فيه.

__________________

(١) لمّا هزمت قريش في بدر قام أبو سفيان بحملة جمع فيها الأموال لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والانتقام لمن مات من صناديد قريش فجمع المال وشنّ حرب أحد إلّا أنه خاب وخسر كما أخبر تعالى : ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.

(٢) والآية يدخل فيها المطعمون ببدر إذ كانوا اثني عشر رجلا فكان الواحد منهم يطعم جيش قريش عشرة من الإبل يوميا طيلة ما هم في بدر ، فخابوا في نفقاتهم وهلكوا.

٣٠٦

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِنْ يَنْتَهُوا) : عن الكفر بالله ورسوله وحرب الرسول والمؤمنين.

(ما قَدْ سَلَفَ) : أي مضى من ذنوبهم من الشرك وحرب الرسول والمؤمنين.

(مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) : في إهلاك الظالمين.

(لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : أي شرك بالله واضطهاد وتعذيب في سبيل الله.

(وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) : أي حتى لا يعبد غير الله.

(مَوْلاكُمْ) : متولي أمركم بالنصر والتأييد.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان الإجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين فيقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (١) مبلغا عنا (إِنْ يَنْتَهُوا) أي عن الشرك والكفر والعصيان وترك حرب الإسلام وأهله (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) يغفر الله لهم ما قد مضى (٢) من ذنوبهم العظام وهي الشرك والظلم ، وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الوعد سبحانه وتعالى. (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى الظلم والاضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالأمم السابقة قبلهم لما ظلموا فكذبوا الرسل وآذوا المؤمنين وهو معنى قوله تعالى (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ

__________________

(١) نزلت في أبي سفيان ورجاله المشركين في مكة قبل الفتح.

(٢) في الصحيح : (الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها).

٣٠٧

الْأَوَّلِينَ) أي سنة الله والطريقة المتبعة فيهم وهي أخذهم (١) بعد الإنذار والإعذار. ثم في الآية الثانية من هذا السياق يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالا يتواصل بلا انقطاع إلى غاية هي : أن لا تبقى فتنة أي شرك ولا اضطهاد لمؤمن (٢) أو مؤمنة من أجل دينه ، وحتى يكون الدين كله لله فلا يعبد (٣) مع الله أحد سواه (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي عن الشرك والظلم فكفوا عنهم وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطل فلا يضركم ذلك (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وسيظهرهم لكم ويسلطكم عليهم. وقوله في ختام السياق (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي نكثوا العهد وعادوا إلى حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم الله عليهم واعلموا ان الله مولاكم فلا يسلطهم عليكم ، بل ينصركم عليهم إنه (نِعْمَ الْمَوْلى) لمن يتولى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن ينصر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سعة فضل الله ورحمته.

٢ ـ الإسلام يجبّ أي يقطع ما قبله ، فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره.

٣ ـ بيان سنة الله في الظالمين وهي إهلاكهم وإن طالت مدة الإملاء والإنظار.

٤ ـ وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الأرض مشرك.

٥ ـ نعم المولى الله جل جلاله لمن تولاه ، ونعم النصير لمن نصره.

__________________

(١) أخذهم : أي بالعذاب العاجل والعقوبة الشديدة.

(٢) الاضطهاد : هو فتنة قريش للمؤمنين حيث فتنوهم حتى هاجروا إلى الحبشة وفتنوهم حتى هاجروا إلى المدينة ومعنى : فتنوهم : عذّبوهم ليردّوهم إلى الشرك والكفر.

(٣) يشهد له قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها ، وحسابهم على الله عزوجل) في الصحيحين.

٣٠٨

الجزء العاشر

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

شرح الكلمات :

(أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي ما أخذتموه من مال الكافر قهرا لهم وغلبة قليلا كان أو كثيرا.

(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) : أي خمس الخمسة أقسام ، يكون لله والرسول ومن ذكر بعدهما.

(وَلِذِي الْقُرْبى) : هم قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني هاشم وبني المطلب.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) : أي من الملائكة والآيات.

٣٠٩

(يَوْمَ الْفُرْقانِ) : أي يوم بدر وهو السابع عشر من رمضان ، إذ فرق الله فيه بين الحق والباطل.

(الْتَقَى الْجَمْعانِ) : جمع المؤمنين وجمع الكافرين ببدر.

(بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) : العدوة حافة الوادي ، وجانبه والدنيا أي القريبة إلى المدينة.

(بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) : أي البعيد من المدينة إذ هي حافة الوادي من الجهة الأخرى.

(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) : أي ركب أبي سفيان وهي العير التي خرجوا من أجلها. أسفل منكم مما يلي البحر.

(عَنْ بَيِّنَةٍ) : أي حجة ظاهرة.

(لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) : أي اختلفتم.

(وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) : هذا قبل الالتحام أما بعد فقد رأوهم مثليهم حتى تتم الهزيمة لهم.

معنى الآيات :

هذه الآيات لا شك أنها نزلت في بيان قسمة الغنائم بعد ما حصل فيها من نزاع فافتكها الله تعالى منهم ثم قسمها عليهم فقال الأنفال لله وللرسول في أول الآية ثم قال هنا (وَاعْلَمُوا) أيها المسلمون (أَنَّما غَنِمْتُمْ) (١) (مِنْ شَيْءٍ) (٢) حتى الخيط والمخيط ، ومعنى غنمتم أخذتموه من المال من أيدي الكفار المحاربين لكم غلبة وقهرا لهم فقسمته هي أن (لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى (٣) وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، والأربعة أخماس (٤) الباقية هي لكم أيها المجاهدون للراجل قسمة وللفارس قسمتان لما له من تأثير

__________________

(١) الغنيمة : ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي وهو قتال الكافرين لغرض هدايتهم إلى الإسلام ليكملوا ويسعدوا ، قال الشاعر :

وقد طوّفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالاياب

(٢) الإجماع على أن هذا الحكم ليس على عمومه بل هو مخصص بقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، وكذا الرقاب ، فالإمام مخيّر فيها بين القتل والفداء والمنّ وليس هذا للغانمين ، وكذا السلب فإن من سلب مقاتلا شيئا كسلاحه وفرسه فهو له أيضا.

(٣) المراد بذي القربى : قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم بنو هاشم ، وهو مذهب مالك ، وزاد الشافعي وأحمد : بني المطلب لأن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد ، ولأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قسم سهم ذي القربي بين بني هاشم وبين عبد المطلب قال إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه) رواه البخاري.

(٤) من باب الاطلاع لا غير أذكر أنّ بعضا قال : الغنيمة خمسها لله والأربعة أخماس للإمام إن شاء حبسها وإن شاء قسمها على الغانمين وهو قول مخالف لما عليه جمهور الفقهاء.

٣١٠

في الحرب ولأن فرسه يحتاج إلى نفقة علف. والمراد من قسمة الله أنها تنفق في المصالح العامة ولو أنفقت على بيوته لكان أولى وهي الكعبة وسائر المساجد ، وما للرسول فإنه ينفقه على عائلته ، وما لذي القربى فإنه ينفق على قرابة الرسول الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة لشرفهم وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، وما لليتامى ينفق على فقراء المسلمين ، وما لابن السبيل ينفق على المسافرين المنقطعين عن بلادهم إذا كانوا محتاجين إلى ذلك في سفرهم وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أي ربا (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) أي محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) وهو يوم بدر حيث التقى المسلمون بالمشركين ، والمراد بما أنزل تعالى على عبده ورسوله الملائكة والآيات منها الرمية التي رمى بها المشركين فوصلت إلى أكثرهم فسببت هزيمتهم. وقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي كما قدر على نصركم على قلتكم وقدر على هزيمة عدوكم على كثرتهم هو قادر على كل شيء يريده وقوله تعالى (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ (١) أَسْفَلَ مِنْكُمْ) تذكير لهم بساحة المعركة التي تجلت فيها آيات الله وظهر فيها إنعامه عليهم ليتهيئوا للشكر. وقوله تعالى (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي لو تواعدتم أنتم والمشركون على اللقاء في بدر للقتال لاختلفتم لأسباب تقتضي ذلك منها أنكم قلة وهم كثرة (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي محكوما به في قضاء الله وقدره ، وهو نصركم وهزيمة عدوكم وجمعكم من غير تواعد ولا اتفاق سابق. وقوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) هذا تعليل لفعل الله تعالى يجمعكم في وادي بدر للقتال وهو فعل ذلك ليحيا بالإيمان من حيى على بينة وعلم أن الله حق والإسلام حق والرسول حق والدار الآخرة حق حيث أراهم الله الآيات الدالة على ذلك ، ويهلك من هلك بالكفر على بينة إذ اتضح له أن ما عليه المشركون كفر وباطل وضلال ثم رضي به واستمر عليه. وقوله تعالى (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) تقرير لما سبق وتأكيد له حيث أخبر تعالى أنه سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم فما أخبر به وقرره هو كما أخبر وقرر.

وقوله تعالى (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) أي فأخبرت أصحابك ففرحوا بذلك

__________________

(١) ركب أبي سفيان ، ولفظ الركب لا يطلق إلّا على الراكبين ، والركب مبتدأ ، والخبر متعلّق أسفل الظرف أي : كائن أسفل منكم.

٣١١

وسّروا ووطنوا أنفسهم للقتال ، وقوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) أي في منامك وأخبرت به أصحابك لفشلتم أي جبنتم عن قتالهم ، ولتنازعتم في أمر قتالهم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) من ذلك فلم يريكهم كثيرا إنه تعالى عليم بذات الصدور ففعل ذلك لعلمه بما يترتب عليه من خير وشر. وقوله تعالى (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أي اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكم الله الكافرين عند التقائكم بهم قليلا في أعينكم كأنهم سبعون رجلا أو مائة مثلا ويقللكم سبحانه وتعالى في أعينهم حتى (١) لا يهابوكم. وهذا كان عند المواجهة وقبل الالتحام أما بعد الالتحام فقد أرى الله تعالى الكافرين أراهم المؤمنين ضعفيهم في الكثرة وبذلك انهزموا كما جاء ذلك في سورة آل عمران في قوله (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) وقوله تعالى (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) تعليل لتلك التدابير الإلهية لأوليائه لنصرتهم وإعزازهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وقوله تعالى (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) إخبار منه تعالى بأن الأمور كلها تصير إليه فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن خبرا كان أو غيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قسمة الغنائم على الوجه الذي رضيه الله تعالى.

٢ ـ التذكير بالإيمان ، إذ هو الطاقة الموجهة باعتبار أن المؤمن حي بإيمانه يقدر على الفعل والترك ، والكافر ميت فلا يكلف.

٣ ـ فضيلة غزوة بدر وفضل أهلها.

٤ ـ بيان تدبير الله تعالى في نصر أوليائه وهزيمة اعدائه.

٥ ـ بيان أن مرد الأمور نجاحا وخيبة لله تعالى ليس لأحد فيها تأثير إلا بإذنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)

__________________

(١) قال أبو جهل : إنهم أكلة جزور خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال فلمّا أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعين الكفار وكثروا حتى انهم يرونهم مثليهم.

٣١٢

وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

شرح الكلمات :

(فِئَةً) : طائفة مقاتلة.

(فَاثْبُتُوا) : لقتالها واصمدوا.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) : مهللين مكبرين راجين النصر طامعين فيه سائلين الله تعالى ذلك.

(تُفْلِحُونَ) : تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في الآخرة.

(وَلا تَنازَعُوا) : أي لا تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو أبدا.

(وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (١) : أي قوتكم بسبب الخلاف.

__________________

(١) يرى بعضهم أن الريح ريح الصبا التي قال فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نصرت بالصبا ، واهلكت عاد بالدبور) يريد أنهم بعدم طاعتهم يحرمون الريح التي بها نصرهم وهو معنى لا بأس به.

٣١٣

(خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً) : أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه.

وقال إني جار لكم : أي مجير لكم ومعين على عدوكم.

(تَراءَتِ الْفِئَتانِ) : أي التقتا ورأت كل منهما عدوها.

(نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) : أي رجع إلى الوراء هاربا ، لأنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك.

(إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) : من الملائكة.

(وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم.

معنى الآيات :

هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين ، وبدأ بسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه الآيات الأربع تعليم عال جدا لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها :

١ ـ الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكأن المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أي جماعة مقاتلة (فَاثْبُتُوا).

٢ ـ ذكر الله تعالى تهليلا وتكبيرا وتسبيحا ودعاء (١) وضراعة ووعدا ووعيدا. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا ، والنار والعذاب في الآخرة.

٣ ـ طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في الكون (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

٤ ـ عدم التنازع والخلاف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها.

٥ ـ بيان نتائج التنازع والخلاف وأنها : الفشل الذريع ، وذهاب القوة المعبر عنها بالريح

__________________

(١) الذكر المطلوب هو : ما كان باللسان والقلب معا ، في الآية دليل على أنّ ذكر الله تعالى لا يترك في حال إلّا في حال التغوّط ، قال محمد القرطبي : لو رخّص لأحد في ترك الذكر لرخّص لزكريا إذ قال له تعالى : (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) ولرخص لرجل في الحرب لقوله تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) وحكم هذا الذكر أن يكون خفيّا إلا أن يكون في بداية الحملة بصوت واحد : الله أكبر فإن ذلك محمود لأنه يرعب العدو ويفتّ في أعضاده.

٣١٤

(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). (١)

٦ ـ الصبر على مواصلة القتال والإعداد له وتوطين النفس واعدادها لذلك. (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

٧ ـ الإخلاص في القتال والخروج له لله تعالى فلا ينبغي أن يكون لأي اعتبار سوى مرضاة الله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ) (٢) (خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل الله. تضمنتها ثلاث آيات من هذه الآيات الخمس وقوله تعالى في الآية الرابعة (٤٨) (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ : لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يذكّر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عزوجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم ، فقال لهم : أقدموا على قتال محمد والمؤمنين ، ولا ترهبوا ولا تخافوا إنه لا غالب لكم اليوم من الناس ، وإني جار لكم أي مجير لكم وناصر ومعين. وكان الشيطان في هذه الساعة فى صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة بن مالك (٣) فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف الملائكة ، فنكص على عقبيه ، وكان آخذا بيد الحارث بن هشام يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم خوض المعركة وشجعهم على ذلك ، وولى هاربا فقال له الحارث : ما بك ما أصابك تعال فقال وهو هارب (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعني الملائكة (إِنِّي أَخافُ (٤) اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ)

__________________

(١) المراد بالريح هنا : القوة والنصر ، كما يقال : الريح لفلان إذا كان غالبا في أمره ومنه قول الشاعر :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإنّ لكل خافتة سكون

جملة : لكل خافتة سكون : خبر إن واسمها : ضمير شأن.

(٢) هم أبو جهل وأصحابه الخارجون يوم بدر لنصرة العير حيث خرجوا بالقينات والمغنيات والمعازف.

(٣) هو سراقة بن مالك بن جعشم من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلا منهم فلّما تمثّل لهم الشيطان في صورة سراقة سكنوا لذلك

(٤) قيل : إن الشيطان خاف أن يكون يوم بدر هو اليوم الذي انظر إليه ، وقيل : كذب وهو كذوب.

٣١٥

وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الآية (٤٩) (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والاتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم (١) مرض أي ضعف في الإيمان وتخلخل في العقيدة : غر هؤلاء دينهم وإلا لما خرجوا لقتال قريش وهي تفوقهم عددا وعدة ، ومثل هذا الكلام يعتبر عاديا من ضعاف الإيمان والمنافقين المستترين بزيف إيمانهم ، فاذكروا هذا ، ولا يفت في اعضادكم مثل هذا الكلام ، وتوكلوا على الله واثقين في نصره فإنه ينصركم لأنه عزيز لا يغالب ولا يمانع في ما يريده أبدا. حكيم يضع النصر في المتأهلين له بالإيمان والصبر والطاعة له ولرسوله ، والإخلاص له في العمل والطاعة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة وهي : الثبات وذكر الله تعالى ، وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص.

٢ ـ بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار.

٣ ـ بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.

٤ ـ بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود (٢) القتال ونشوب الحروب.

٥ ـ وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)

__________________

(١) لقد اختلف في المراد بالمنافقين هنا ، وكذا الذين في قلوبهم مرض إذ يبعد أن يكون في المشركين منافقون ، كما يبعد أن يكون في أهل بدر منافقون ، والذي يبدو أنّه الراجح : أنّ القائلين هذه المقالة هم منافقون وضعفة إيمان بالمدينة لما رأوا خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى بدر قالوا هذه القولة القبيحة ويكون الظرف «إذ» متعلّق بشديد العقاب لا بزين».

(٢) لا يتعارض هذا القول مع ما رجحناه من أن القائلين هذه المقولة هم منافقون وضعاف إيمان بالمدينة ، إذ هذه الحال تنطبق عليهم.

٣١٦

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

شرح الكلمات :

(إِذْ يَتَوَفَّى) : أي يقبض أرواحهم لإماتتهم.

(وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) : أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم.

(بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) : أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) : أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة.

(لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) : تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها.

(آلِ فِرْعَوْنَ) : هم كل من كان على دينه من الأقباط مشاركا له في ظلمه وكفره.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ (١) كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢) وهم يقولون لهم (وَذُوقُوا عَذابَ (٣) الْحَرِيقِ) وجواب لو لا محذوف تقديره (لرأيت أمرا فظيعا) وقوله تعالى

__________________

(١) جائز أن يكون المراد من هؤلاء قتلى بدر المشركين وجائز أن يكونوا ممن لم يقتلوا ببدر ، وماتوا بمكة وغيرها.

(٢) قال الحسن البصري : المراد من أدبارهم : ظهورهم وقال : (إن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك «أي : سير النعل»؟ قال : ذلك ضرب الملائكة).

(٣) يقال لهم عند قبض أرواحهم ، إذ بمجرد أن تقبض الروح يلقى بها في جهنم ، كما يقال لهم يوم القيامة ذلك من قبل الملائكة.

٣١٧

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هو قول الملائكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا. أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن الله تعالى ليس بظالم لكم فإنه تعالى لا يظلم أحدا. وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (١) وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي دأب هؤلاء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) وكفر هؤلاء فأخذهم الله بذنوبهم ، وقوله (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وأخيرا أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر ، وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ (٢) لَمْ يَكُ (٣) مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة ، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء ، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا ، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا ، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد. هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام. وقوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي لأقوال عباده وأفعالهم فلذا يتم الجزاء عادلا لا ظلم فيه. وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ (٤) فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا (٥) بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) هذه الآية تشبه الآية السابقة إلا أنها تخالفها فيما يلي : في الأولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر ، وفي هذه : كان التكذيب ، في الأولى : لم يذكر نوع العذاب ، وفي الثانية انه الإغراق ، في الأولى لم يسجل عليهم سوى الكفر فهو ذنبهم لا غير. وفي الثانية سجل على الكل ذنبا آخر وهو الظلم إذ قال (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي بكفرهم وتكذيبهم ، وصدهم عن سبيل الله وفسقهم عن طاعة الله ورسوله مع زيادة التأكيد

__________________

(١) الباء في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) سببية والجملة مسوقة للتعليل.

(٢) (لَمْ يَكُ) أي : لم ينبغ له ، ولم يصحّ منه لبالغ حكمته وعدله ورحمته.

(٣) (كَدَأْبِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دأب هؤلاء كدأب آل فرعون ، والدأب : العادة المستمرة.

(٤) (كَذَّبُوا) الخ .. تفسير دأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم.

(٥) وجائز أن يكون المراد : كدأب آل فرعون أي : في تعذيبهم عند قبض أرواحهم ، وفي قبورهم ويوم القيامة.

٣١٨

والتقرير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع.

٢ ـ هذه الآية نظيرها آية الانعام (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب.

٣ ـ تنزه الخالق عزوجل عن الظلم لأحد. (١)

٤ ـ سنة الله تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم.

٥ ـ لم يكن من سنة الله تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم البادئين.

٦ ـ التنديد بالظلم وأهله ، وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(شَرَّ الدَّوَابِ) (٢) : من إنسان أو حيوان الذين ذكر الله وصفهم وهم بنو قريظة.

__________________

(١) شاهده حديث مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى يقول : يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

(٢) الدواب : كل ما يدب على وجه الأرض من حيوان ، و (عِنْدَ اللهِ) : أي : في علمه وحكمه.

٣١٩

(فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : لما علم الله تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر.

(يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) : أي يحلونه ويخرجون منه فلا يلتزموا بما فيه.

(فِي كُلِّ مَرَّةٍ) : أي عاهدوا فيها.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) : أي ان تجدنّهم ، وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية.

(فَشَرِّدْ) : أي فرق وشتت.

(يَذَّكَّرُونَ) : أي يتعظون.

(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) : أي اطرح عهدهم.

(عَلى سَواءٍ) (١) : أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء ، أي كل منكم عالم بنقض المعاهدة.

(الْخائِنِينَ) : الغادرين بعهودهم.

(سَبَقُوا) : أي فاتوا الله ولم يتمكن منهم.

معنى الآيات :

بمناسبة ذكر خصوم الدعوة الإسلامية والقائم عليها وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر تعالى خصوما لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو (٢) قريظة من اليهود. فأخبر تعالى عنهم أنهم شر الدواب من الإنسان والحيوان ووصفهم محددا لهم ليعرفوا ، وأخبر أنهم لا يؤمنون لتوغلهم في الشر والفساد ، فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وعلمه (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهدهم أول مرة على أن لا يحاربوه ولا يعينوا أحدا على حربه فإذا بهم يعينون قريشا بالسلاح ، ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين بخطإهم ، وعاهدوا مرة أخرى على أن لا يحاربوا الرسول ولا يعينوا من يحاربه فإذا بهم ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا الى الأحزاب في غزوة الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ

__________________

(١) أي : جهرا لا سرا حتى يكونوا وأنتم بالعلم بنبذ المعاهدة على حد سواء.

(٢) وبنو النضير كذلك إذ أعانوا قريشا بالسلاح ثم لمّا انكشف أمرهم اعتذروا ، وأما قريظة ، فقد نقضوا عهدهم مرتين إذ انضموا إلى الأحزاب في حربهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

٣٢٠